الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
Penerbit
دار القلم
Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٣٨ هـ - ٢٠١٧ م
Lokasi Penerbit
بيروت - لبنان
Genre-genre
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مْثِلُنَا ... بآِيَتِنا نُزْجِي اللِّقَاحَ المطَافِلا
معناه: خرجنا بجماعتنا. فعلى هذا القول معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص (١).
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [البقرة: ٣٩]، " أي: الملازمون لها، ملازمة الصاحب لصاحبه، والغريم لغريمه" (٢).
قال ابن عباس: " أي خالدون أبدا" (٣).
قال البغوي: أي: " لا يخرجون منها ولا يموتون فيها" (٤).
وقوله ﴿أُولَئِكَ﴾، "أي المذكورون؛ وأشار إليهم بإشارة البعيد لانحطاط رتبتهم لا ترفيعًا لهم، وتعلية لهم، و﴿أصحاب النار﴾ أي الملازمون لها؛ ولهذا لا تأتي "أصحاب النار" إلا في الكفار؛ لا تأتي في المؤمنين أبدًا؛ لأن المراد الذين هم مصاحبون لها؛ والمصاحب لابد أن يلازم من صاحبه" (٥).
قوله تعالى: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩]، أي: "لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون" (٦).
قال ابن عثيمين: " أي ماكثون؛ والمراد بذلك المكث، الدائم الأبدي؛ ودليل ذلك ثلاث آيات في كتاب الله؛ آية في النساء، وآية في الأحزاب، وآية في الجن؛ أما آية النساء فقوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقًا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدًا﴾ [النساء: ١٦٨، ١٦٩]؛ وأما آية الأحزاب فقوله تعالى: ﴿إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرًا * خالدين فيها أبدًا﴾ [الأحزاب: ٦٤، ٦٥]؛ وأما آية الجن فقوله تعالى: ﴿ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا﴾ [الجن: ٢٣] " (٧).
وروي عن أنس مرفوعا، أنه قال: "المخلدون في النار في توابيت من حديد مطبقة" (٨).
قال ابن عطية: " والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة ﵃ إذ مراتبهم متباينة، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة" (٩).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: حكم القرآن بالخلود الأبدي على الكفار، إذ يرى أهل السنة والجماعة بأنه لا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار، وقد استدل العلماء بآيات وأحاديث عديدة جدا على قولهم بخروج العصاة من أهل الإيمان من النار بعدما ردوا على معظم هذه الأدلة التي ساقوها بآيات كثيرة جدا منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٤٨]، وكذلك بأحاديث الشفاعة الكثيرة التي تبين أن الله تعالى يخرج من النار من يشاء من العصاة المسلمين (١٠).
(١) أنظر: التفسير البسيط: ٢/ ٤١٩ - ٤٢١.
(٢) تفسير السعدي: ٥٠.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٤٣١): ص ١/ ٩٤.
(٤) تفسير البغوي: ١/ ٨٦.
(٥) تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٤١.
(٦) تفسير السعدي: ٥٠.
(٧) تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٤١.
(٨) أخرجه ابن أبي حاتم (٤٣٢): ص ١/ ٩٤.
(٩) المحرر الوجيز: ١/ ١٣٢.
(١٠) وسنعرض لبعض أدلة علماء أهل السنة من القران والأحاديث الشريفة.
١ - قال الله ﷿: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١].
٢ - قال جل شأنه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣)﴾ [فاطر: ٣٢ - ٣٣]، فقد قال العلماء أن في هذه الآية حرف يستحق أن يكتب بماء العين لا بماء الذهب ألا وهو الواو في قوله تعالى (يدخلونها)، فهذا وعد من الكريم سبحانه الذي لا يخلف وعده بدخول كل هذه الأمة الجنة، بأصنافها الثلاث: الظالمون والمقتصدون والسابقون، الكل وعده الله بدخول جنته، وقدم الظالم كما قال العلماء حتى لا يقنط وأخر السابق حتى لا يغتر. والوعد لكل المسلمين بجنات عدن مع البدء بالظالم وهو الذي خلط الطاعات بالمعاصي، يؤكد بقوة على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن الحكيم حيث لم يبقى قسم من المسلمين خارج عن هذا الوعد فهو شامل لكل من دخل في زمرة المسلمين، فحق لهذه الآية أن تكون من أرجى آيات القرآن الحكيم، ولا ريب أن الظالم هو الذي أذنب وأتى بالمعاصي سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وهذه من أقوى الآيات في الرد على القائلين بخلود أهل المعاصي في النار.
