شكر وتقدير
تمهيد: بأي كامو نحتفي؟
1 - كامو، ابن فرنسا في الجزائر
2 - كامو، بين مراسل ومحرر
3 - كامو والعبث
4 - متمرد بلا قضية
5 - كامو وسارتر - الشقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان
6 - كامو والجزائر
7 - إرث كامو
المخطط الزمني لحياة ألبير كامو
قراءات إضافية
المراجع
مصادر الصور
شكر وتقدير
تمهيد: بأي كامو نحتفي؟
1 - كامو، ابن فرنسا في الجزائر
2 - كامو، بين مراسل ومحرر
3 - كامو والعبث
4 - متمرد بلا قضية
5 - كامو وسارتر - الشقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان
6 - كامو والجزائر
7 - إرث كامو
المخطط الزمني لحياة ألبير كامو
قراءات إضافية
المراجع
مصادر الصور
ألبير كامو
ألبير كامو
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
أوليفر جلوج
ترجمة
مؤمن محمود رمضان أحمد
مراجعة
عبد الفتاح عبد الله
إلى تريسي
شكر وتقدير
يدين هذا الكتاب بالكثير لما قدمه فريدريك جيمسون من دعم ونصح. أدين بالفضل أيضا إلى فريدريك إيرارد الذي ساعد - إلى جانب عزرا سليمان - في إفساح المجال في وقت يسوده الاضطراب. أود أيضا أن أشكر فابيان لو دانتك وسارة صمدي، ودارين ووترز، وخوان سانشيز-مارتينيز، وجون كراتشفيلد، ومات إشلمان.
يعتمد الكتاب على تنوع وجهات النظر للعديد من المعلقين، وأود أن أعرب عن تقديري للتأثير المشترك للعديد من الكتاب الذين سبق أن كتبوا عن كامو، وخاصة إيان بيرشال، وأليس كابلان، وكونور كروز أوبراين، وإدوارد سعيد.
ويباري طلابي في غربي كارولاينا الشمالية بعضا من أفضل المناحي في مسيرة كامو؛ وذلك في سعيهم الدءوب للتعليم، إذ يمثلون مصدر إلهام.
لقد وافى الأجل كلا من كارول أكيمان وباسكال كازانوفا قبل الأوان، وقد ساعداني بطرق شتى في عملي عن كامو، فأنا ممتن لمعرفتي بهما.
وختاما، أود أن أشكر زوجتي تريسي هايز؛ إذ لم أكن لأكتب هذا الكتاب دون مساعدتها ودعمها.
تمهيد: بأي كامو نحتفي؟
اليوم، يعد ألبير كامو أحد أشهر الفلاسفة الفرنسيين - رغم أنه لم يكن يعتبر نفسه فيلسوفا - ولربما كان أكثر الروائيين الفرنسيين المقروء لهم في العالم. فقد ألهمت أعماله العديد من الأفلام، وحتى موسيقى البوب، وعادة ما يقتبس رجالات الدولة في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية منها ما يؤيد آراءهم.
ولكن بأي كامو نحتفي؟ هل هو المراسل الشجاع الذي استقصى دون كلل الأوضاع الفظيعة للسكان الأصليين لمنطقة القبائل الجزائرية، التي احتلتها فرنسا في ثلاثينيات القرن العشرين؟ أم الرجل الذي كتب أن العلاج الوحيد لفرنسا هو أن تبقى «قوة عربية»؟ أنحتفي بالكاتب الذي نشر مقالات في صحف المقاومة السرية أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا؟ أليس هو الكاتب الطموح الذي وافق على حذف الفصل الخاص بكافكا في أطروحته الفلسفية ليضمن موافقة الرقابة النازية على نشره؟ هل ثناؤنا محفوظ للمؤلف الذي انتقد الزواج والحداد والحراك الاجتماعي في روايته الأكثر شهرة، «الغريب»، أم الرجل الذي لا يورد اسما لأي شخصية عربية في العمل نفسه؟ عندما نتحدث عن كامو، هل نتحدث عن المقاوم الذي كان مؤيدا لعقوبة الإعدام، أم الفيلسوف الذي أدانها لاحقا؟
كان كامو متناقضا إلى أقصى حد. كان مؤمنا إيمانا صارما بمبادئ المساواة التي ظهرت في فرنسا خلال عصر التنوير، ويرجع ذلك جزئيا إلى دعم الدولة الفرنسية له على نحو فعال بعدما فقد والده في الحرب العالمية الأولى، ووفرت له من خلال التعليم وسائل انتشال نفسه من الفقر الذي عايشه منذ الصغر. مع ذلك، فإن الصعوبات التي عايشها في تلك الفترة ونشأته في الجزائر المستعمرة فرنسيا جعلتاه يعي على نحو متزايد أن الضيم الذي توقعه فرنسا على العرب والبربر متناقض مع مبادئ المساواة. وعلى مدار حياته وأعماله، تأرجح كامو بين تجنب هذا التناقض ومواجهته. انتهى به الأمر إلى أن تكون تلك الازدواجية هي هويته. تلك الدوافع المتضاربة بين كبت هذا الإدراك والتصالح معه وجهت كتاباته بطرق مختلفة في أوقات مختلفة.
من شأن هذا الكتاب القصير أن يزود القارئ بملخص لحياة كامو وأعماله، وسيتصدى بجرأة أيضا إلى أوجه الغموض في مواقف كامو؛ لأنها عنصر أساسي للتوصل إلى فهم واضح اليوم لكل من أعماله الكبرى وشعبيته المتجددة.
الفصل الأول
كامو، ابن فرنسا في الجزائر
كثيرا ما ينظر إلى أعمال كامو (خاصة رواية «الغريب») بوصفها من الروائع الفنية المنقطعة النظير في الأدب الفرنسي. ورغم ذلك، يزداد طرح مسألة الهوية والسياق التاريخي في الموقف الاستعماري. ولكي نعي إنجازات كامو والإشكاليات التي تتضمنها أعماله ونفيها حقها، من المهم أن نضع في الحسبان السياق التاريخي الذي شكل سنوات تكوينه.
ألبير كامو (1913-1960) مواطن فرنسي ولد في الجزائر. وكان من المفترض أن يعيش هناك منذ مولده وحتى منتصف الحرب العالمية الثانية. عمل والده واسمه لوسيان كامو مراقب عمال في كرمة في مقاطعة موندوفي، التي تبعد حوالي 100 ميل إلى الشرق من الجزائر العاصمة. في الثالث عشر من نوفمبر عام 1910، تزوج لوسيان بكاثرين هيلين سينتس، وهي ربة منزل، وبعد ثلاثة أشهر ولد أخو ألبير الأكبر، الذي سمي لوسيان أيضا. ولد ألبير في موندوفي بعد حوالي ثلاث سنوات، في السابع من نوفمبر عام 1913.
يرتبط سلف عائلة كامو ارتباطا وثيقا بالوجود الفرنسي في الجزائر. تبين السجلات أن جده الأكبر لوالده، كلود كامو، جاء إلى الجزائر عام 1834، بعد الغزو الفرنسي بفترة قصيرة. أما جده لوالدته واسمه إتيان سينتس، فقد ولد في الجزائر العاصمة عام 1850، لكن زوجته كاثرين ماري كاردونا ولدت في إسبانيا. كان نسب كامو نموذجا للمواطنين الفرنسيين المولودين في الجزائر والقاطنين فيها، الذين كان يطلق عليهم بالفرنسية ما يترجم حرفيا إلى «الأقدام السوداء». في بدايات القرن العشرين، كان هذا المصطلح يطلق عادة على البحارة العرب الذين كانوا يعملون حفاة الأقدام في مستودعات الفحم الموجودة في السفن. خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962)، تحول هذا المصطلح ليرمز إلى المواطنين الفرنسيين المولودين بالجزائر والقاطنين فيها. (وسوف أشير إلى المستوطنين الفرنسيين بهذا المصطلح في بقية الكتاب.)
في الوقت الذي ولد فيه كامو، وهو عشية الحرب العالمية الأولى، كانت الجزائر إقليما فرنسيا رسميا مقسما إلى ثلاث مقاطعات (وهران، والجزائر، وقسنطينة) وثلاث مناطق عسكرية كلها تحت سلطة حاكم عام. ومع ذلك، كانت الجزائر مقسمة فعليا إلى قسمين. أحدهما كان منطقة فرنسية يقطنها 750 ألفا من «البيد نوار»، يتمتعون بكل الحقوق والحماية التي تقدمها الجمهورية الفرنسية. كانوا مواطنين فرنسيين، متساوين تحت مظلة نظام قانوني واحد؛ فكان لهم الحق في التصويت، ويعيشون تبعا لشعار الثورة الفرنسية الشهير: الحرية، والمساواة، والإخاء. أما القسم الآخر، فهو إقليم محتل، يسكنه 4,7 ملايين «مسلم» كما كان يطلق عليهم رسميا في التعداد الفرنسي. لم يكن هؤلاء الرجال والنساء مواطنين فرنسيين (رغم أن كل واجبات الرعايا الفرنسيين كانت مفروضة عليهم)، وكانوا يعيشون تحت وطأة مجموعة من قوانين العقوبات التي جعلت من الصعب عليهم تلقي التعليم، أو كسب العيش، أو التحدث بلغتهم، أو ممارسة شعائرهم الدينية، أو تملك أرض. (لأغراض هذا الكتاب، سنطلق عليهم اسم الجزائريين (الذين يتضمنون العرب والبربر)، لكن السلطات الفرنسية كانت عادة ما تشير إليهم ب «السكان الأصليين» أو المسلمين.)
كان تاريخ التدخل الفرنسي في شئون الجزائر قد مضى عليه 100 عام تقريبا في الوقت الذي ولد فيه كامو. فقد اجتيحت الجزائر عام 1830 على يد جيش الملك شارل العاشر، وكان ذلك في الأصل محاولة للإلهاء عن الاعتراضات الداخلية على مشروعية حكمه. بعد الغزو تنامى الوجود الفرنسي تدريجيا. وحتى عام 1870 كانت الجزائر تحت سيطرة الجيش الفرنسي، يتتابع الجنرالات على حكمها. كان غزو فرنسا للجزائر طويلا وممتدا، ويقدر بعض المؤرخين أن ما يربو على 6 ملايين جزائري ماتوا خلال المائة عام التي دام فيها الاحتلال.
خلال الغزو، استولى الفرنسيون على ملايين الأفدنة من أراضي الجزائريين، واقتلعوا منها المحاصيل بالكامل. (كالعادة، استبدلوا بأشجار الزيتون الكروم لإنتاج النبيذ لفرنسا.) خلال تلك الفترة وسعيا لإحكام السيطرة على الأقاليم، لجأ الفرنسيون إلى تدمير قرى بأكملها وقتل الكثيرين من قاطنيها (في ممارسة يطلق عليها «الغارة»)، وأجبروا المقاتلين على اللجوء إلى الكهوف، التي أشعلوا النار في مداخلها، فقتلوا من بداخلها خنقا (بالدخان). كانت السلطات تجيز تلك الممارسات رسميا، ويثني عليها أعلام الثقافة في تلك الفترة، ومن بينهم ألكسيس دي توكفيل، الذي كتب في تقرير له عن الجزائر: «أرى أن قوانين الحرب تتيح لنا نهب البلاد، وينبغي لهذا أن يحدث إما عن طريق تدمير المحاصيل ... وإما بتلك التوغلات السريعة التي نطلق عليها «غارات» ...»
نتيجة لذلك، اندلع العديد من الانتفاضات والثورات ضد الحكم الفرنسي، أكبرها هي التي استمرت ست سنوات وقادها عبد القادر، الذي هزم الحاكم العام توماس-روبير بيجو، قبل أن ينتهي به الأمر أسيرا لدى الفرنسيين عام 1847. وبحلول عام 1871، فشلت آخر الانتفاضات الكبرى. وقد حكمت حكومات مدنية فرنسية الجزائر طيلة ثلاثة وثمانين عاما تالية، وذلك حتى السنة الأولى من حرب الاستقلال الجزائرية عام 1954.
ربما لم يعرف كامو بوصفه طفلا التاريخ الحقيقي لغزو الجزائر واحتلالها. فقد قدم النظام التعليمي الفرنسي مجموعة من الحقائق «الرسمية» البديلة؛ «السكان الأصليون هم من أشعلوا فتيل الهجمات الفرنسية عليهم»، وهي عبارة معتادة في كتب التاريخ الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين، الكتب التي تمسكت بالثناء على «الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية المهيبة»، وأغفلت أي ذكر ل «الغارات» و«التسميم بالدخان» ومصادرة الأراضي. دامت حالة الإنكار تلك سنوات عديدة، ولم تعترف فرنسا بحرب الاستقلال الجزائرية رسميا إلا عام 2002.
