على الرغم من أن الروايتين تشتركان في عنصر الولادة في بيت لحم؛ لأن المسيح في النبوءات التوراتية يولد في هذا المدينة، إلا أن متى الذي ينكر الأصل الجليلي للعائلة المقدسة ويجعل من بيت لحم موطنها الأصلي، يقول لنا بأن الولادة حصلت بشكل طبيعي في بيت العائلة، وذلك في عهد الملك هيرود الكبير الذي جعله الرومان ملكا على فلسطين وحكم من عام 37 إلى عام 4ق.م. وعليه فإن من المرجح أن ميلاد يسوع وفق رواية متى قد حصل نحو عام 6ق.م. أي قبل وفاة هيرود بعامين. أما لوقا الذي جعل من ناصرة الجليل الموطن الأصلي للعائلة في قصة الميلاد العذري، فقد جاء بيوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم بداعي الإحصاء السكاني الذي أمر به الإمبراطور أوغسطس عندما كان كيرينيوس واليا على سوريا. وبدلا من ولادة مريم في بيت الأسرة في بيت لحم، يجعلها لوقا تلد خارج أحد الخانات على مشارف بيت لحم وتضجع مولودها في مزود لعلف الحيوانات، وذلك لعدم وجود مكان لهما في الخان بسبب كثرة الواردين إلى المدينة من أجل الاكتتاب. وبما أن المعلومات التاريخية تقول لنا بأن السلطات الرومانية عينت كيرينيوس واليا على سوريا عام 6م، وفي عهده جرى مثل هذا الإحصاء الذي كان يهدف أساسا إلى إحصاء المكلفين ضريبيا،
3
فإن ميلاد يسوع وفق رواية لوقا يجب أن يكون في عام 6م، أي بعد التاريخ الذي نستنتجه من رواية متى باثنتي عشرة سنة. وهنالك نقطة تستحق التوقف عندها فيما يتعلق بإحصاء كيرينيوس، فإذا كان هذا الإحصاء قد جرى لغاية محددة تتعلق بالتكليف الضريبي للمواطنين، فقد كان الأحرى بيوسف أن يبقى في مكان إقامته ومقر عمله لا أن يمضي إلى بيت لحم موطن أجداده. (2)
يقحم متى على رواية الميلاد مجوس آتين من الشرق رأوا نجم ولادة المسيح فتبعوه لكي يأتوا ويسجدوا له. وكانت صفة المجوس في ذلك الوقت تطلق على الحكماء المتضلعين بالفلك وعلوم التنجيم، وعندما سمع هيرود بخبر ميلاد المسيح ملك اليهود اضطرب من ظهور منافس له على العرش، فدعا العارفين بالكتب وسألهم أين يولد المسيح، فقالوا له في بيت لحم. وهنا يقتبس متى من سفر ميخا التوراتي نبوءته بخصوص ميلاد المسيح في بيت لحم (راجع ميخا، 5: 2) بعد تحويرها على طريقته، فقال: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا ... منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل.» هذا وتتجلى اللغة الميتولوجية التي استخدمها متى في قصة الميلاد بأوضح أشكالها عندما جعل النجم يقود المجوس إلى بيت يوسف حتى وقف فوقه. ونحن هنا لا يمكن إلا أن نتساءل كيف يمكن لنجم يبعد عن الأرض مسافات تقاس بالسنوات الضوئية أن يشير إلى بيت بعينه في بلدة صغيرة على الكرة الأرضية؟ (3)
يتحول مجوس متى الذين رأوا نجم ملك اليهود في المشرق وتبعوه، إلى رعاة عند لوقا كانوا يحرسون غنمهم في الليل عندما ظهر لهم ملاك وبشرهم بميلاد المخلص في بيت لحم، وهنا يضيف لوقا على هذا المشهد الميثولوجي عناصر تجعله أكثر فخامة، عندما ينضم إلى الملاك حشد كبير من جند السماء يسبحون الله. (4)
عندما تأكد لهيرود في رواية متى عدم قدرته على معرفة هوية الطفل بعد أن خدعه المجوس، أمر بقتل جميع المواليد في بيت لحم، ولكن الملاك أمر يوسف أن يأخذ زوجته وطفلها ويسافر بهما إلى مصر، ففعل ذلك تحت جنح الظلام، وأقام في مصر مدة غير محددة حتى أمره الملاك بالعودة لأن هيرود قد مات. وعندما وصل إلى الوطن عرف أن فلسطين قد قسمت إلى عدة ولايات بعد وفاة ملكها، وأن أرخيلاوس ابنه قد صار ملكا على مقاطعة اليهودية، فخاف من الإقامة في بيت لحم، وتوجه إلى الجليل حيث سكن في مدينة الناصرة . وبذلك يفسر متى كون يسوع جليليا على الرغم من ولادته في بيت لحم.