٣ - قال سبحانه: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٢٨].
٤ - ويقول جلت قدرته: في "هود" عن أهل ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧].
والآيات كثيرة ونورد بعضا من أحاديث النبي ﷺ:
١ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله ﷺ: ... حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُ مْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُ مْ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ". [رواه البخاري ٦٥٧٤ ومسلم ١٧٢].
٢ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ". [رواه مسلم ١٨٥].
٣ - حديث أنس بن مالك ﵁ عن النبي ﷺ قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير" وفي رواية: "من إيمان" مكان "من خير". [رواه البخاري ٤٤، ومسلم ١٩٣].
٤ - أحاديث شفاعة الرسول ﷺ في أهل الكبائر الذين دخلوا النار أن يخرجوا منها فعن أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا". [رواه مسلم ١٩٩].
يوضح ذلك حديث الشفاعة المشهور وفيه ... فيقول: "أي عيسى ﵇: ائتوا محمدًا ﷺ عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حدًا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي -وذكر مثله- ثم أشفع، فيحد لي حدًا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، ثم أعود الرابعة، فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" قال البخاري: إلا من حبسه القرآن يعني قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا ". [رواه البخاري ٤٤٧٦، و٦٥٦٥، ومسلم ١٩٣. من حديث أنس بن مالك ﵁].
٥ - حديث أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا -أو الحياة. [رواه البخاري ٢٢، ومسلم ١٨٤].
قال النووي: "الحيا هنا مقصور وهو المطر سمي حيًا لأنه تحيا به الأرض ولذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون وتحدث فيهم النضارة كما يحدث ذلك المطر في الأرض، – " فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية ". [في شرحه لـ"صحيح مسلم" ٣/ ٣٧].
وعلى هذا فعقيدة أهل السنة لا تحتمل اللبس ولا المواربة في عدم خلود أهل المعصية في النار، فيلخصها الصابوني في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث " فيقول: " الخلود في النار خلودان: خلود مؤمد له أمد ونهاية، وهو خلود العصاة، وخلود مؤبد لا نهاية له، وهو خلود الكفار. نسأل الله السلامة والعافية. ولهذا قال المؤلف: ويعلمون حقًا يقينًا أن مذنبي الموحدين لا يخلدون في النار ولا يتركون فيها أبدًا، فأما الكفار فإنهم يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا، والدليل: قول الله تعالى: يُرِيدُونَ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٧]، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٦٧]، هؤلاء هم الكفار نعوذ بالله، ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ [النبأ: ٢٣]، ثم قال المؤلف: ولا يترك الله فيها من عصاة أهل الإيمان أحدًا، فعصاة أهل الإيمان لا بد أن يخرجوا من النار ولو طال مكثهم خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود العصاة في النار، وهذا من أبطل الباطل وهو من اعتقاد أهل البدع، فهم يقولون: إن العصاة يخلدون في النار مثل الكفرة، وهذا من أبطل الباطل". [عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني شرح للشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الراجحي. (موقع فضيلة الشيخ الراجحي: www.shrajhi.com.sa)].
وقد يسأل البعض كيف الجمع بين الآيتين: قال ﷿: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء، وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا.