ما لم يستطع كامو اليافع تجاهله وشرع في التصدي له في منتصف العشرينيات من عمره هو كون الجزائريين مواطنين من الدرجة الثانية. فبعد قمع الانتفاضة الأخيرة عام 1871، وبعد سقوط نابليون الثالث، شهدت الجزائر المحتلة تغييرا جذريا. ففي ظل حكم الجمهورية الثالثة، أهملت تماما السياسة العسكرية التي تنتهج التعاون مع زعماء قبائل العرب والبربر، ومارست القيادة المدنية الجديدة سلطتها المباشرة على العرب والبربر من خلال قوانين السكان الأصليين. على النقيض من القانون المدني الذي كان وما زال ممثلا للسيادة القانونية على المواطنين الفرنسيين، عرض قانون السكان الأصليين - الذي وضع حيز التنفيذ عام 1881، وأبطله الرئيس شارل ديجول جزئيا عام 1944 - قوانين تأديبية وأحكاما خاصة بالعرب والبربر. وعلى غرار العبيد المحررين في جزر الكاريبي الفرنسية، كان على الجزائريين أن يحصلوا على إذن للسفر خارج قراهم. كما كانت الممارسات الدينية الإسلامية تدخل باطراد تحت سيطرة الدولة الفرنسية (على سبيل المثال، أغلق العديد من الكتاتيب، ونادرا ما كان يسمح بالحج إلى مكة)، ولم تدعم محاكم المسلمين - التي يترأسها قضاة فرنسيون - حق الاستئناف قط. وكان على غير الأوروبيين دفع «ضريبة عربية» إضافية خاصة، ولم يسمح للجزائريين بالتصويت في أي انتخابات.
في الدليل الإرشادي المعياري للقوى الاستعمارية، تمثلت إحدى الإجراءات التقليدية في تجنيد أقلية عرقية أو جماعة دينية عن طريق منحهم وضعا اجتماعيا يتمتع بامتيازات للمساعدة في حكم الأرض المستولى عليها. جربت فرنسا هذا الإجراء مع اليهود الجزائريين، رغم أنها فشلت فشلا ذريعا في البداية. كان لليهود الذين يعيشون في الجزائر (أطلقت عليهم الحكومة الفرنسية السكان الأصليين الإسرائيليين) الوضع القانوني نفسه الخاص بالعرب والبربر، ولم يعتبروا مواطنين فرنسيين. عام 1869، منحوا الجنسية الفرنسية لكن جميعهم تقريبا رفضوها؛ فمعظمهم كان يتحدث العربية، ولم تكن لديهم روابط تجمعهم بفرنسا أكثر من أي شعوب أصلية أخرى تقطن الجزائر؛ كانوا ينتمون إلى العرب ثقافيا وعرقيا ولغويا.
نظرا لعدم الاكتراث الذي واجهته من جانب اليهود الجزائريين والذي اعتبرته رفضا، أعلنت الحكومة الفرنسية منفردة أن جميع اليهود الجزائريين مواطنون فرنسيون في أكتوبر عام 1870. أطلق مرسوم كريميو الشهير الخاص بالتجنيس الجماعي العنان لسيل من معاداة السامية من الأقدام السوداء نحو اليهود الجزائريين. كانت الأقدام السوداء من جميع الأحزاب السياسية خائفة حقا من كون تجنيس اليهود الجزائريين نذيرا لأمور أخرى؛ باختصار، أنه قد ينتهي الحال بتجنيس العرب والبربر أيضا، وحينها سيكون وضعهم المتميز في الجزائر الفرنسية مهددا.
بدءا من عام 1870 فصاعدا، أصبحت المعاداة الخبيثة والعنيفة أحيانا للسامية سمة راسخة في الجزائر الفرنسية. كان هناك أكثر من «رابطة معادية لليهود»، حتى إنه كان هناك حزب معاد لليهود واسع الشعبية. وقعت مذابح لليهود في وهران عام 1897، وفي قسنطينة عام 1934، والتي أسفرت عن كثير من الوفيات وحالات التشويه في حق اليهود الجزائريين. وعندما تولى المارشال بيتان الحكم في يوليو 1940، أبطل مرسوم كريميو: أسقطت عن اليهود الجزائريين جنسياتهم الفرنسية، وصاروا مجددا في نفس وضع العرب والبربر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
رغم تعرضهم للتشويه المستمر، وفي بعض الأحيان إلى هجمات الأقدام السوداء العنيفة، كان اليهود الجزائريون رغم كل ذلك فرنسيين بحكم القانون في الفترة من عام 1870 إلى عام 1940. وبمرور الوقت أصبحوا يعتبرون أنفسهم من الأقدام السوداء، واتخذ كثير منهم جانب الفرنسيين خلال حرب الاستقلال الجزائرية.
مع أن الدولة الفرنسية لم تهتم قط بتجنيس كل العرب والبربر، كان التمييز القانوني الواقع على الجزائريين تبعا لقانون السكان الأصليين يسير جنبا إلى جنب مع سياسة الدمج التدريجي. هذا الهدف المتناقض ظاهريا بشأن دمج أقلية صغيرة من الجزائريين في نظام المدارس لتنشئة نخبة تعمل لاحقا داخل الجمهورية الفرنسية ولصالحها أثار الجدل بشدة لدى غالبية الأقدام السوداء. هذه السياسة الخاصة بالدمج المحدود للجزائريين - تلك الأقلية التي كان بمقدورها توفير رسوم الطعام (والإيواء إذا كانت المدرسة داخلية) - كانت تعني أنه أصبح مسموحا لهم الالتحاق بالمدارس العامة، وإن كان بأعداد محدودة للغاية. في مدرسة كامو الثانوية على سبيل المثال، لم يكن يوجد سوى ثلاثة طلاب عرب فقط من واقع ثلاثين طالبا.
قام بعض أعضاء النخبة المتعلمة الجزائرية بحركة نضالية نحو مزيد من الدمج. ففي عام 1912، نظم ائتلاف من هذه النخبة نفسه في مجموعة تدعى «الشبان الجزائريون»، وسافروا بقيادة ابن التهامي ولد حميدة إلى باريس لعرض «بيان الشبان الجزائريين». لم تعترض المطالب المتضمنة في البيان على الوجود الفرنسي في الجزائر إجمالا، ولكنها احتوت على المطالبة بإلغاء قانون السكان المحليين. رفضت الحكومة الفرنسية البيان، ولكن قوة الحركة ازدادت لتصبح قوة سياسية منظمة في ثلاثينيات القرن العشرين. وعام 1936، دعم كامو نفسه إلغاء قانون السكان المحليين ومنح الجنسية لأقلية صغيرة من الجزائريين. كان يتمنى أن يشهد الوقت الذي تكون فيه معاملة فرنسا للجزائريين انعكاسا للخطاب الإنساني للجمهورية الفرنسية.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، استدعت فرنسا الجزائريين للالتحاق بالجيش الفرنسي. تحمس عدد قليل للقتال لصالح من كانوا يرون قوات احتلال. ففي إحدى الحوادث المسجلة على الأقل، ثار قاطنو إحدى المناطق (الأوراس) ضد التجنيد. قمعت الانتفاضة بوحشية، وقصفت المنطقة بالمدافع، وقتل المئات من المتمردين. كما قتل عدد هائل من الفرق العسكرية الجزائرية الكبيرة التي حاربت في أوروبا تحت الرايات الفرنسية، حيث كانوا عادة ما يرسلون إلى مناطق القتال الأشد خطورة. ومع ذلك، لقي العديد من الأقدام السوداء أيضا حتفهم، وكان لوسيان والد كامو واحدا منهم.
آباء كامو الثلاثة
مات لوسيان أوجست كامو متأثرا بجراحه في مستهل الحرب العالمية الأولى، عندما كان ابنه ألبير لا يتعدى عمره عاما واحدا. ولم تكن كاثرين والدة كامو - الأمية والمصابة بالصمم - قادرة على تنشئة ولديها وحدها. ومن ثم، نشأ كامو في بيئة شديدة التواضع في بيت جدته الصارمة (كاثرين-ماريا سينتس)، التي كانت عادة ما تضربه، وكانت تعارض تماما إتمامه لدراساته (كانت هي في الغالب من ألهمته شخصية الأم غير المأسوف عليها في رواية «الغريب»). وكان عمه صانع البراميل - الذي كان بالكاد يستطيع التحدث - يعيش معهم أيضا (كان موضوع إحدى قصصه القصيرة، «الرجل الصامت»)، إضافة إلى أمه ولوسيان أخيه الأكبر (انظر شكل
1-1 ). عاش أفراد عائلة كامو-سينتس الخمسة في شقة صغيرة بمرحاض خارجي. وتشارك كامو وأخوه لوسيان سريرا في نفس غرفة أمهما.
شكل 1-1: في ورشة عم كامو في الجزائر العاصمة عام 1920: يظهر ألبير كامو (في عمر السابعة) في المنتصف مرتديا زيا أسود.
بفقده أباه، الذي كان العائل الوحيد لأسرته حتى ذلك الحين، تبنت الدولة الفرنسية ألبير الصبي، على نحو فعلي وليس بالمعنى المجازي للكلمة. وبتبنيهم له، أصبح كامو وأخوه قاصرين تحت رعاية الدولة مباشرة؛ وهو ما خول لكل منهما الحق في الرعاية الصحية المجانية طوال حياتهما، وإعانة مادية متواضعة. انصرفت أم كامو إلى تنظيف المنازل، وكأرملة مات عنها زوجها في الحرب تلقت أيضا معاشا سنويا قيمته 800 فرانك، وهو مبلغ متواضع بالمقارنة بمتوسط الراتب الشهري للأقدام السوداء، وإن كان جيدا بالمقارنة مع حال العمال الجزائريين الذين يجبرون على العمل في الحقول نظير فرانك واحد في اليوم.
أصبح لكامو معلمان مهمان في صغره: معلمه في المدرسة الابتدائية لويس جيرمان، وبعده الفيلسوف والأستاذ جين جرينييه في سنوات مدرسته الثانوية وسنوات الجامعة. سيلعب كل منهما دورا محوريا في حياة كامو. وكما كان يردد جول فيري (1832-1893)، مؤسس النظام المدرسي الفرنسي الإلزامي العلماني المجاني، «إن المعلمين في الواقع هم جنود الجمهورية الفرنسية»، ومهمتهم أن يكونوا معاونين لرب الأسرة، وفي بعض الأحيان بدلاء عنه.
في رواية كامو المنشورة بعد وفاته بعنوان «الرجل الأول»، التي تحمل طابع السيرة الذاتية إلى حد كبير، يوجد العديد من الإشارات إلى علاقته بمعلمه لويس جيرمان، ودوره الذي تعدى كونه أستاذا. اهتم جيرمان بكامو اهتماما خاصا، فكان يحضر إلى بيته ويعطيه دروسا خاصة دون مقابل، ليساعده في الحصول على منحة والالتحاق بالمدرسة الثانوية (التي ما كان لكامو أن يتحمل مصاريفها لولا ذلك). كان جيرمان أيضا انضباطيا صارما يعتاد ممارسة العقاب البدني على تلاميذه (بمن فيهم كامو حين كان صبيا). وعندما قبل كامو في المدرسة الثانوية، أقنع جيرمان جدة كامو بالسماح له بالالتحاق بها - حتى وإن لم يكن يعمل ويساهم ماليا في شئون المنزل. تلقى هذا الصبي اليتيم الأب، الذي يتحدر من حي الأقدام السوداء القاسي، الرعاية والتشجيع (أحيانا بخشونة وقسوة) إلى أن التحق بالمدرسة الثانوية بمنحة ثم بالجامعة، وهذا كله بسبب دعم جيرمان له. ولنا أن نتخيل كيف أصبحت هذه المدرسة ومادة الأدب الفرنسي خاصة - وهي المادة التي امتاز فيها كامو - مهربا له من وحشة مجتمعه والفقر النسبي في بيته.
لم يكن امتنان كامو تجاه جيرمان قصير المدى؛ فبعد ثلاثين عاما، وكما هو معروف، أهدى كامو جائزة نوبل للآداب التي تلقاها إلى معلمه في المدرسة الابتدائية قائلا: «دونك، دون تلك اليد الداعمة التي مددتها إلى الطفل المسكين الذي كنت عليه، دون تعليمك ودون الاقتداء بك، لما كنت أساس ما أنا عليه الآن.»
عندما كان في السابعة عشرة من عمره، اجتاز كامو أولى مراحل البكالوريا. كان هذا الإنجاز في شهر يونيو 1930، في ظل الاحتفال بمئوية الوجود الفرنسي في الجزائر. وعلى جانب الأقدام السوداء الذين كان عددهم آنذاك يقارب المليون، كانت احتفاليات طويلة. نظمت السلطات الفرنسية العديد من المواكب والحفلات الموسيقية ومولتها، وكشفت النقاب عن النصب واللوحات التذكارية، وافتتحت المتاحف؛ هذا كله إجلالا لمهمة «نشر الحضارة» الفرنسية. حتى إنهم كلفوا المخرج الفرنسي الشهير ذا الميول اليسارية جين رينوار بعمل فيلم مغامرات (اسمه «لو بليد») لتمجيد المستعمرين. وقد شارك عدد قليل من العرب والبربر البالغ عددهم ستة ملايين شخص. فهل شارك كامو في الاحتفالات؟ لا نعرف عن تفاصيل هذه المرحلة من حياته إلا القليل، مثل أنه كان يحب أن يلعب كرة القدم في الفريق المحلي شأن كثير من الفتية من أبناء السابعة عشرة.
