الإمام المازري
الإمام المازري
Penerbit
دار الكتب الشرقية
Lokasi Penerbit
تونس.
Genre-genre
نوابغ المغرب العربي (١)
حسن حسني عبد الوهاب
الإمام المازري (*)
منشورات لجنة البعث الثقافي الإفريقي
ملتزم الطبع والتوزيع
دار الكتب الشرقية - تونس.
- عدد الأجزاء: ١.
- عدد الصفحات: ٩٩.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، - غفر الله له ولوالديه -.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
_________
(*) ترجمة حياته بمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاته يتقدمها بحث تاريخي عن تسلسل السند العلمي بإفريقية من لدن الفتح العربي إلى القرن الثامن للهجرة.
1 / 1
نوابغ المغرب العربي (١)
حسن حسني عبد الوهاب
الإمام المازري (*)
منشورات لجنة البعث الثقافي الإفريقي
ملتزم الطبع والتوزيع
دار الكتب الشرقية - تونس.
_________
(*) ترجمة حياته بمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاته يتقدمها بحث تاريخي عن تسلسل السند العلمي بإفريقية من لدن الفتح العربي إلى القرن الثامن للهجرة.
1 / 2
الإهداء:
إلى الحبيب الأديب، الوطني الصميم، من ملأ الله قلبه إيمانًا وإخلاصًا ووفاء، ورزقه من الأخلاق العالية ما أكثر محبيه والمعجبين بكمالاته
محمد الهادي المدني
أهدي هذا البحث، راجيًا أن يثير من عاطفته الكريمة ما يزيده تعلقًا بأولئك الأعلام الأفريقيين، قدوة القطر، وفخر المصر.
عبد الوهاب.
1 / 3
كلمة للقارئ:
صدور هذه الدراسة القيمة - أيها القارئ العزيز - هو بداية مشروع للنشر يتجه أولًا إلى خدمة الثقافة التونسية في نواحيها الشتى، في نشر مخطوطات تونسية تمثل الفكر التونسي، وفي بحوث مركزة حول موضوعات إفريقية، وفي التعريف الكاشف بـ «نوابغ المغرب العربي» وهذه الدراسة عن الإمام المازري، والسند العلمي التونسي هي الحلقة الأولى في هذه السلسلة التي سنوافيك بكل حلقة منها في أقرب وقت ممكن إن شاء الله.
ويسرنا أن تكون الحلقة الأولى في هذه السلسلة دراسة مستفيضة عن شخصية إسلامية مجتهدة لعبت دورًا هامًا في تاريخ السند العلمي الإفريقي الذي أسهب المؤلف في الحديث عنه إسهابًا ممتعًا، كشف لنا فيه ناحية مجهولة وهامة، هذه الشخصية هي شخصية الإمام المازري - طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ - ..
ويسرنا أن تكون هذه الدراسة - وهي بداية عملنا
1 / 5
التونسي - بقلم باحث فاضل قصر حياته المثمرة الطويلة على خدمة تايخنا التونسي، والثقافة الإسلامية في هذه الربوع.
ومن عسى أن يكون هذا الرجل إن لم يكن مؤرخنا التونسي المجدد، ومعيننا في هذا المشروع صاحب المعالي الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب الذي يدين له كثير من الباحثين في المغرب والمشرق بالإعانة والإرشاد.
هذه كلمة تعريف - أيها القارئ الكريم - بعثنا بها إليك بمناسبة تحقيق الخطوة الأولى من خطوات متعددة، وسنلتقي دائمًا حين نعمل، لا حين نقول.
٧/ ٦ / ١٩٥٥ م
لجنة البعث الثقافي الإفريقي.
1 / 6
توطئة:
فيما بين المائة الثانية وأواسط المائة الخامسة من الهجرة كانت «إفريقية» - وهي البلاد التونسية اليوم - ترفل في حلل الرفاهية، وتحيط بها هالات المجد، فتفيض عليها البهاء والرواء.
تعاقبت عليها أجيال من الخلائق والدول، باذلة لها ما في الوسع من جسام المساعي وجلائل الأعمال، فانتظم فيها مجتمع إفريقي ناهض ينظر إلى المستقبل بعين التفاؤل والاستبشار.