وفي الحقيقة، فإن التاريخ قد حفظ لنا الكثير من مآثر هيرود الكبير ومن فظائعه وجرائمه التي لا تحصى أيضا، ومنها قتل العديد من أفراد أسرته نفسها، ولكن مذبحة مواليد بيت لحم لم تحصل بالتأكيد ولم يتوفر لدينا شاهد تاريخي على وقوعها. أما غرض متى من ابتكار هذه القصة فلاهوتي بالدرجة الأولى، لأنه أراد أن يجعل من يسوع موسى الثاني، ومن هيرود صنوا لفرعون. وكما أمر فرعون بقتل جميع مواليد العبرانيين من الذكور ولكن موسى الطفل نجا وحده عندما وضعته أمه في سفط من البردي وأسلمته إلى النهر (سفر الخروج: 1-2)، كذلك فعل هيرود بمواليد بيت لحم ولكن يسوع وحده نجا. ويستشهد متى بآية من سفر هوشع تقول: «ومن مصر دعوت ابني» ليفسر بها سفر يسوع إلى مصر وعودته منها، علما بأن هوشع هنا لم يكن يتحدث عن دعوة المسيح من مصر، وإنما عن دعوة بني إسرائيل المستعبدين هناك. والنص الكامل للآية التي أوردها متى مجتزأة هو: «لما كان إسرائيل غلاما أحببته، ومن مصر دعوت ابني» (هوشع، 11: 1). (5)
بما أن لوقا قد جعل ميلاد يسوع بعد مضي عشر سنوات على وفاة الملك هيرود، فإن قصة مذبحة الأطفال والهرب إلى مصر، لم يكن لها مكان في روايته التي سارت أحداثها بعد الميلاد بشكل روتيني. فقد انتظر الوالدان مدة ثمانية أيام وهي الفترة اللازمة لطهارة الوالدة بعد الوضع، ثم ختنا الطفل وذهبا إلى الهيكل؛ حيث قدما قربانا عنه حسب شريعة موسى ثم رجعوا إلى الجليل. وبعد ذلك ينفرد لوقا بذكر قصة لم ترد في بقية الأناجيل. فعندما كان يسوع في سن الثانية عشرة، قامت العائلة بزيارة أورشليم في عيد الفصح، وهناك افتقد الوالدان يسوع ولم يجداه فراحا يبحثان عنه في كل مكان حتى عثرا عليه في الهيكل يجادل الشيوخ مفصحا عن حكمة لا تتوفر عادة لمن هم في سنه (لوقا، 2: 41-50).
هذا كل ما لدينا في الأناجيل الرسمية عن أسرة يسوع وميلاده وحياته حتى بلوغه الثلاثين من العمر. أما أناجيل الطفولة المنحولة والتي لم تعترف بها الكنيسة، فلم تزد على معلوماتنا أي جديد؛ لأنها اعتمدت روايتي متى ولوقا، وأضافت عليها الكثير من العناصر الميثولوجية. وبما أن هذه الأناجيل قد دونت بعد الأناجيل الأربعة بزمن طويل، وذلك فيما بين أواسط القرن الثاني الميلادي وأواسط القرن الرابع، فإنه من غير المحتمل أن يكون مؤلفوها قد اعتمدوا مصادر لم تكن متوفرة زمن تدوين الأناجيل الرسمية. ولكن عنصرا واحدا في هذه الأناجيل يستحق التوقف عنده؛ لأنه يقدم لنا رواية ثالثة عن مكان ولادة يسوع، الذي لم يولد لا في بيت عادي من بيوت بيت لحم ولا في خان على مشارفها، وإنما على الطريق قبل الوصول إلى بيت لحم.
فعلى ما ورد في إنجيل يعقوب التمهيدي، فإن يوسف ينطلق مع زوجته الحبلى من أجل الاكتتاب في بيت لحم، ولما انتصف بهم الطريق قالت له مريم: أنزلني عن الأتان الآن؛ لأن الذي في بطني يضغط من أجل الخروج. فوجد يوسف هناك مغارة فأدخلها إليها ثم خرج ليبحث عن قابلة، فالتقى في طريقه امرأة تطوعت لمساعدته بعد أن روى لها قصته وكيف حبلت خطيبته من الروح القدس، وعندما وصلا إلى المغارة كانت مريم قد وضعت طفلها وألقمته صدرها. فتقدمت المرأة وفحصتها فوجدتها ما زالت عذراء بعد الولادة.
Halaman tidak diketahui