بدأ كامو السنة المفترض أن تكون الأخيرة في مدرسته الثانوية في خريف 1930، ولكن حياته تغيرت تغيرا مأسويا عندما بدأ يسعل دما في أحد أيام شهر ديسمبر. كان تشخيص المستشفى محبطا؛ إذ أعلن إصابته بمرض السل. كان علاج السل مقتصرا على التدفئة، والراحة، والتغذية السليمة، وكان هذا المرض مزمنا يستمر مدى الحياة. بعدها بسنوات كثيرة، أخبر كامو صديقا له أنه قد تملكه شعور بالخوف على حياته في ذلك اليوم في المستشفى، وأن تعبيرات وجه الطبيب عززت من مخاوفه. ولربما كان رد فعله أيضا لمكوثه في غرفة مشتركة في مستشفى مصطفى باشا: وهي منشأة أغلب المرضى فيها من العرب. طبقا لأحد كتاب سيرته، كره كامو الأجواء الكئيبة في المستشفى، وأراد الرجوع إلى منزله على الفور.
من هذا الوقت فصاعدا، ظهر لكامو منظور جديد جذريا، من المستحيل فيه تجاهل حتمية الموت وتعسفه. عندما كان في السابعة عشرة فقط من عمره، أدرك كامو فناءه. وسيكون لهذا الإدراك المفاجئ للموت كثير من التداعيات. في عمله الفلسفي الأول، «أسطورة سيزيف»، يرتبط الإحساس القوي بالفناء بنظريته في العبث ارتباطا لا ينفصم. والموت المحدق والعشوائي هو محور أدبه أيضا: كالموت الحاضر حضورا غير مبرر كما في «كاليجولا»، والموت كأمر حتمي (وإن كان مصدرا للخلاص والتحرر أيضا) كما في «الغريب»، والموت نتيجة الإصابة بمرض كما في «الطاعون».
دفع تغيبه الطويل عن المدرسة أستاذه في مادة الفلسفة جين جرينييه إلى أن يزوره، وهو تصرف غير معتاد من أستاذ. خلال تلك الزيارة، التي استعاد ذكراها كل من كامو وجرينييه في مراسلاتهما وفي مذكرات جرينييه، ظل كامو صامتا، وبدا متحفظا، لكنه كتب فيما بعد أنه كان متأثرا بتلك اللفتة الكريمة، وعاجزا عن التعبير عن مشاعره في آن واحد. كانت تلك الزيارة بداية صداقة بينهما استمرت لبقية حياتهما. ربما تفرد جرينييه بكونه المؤثر الثقافي الأبرز والأهم في حياة كامو، وعمل معلما ومرشدا فكريا وسياسيا حقيقيا في بدايات كامو. وسيهدي كامو كتابه الأول - وهو مجموعة مقالات بعنوان «بين هذا وذاك» - إلى جرينييه.
لم يكن جرينييه مجرد أستاذ، بل كان مفكرا حرا رافضا لكل النظم والمعتقدات التقليدية. كان قد نشر بحثين فلسفيين قبل أن يلتقي كامو. ومن الجدير بالذكر أنه كان لجرينييه علاقات في باريس، حيث عمل فيها لصالح «نوفل ريفو فرانسيز»، وهي مجلة كانت تقدم كتابات أفضل كتاب العصر الذهبي الحقيقي للأدب الفرنسي. عرف جرينييه شخصيات أدبية شامخة وعمل معها، كأندريه مارلو، وأندريه جيد، وهنري دي مونترلان، وماكس جاكوب. وتتجلى أهمية جرينييه في حياة كامو الثقافية في واحدة من أولى مقدمات يومياته، التي كتبها في التاسعة عشرة من عمره فقط: ... قرأت كتاب جرينييه. إنه حاضر فيه حضورا كاملا، وأشعر بالحب والتقدير اللذين أنبتهما داخلي ينموان. ... دائما ما أستزيد إذا ما قضيت معه ساعتين. فهل سأدرك يوما ما أدين به له؟
لكن في بداية عام 1931، ظهرت على كامو الشاب أعراض أخطر وأشد لمرض السل. فأوصى الأطباء بأن يترك الشقة الضيقة في شارع بلكور في الجزائر العاصمة، والتي لم تكن مناسبة لمرحلة النقاهة الطويلة. بعدها بمدة قصيرة، انتقل كامو ليعيش مع جوستاف أركو، الذي كان يعيش في الجزائر العاصمة أيضا، وهو زوج خالته أنطوانيت سينتس. لن يعود كامو بعدها إلى بيته أبدا. كان لأركو شخصية غريبة، كان جزارا ذا شارب ضخم يشبه مقود الدراجة، ويقضي وقتا طويلا في استقبال المعجبين به في المقهى المحلي. علاوة على ذلك، كان أركو قارئا نهما؛ تكتظ أرفف مكتبته بأعمال فولتير وأناتول فرانس وجيمس جويس.
قرأ كامو كتب أركو، وكان يساعد في العمل بالجزارة حيث حاول أركو أن يهيئه ليكون خليفته فيها. في الوقت الذي قضاه مع الزوجين أركو اللذين لم ينجبا، أصبحت حياة كامو رغدة نسبيا مقارنة بمستوى معيشته في بيت جدته. كانت له غرفة خاصة، وكان يأكل اللحم يوميا. (تبعا لأوامر الطبيب؛ في ثلاثينيات القرن العشرين كان الأطباء الفرنسيون يعتقدون أن اللحم علاج جيد للسل.) عندما تذكر تلك الأيام بعدها بعدة سنوات في مقابلة أجراها مع صديق له، اعتبر كامو أن أركو يمثل شخصية الأب في حياته «بشكل ما».
كان التهديد المستمر الذي مثله السل لحياة كامو مصدر تحرير له أيضا. انغمس كامو في دراسته وهو في بيت أركو بعزيمة متجددة، وإرشاد ودعم من معلمه جرينييه. وتغيرت كذلك طريقته في التفكير. فأصبح يربط بين وعيه بحتمية الموت وبين الحرية، تلك المفارقة الرئيسية التي شكلت فيما بعد جوهر أعماله المستقبلية.
بعد ستة أشهر من النقاهة، عاد كامو ليكمل سنته الأخيرة في مدرسته الثانوية ليحصل بعدها على منحة دراسية للالتحاق ببرنامج تمهيدي صارم مدته سنتان للإعداد لاختبار الالتحاق بالجامعة الوطنية الفرنسية. وكان النجاح في هذا الاختبار يعني الالتحاق بكلية النخبة الباريسية «إيكول نورمال سوبرير»، ومن ثم شغل أرفع المناصب في النظام التعليمي الفرنسي بعد التخرج. لكن، بعد إنهاء السنة الأولى في هذا البرنامج التمهيدي، تخلى كامو عن حلمه في الالتحاق بالكلية. فالسنة الثانية لم تكن تدرس في أي مكان بالجزائر؛ ومن ثم كان عليه أن يعيش في باريس؛ الأمر الذي شكل عبئا ماليا عليه. كما أن اعتلال صحته مثل عائقا كبيرا أمام اتخاذه تلك الخطوة.
استمر كامو في السعي في مسارات مختلفة غير عابئ بهذا العائق، وبإلهام من جرينييه يبدو أنه صاغ طموحه نحو أن يصبح كاتبا عصاميا. فأكمل كامو دراساته في الجزائر، وسجل فيما يكافئ درجة الماجستير في الأدب، ولكنه غير مجاله بعد مرور عام واحد وتخصص في الفلسفة عوضا عن الأدب. بقرار كامو بعدم استكمال البرنامج التمهيدي فقد منحته الاستثنائية، وأصبح عليه أن يبحث عن وظيفة. دائما ما كان كامو يعمل لتوفير نفقاته الدراسية. ففي المدرسة الثانوية كان يعمل في بقالة في مواسم الصيف ثم في جزارة زوج خالته، وكطالب جامعي عمل معلما، وقضى مواسم الصيف يعمل في مدينة الجزائر في مكتب مسئول عن تسجيل السيارات. كره كامو هذا العمل البيروقراطي على وجه الخصوص، الذي وصفه بأنه معطل للعقل. وعانى الفقر على الدوام، حتى تزوج من ميسورة الحال سيمون ييه عام 1934.
كانت ييه حديث عالم كامو، وكانت تشتهر بفساتينها الماجنة وسلوكها اللاأخلاقي. وفي مجتمع الجزائر الذكوري للغاية في ثلاثينيات القرن العشرين، كان ذلك السلوك شائنا. أعجب كامو بها على الفور، ولكن كانت هناك مشكلة: كانت مخطوبة إلى أحد أصدقائه المقربين، ماكس-بول فوشيه، الذي كان دائم الغياب في مهام نضالية لصالح الحزب الاشتراكي. ولدى رجوعه من إحدى تلك المهام، أخبر كامو ماكس-بول أن ييه لن تعود إليه.
وعندما تزوج كامو وييه عام 1934، كان كامو في الحادي والعشرين وهي في العشرين. كانت والدة ييه طبيبة عيون ناجحة، ومثلت سيمون عالما آخر من ناحية القيم والطبقة الاجتماعية؛ ولعل هذا ما شكل جزءا من جاذبيتها. بالتأكيد، كان زواج ابن عاملة من ابنة طبيبة غنية ارتقاء على أية حال. بمجرد أن تزوجا، اشترت والدة ييه شقة لهما في منطقة جميلة من المدينة، قريبة من جين جرينييه. وأرسلت عائلة أركو إلى الزوجين بعض المال، وأعاروهما سيارة لسعادتهما بذلك الزواج.
كان زواجا مضطربا منذ البداية، وشهد العديد من الانفصالات وتسوية الخلافات. وعلى عكس كامو، رسبت ييه في شهادة البكالوريا، ويبدو أنها كانت فاقدة للهدف أو الوجهة. كانت ييه أيضا مدمنة للأفيون. وبمضي الزواج أصبح إدمانها ظاهرا، وصارت تقضي المزيد والمزيد من الوقت في مراكز التأهيل. وفي عام 1936، خلال رحلة إلى أوروبا، اكتشف كامو خطابا مرسلا إلى زوجته من طبيب كان يمدها بالمخدرات، والذي كان يبدو بوضوح أنه عشيقها كذلك. كانت تلك هي القشة الأخيرة بالنسبة إلى كامو: أصبح زواجهما القصير مفرغا من أي قصد أو غاية، ولدى رجوعهما إلى الجزائر ترك المنزل. ثم وقع الطلاق في فبراير 1940.
أكمل كامو دراساته في الجزائر. كان قد قطع شوطا كبيرا في الاضطلاع باختبار وطني آخر: الاختبار التراكمي. وكان اجتياز ذلك الاختبار من شأنه أن يجعله واحدا من أعلى أساتذة المدارس الثانوية شأنا على غرار جرينييه، أو موظفا تابعا للدولة لديه متسع من الوقت للسعي وراء طموحاته الأدبية. بالنسبة إلى كامو ، كان التعليم والدراسات العليا في الأصل وسيلة لبلوغ غاية؛ وهي أن يجد وقتا للكتابة. وحتى معلمه وصديقه جرينييه ساورته شكوك في تفاني كامو وتكريس حياته لدراساته. وفي وقت لاحق، قال جرينييه في كتاب له إنه «لم يكن قارئا نهما». وهي المقولة التي لولاها لأصبح جرينييه بوقا في مدح تلميذه الأشهر. ومع هذا، تأثر كامو كثيرا بالمواد التي درسها في الجامعة. على سبيل المثال، ربما تكون إحدى المحاضرات التي تلقاها عن أباطرة الرومان هي التي ألهمته بموضوع مسرحيته الأولى «كاليجولا»، التي شرع في كتابتها خلال فترة حضوره لهذا المقرر.
رغم قلة شغفه بدراساته، كان على كامو أن يكتب أطروحة ختامية محكمة لأداء الامتحان. كانت الأطروحة بعنوان «الميتافيزيقا المسيحية والميتافيزيقا الأفلاطونية الجديدة: القديس أوغسطينوس وأفلوطين». تحدث كاتب سيرة كامو المخول أوليفر تود بالتفصيل عن كيف أن كامو لم يسند العديد من المصادر إسنادا صحيحا، بل كان في بعض الأحيان ينسب أعمال الباحثين الآخرين إلى نفسه، واستنتج غير عابئ أن كامو كان منتحلا. ولا يبدو أن اللجنة التي قرأت أطروحة كامو (والتي كان جرينييه ضمن أفرادها) قد انزعجت بتلك التجاوزات؛ إذ حصل كامو على شهادته العلمية.
في ربيع عام 1936، حين أصبح كامو شابا في الثانية والعشرين، يحمل شهادته العلمية؛ ومن ثم صار مستعدا للالتحاق بالاختبار التراكمي والانضمام إلى مصاف نخبة أساتذة المدارس الثانوية مثل جرينييه. لكن هذا لم يحدث.
كامو الكاتب الطموح
أول عمل مكتوب لكامو لدينا يتكون أساسا من أوراق من السنة الأخيرة له في المدرسة الثانوية وما بعدها، وقد شجعه جين جرينييه على تقديمها لدار مطبوعات المدرسة، وكانت هذه الأوراق اسمها بالفرنسية «سود» (بالعربية «الجنوب»). القطع المنشورة التي لم تنشر في تلك الحقبة تظهر استشرافا رومانسيا؛ كان كامو يمجد الطبيعة، لا سيما الشمس وضوءها، ورفض التقدم الذي شبهه بالسجن. وفي عمل له عن الموسيقى، بين كامو أن الموسيقى العظيمة والفن العظيم يتعذر فهمهما، بل ينبغي لهما أن يكونا كذلك.