وطدت تلك الأجيال والدول في إفريقية التونسي دعائم الحياة الاجتماعية السعيدة، فعملت على ترقية الفلاحة، وتنمية الصناعة، وتنشيط التجارة، وتعميم العلوم والآداب، وبذلك طار صيت البلاد في استكمالها أسباب الحضارة والتمدن وضرب بها المثل في ربوع العالمين.
بينما تمضي إفريقية التونسية إلى أوج العزة والازدهار إذ رماها الزمن بداهية دهياء، زعزعت منها القواعد وردتها على الأعقاب، وأقامت فيها مأتمًا بعد عرس.
1 / 7
كانت تلك الكارثة التي حلت بالبلاد، ولم يكن لها بمثلها عهد منذ تاريخها الأقدم، أنها فقدت وحدتها السياسية وأضاعت سلطانها المركزي، فاختل توازنها، وانهارت حضارتها في أقل من عام.
هجم على إفريقية التونسية بَنُو هِلاَلٍ وَبَنُو سُلَيْمٍ، ولا كهجوم التتر على بغداد - وذلك في سنة ٤٤٩ هـ - (١) كأنهم السيل العرم يتدافع على البطاح، أو كأنهم الجراد المنتشر يحط على الحقول النامية، وما هي إلا أن هدمت القصور والأبنية، وخربت المسالك والميادين، وعاثت في عمران البلاد يد الدمار.
وأصابت النكبة - أول ما أصابت - مدينة القيروان، أم القرى المغربية، وعاصمة الحضارة العربية، فأصحبت خاوية على عروشها، يهيم أهلوها على وجهوههم في أرجاء الأرض العريضة ما بين أصقاع المغرب والأندلس، إلى العراق، إلى ما وراء النهر.
فارق العلم والأدب والفن ربوع القيروان، ومضى يلم شتاته، ويجمع بقاياه، ملتمسًا له ملاذًا في المهدية وسوسة وبعض القرى الساحلية الأخرى.
_________
(١) ضبط التاريخ: هدمت.
1 / 8
وكذلك انهوى ركن العلوم الشرعية الذي تواصل قيامه منذ الفتح العربي، وكاد يندثر لولا بقية صالحة من أولي العزم، حفظوا تعاليم الشريعة، واحتضنوا تراث الرواية، وصانوا سبيل التلقي عن الأسلاف، وبذلك سلم لهم السند العلمي، فعكفوا عليه يحوطونه وينفون عنه الزيف، حتى أسلموه إل الأخلاف؛ لكي يتابعوا نشره إعلاءً لكلمة الله!.
في طليعة هؤلاء الأفذاذ البررة، ذلك الحبر الذي خصصنا ترجمته بتلك الأوراق، وهو (الإمام المَازَرِي) ... وكأن الأقدار ناطب به جمع ما تبدد من منهج السند العلمي القديم القويم، واستنقاذه من العبث الذي جَرَّ إليه الطغيان والجهالة والهمجية في تلك الحقبة من تاريخ إفريقية التونسية.
ويحق لتاريخ العلم في هذا البلد الطيب أن يعد الإمام المازري العروة الوثقى بين الماضي الزاهر لتعاليم الحنيفية السمحة، وبين العصور الوسطى في تاريخ الإسلام.
ولكي تتجلى مزية المازري في هذا الصدد نقدم بين يدي ترجمته إلمامة نتعرف بها كيف تواصل السند العلمي في الشريعة
1 / 9
منذ بزوغ نجمه إلى زمن إمامنا الفذ، وما وليه من العصور إلى قريب من يومنا المشهود.
نَشْأَةُ العِلْمِ الإِسْلاَمِيِّ:
ظهر علم الشريعة أول ما ظهر في إفريقية - وخاصة في القيروان - على يد الصحابة فالتابعين الوافدين على المغرب إبان الفتوح، عن هؤلاء وهؤلاء كان تسلسل السند، فتلقاه منهم ناشئة العرب المولدون، وأبناء الأفارقة والبربر ممن دخلوا في الإسلام، فما يكاد هذا النشء يحفظ القرآن حتى يروي عن أولئك الفاتحين ومن إليهم سنة رسول الله ﷺ وهي المنبع الثاني للشريعة، والأصل التالي للقرآن العظيم في استخلاص أحكام الدين.