نقول: بأنه لا اختلاف بين الآيتين مطلقا، فالآية الأولى فيها بيانه سبحانه لعباده أن ما دون الشرك تحت مشيئته قد يغفره فضلًا منه سبحانه، وقد يعاقب من مات على معصية بقدر معصيته لانتهاكه حرمات الله ولتعاطيه ما يوجب غضب الله، أما المشرك فإنه لا يغفر له بل له النار مخلدًا فيها أبد الآباد إذا مات على ذلك - نعوذ بالله من ذلك - وأما الآية الثانية: ففيها الوعيد لمن قتل نفسًا بغير حق وأنه يعذب وأن الله يغضب عليه بذلك، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٩٣]، معنى ذلك: أن هذا هو جزاؤه إن جازاه سبحانه وهو مستحق لذلك وإن عفا سبحانه فهو أهل العفو وأهل المغفرة جل وعلا، وقد يعذب بما ذكر الله مدة من الزمن في النار ثم يخرجه الله من النار، وهذا الخلود خلود مؤقت، ليس كخلود الكفار، فإن الخلود خلودان: خلود دائم أبدًا لا ينتهي، وهذا هو خلود الكفار في النار، كما قال الله سبحانه في شأنهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٦٧]، هكذا في سورة البقرة، وقال في سورة المائدة: ي ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٧].
أما العصاة كقاتل النفس بغير حق والزاني والعاق لوالديه وآكل الربا وشارب المسكر إذا ماتوا على هذه المعاصي وهم مسلمون، وهكذا أشباههم هم تحت مشيئة الله؛ كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٤٨]، وفي موضع آخر: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ١١٦]، فإن شاء جل وعلا عفا عنهم لأعمالهم الصالحة التي ماتوا عليها وهي توحيده وإخلاصهم لله وكونهم مسلمين، أو بشفاعة الشفعاء فيهم مع توحيدهم وإخلاصهم. وقد يعاقبهم سبحانه ولا يحصل لهم عفو فيعاقبون بإدخالهم النار وتعذيبهم فيها على قدر معاصيهم، ثم يخرجون منها، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله ﵊ أنه يشفع للعصاة من أمته، وأن الله يحد له حدًا في ذلك عدة مرات، يشفع ويخرج جماعة بإذن الله، ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع ﵊ "أربع مرات". [انظر: مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (٩/ ٣٨٠). وانظر: فتاوى ابن تيمية (٧/ ٤٩٨ - ٥٠١) / منهاج السنة (٦/ ٢٣٨) / فتح الباري (١١/ ٤٠٦) البحار الزاخرة ٢٤٢].
قال البخاري ﵀[صحيح البخاري: (ج ١٣ ص ٣٩٢)]: حدثني معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن قتادة عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا، فيقول: لست هناك -ويذكر خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطاياه التي أصابها- ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليما. فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه. فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يستمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود"، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة". [الحديث أعاده البخاري ص (٤٢٢)، وأخرجه مسلم (ج ١ ص ١٨٠)، وأبوعوانة (ج ١ ص ١٧٨ - ١٧٩) وابن ماجة (ج ٢ ص ١٤٤٢)، وأحمد (ج ٣ ص ١١٦، ٢٤٤، ٢٤٧)، والطيالسي (ج ٢ ص ٢٢٧) من «ترتيب المسند» من رواية همام عن قتادة به].
وهكذا الملائكة وهكذا المؤمنون كلهم يشفعون ويخرج الله سبحانه من النار بشفاعتهم من شاء ﷾، ويبقي في النار بقية من العصاة من أهل التوحيد والإسلام فيخرجهم الرب سبحانه بفضله ورحمته بدون شفاعة أحد، ولا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار. وبهذا تعلم السائلة الجمع بين الآيتين وما جاء في معناهما من النصوص، وأن أحاديث الوعد بالجنة لمن مات على الإسلام على عمومها إلا من أراد الله تعذيبه بمعصيته، فهو سبحانه الحكيم العدل في ذلك يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد جل وعلا. ومنهم من لا يعذب فضلًا من الله لأسباب كثيرة من أعمال صالحة ومن شفاعة الشفعاء، وفوق ذلك رحمته وفضله ﷾. [انظر: مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (٩/ ٣٨٠)].
2 / 207