يظهر تناقض كامو الوجداني تجاه المعرفة الثقافية والأكاديمية جليا في تلك المرحلة المبكرة. ففي واحد من نصوصه المبكرة غير المنشورة، تخيل حوارا بين شخص يحكي بصيغة المتكلم وبين رجل مجنون، كتب فيه: «رفض المعرفة تحرر، خطوة حاسمة نحو عتق الروح». كشف تبجيله لقبول ما لا سبيل إلى معرفته عن بعض أوجه العبث الذي سيعرضه في «أسطورة سيزيف». وفي فقرة أخرى في النص غير المنشور نفسه، ينظر الراوي إلى المارة من شرفته، حينها ينصحه المجنون بالتغاضي عن تلك الحيوات غير المسبورة. وتلخص فقرة أخرى لاحقة في عمله «الغريب» هذا التوجه - ينظر من الشرفة إلى المارة المنهمكين انهماكا عاديا في حيواتهم. تظهر هذه الفقرات وكثير غيرها أن كامو كان يشعر فعلا منذ صغره أنه معزول عمن يعيشون حيواتهم دون وعي.
تتسم أيضا كتاباته في تلك الفترة بمسحة شاعرية. فخلال بحثه عن صوت له ككاتب، جرب العديد من الأنواع الأدبية: الشعر، والمقالات، بل حتى قصص الخرافات. إذا قارناه في تلك المرحلة المبكرة من حياته برسام، فربما كانت نظرة كامو للعالم أقرب شبها بلوحات جوزيف مالورد ويليام تيرنر الأكثر تجريدا، حيث يطغى فيها ضوء الشمس على كل شيء، والبشر فيها غير مهمين نسبيا. كانت عقيدة كامو في ذلك الوقت هي «الفن» (كان كامو يكتب كلمة
Art ، وهي اللفظة الإنجليزية المرادفة لكلمة «فن»، بأحرف استهلالية كبيرة على نحو شبه دائم)، وكانت رؤيته متأثرة تأثرا كبيرا بمؤيدي مقولة «الفن لأجل الفن». كان مولعا بصفة خاصة بشاعر القرن التاسع عشر شارل بودلير - في الواقع، هناك تسجيلات لكامو وأصدقائه وهم يلقون قصيدة «الغريب» لبودلير. أهمية تلك القصيدة بالنسبة إلى كامو غنية عن البيان؛ لأنها تحمل نفس اسم الرواية، التي ألفها وصارت أشهر رواياته، وبعض مواضيعها: - قل لي، أيها الرجل الغامض، أيهما تكن له حبا أكبر؟ أبوك أم أمك، أختك أم أخوك؟ - لا أب لي ولا أم، ولا أخت ولا أخ. - وأصدقاؤك؟ - أنت تستخدم كلمة ما يزال معناها مجهولا لي حتى اليوم. - إنه وطنك إذن؟ - إنني أجهل موقعه. - الجمال؟ - الجمال؟ كنت سأحبه عن طيب خاطر، لو كان إلهة خالدة. - الذهب؟ - أكرهه بقدر كرهك للإله. - عجبا! فما الذي تحب إذن، أيها الغريب العجيب؟ - أحب الغيوم ... الغيوم التي تمضي ... بالأعلى ... هناك ... يا لروعة الغيوم!
اقتدى كامو أيضا بتأنق بودلير في ملابسه: كان يرتدي البابيون، وبدلة مزدوجة الأزرار، وقبعات اللبود، والجوارب البيضاء (انظر شكل
1-2 ). لم تعط أي من تلك الثياب الفاخرة أي إشارة إلى أصوله المتواضعة، ولكن كتاباته، وإن لم تكن سيرة ذاتية صريحة، كانت تشير إلى ذلك بالتأكيد. كتب كامو عن أفراد عائلته، وحيه، وحياته هو بما فيها تجربته في غرفة المستشفى المزدحمة في اليوم الذي شخصت فيه حالته بالسل. في مقاله «ما بين هذا وذاك» وصف كامو حياته في الشقة الصغيرة في شارع بلكور. وفي مقاله الثاني «سخرية القدر»، يصف عائلته:
عاش خمستهم معا: الجدة، والابن الأوسط، وابنتها الكبرى، وطفلاها. كان الابن صامتا في العادة، وكانت الابنة معاقة وعصيا عليها التفكير. أما طفلاها، فقد عمل أحدهما لدى شركة تأمين، فيما باشر الآخر دراساته.
وعلى غرار ما حدث في حياته، تموت الجدة بينما لا يشعر الحفيد الأصغر (يمثل كامو نفسه) بأي أسى. جمال الشمس والسماء هو فقط ما يثير المشاعر الحقيقية والمبهجة في المقال.
شكل 1-2: ألبير كامو، شابا متأنقا في فلورنسا.
في تلك الكتابات وغيرها، أصبحت قسوة الحياة اليومية وحتمية الموت مواضيع رئيسية. لكن تبقى قوة لحظات التواصل مع الطبيعة ويبقى تأثيرها. وتقارب العديد من مقالاته بين تلك التناقضات الظاهرية: انعدام المعنى في حياة مآلها الموت ولحظات السعادة السامية، وربما النعيم، التي تستحثها الطبيعة. سيعطي كامو للحظات النعيم تلك اسما شهيرا بالفرنسية؛ وهو «بونير» ويعني «الغبطة». يتسم هذا الاسم في الفرنسية بأنه أبلغ وقعا من مثيله في الإنجليزية. ولا يوجد ما هو أقوى أثرا وأكثر إيجابية من لحظات «الغبطة» تلك في أعمال كامو: إنها الغاية القصوى، تمر سريعا لكنها عزاء متواتر من البيئة البشرية العازمة على العدوانية والعالم العديم المعنى.
كامو الشاب والسياسة
قد يبدو للوهلة الأولى أن كامو لم يكن سياسيا. أعلن كامو في نصوصه الأولى أنه مناهض للتقدم، ويبدو أنه كان يفضل الكتاب المهتمين بالفن لأجل الفن على الفنانين المتحفظين، الملتزمين اجتماعيا وسياسيا، كمن تدرس أعمالهم في المدارس الفرنسية: فولتير وزولا. (ثمة تكهن بين بعض المختصين في حياة كامو يقول إنه ربما عمل محررا لجريدة متطرفة مناصرة للاستقلال، اسمها «إقدام»، بينما كان في المدرسة الثانوية، لكن لا توجد أدلة ملموسة تدعم هذه الفرضية.) لا يوجد ذكر لكونه كان صديقا أو كان له تفاعل ذو قيمة مع الطلاب الجزائريين المعدودين في المدرسة الثانوية، رغم وعيه بمحنة الجزائريين. بعدها بسنوات عندما كتب إلى جرينييه يحدثه عن شبابه المعدم، قارن وضعه بهم، «لقد كنت فقيرا، لكن كنت سأصبح أسوأ حالا لو كنت عربيا.»
لكن في خريف عام 1935، وعلى نحو غير متوقع فيما يبدو، انضم كامو في عمر الحادي والعشرين إلى الحزب الشيوعي، وكلف بضم أعضاء من الجزائريين. توجد عدة تفسيرات محتملة لهذا الالتزام السياسي، الذي يبدو أنه لم ينبع من كتاباته الأولى، والذي يبدو مناقضا أيضا لتصريحاته المعادية للشيوعية والاتحاد السوفييتي لاحقا. ومع أن جرينييه لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي، فقد شجع كامو على الالتحاق بالحزب. ولا بد أن نصيحة جرينييه تأثرت بحقيقة أن الحزب الشيوعي كان هو المكان الأمثل لمثقف طموح في ثلاثينيات القرن العشرين. فقد كان العديد من الأسماء الساطعة في الأدب الفرنسي إما موالين للحزب وإما أعضاء فيه، وكان جيد ومالرو - وهما من أكثر الكتاب إثارة لإعجاب كامو في ذلك الوقت - مؤيدين للحزب عندما انضم كامو إليه.
لكن كامو لم يكن ماركسيا. ولا حتى مهتما ولو من بعيد بالقراءة لماركس. أحد أسباب انضمام كامو إلى الحزب أنه مكان يمكن أن يتخذه منبرا للمطالبة بحل وسط للاضطرابات المتنامية في قطاعات بعينها من الشعب الجزائري. أراد كامو الترويج لدمج الجزائريين تدريجيا بوصفهم مواطنين في الجمهورية الفرنسية، وكان مؤيدا لإلغاء قانون السكان الأصليين، ودعم منح الجنسية إلى أقلية مختارة من النخبة الجزائرية. تلك التسوية ستكون سبيلا لمقاومة الاضطرابات المتنامية في الطوائف السياسية الجزائرية التي تطالب بالاستقلال علانية. وقد شكل مقترح منح الجنسية إلى عدد محدود من الجزائريين أساس مشروع قانون بلوم-فيوليت، الذي سمي بذلك نسبة إلى رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم الراعي الرئيسي لهذا المشروع، وموريس فيوليت، وهو حاكم الجزائر السابق وقتها.
دعم كامو مشروع القانون بحماسة، وكتب عريضة - «بيان المثقفين الداعمين لمشروع قانون فيوليت» - حث فيها على إلغاء قانون السكان الأصليين، الذي وصفه بأنه غير آدمي. كتب كامو أيضا أن المشروع يدعم المصلحة الوطنية؛ لأنه يظهر للعرب الوجه الإنساني لفرنسا، ما كان يراه كامو واجب الحدوث. ولذا دعم كامو موقفا استراتيجيا لكنه إشكالي: الاستعمار ذو الوجه الإنساني - الذي يتمثل هدفه الرئيسي في حماية الوجود الفرنسي في الجزائر.
كان كامو مقتنعا لأسباب وجيهة أن رفض تقديم تنازلات للعرب سيكون له عواقب وخيمة على فرنسا بوصفها قوة استعمارية. كان هذا موقف فيوليت أيضا. فوجه تحذيرا صارما للأقدام السوداء بأن عدم الوصول إلى تراض سيعزز من مصداقية الجزائريين الداعمين للانفصال الكامل عن فرنسا وللاستقلال. لكن التحذير لم يلق أذنا مصغية. وفي مواجهة معارضة مدوية من الأقدام السوداء لم يصبح مشروع القانون قانونا، ورفض في خريف عام 1937. تخلى الحزب الشيوعي أيضا عن تأييده للمشروع التوافقي، الذي أدى إلى خسارته لعدد من أعضائه العرب، وترك كامو محبطا. لا تزال مسألة ما إذا كان هو من ترك الحزب أم أنه استبعد منه خلافية، لكن بعد فشل مشروع قانون بلوم-فيوليت، من الواضح أن كامو لم تكن لديه أي رغبة في استمرارية عضويته.
ترك وجود كامو المؤقت في الحزب الشيوعي تأثيرا دائما على حياته وعلى جهوده الفنية، وإن لم يكن بالطريقة التي كان الحزب يريدها. فقد شارك كامو في تأسيس فرقة مسرحية تدعى مسرح العمال، كانت تقريبا أهم ما خلفه كامو من إرث في السنوات التي كان فيها عضوا بالحزب. كما شارك في كتابة مسرحية نضالية، بعنوان «تمرد أشتورية»، عن إضراب لعمال مناجم متمردين في منطقة أشتورية في إسبانيا قبل الحرب الأهلية الإسبانية مباشرة. رغم أن المسرحية دعمت العمال المتمردين، بدأ يظهر إشكال في معتقدات كامو السياسية. فتتضمن الفقرات التي يقال إن كامو قد كتبها (طبقا للنسخة الفرنسية القياسية) نقدا قويا لعنف كل من الدولة الإسبانية والعمال وحزبهم. رأى كامو أن العنف الثوري ليس مقبولا بقدر ما يكون عنف الدولة غير مقبول. كان من الغريب تبني هذا الموقف في مسرحية كتبت عن أحداث وقعت عشية الحرب الأهلية الإسبانية، والتي ستؤدي إلى زيادة سريعة في الدعم الفني والثقافي للجمهوريين الإسبانيين الذين حاربوا وهزموا في مواجهة فرانكو. وستصبح مشكلة العنف الثوري موضوعا ثابتا في أعمال كامو، وستظهر في نقاشاته اللاحقة مع سارتر وفي مسرحيته «القتلة المنصفون».
كانت الفترة القصيرة التي قضاها كامو في الحزب الشيوعي أول تجل علني لوعيه القوي - لكن الخفي حتى تلك اللحظة - بمظالم الاحتلال الفرنسي. لا شك أنه بانضمامه إلى الحزب الشيوعي تحول فجأة من موقف الصمت على الوقائع الاستعمارية إلى صاحب قرار بمواجهتها. رغم ذلك كان موقف كامو يهدف إلى التسوية؛ فقد أراد الإصلاح وتخفيف وطأة الاستعمار، لكنه لم يشكك قط في تسلط فرنسا على الجزائر، ولم يؤيد الاستقلال الجزائري. وتجربته الأولى في السياسة الثورية والبرلمانية جعلته يعي أن هدفه في إدماج أفضل للجزائريين في النظام الاستعماري الفرنسي، في مواجهة المعارضة الشديدة من قبل الأغلبية الكاسحة من الأقدام السوداء، مستحيل تقريبا. وفي وقت لاحق، أبدى كامو امتعاضا عندما أشار النقاد إلى عضويته في الحزب الشيوعي؛ ليس لأنه أصبح منتقدا بشدة للحزب الشيوعي والاتحاد السوفييتي، لكن أيضا لأن الوقت الذي قضاه مناضلا سياسيا يعد تذكيرا محبطا بالفجوة العميقة بين الجزائريين والأقدام السوداء.