وقبل أن نسرد لك أشهر من حملوا العلم، وَرَوَوْا الحديث في إفريقية، وهم الذين يتسق بهم السند العلمي الإفريقي، نستهل البحث بذكر بعض من وفدوا على البلاد وأقاموا بها بعد الفتوح. وقد روى عنهم الحديث والآثار رجال من التابعين
1 / 10
الأولين الذين اتخذوا تلك البلاد وطنًا لهم، بعد أن مهدت بها سبل الاقامة بتأسيس مدينة القيروان وغيرها من المدائن العربية.
البِعْثَةُ الدِّينِيَّةُ:
كان في مقدمة هؤلاء «العشرة التابعون» الذين عينهم الخليفة عمر بن عبد العزيز سنة مائة من الهجرة، لتفقيه الأفارقة في الدين، وإرشادهم إلى هديه، وإشرابهم مُثُلَهُ العُلْيَا، ونحن نخص بالذكر منهم:
- إسماعيل بن أبي المهاجر المخزومي، عامل عمر بن عبد العزيز على المغرب "ورأس البعثة الدينية، فقيه صالح، يروي عن عبد الله بن عمر، وفُضالة بن عبيد، وروى عنه الأوزاعي بالشرق، وعبد الرحمن بن زياد وغيره بالقيروان، وعلى يده أسلم العدد الغالب من البربر، وكان على إسلامهم حريصًا، مات بالقيروان سنة ١٣٣ هـ.
- عبد الله بن يزيد المعافري المعروف بِالحُبُلِيِّ، يروي عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن
1 / 11
عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجُهَنِيِّ، وغيرهم، شهد فتح الأندلس مع موسى بن نصير، ثم استوطن القيروان، واختط بها دَارًا ومسجدا وَكُتَّابًا في ناحية باب تونس، وانتفع به جماعة من الأفارقة، وبث فيهم علمًا كثيرًا، مات سنة ١٠٠ هـ وقبره بالقيروان معروف.
- عبد الرحمن بن رافع التنوخي، من فضلاء التابعين، يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن جماعة من الصحابة، وعنه يروي عبد الرحمن بن زياد وغيره، وهو أول من تولى القضاء بالقيروان بعد بنائها، وَلاَّهُ إياه الأمير موسى بن نصير سنة ٨٠ هـ وكان عدلًا في أحكامه، وهو الذي يروي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ: (*) " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدٍ: أَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَهُ، فَقَالَ: «كِلاَ الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ، أَمَا هَؤُلاَءِ فَيَدْعَوْنَ اللهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ، وَيُعَلَّمُونَ الْجَاهِلَ، فَهُمْ أَفْضَلُ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ
_________
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " سنن الدارمي "، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، ١/ ٣٦٥، حديث رقم ٣٦١، الطبعة: الأولى: ١٤١٢ هـ - ٢٠٠٠ م، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية.
1 / 12
مُعَلِّمًا، فَجَلَسَ مَعَهُمْ». أخرجه الترمذي (*) عن عبد الله بن عمرو؛ وتوفى ابن رافع بالقيروان سنة ١١٣ هـ.
- ومنهم إسماعيل بن عبيد الأنصاري، كان من العلماء الفضلاء، يروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، ويروي عنه من أهل إفريقية بكر بن سوادة الجذامي، وعبد الرحمن بن زياد وسواهما، ومن مواليه عبد الملك بن أبي كريمة الآتي ذكره، وانتفع به خلق كثير من الأفارقة، وهو الذي بنى المسجد الكبير المعروف " بمسجد الزيتونة " في القيروان، كما أنشأ بها سوقًا للتجارة غربي مسجده، كانت تسمي " سوق إسماعيل "، وقد خرج مجاهدًا على سبيل التطوع في إحدى غزوات صقلية، ففرق في البحر سنة ١٠٧ هـ.