في الفترة التي ترك فيها الحزب، ركز على المسرح بوصفه كاتبا مسرحيا وممثلا. وبينما كان عضوا في مسرح العمال، كان له العديد من الخليلات، لكن حبه الحقيقي كان فرانسين فور، وهي طالبة متفوقة في الرياضيات والموسيقى، ولم تبادله المشاعر من فورها. فدأب على التودد إليها بحرص شديد حتى صارت في النهاية زوجته الثانية.
وسعيا وراء تدبر احتياجاته، التحق بوظيفة كاتب في معهد الأرصاد بالجزائر. كانت مشاريعه الأدبية عديدة؛ إذ عمل على مسرحية «كاليجولا»، ورواية «الموت السعيد » المنشورة بعد موته، ومجموعة المقالات «أعراس»، وحاول إنشاء دورية أدبية مع أصدقائه (صدر منها عددان). لكن، في أكتوبر 1938، غيرت انتكاسة أخرى حياته. بعد فحص طبي إلزامي في الثامن من أكتوبر، منعه نظام التعليم الفرنسي بحكم القانون من الالتحاق بالوظائف الحكومية الفرنسية نظرا لاعتلال صحته. (حفاظا على موارد الدولة، لا يجوز للمواطنين المتوقع لهم أعمارا قصيرة أن يصبحوا موظفين حكوميين.) وقد طعن كامو في الحكم لكن دون جدوى. لا بد أنه شعر وقتها أن كل ما قام به من عمل منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة، كان بطريقة ما بلا معنى. ولم يكن ليسير في درب جرينييه في نهاية المطاف.
بعدما علم برفضه بفترة وجيزة، غير لقاء شديد الأهمية مسار حياته مرة أخرى. ففي الشهر نفسه، التقى كامو بباسكال بيا، وهو صحفي طموح من باريس كان مسئولا عن إنشاء ال «ألجير ريببليكان»، وهي صحيفة يومية يسارية التوجه في الجزائر. وكان بيا وكامو يتشاركان العديد من الأمور. فكلاهما فقد والده في الحرب وتولت أمه تربيته، وكلاهما كان يقدر بودلير. أراد بيا أن يكون كامو محررا مساعدا ومراسلا في صحيفته. وافق كامو رغم تردده. (اعترف كامو في خطاب إلى جرينييه أنه لم يكن لينضم إلى بيا لو لم يرفض في الوظائف الحكومية الفرنسية.)
ورغم تردده الظاهر، تقبل كامو منصبه الجديد سريعا؛ فعمل في كل مكان في الجريدة: في غرفة الطباعة، ومصححا، وفي مجلس الإدارة، وكما اشتهر به مراسلا استقصائيا ومحررا. استمر انهماك كامو في الصحافة لبقية حياته. وقاده هذا إلى تحدي السلطات في العديد من المقالات (ما يزيد على 150 مقالا)، وأخيرا إلى تحرير صحيفة المقاومة الأعلى منزلة في فرنسا. ومع ذلك، شرع كامو عام 1938، عشية الحرب العالمية الثانية، في نشر الفضائح بلا غش أو زيف. فمن تراه كان المستهدف بانتقاداته دوما؟ إنها الإدارة الاستعمارية الفرنسية.
الفصل الثاني
كامو، بين مراسل ومحرر
أصبح كامو صحفيا في فترة الثلاثينيات التي تميزت بالصخب والاضطرابات. كان هتلر في سدة الحكم في ألمانيا. والحرب الأهلية الإسبانية كانت على أشدها منذ عامين، وانتهت عام 1939 بانتصار الديكتاتورية العسكرية بقيادة فرانكو. في هذه الأثناء في فرنسا، استولى ائتلاف من نوع مختلف على السلطة: أدى اجتماع جميع أحزاب اليسار معا إلى أن يترأس يهودي الحكومة لأول مرة، وهو ليون بلوم. بعد توليه السلطة، احتل العمال المصانع في كل أرجاء فرنسا، الأمر الذي دفع الحكومة المنتخبة حديثا إلى إصدار العديد من الإصلاحات الاجتماعية التقدمية التي كان من بينها تقليل عدد أيام العمل وإدخال الإجازات المدفوعة الأجر. ساهمت تلك التغييرات في تحسين نوعية الحياة لمعظم المواطنين الفرنسيين في فرنسا تحسنا هائلا. وقد عرف هذا الحراك، وحكومته، وسياسته باسم الجبهة الشعبية.
في هذا السياق، استمر كامو في التزامه تجاه العدالة الاجتماعية بوصفه صحفيا في جريدة «ألجير ريببليكان» لدى بسكال بيا. كانت صحيفة صغيرة، عدد موظفيها قليل. وكان كامو مسئولا عن الأخبار القضائية، الأمر الذي أكسبه خبرة أحسن استغلالها في رواية «الغريب». لم يكن بيا مجرد رئيس تحرير وصحفي يساري، بل كان أديبا وداعما للجبهة الشعبية. كانت ترويسة «ألجير ريببليكان» متبوعة بالعبارة الفرنسية «جورنال دي ترافيير» (التي تعني جريدة العمال). وبرغم أن مقالاتها الافتتاحية كانت مؤيدة لمناصري الديمقراطية في الحرب الأهلية الإسبانية، كانت الجريدة من مؤيدي استرضاء ألمانيا ومهادنتها في عهد هتلر.
كان من أولى مقالات الرأي التي كتبها كامو مقال افتتاحي كتبه في أكتوبر 1938، وكان متحمسا بشدة للجبهة الشعبية، مع أخذ مصلحة العمال الفرنسيين في الاعتبار، وإن كان هذا لبعض العمال دونا عن الآخرين. كانت فكرة كامو الرئيسية هي أن زيادة الأجور الناتجة عن إضرابات الجبهة الشعبية قد انتفى أثرها بزيادة تكاليف المعيشة. وأنهى مقاله بالدعوة إلى جدولة الأجور تماشيا مع تكاليف المعيشة. رغم ذلك، ذكر دون استنكار حقيقة أن في الجزائر نظاما ثنائيا، وأن أجور عمال الأقدام السوداء ارتفعت من 6 إلى 7,20 فرانكات في الساعة، بينما زادت أجور الجزائريين من 1,40 إلى 2,30 فرانك في الساعة. لم يذكر كامو تلك الأرقام لنقد التفاوت بين العمال الأوربيين والسكان الأصليين، بل للتنديد بحقيقة أن زيادة العمال من الأقدام السوداء كانت زهيدة مقارنة بزيادة الأجر التي تكاد تبلغ الضعف تقريبا لدى نظرائهم من الجزائريين. وقد أسس كامو حجته بناء على الهرمية الاستعمارية: حيث سلم بصحة أن تكون أجور الأقدام السوداء لا تزال 3 أضعاف أجور الجزائريين. ومن ثم، يوضح هذا المقال الافتتاحي في هذه المرحلة المبكرة من حياته موقف كامو السياسي الإشكالي: أراد العدالة للجميع، لكن في نطاق مجتمع استعماري غير عادل.
يتصدر تناقض كامو الوجداني تجاه النظام الاستعماري المشهد من جديد في مقال آخر له بعنوان «من محوناهم من الإنسانية»، يصف فيه زيارته لسفينة المساجين التي نقلت على متنها 609 محتجزين. بطريقة ما، يعد مقاله تنديدا صريحا بظروف المعيشة داخل السفينة: الأماكن الشديدة التكدس، حيث توجد أربع زنزانات صغيرة يأوي كل منها 100 سجين، وتنعدم الإضاءة تقريبا. يكتب كامو مضطربا: «لست شديد الفخر بأن أكون هنا.» ومع ذلك، عندما طلب منه أحد المساجين سيجارة - السلوك الذي فسره كامو بأنه استجداء لإبداء شيء من المشاركة والإنسانية - أصبح في مأزق: القوانين معروفة ولا جدوى من ذكر نصوصها؛ ومن ثم قرر أن يتجاهل طلبه. هذا التألم الذي ارتسم ببطء على وجه كامو تجاه محنة السجين كان كاشفا، فرغم تعاطف كامو مع موقف السجين، تجاهل طلبه. يشعر كامو بالشفقة تجاه المضطهد، لكنه لن يخرق القوانين في النهاية. تلك المعضلة، في أوضح صورها، هي ما واجهه كامو مع الاستعمار.
لم يكف كامو عن التفكير في الرجل الذي طلب منه سيجارة. ولم يتبن في الحقيقة موقفا تجاه مساجين الدولة الفرنسية أولئك؛ حيث رأى أن البشاعة الحقيقية لمحنتهم تكمن في انعدام سبل الانتصاف لديهم. وبخلاف هذا التصريح المحايد، تمنى أن يتمكن أولئك المجرمون من استئناف الأحكام الصادرة في حقهم. مرة أخرى جاءت دعوته الإصلاحية مستترة. لم تكن بغيته مناهضة النظام القضائي، بل إصلاحه، وإضفاء مزيد من الحماية على المحرومين من حقوقهم. أراد أن يجعل النظام الاستعماري أكثر إنسانية.
ثمة مقال قصير آخر بعنوان «اعتقالات مؤسفة» يمثل علامة فارقة في موقف كامو تجاه حقوق الجزائريين. في الرابع عشر من يوليو لعام 1939 - يوم الباستيل في فرنسا - تظاهر آلاف المناضلين المطالبين بالاستقلال والمنتمين إلى حزب الشعب الجزائري الذي يرأسه مصالي الحاج ضد الحكم الاستعماري. اعتقل ثلاثة مناضلين وأربعة من قادة الحزب، وحصلوا بعدها على إطلاق سراح مشروط. كانت حكومة الجبهة الشعبية قد حظرت حزب مصالي الحاج السابق، حزب نجم شمال أفريقيا. مارست السلطات الفرنسية في ذلك الحين مناوشات ضد مناضلي حزبه الجديد، ونالت منهم بالضرب والاعتقال. أثارت تلك المعاملة حفيظة كامو واستياءه بشدة. لم؟ لأنه كما يقول: «من شأن تلك التصرفات ... الإضرار بمكانة فرنسا بقدر الإضرار بمستقبلها.»
طالب كامو بعدها بإطلاق سراح المتظاهرين الثلاثة، وهو موقف جريء بالنسبة إلى الجزائر الواقعة تحت وطأة الاستعمار الفرنسي عام 1939. إلا أن عبارة كامو الختامية في مقاله الافتتاحي أظهرت أن هدفه لم يكن مثيرا للجدل مثلما بدا: «... السبيل الوحيد إلى «استئصال» القومية الجزائرية هي قمع الظلم الذي ولدها.» تمثل هذه العبارة صميم موقف كامو من الجزائر؛ أراد أن يستأصل القومية الجزائرية، وارتأى أن تبني نهج تصالحي هو الوسيلة المثلى لهذا الغرض. كان كامو محقا في إحساسه أن تعنت فرنسا تجاه الجزائريين سيكون مدمرا. ومن ثم، اقترح إطلاق سراح المعتقلين، ونادى على الملأ بالمزيد من الحقوق الاجتماعية وحياة أفضل للجزائريين - لكن فقط تحت مظلة الحكم الفرنسي.
باختصار، كان كامو مناصرا لسياسة الاستيعاب والإدماج؛ أراد أن يجد السبيل الأفضل لكي يبقى الجزائريون فرنسيين، وتبقى فرنسا في الجزائر. كان هذا الموقف في صميم مجموعة مقالاته الأكثر شهرة التي كتبها عن منطقة القبائل.
تحقيق صحفي في منطقة القبائل
منطقة القبائل هي منطقة جبلية في الجزائر يسكنها سكان القبائل، وهي مجموعة عرقية بربرية. كان سكان منطقة القبائل من أشرس المقاومين للاحتلال الفرنسي. فقد حاربوا المحتل الفرنسي منذ عام 1830، ولم تأخذ فرنسا بزمام السلطة في المنطقة إلا عام 1857، وإن كان قد تخلل ذلك بعض القلاقل. وكان غالبية الأعضاء المؤسسين في حزب الحاج الداعم للاستقلال من منطقة القبائل. فكان رد فعل فرنسا هو التجاهل؛ وهو توجه عارضه كامو بشدة بناء على أسس إنسانية واستراتيجية .
كتب كامو سلسلة من أحد عشر مقالا تضمنت انطباعاته عن زياراته للقرى الصغيرة في جبال منطقة القبائل وحواراته مع السكان، تخللها حقائق وأرقام تتعلق بالتعليم، ومتوسط العمر المتوقع وما شابه. وفي مجموعة المقالات تلك - المعروفة باسم «مأساة القبائل» - وصف كامو نقص مياه الشرب وشبكات الصرف، وأوضاع البيوت المزرية، والأهم من ذلك كله نقص الأطباء. وبعدها بحوالي عقدين؛ أي عام 1958 في خضم حرب الاستقلال الجزائرية، أعاد كامو طباعة سبعة مقالات من الأحد عشر مقالا الأصلية في محاولة لإبراز اهتمامه المستمر بالجزائريين، وخاصة من هم في منطقة القبائل.
رغم ذلك، كانت المقالات الأربع التي اختار ألا يعيد طباعتها تحوي بعض الفقرات الأشد وقعا. في المقال الأول، «اليونان في أسمال بالية»، وصف كامو رد فعله على ما شهده من تدمير تام لسكان منطقة القبائل:
لا أستطيع أن أنسى ذاك الرجل القاطن في تلك البلدة الأهلية، برج منايل، الذي أراني جسد ابنته الصغيرة، الشديد النحول والمغطى بأسمال بالية، وسألني: «ألا تعتقد أن تلك الفتاة الصغيرة، إذا كسوتها، وإذا ما أبقيتها نظيفة وأطعمتها، ألا تعتقد أنها ستكون بجمال أي فتاة فرنسية؟» وكيف لي أن أنساه بعد ما شعرت به من عذاب الضمير الذي لربما كان يتوجب ألا أكون وحدي من يشعر به.
أراد كامو أن يثير ضمير قرائه من الأقدام السوداء لكن بأسلوب دبلوماسي، من خلال تأكيده على إحساسه الشخصي بعذاب الضمير وبث الأمل في أن يتفاعل الآخرون بالطريقة نفسها مع محنة القبائل.
كانت المقالات أيضا محاولة للوصول إلى غالبية القراء من الأقدام السوداء بطريقة مختلفة، بالإشارة إلى أن منطقة القبائل والجزائر ككل مسئولية فرنسا؛ لأن الجزائر دولة - كما كتب كامو - «انتزعناها لأنفسنا» - وهذا يشكل استهانة باحتلال الجزائر وتهوينا به. في العبارة الأخيرة في ذلك المقال، أعلن كامو أن مهمة الفرنسيين هي أن يوفروا احتياجات منطقة القبائل ولوازمها؛ وهي نظرة انتقدها بشدة كثير من سكان القبائل باعتبارها قائمة على أسلوب الرعاية. رغم ذلك، كانت مقالات كامو عندما نشرت بمثابة صرخة استغاثة، تطالب بتمويل البنية التحتية في منطقة القبائل.
بغض النظر عن ردود أفعال المثقفين الجزائريين لاحقا، وصفت مقالات «مأساة القبائل»، ولا تزال توصف في الغرب وخاصة في فرنسا، بأنها مجموعة مقالات «مناهضة للاستعمار». وبسببها صار ينظر إلى كامو نفسه على أنه مناهض للاستعمار. صحيح أنه أراد أن يحظى سكان منطقة القبائل بظروف معيشية أفضل، ومتوسط عمر أطول، وأجور وتعليم أفضل، لكن ذلك كله تحت سلطة الإمبراطورية الفرنسية، التي لم يتحدها كامو قط. أراد كامو أن يصلح الاستعمار، لا أن ينهيه.
على الرغم من ذلك، غضبت السلطات الاستعمارية الفرنسية من التزام كامو تجاه تحسين ظروف العرب والبربر. في الواقع، كان نشاط كامو الصحفي في سبيل إصلاح الاستعمار أحد الأسباب التي جعلت السلطات الفرنسية في النهاية توقف تمويل جريدة «ألجير ريببليكان» وتغلقها، وإن كان السبب الرئيسي هو موقف الجريدة السلمي. أصدرت الجريدة آخر أعدادها في سبتمبر لعام 1939، في حين واصلت الجريدة الملازمة لها، واسمها «سوار ريببليكان»، نشاطها. كان من الواضح لكل من بيا وكامو أن أيامهما في العمل بالصحافة داخل الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي صارت معدودة. ولم يكن السياسيون في الجزائر وباريس وحدهم من عارضوا إدخال أي إصلاحات في النظام الاستعماري، بل عارضه أيضا الرأي العام بين الأقدام السوداء والسلطات المحلية، حتى وإن كان طفيفا.
خشي كامو من أن يؤدي تعنت سلطات الأقدام السوداء إلى أن تصبح الغلبة لأنصار حل أكثر راديكالية؛ وهو استقلال الجزائر. أراد الأقدام السوداء عدم مشاركة شيء مع الجزائريين، وبالفعل بعد مرور أكثر من عشرين عاما بقليل، رحلوا بخفي حنين. خلال تلك المدة، عزم كامو على عدم التطرق إلى تلك المسألة. ويمكن بالتأكيد أن نستشف نظريته في العبث - التي ترى أن العالم غير عقلاني وغير قابل للتفسير - من موقفه تجاه الإصلاح السياسي في الجزائر؛ حيث امتنع عن محاولة تغيير الأمور، أو بالأحرى إسباغ معنى عليها.
ضد الحرب
في عشية الحرب العالمية الثانية، عبر بيا وكامو عن دعمهما لمعاهدة ميونخ والسلام مع هتلر. لم تكن تلك النظرة شائعة بين السلطات، التي أخضعت العديد من مقالات كامو المتعلقة بهذا الموضوع للرقابة. وقد أوضح كامو وجهة نظره في مقال صاغه بعنوان «موقفنا». في هذا المقال، دعم المفاوضات مع هتلر باعتبارها الطريقة الوحيدة لإضعاف ما اعتبره هيبة الزعيم الألماني. طبقا لما رآه كامو، فإن مصدر شعبية هتلر يكمن بالأساس في معاهدة فرساي المجحفة (التي فرضت التزامات مالية هائلة على ألمانيا كتعويضات لفرنسا وإنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى). كتب كامو أن بعض ادعاءات هتلر مشروعة، وعلى الرغم من أنه لم يتفق مع احتلال بولندا وتشيكوسلوفاكيا، فلم يكن يشعر أنها مبرر كاف لاندلاع حرب. قد يكون توجهه السلمي مرتبطا بموت أبيه في الحرب العالمية الأولى؛ ولا شك أن الخوف من المجزرة دفعه إلى ذلك أيضا كما دفع معظم المواطنين الفرنسيين. كان هذا الخوف والفتور يعبران عن نظرة مشتركة متداولة على نطاق واسع في فرنسا في ذلك الوقت، وكثيرا ما يرد كأحد الأسباب التي ساهمت في هزيمة فرنسا المفاجئة.
سرعان ما أصبح الدفاع عن موقف كامو وبيا - المبني على التودد إلى هتلر - أكثر صعوبة. وفي مواجهة الرقابة الحكومية والهجمات العنيفة من الصحف المنافسة، أورد كامو دعما لموقفه عن طريق الحكومة والصحافة البريطانية. ففي أحد المقالات الأخيرة التي كتبها كامو عن الحرب، كتب خطابا إلى شاب إنجليزي مجهول مدح فيه اتزان الرجل وصفاء فكره، كطريقة لدعم السلمية. في تلك المقالات التي كتبها دفاعا عن نفسه، رفض كامو شعارات الشيوعية وأوضح يقول: «نحن سلميون على نحو صارم». تأثر كامو في رفضه لاتخاذ موقف معاد ضد هتلر بمنظوره الخاص عن العدمية، والذي سيطوره في مسرحيته «كاليجولا» المنشورة بعد الحرب العالمية الثانية. في هذه الأثناء، وقع العديد من مقالاته الداعية إلى السلام تحت اسم مستعار هو «نيرو» (وهو اسم إمبراطور روماني آخر مضطرب نفسيا). إلا أن عدمية كامو كانت ذات مسحة مثالية؛ حيث آمن أن اشتعال حرب أوروبية سيبرهن على ضرورة التنديد بالقومية.
هاجم الألمان فرنسا في مايو 1940. هزم الجيش الفرنسي هزيمة سريعة ومدوية. واحتلت القوات المسلحة الألمانية الموحدة (الفيرماخت) باريس بحلول منتصف يونيو. وفي يوليو 1940، صوتت الأغلبية الساحقة من أعضاء البرلمان الفرنسي على إنهاء الجمهورية الثالثة ونقل جميع السلطات إلى الجنرال بيتان، الذي أراد أن يقيم سلاما مع هتلر. انقسمت فرنسا إلى منطقتين، إحداهما يحتلها الألمان (تشمل كل السواحل الغربية والشمالية بالإضافة إلى باريس)، والأخرى تحكمها حكومة المتعاونين مع الألمان، ومقرها مدينة فيشي المشهورة بحمامات المياه المعدنية الصغيرة. والمهم في هذا الأمر، من وجهة نظر كامو، أن تلك كانت تحوي ساحل البحر المتوسط ومعبره إلى الجزائر. كان السفر أسهل في تلك المنطقة الحرة كما كان يطلق عليها، وإن كان كامو قد تنقل بين المنطقتين خلال الحرب.
لكونه عاطلا، كان على كامو أن يبحث مرة أخرى على سبيل إلى كسب العيش. وبتزكية من بيا، ذهب للعمل في صحيفة «باري سوار»، وهي صحيفة يومية متواضعة الشأن كان يحتقرها. عاش كامو في باريس بغرفة فندق صغيرة وعمل على كتاباته. وبعد الاحتلال الألماني، انتقلت صحيفة «باري سوار» إلى المنطقة الحرة في ليون. حينها طلب كامو من خطيبته فرانسين فور - التي كانت قد أنهت دراستها، وأصبحت الآن معلمة رياضيات بديلة - أن تلحق به من الجزائر، فتزوجا في ليون في شهر ديسمبر. كان زفافا بسيطا؛ كان بيا وعمال الجريدة هم الشهود والحضور الوحيدين. لسوء الحظ، لم يكن هناك شيء مضمون خلال الاحتلال. فقد أدى تحديد حصص الورق إلى تخفيضات ضخمة، وسرح كامو. ومن دون أن تكون هناك أي فرص عمل تلوح في الأفق، عاد هو وفرانسين على مضض إلى الجزائر إلى بيت عائلة زوجته في وهران؛ إذ لم يكن لهما مكان آخر يذهبان إليه.
المقاومة ورسائل إلى صديق ألماني
بعد المعاناة لعام ونصف العام في وهران - مدينة كرهها كامو - ولعجزه عن إيجاد وظيفة ثابتة، ولتدهور صحته على نحو خطير، قرر كامو في النهاية الاستجابة لتوصية الطبيب بالعودة إلى فرنسا وقضاء بعض الوقت في أجواء الجبال ليتعافى. بحلول أغسطس 1942، كان في قرية صغيرة بقرب سان إيتان تدعى لي بانلير. خطط كامو للرجوع إلى زوجته في الجزائر بعد قضاء شهور قليلة في الجبال. رغم ذلك، وبعدما أرست الولايات المتحدة سفنها في شمال أفريقيا في نوفمبر 1942، احتل الجيش الألماني المنطقة الحرة الفرنسية، وأصبحت فرنسا دولة حبيسة. فانقطعت خطوط الاتصال بين فرنسا والجزائر. افترق ألبير وفرانسين عنوة إلى أن عادت إلى باريس في سبتمبر 1944. قضى كامو صيف 1943 في لي بانلير. كان ضجرا، ولم يحب صحبة القرويين، واشتاق إلى الجزائر. اشتاق أيضا إلى فرانسين، لكن ليس فرانسين وحدها: طلب من صديقة قديمة، بلانش بالان، أن تأتي وتزوره. قضى كامو معظم وقته يعمل على روايته الثانية «الطاعون»، وبين زياراته لليون، وسان إيتان، وبتردد أقل على باريس. وعلى الرغم من أنه علم في صيف 1943 أن باسكال بيا والشاعر الشهير فرانسيس بونج (الذي كان يراسله كامو) كانا منخرطين في أنشطة المقاومة - التي احتوت بشكل رئيسي على نشر صحف سرية صغيرة تشهر بالاحتلال - فلم ينضم كامو إليهما. سينضم إلى المقاومة في ديسمبر 1943 أو يناير 1944، قبل حوالي 8 أشهر من تحرير باريس في أغسطس 1944. انضم إلى مجموعة تضم بيا وبونج، وكانت تنشر واحدة من أولى صحف المقاومة السرية وأهمها، «كومبات». (انظر شكل
2-1 ).
شكل 2-1: في مكاتب التحرير بجريدة المقاومة الفرنسية «كومبات»، عام 1944: (من اليسار إلى اليمين) بيتي بريتون (مرتديا الزي الرسمي)، فيكتور بيروني، ألبير كامو، ألبير أوليفيير (مدخنا)، جان بلوخ-ميشال (قصير، يظهر بشكل جانبي)، جان شيفو (يحتسي شرابا، يظهر بشكل جانبي)، روجيه جرينييه (يظهر وجهه، يرتدي نظارة)، باسكال بيا، هنري كاليه، فرانسوا برويل، سيرج كارسكي؛ في مقدمة الصورة: مارسيل رابينا وشارولت رو.
كانت «كومبات» تخضع في الأصل لإشراف المقاومين الذين ظنوا أن المارشال بيتان كان عميلا مزدوجا مع ألمانيا، وأنه كان في صفهم. ساهم بيا بخبرته كمحرر وناشر صحفي، وكتب كامو المقالات والافتتاحيات، التي كان معظمها بعد التحرير. كان أول قرار اتخذه للمقاومة هو كتابة أربع «رسائل إلى صديق ألماني»، نشرت منها اثنتان فقط ما بين يناير وأغسطس لعام 1944 في المنشورات السرية. كانت تلك المقالات القصيرة مهمة؛ لأنها تصف دور المقاومة كما يراها كامو والأسباب العقلانية التي جعلته ينضم إليها.
تخيل صديقين في غرفة؛ أحدهما فرنسي والآخر ألماني، يحتكر الرجل الفرنسي الحديث كله - هذا هو المشهد في «رسائل إلى صديق ألماني». إنها ليست برسائل في واقع الأمر، بل حديث منفرد أمام صديق ألماني خيالي يمثل الجمهور الذي نادرا ما يتحدث، وعندما يتحدث يكون ذلك على لسان كامو (الأسلوب الذي استخدمه كامو بعدها بأعوام كثيرة في روايته «السقطة»).