وما من واحد من بقية " العشرة التابعين " إلاكان يروي الحديث عن الصحابة، ويتقن التفسير والفقه، وإلا اتخذ دارًا لسكناه، ومسجدًا لصلاته، وكتابًا لتعليم الناشئة، وقد تفقه
_________
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) لم أجده في " سنن الترمذي ". انظر " المدخل إلى السنن الكبرى "، للبيهقي، تحقيق الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ص ٣٠٦، حديث رقم ٤٦٢، نشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت
1 / 13
على أيديهم جمع كبير، هم المربون الأولون لأبناء البلاد، وهم الذين لقنوهم علوم الشريعة.
التَّابِعُونَ الدَّاخِلُونَ إِفْرِيقِيَّةَ وَالرِّوَايَةُ عَنْهُمْ:
ومن التابعين الذين دخلوا إفريقية كثرت عنهم الرواية:
- يحي بن سعيد بن فهد الأنصاري، وجده فهد من الصحابة، وكانت ابنته خولة زوج حمزة بن عبد المطلب عم النبيء ﷺ، ولد يحيى بالمدينة، وروى الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، ومعاذ، والسائب بن زيد، وعمرة بنت عبد الرحمن، وقد روى عنه أغلب أيمة الاجتهاد، مثل أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والزهري، والاوزاعي، وغيرهم، وكان يحيى فقيهًا مُحَدِّثًا ثقة مأمونًا، قيل إن جملة ما كان يحمله من الحديث: ثلاثمائة يسندها إلى وجوه من الصحابة والصحابيات، ودخل يحيى إفريقية على رأس القرن الثاني للهجرة أرسله إليها الخليفة عمر بن عبد العزيز عاملًا على الصدقات خاصة، ونزل يحيى مدينة تونس، وجالس بها خالد
1 / 14
ابن أبي عمران التُّجِيبِي، وأخذ كل منهما عن صاحبه كما سمع منه خلق كثير من أبناء تونس والقيروان، ومما هو جدير بالملاحظة أن رواية الأفارقة للحديث كانت أكثر ما كانت بطريق المدنيين وسندهم، ويلوح لي أن ذلك هو السبب الأصيل في ميل الأفارقة من بعد إلى الأخذ بآراء أهل المدينة في الفقه، وإيثار الكثير منهم لمذهب مالك بن أنس وصحبه وقد قال الإمام الشافعي: «إذَا جَاوَزَ الحَديثُ الحَرَمَيْنِ (المَدِينَةِ وَمَكَّةَ) فَقَدْ ضَعُفَ نُخَاعُهُ» (١).
ومهما يكن من أمر فقد سار يحيى في إفريقية سيرة الأخيار البررة الساعين لنشر تعاليم الملة السمحة، السالكين سبيل العفة والنزاهة في القول والعمل، وأقام يحيى في تونس نحو عشرين سنة بث في أثنائها علمًا كثيرًا، وأخلاقا مرضية، وتوفي سنة ١٤٣هـ (٧٢٠ م).
مُشَارَكَةُ الإِفْرِيقِيِّينَ فِي العِلْمِ:
وبين الرعيل الأول من الأفارقة الذين حملوا العلم الاسلامي:
_________
(١) كتاب " آداب الشافعي ومناقبه "، طبع القاهرة ١٣٧٢ هـ، ص ٢٠٠.
1 / 15
- خالد بن أبي عمران التجيبي، وهو تابعي ابن تابعي، كان أبوه ممن صحب قديمًا عبد الله بن سلام الصحابي، ثم قدم مع جيش حسان بن النعمان سنة ٧٤ هـ. واستقر في مدينة تونس، وولد له خالد، فقرأ على أبيه وعلى غيره من حفظة القرآن ورواة الحديث، ثم رحل إلى المشرق وسمع من أعلامه، وروى عنه غير واحد من كبار الأيمة، مثل الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعه وغيرهما، وروى له مسلم في " صحيحه "، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي، كما روى له مالك بن أنس في " الموطأ " بسند يحيى بن سعيد الأنصاري، وعاد خالد إلى إفريقية مُزَوَّدًا برواية زاخرة نقيًا عنه جماعة من أبناء البلاد، مثل عبد الملك بن أبي كر يمة، وعبد الرحمن بن زياد وسواهما، وتولى خالد قضاء إفريقية في ولاية عبد الله بن الحبحاب، وتوفي سنة ١٢٣هـ، وقد ترك ديوانًا كبيرًا في الحديث فيه مروياته عن تابعي المدينة.
- عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري، كان أبوه من وجوه التابعين، وقد ولد له عبد الرحمن سنة ٧٤ هـ وجند حسان بن النعمان في دخوله إلى إفريقية. روى جانبًا كبيرًا من الحديث
1 / 16
على من كان في زمانه من التابعين المقيمين في إفريقية مثل خالد بن أبي عمران، وروى على الفقهاء الذين أرسلهم الخليفة عمر بن عبد العزيز مدة خلافته؛ لتفقيه أبناء المغرب، ثم رحل في طلب العلم إلى المشرق: مصر والشام والحجاز والعراق وصحب أبا جعفر المنصور العباسي قبل أن يلي الخلافة في مزاولة العلم بالكوفة، ورجع إلى القيروان وتولى القضاء بها مرتين، وأخذ عنه خلق لا يحصون من أبناء بلده وتوفي سنة ١٦١هـ.
- علي بن زياد التونسي من أبناء مدينة تونس قرأ بها على خالد بن أبي عمران وغيره، وبالمشرق عن سفيان الثوري والليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، وهو أول من أدخل "موطأ " مالك بن أنس و" جامع " سفيان الثوري الى المغرب " وروايته لـ " الموطأ " (*) مشهورة بين " الموطآت " يوجد منها قطعة صالحة في مكتبة القيروان العتيقة، وممن أخذ عنه من الأفارقة: أسد بن الفرات وسحنون "وقد قال سحنون في شأنه: «كَانَ أَهْلُ العِلْمِ بِالقَيْرَوَانِ إِذَا اِخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ كَتَبُوا بِهَا إِلَى عَلِيٍّ بْنِ زِيَادٍ، لِيُخْبِرُهُمْ مَنْ عَلَى صَوَابٍ فِيهَا»، وتوفي ابن زياد سنة ١٨٣هـ وقبره في حضرة
_________
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قطعة من الكتاب المطبوع، " الموطأ " برواية علي بن زياد، بتحقيق الشيخ محمد الشاذلي النيفر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، الطبعة: محرم ١٣٩٩ هـ / ديسمبر ١٩٧٨ م، الدار التونسية للنشر. (عدد الصفحات: ١٠٧)، كما طبع في دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان.
1 / 17
تونس معروف في أعلى الشارع الذي يحمله اسمه في ناحية القصبة.
تَتَابُعُ الطَّبَقَاتِ:
ثم تبتدئ طبقة ثانية يوافق ظهورها قيام الدولة الأغلبية في البلاد، ويمتاز رجال هذه الطبقة بالعكوف على أقوال الأئمة المجتهدين في التشريع يجمعون شتاتها، ويؤلفون بين موضوعاتها وَيُبَوِّبُونَ مَسَائِلَ الفِقْهِ وَيُنَسِّقُونَ أَحْكَامَهَا، وبعد أن وقفوا على تفسير القرآن وعرفوا رواية الحديث والسنن، وفي طليعة هذه الطبقة:
- أسد بن الفرات بن سنان من أبناء جند خراسان، قدم به أبوه صغيرًا - ابن عامين - مع جيش محمد بن الأشعث الداخل إلى إفريقية سنة ١٤٤ هـ، فأقام بتونس، ثم توجه إلى الحجاز، وأخذ عن مالك بن أنس، ثم انحدر إلى الكوفة وبغداد، فقرأ على أصحاب أبي حنيفة النعمان، ولا سيما محمد بن الحسن الشيباني، وفيما هو عائد إلى بلده عَرَّجَ على مصر، فأخذ
1 / 18
عن عبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن وهب وغيرهما، واعتمد على ابن القاسم في إنشاء مدونته المعروفة بـ " الأسدية "، وقد تلقى عنه أبناء إفريقية، مثل سحنون، وسليمان بن عمران وسواهما، ويمكن أن نعد أسد بن الفرات أول مؤسس للمدرسة الفقهية القيروانية، بيد أن هذه المدرسة لم تكن تنتسب إلى مذهب معين، بل كانت تروي أقوال كبار المجتهدين مع إيضاح
ما بينها من فروق، وإنما كان ذلك؛ لأن المَذَاهِبَ السُّنِّيَّةِ لم تكن قد تعينت بعد، واستقل كل منها بنفسه، فان ذلك لم يتسق إلا في القرن الثالث للهجرة، وعلى أية حال فقد كان أسد بن الفرات يُقْرِئُ بالقيروان آراء مذهب أهل المدينة، ومذهب أهل العراق بالسوية، حينما أخذت كل طائفة تنحاز إلى مذهب بعينه.