بين كامو في الرسالة الأولى «أسباب التأخر»، التي كان يعني به تأخر رد الفعل الفرنسي تجاه الاحتلال الألماني بوجه عام. ورأى كامو أن السبب وراء هذا التأخر يعزى إلى محاولة البحث عن أسباب عقلانية. فقدم صورة الوطنية المستنيرة التي كانت بحاجة إلى أسباب لخوض غمار الحرب تتعدى الوطنية. كان الفرنسيون ينظرون إلى البطولة بعين الريبة، حيث يخبر كامو صديقه الألماني: «كنا لا نزال نتعلم كيف نتغلب على شكوكنا في البطولة. أعلم أنك تظن أننا دخلاء على البطولة. لكنك مخطئ.» استغرقت فرنسا بعض الوقت للتغلب على شكوكها بشأن البطولة، وكان ذلك سبب هزيمة فرنسا، وسبب أن قلة قليلة فقط هم من قاوموا على الفور عقب الهزيمة. لكنه كان يبين أيضا سبيله إلى الانضمام إلى المقاومة ويبرر سلميته السابقة.
في الرسالة الثانية، يفسر مجددا هزيمة فرنسا وتأخر زيادة عدد المشاركين في المقاومة: «استغرقنا وقتا لنجد ما نتذرع به». أرخ كامو لهذا التأخر منذ بداية الحرب؛ فقد استغرق الأمر ثلاث سنوات لدمج القومية مع السعي إلى المساواة والعدل. وأصبحت وجهة النظر تلك - التي ترى أن المقاومة كان يتحتم عليها أن يكون لها مكون اجتماعي - موضوعا ثابتا في نقاشات الحركة وممثليها بعد الحرب. أرادت المقاومة بعد الحرب أن تعلن حقبة جديدة في السياسة الفرنسية، وأن تكون صحيفة «كومبات» في طليعة هذا النضال.
في الرسالة الثالثة، انطلق كامو في دفاع عن أوروبا، وكتب أن كنه كلمة «أوروبا» تلطخ بارتباطه بالنازية. ادعى كامو أن ألمانيا بدأت ترى أوروبا أرضا تصلح للغزو «بدءا من اليوم الذي خسرت فيه أفريقيا» (متحدثا إلى صديقه الألماني المتخيل). بطرق عدة، تعاملت ألمانيا النازية مع فرنسا كمستعمرة خلال احتلالها. في ذلك الوقت، كان كامو والشعب الفرنسي الواقعان تحت الحكم الألماني أقرب بالفعل إلى الظروف المعيشية العادية للجزائريين تحت الحكم الفرنسي. واستمرارا في ربط الوضع الاستعماري بالقوة والهيبة، كتب كامو يقول إن تفوق فرنسا على ألمانيا سببه أن الأولى كانت قوة استعمارية. لقد آمن كامو بوضوح تام أن مفتاح فرنسا لاستعادة هيبتها وقوتها يكمن في مستعمراتها.
كانت الرسالة الرابعة ذات طابع شخصي أوضح. ذلك حيث أعلن فيها كامو أنه يشارك صديقه الألماني القيم نفسها، وتحديدا أن العالم بلا معنى، وفي ذلك إشارة إلى العبثية والعدمية. من هذا المنطلق، الذي يستوي فيه الخير والشر، اختار الألمان خوض الحرب والغزو في حين عارض كامو «ميل فرنسا الشديد نحو العدالة». كان كامو غاضبا من ألمانيا «لإجبارها فرنسا على دخول التاريخ». (في مقالاته لصحيفة «كومبات»، استوعب كامو التاريخ وضرورة أن نكون جزءا منه؛ على الأرجح أن كامو فهم في أواخر عام 1943 أن عدم انضمامه إلى المقاومة - التي انضم إليها أصدقاؤه بالفعل - من شأنه أن يدمر مسيرته الأدبية. وبحلول الوقت الذي تحررت فيه باريس، أصبح كامو واحدا من أهم الأبواق التي تعبر عن صوت الشعب. أصبح كامو يعيش في باريس بشكل دائم. انضمت إليه زوجته فرانسين من الجزائر العاصمة، وأنجبت بعدها طفليهما التوءم، كاثرين وجين، في الخامس من سبتمبر لعام 1945.)
كامو، محرر المقاومة
بين شهري مارس ويوليو لعام 1944، كتب كامو مجموعة من ستة مقالات صغيرة، لكنه لم يوقعها لأسباب واضحة (وإن اختلفت الآراء بين الباحثين فيما يتعلق بعدد ما كتبه كامو منها) للنسخة السرية من جريدة «كومبات». كانت مقالات دعائية، تستنكر عنف الفيرماخت واستخدام الجيستابو للتعذيب، وتهاجم بيتان، ورئيس وزرائه بيير لافال، والميلشيات الفرنسية الموالية لألمانيا. كان المغزى العام من تلك المقالات هو الدعوة إلى الوحدة وتهديد المتواطئين مع الألمان بالمحاكمة والمعاقبة فور انتهاء الحرب.
بعد تحرير باريس مباشرة في أغسطس 1944، كانت لسلسلة المقالات التالية لكامو نبرة مشابهة، وإن كانت أكثر شمولا وأقل ولعا بالقتال. أراد كامو أن تنضم جميع فئات المعارضة بعضها لبعض كتعبير عن الوحدة الوطنية. كانت تلك الغاية والنبرة المنفتحة والإيجابية بوجه عام ذات أهمية محورية في دولة مزقتها الحرب، ولم تقاوم بالغالبية العظمى من شعبها المحتلين النازيين. كان لا بد أن تختلف أفعال المواطنين الفرنسيين العاديين المنشغلين بكسب العيش عن تلك الخاصة بالنخبة، التي ساندت بيتان - في معظمها تقريبا - بتلهف بمجرد أن وصل للسلطة. في الواقع، كان 90 بالمائة تقريبا من أعضاء البرلمان يساندون بيتان.
ولإنقاذ ماضي فرنسا والحفاظ على مستقبلها، كان لا بد من أن تروى القصة الخيالية عن فرنسا التي تتألف في معظمها من المقاومين. لعب المثقفون دورا محوريا في هذا المشروع كرواة لهذه القصة، بوصفهم منتفعين منها، وبوصفهم أيضا ضحايا لها في بعض الأحيان. كان هناك إجماع غير معلن نحو اتباع الجنرال ديجول من جانب اليسار غير الشيوعي - ومن كل الدوائر الأدبية تقريبا - على منح لقب «مقاوم» تقريبا لأي شخص لم يتواطأ مع الألمان صراحة. تجسد هذا الإجماع في إضفاء الطابع المثالي على الماضي القريب، والذي تردد صداه في الخطاب البلاغي الذي اتسمت به مقالات كامو في جريدة «كومبات».
أصبح كامو متحدثا رسميا عن المعارضة بطريقة ما؛ إذ كان يتحدث على لسانها في افتتاحيات صحيفة «كومبات» بعد التحرير. نبرة الافتتاحيات الأولى كانت نبرة حكم أخلاقي على ذلك الزمان، يدلي بتصريحات عظيمة عن فرنسا وعن مسيرتها في الماضي والحاضر والمستقبل. كان على كامو أن يصارع لأجل هذا اللقب: انخرط في جدال مع الروائي الشهير مورياك عما إذا كان من الواجب معاقبة المتواطئين مع الألمان بشدة. فقال فيما عرف عنه، عن أعداء المقاومة، إن الأمر كان يقتضي وجود المزيد من الشخصيات أمثال سان جاست؛ وهو بطل تاريخي من الثورة الفرنسية كان داعما مع حليفه روبسباير لتطبيق عقوبة الإعدام على أعداء الثورة. رغم ذلك، غير كامو رأيه بعدها بشهور قليلة فقط؛ بعدما رأى ما كان يعتقد أنه تطرف في التطهير، واتجه إلى معارضة عقوبة الإعدام والاتفاق مع مورياك.
كان لدى كامو مخاوف أخرى؛ كان رافضا للعودة إلى جمهورية ثالثة يهيمن عليها المال. كتب كامو أن الألمان أجبروا الفرنسيين إما على القتل وإما على العيش راكعين، واختتم بقوله إن الفرنسيين ليسوا عرقا يعيش راكعا. ووصل المقال إلى ذروته على نحو بطولي: «في 21 أغسطس 1944، في شوارع باريس، بدأ نضال سينتهي بالنسبة إلينا جميعا وبالنسبة إلى فرنسا بالحرية أو الموت.»
هنا أيضا، ساهم كامو في الأسطورة التي شارك شارل ديجول بقدر كبير في نسج خيوطها - أسطورة أن فرنسا كانت قوة كبرى في القتال ضد ألمانيا النازية. كان الهدف من تحرير باريس أن يكون استعراضا للقوة لرفع الروح المعنوية لدى الباريسيين. وفي واقع الأمر، طلب ديجول من الأمريكيين إذا ما كان بإمكان كتائب الجنرال لوكلير المدرعة أن تحرر باريس، فكان هذا موضوع مفاوضات مكثفة إلى حد ما. وعلى الرغم من أن دبابات لوكلير دخلت باريس أولا، فإن رسو الإنجليز في نورماندي - والذي صار ممكنا بسبب ضغط الاتحاد السوفييتي الهائل على الفيرماخت على الجبهة الشرقية - هو الذي أدى إلى تحرير باريس. لكن عندما دخل ديجول مدينة النور، ألقى خطبة شهيرة أعلن فيها أن باريس حررت نفسها؛ ومن ثم فكرة أن فرنسا ستحرر نفسها أيضا.
كان هذا الخطاب جزءا مما رأى ديجول أنه صناعة حاسمة لأسطورة هدفها حماية وحدة فرنسا، وإعادة غرس قليل من الكبر في شعب واهن العزيمة تماما. استعيد «مجد» فرنسا أيضا - والثقة في زعامتها - من خلال إعادة تأطير أفعال مثقفيها. كان المقصود أولا ألا توجد حلول وسطى؛ أن تكون إما مقاوما وإما متواطئا، وإن كان الواقع شديد التعقيد والغموض.
وقد لعب كامو نفسه دورا وجيها في صناعة تلك الأسطورة، لا سيما بعد تحرير باريس مباشرة، في أول مقالاته المنشورة التي كان لها عناوين مثل: «دماء الحرية»، و«ليل الحقيقة»، و«زمن الاحتقار». في تلك المقالات الافتتاحية، برر عنف التحرير، بل مجده. لاءمت تلك اللغة الاحتفالات التي أقيمت في كل أنحاء فرنسا في يوم النصر (عيد النصر في أوروبا). كان ذلك هو التطهير الأخير قبل بزوغ فجر حقبة سلام جديدة. لكن لم يكن الأمر على هذا النحو في الجزائر.
استغل بعض الجزائريين فرصة يوم النصر والاحتفالات لنشر العلم الجزائري والتلويح به - فقد كان كثير منهم، في نهاية المطاف، من الجنود السابقين الذين شاركوا في الصفوف الأمامية في أول انتصار حقيقي لبقايا الجيش الفرنسي على الجبهة الإيطالية. ردت الشرطة الفرنسية على تلك المظاهرات بإطلاق النار على المتظاهرين. أدى هذا الرد إلى تصاعد أعمال العنف، التي قتل فيها حوالي 100 من الشرطة الفرنسية والأقدام السوداء.
أدى رد فعل الفرنسيين والأقدام السوداء إلى أحد فصول التاريخ الفرنسي الأكثر ظلاما والأقل طرحا للحديث عنه. راحت الشرطة والقوات المسلحة الفرنسية إلى جانب ميلشيات الأقدام السوداء تذبح آلاف الجزائريين لأسابيع بلا انقطاع، خاصة في سطيف وقالمة. كما قصفت القوات الجوية الفرنسية قرى بأكملها، حتى سوتها بالأرض. وفي باريس، تجاهلت الصحافة المتمدنة بأغلبيتها العظمى المذابح. لكن ألبير كامو لم يتجاهلها.
تحررت معظم أجزاء فرنسا بالفعل بنهاية عام 1944؛ ومن ثم أصبح في إمكان كامو السفر بحرية. كان لتوه عائدا من رحلة طويلة في الجزائر، أعد خلالها مقالات يصف فيها محنة العرب للقراء الفرنسيين، وراح يبين لهم أن على الفرنسيين غزو الجزائر «مرة أخرى»، وكان يعني بذلك أن على فرنسا أن تحوز قلوب العرب والبربر وعقولهم. على ضوء تلك الغاية، أطاحت المذابح في سطيف وقالمة بكل ما كان يرجو كامو أن يراه، وكانت مقالاته وقتها على وشك أن تنشر. وبما أنه لم يستطع التظاهر بأن المذابح لم تقع، فقد قلل من فظاعتها. ومن الضروري أن نلاحظ أن الجزائريين من منظور كامو هم من ارتكبوا المذابح؛ حيث وصف القتل المنظم لآلاف الجزائريين على يد قوات الاحتلال بمصطلح أكثر حيادية، وهو «القمع». فكتب:
أثارت المذابح في سطيف وقالمة السخط وإحساسا عميقا بالامتعاض عند فرنسيي الجزائر. وأدى القمع الذي تلاها إلى إحساس بالخوف والعداوة عند جموع العرب.