قال المالكي: «وَالمَشْهُورُ عَنْ أَسَدٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَلْتَزِمُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَأهْلِ العِرَاقِ مَا وَافَقَ الحَقَّ عِنْدَهُ، وَيَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ لاسْتِبْحَارِهِ فِي العُلُومِ وَبَحْثِهِ
1 / 19
عَنْهَا، وَكَثْرَةِ مَنْ لَقِيَ مِنَ العُلَمَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ» (١)
وقال معاصره أبو سنان زيد بن سنان الأزدي: «وَكَانَ أَسَدُ إِذَا سَرَدَ قَوْلَ العِرَاقِيِّينَ يَقُولُ لَهُ مَشَايِخٌ كَانُوا يُجَالِسُونَهُ مِمَّنْ يَذْهَبُ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ المَدِينَةِ: " أَوْقِدْ لَنَا القِنْدِيلَ الثَّانِي يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ " فَيَسْرُدُ أَقْوَالَ المَدَنِيِّينَ».
ويجدر بنا هنا أن نلفت النظر إلى أن أشياع أهل العراق - أبي حنيفة وأصحابه - كانوا أوفر عددًا يومئذٍ من الذين يتابعون أهل الحجاز - مالك وأصحاب السنن - وما ذلك إلا لأن الأمراء من بني الأغلب رجال دولتهم كانوا يقلدون ساداتهم خلفاء بني العباس.
وقد تولى أسد قضاء إفريقية لزيادة الله بن الأغلب، ثم خرج مجاهدًا إلى صقلية زعيمًا للجيش العربي، فاستشهد في فتحها سنة ٢١٣ هـ.
كَيْفَ دَخَلَتْ الحَنَفِيَّةُ إِفْرِيقِيَّةَ؟:
حكى المقدسي في " رحلته " - وقد زار المغرب آخر القرن
_________
(١) ج ١ ص ١٨١ من " رياض النفوس "، طبعة مصر ١٩٥١ م.
1 / 20
الرابع للهجرة - رواية أخرى عن أخذ أسد بن الفرات لآراء أهل العراق، قال: «وَسَأَلْتُ علماء القيروان كيف وقع مذهب أبي حنيفة إليكم، ولم يكن على سابلتكم؟ - فقالوا: لما قدم عبد الله بن وهب من عند مالك ﵀ من المدينة إلى مصر، وقد حاز من الفقه والعلوم ما حاز، فاستنكف أسد بن الفرات أن يدرس عليه لجلالته وكبر نفسه، فرحل أسد إلى المدينة ليدرس على مالك، فوجده عليلًا، فلما طال مقامه عنده قال له مالك: " ارجع إلى ابن وهب فقد أودعته علمي، وكفيتكم به الرحلة، فصعب ذلك على أسد وسأل القوم: هل يعرف لمالك نظير؟ - فقيل له: فتى في الكوفة يقال له محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فرحل أسد إليه، وأقبل عليه محمد بن الحسن إقبالًا لم يقبله على أحد، ورأى فهمًا وحرصًا، فزقه الفقه زقًا فلما علم محمد أنه قد استقل، وبلغ مراده فيه سيبه إلى المغرب، فلما دخل اختلف إليه فتيان القيروان، ورأوا فروعًا حَيَّرَتْهُمْ وَدَقَائِقَ أَعْجَبَتْهُمْ، وَمَسَائِلَ مَا طَنَّتْ عَلَى أُذُنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَتَخَرَّجَ
1 / 21