اختيار الكلمات هنا مثير للاهتمام. وصف كامو مشاعر الأقدام السوداء باعتبارهم ضحايا بكلمات «السخط» و«الامتعاض»، أما بالنسبة إلى «جموع العرب» فإن مشاعرهم كانت ذات طبيعة غريزية «الخوف» و«العداوة». حتى في وصفه للمذابح في سطيف وقالمة، لم يكن بمقدور كامو إلا أن يخذل من هم يستحقون تعاطفه.
ومن ثم، لم يشغل القتل الجماعي للجزائريين على يد السلطات الفرنسية والأقدام السوداء إلا بعض السطور المغلوطة في مقال كامو. لعل كامو كان يعي أن انتشار المعرفة بتلك الجرائم التي ترعاها الدولة سيقوض من مصداقية صورة فرنسا كإمبراطورية مستنيرة ومحبة للخير. لا شك أن مذابح سطيف وقالمة تعد إلى يومنا هذا مسألة محظورة في التاريخ الفرنسي؛ إذ نادرا ما تجري مناقشتها، وهي غائبة إلى حد كبير في كتب التاريخ. رغم ذلك، كانت تلك المذابح بداية نهاية الاحتلال الفرنسي للجزائر. فبعد أقل من عشر سنوات، بدأت حرب الاستقلال الجزائرية.
هيروشيما
بعد 3 أشهر من يوم النصر وبداية المذابح الجزائرية، أسقطت طائرات الولايات المتحدة قنبلة نووية على هيروشيما، فقتلت 80 ألف شخص على الفور. كان ثمة سيل من التهاني والتعليقات الإيجابية في الصحافة الفرنسية. وكان كامو وحده وسط نظرائه في الصحافة والعالم الأدبي الفرنسي صريحا في إدانته: «وصلت الحضارة الصناعية للتو إلى أقصى مراحل وحشيتها». وذهب كامو إلى إدانة العلم أيضا:
في عالم عاجز عن أن يضع أي قيود، متروك لمآسي العنف، غير مكترث للعدالة ولسعادة الإنسان البسيطة، في هذا العالم سيكرس العلم نفسه للقتل المنظم، ولن يكون أحد متفاجئا، إلا من عتو مثالي.
تفشت حالة عامة من خيبة الأمل في دوائر المثقفين بعد الحرب العالمية الثانية. عرف عن الفيلسوف والمفكر الألماني الشهير تيودور أدورنو تصريحه أنه بعد أوشفيتس سيكون من المستحيل كتابة الشعر. وطرح كامو سؤالا: «كيف يمكن للمرء ألا يرفض العلم بعد هيروشيما؟» في الواقع، استياء كامو من العلم كان سابقا على الحرب. كان رفض كامو لأي سيناريو يفسر كل شيء - سواء كانت الشيوعية، أو الدين، أو العلم، أو حتى التاريخ البشري ببساطة - يقع في قلب نظريته بشأن العبث، والتي اكتسبها وطورها خلال السنوات التي قضاها صحفيا.
الفصل الثالث
كامو والعبث
ما العبث؟ هل شعرت من قبل باضطراب عندما تساءلت أين أنت، اللحظة التي فقدت فيها كل إطار مرجعي إزاء الزمان والمكان والتاريخ؟ اندلاع مفاجئ - لكنه عادة عابر - للشك في معنى كل شيء؟ كان هذا الشعور هو العبث من منظور كامو. في مقاله الإبداعي الشديد التأثير عن العبث - بعنوان «أسطورة سيزيف» - وصف كامو اعتمال هذا الشعور في نفسه عندما رأى رجلا على الجانب الآخر من نافذة المقهى، يتحدث بحيوية في الهاتف: لم يستطع كامو أن يسمعه؛ ومن ثم أطلقت رؤيته لشخص آخر يتحدث بجدية إلى قطعة من البلاستيك العنان لهذا الشعور. وكان الإحساس العميق بالاضطراب الذي أحسه جراء ذلك أحد تجليات العبث.
العبث إحساس ينبع من التجربة. كانت التجربة في حالة كامو هي تجربة اقترابه من الموت؛ الهجوم الشرس لمرض السل في عمر السابعة عشرة. منذ تلك اللحظة وعلى مدار حياته، صارت صحة كامو هزيلة، وكان عادة ما يضطر إلى أن ينقطع عن العمل لأسابيع، إن لم يكن شهورا، لدرء المرض أو التعافي منه. كان مرضه بمثابة رسالة تذكير مستمرة له بأن كل المساعي الاجتماعية قد تصبح بلا معنى في أي وقت. الزواج، والعمل، والعدالة، والدين، والمعرفة، كلها تواجه الإحساس بالعبث. وضعه الوعي بحتمية الموت بمعزل عن الناس من حوله ممن يمارسون حيواتهم ويمضون فيها بنشاط متجاهلين فناءهم. في هذا الصدد، يتشابه العبث مع الوجودية: يقع في جوهرهما وعي بالفناء ومركزية الكائنات البشرية (متجاوزة الدين على سبيل المثال). مع ذلك، بالنسبة إلى الوجوديين يعد هذا الإحساس بالعبث نقطة بداية فقط؛ إذ تتسامى أحاسيس اللايقين الوجودي بالفن أو بالمسئولية البشرية والتفاعل الجماعي مع العالم. بالنسبة إلى كامو، إحساس العبث هو غاية في ذاته، ولا يمكن التسامي عليه، بل يتقبل ويعتنق.
أثبت العبث لكامو أن الحياة بلا معنى؛ لأنها قد تنتهي فجأة في أي وقت. ومن هذا المنطلق، كان على كامو أن يتوافق مع ما رأى أنه استحالة تفسير أو عقلنة كل من الحياة والموت. وأطلق كامو على قرار مواجهة عبث الحياة هذا «إرادة العبث» - وهو استعداد لقبول فناء المرء وعجزه عن فهم الحياة. ولذا، فإن العبث هو إدراك للحال وتغيير للوعي في آن واحد، هو صحوة، قرار بمواجهة عالم بلا معنى. وسيعبر كامو عن ذلك للشاعر فرانسيس بونج في صيف عام 1943 بقوله: «الإحساس بالعبث هو العالم الذي يحتضر، وإرادة العبث هي العالم الجديد.» «العالم الذي يحتضر» هو عالم التفسيرات التقليدية (الديانات والفلسفات التي تحاول أن تضفي معنى على الحياة). يطرح كامو تلك المعتقدات والنظم الفكرية جانبا. أما «العالم الجديد» فهو الغاية من عالم ذي وعي جديد، هو إدراك للعبث وقبول به. في كتاباته، طرح كامو أمثلة للوعي الجديد تحتل فيها الطبيعة - خاصة الشمس - مكانا مهما، والشمس الجزائرية خير مثال. كان على كامو أن يستخدم القصص ليوضح إحساس العبث وإرادته؛ لأن كليهما متجذر في التجربة. وهذان الوجهان للعبث بوصفه إحساسا وإرادة يمثلان الأصل الذي انطلق منه دافعه السردي في تلك المرحلة من مسيرته الأدبية.
كان أول ثلاثة أعمال كبرى له - وهي «كاليجولا»، و«الغريب»، و«أسطورة سيزيف» - تدور حول سرد التجارب العبثية، وفي بعض الأحيان كانت تدور حول صدامات عنيفة بين من انتبه إلى عبثية الحياة وبين من اختار أن يتجاهلها. أطلق كامو على تلك الأعمال اسم «عبثياتي الثلاثة». كل عمل يعرض العبث من منظور فريد ومميز. في مسرحية «كاليجولا»، يعايش الإمبراطور الروماني الإحساس بالعبث، ويشرع في تعليمه لرعاياه كرها. وفي رواية «الغريب»، يكون القارئ مستهدفا على نحو غير مباشر ويجبر على الإحساس بالعبث. وأخيرا، في «أسطورة سيزيف»، يبين كامو إرادة العبث عبر سرديات وأمثلة.
كاليجولا «كاليجولا» هي مسرحية كامو الأولى. بدأ كتابتها عام 1937 وانتهى منها عام 1939، لكنها لم تعرض على المسرح حتى خريف عام 1944، بعد أسابيع من تحرير باريس. عادة ما يوصف كاليجولا إلى جانب نيرو بأنه نموذج مثالي للمستبد المعتوه. ومع ذلك، مسرحية كامو ليست قصة نمطية عن مقاومة الاستبداد؛ فمعارضة كاليجولا مدفوعة برغبة رعاياه في عيش حياتهم دون الانشغال بالمسائل الميتافيزيقية. تدور المسرحية حول العبث، وإلى أي مدى يمكن للناس أن ينجحوا في تجنب مواجهته. إنها مواجهة بين كاليجولا الذي يعي العبث ورعاياه الذين يفضلون أن يتجنبوه.
من الصعب على المرء خلال قراءته للمسرحية أو مشاهدته لها أن يشعر بتعاطف كامل مع كاليجولا أو رعاياه أو نفور تام منهم، وذلك أحد أهداف كامو. يتذبذب القارئ قلقا بين لحظات المشاركة الوجدانية مع ضحايا كاليجولا ومشاعر الاحتقار تجاه نفاقهم. هذا القلق مقصود ليدفع القراء إلى التشكيك في أنفسهم، ومعتقداتهم، وكل ما يعتبرونه من المسلمات، والتي منها الحاجة إلى الشعور بالتعاطف مع إحدى الشخصيات. أحاسيس الاضطراب واللايقين تلك هي أحد تجليات الإحساس بالعبث. استخدم كامو أسلوب الاغتراب هذا على نحو أوضح في «الغريب».
في بداية المسرحية، يمر كاليجولا بأزمة بعد موت أخته (وعشيقته). يصبح كاليجولا ذاهلا، ليس ذلك في معظمه بسبب موتها، بل بسبب إدراكه أن الأسى سيمر. يشعر بحزن شديد بينما يعي في الوقت نفسه أنه سيخفت دون رغبة منه. تقوده تلك التجربة إلى الوعي بعبثية الوجود. يعود كاليجولا إلى روما رجلا مختلفا، مصمما على أن يعلم ذلك الدرس لرعاياه؛ ولذا يبدأ في إساءة معاملتهم دون أي علة.
مسرحية «كاليجولا» مسرحية تربوية: لقد قرر كاليجولا أن يبين عبثية العالم بعد أن أضحى مقتنعا بها. وكانت كل تعاليمه التي تتضمن الاغتصاب، والتعذيب النفسي، والقتل تطبق اعتباطا. على سبيل المثال، في أحد المشاهد، يقتل كاليجولا مواطنا بسبب اشتباه خاطئ، وعلى سبيل التبرير بعدما أدرك خطأه همس قائلا: «عاجلا أم آجلا» مشيرا إلى حتمية الموت. جرائم كاليجولا هي وسائل لإدراك غاية: أراد أن يبين لرعاياه اعتباطية الحياة. وأفعال كاليجولا تجاه رعاياه تشبه إلى حد كبير أفعال كامو تجاه قرائه؛ فهو ينزل عليهم العبث بكل ظلمه وعشوائيته. وأهداف كاليجولا كثيرة. فالمسرحية تتألف من سلسلة من الدروس المستفادة عن عدم جدوى مختلف المعتقدات والقيم التي يتمسك بها رعايا كاليجولا ويعتزون بها. ومستهدفوه الرئيسيون هم الأشراف (أي الأرستقراطيون أو النبلاء، وإن كانوا في النسخة الأولى من المسرحية أعضاء مجلس الشيوخ). إنهم يمثلون بلا شك الطبقة الثرية صاحبة الامتيازات، وأصحاب الأملاك، وإن كانت أكثر أفعال كاليجولا تؤثر على بقية الشعب أيضا.
يطرح أحد تلك الدروس عندما يقرر كاليجولا إجبار الأثرياء على تغيير وصاياهم ليتركوا ثرواتهم إلى الدولة؛ حينها يتعين على الجميع أن يسجلوا أسماءهم في قائمة، ليعدم بعضهم على نحو عشوائي. يشير كاليجولا بوضوح وحدة إلى أن الجميع محكوم عليهم بالموت بأي شكل: القضاة، العامة، هيئة المحلفين، الجميع. يختار كاليجولا أن يتصرف كالآلهة ليبين مدى تعسفهم وقسوتهم. كما يتحدى الآلهة أيضا أن تهلكه، ويرى أن استمرار وجوده دليل على عدم اكتراث الآلهة.
تعبر مسرحية «كاليجولا» عن عدمية محضة لولا ظهور بطل من نوع ما؛ هذا البطل هو شيريا، وهو مثقف من الأشراف يعارض كاليجولا لكنه يرفض أن ينضم إلى مؤامرة قتله. إنه صوت غير متوقع - يجسد المنطقة المعتدلة بين الضحايا السيئي الطباع وبين المستبد الجسور. يفهم شيريا العبث وما يحاول كاليجولا فعله، لكنه ضد العنف وخطابه المعادي للبشر.
أعد كامو نسخا مختلفة من تلك المسرحية، ويزداد دور شيريا أهمية مع كل نسخة. يرتبط حضور شيريا المتنامي بموقف كامو المتغير من العبث ويوازيه. فشيريا يجسد وعي كامو بأن العبث يجب أن يمتزج بشكل من أشكال الأطر الأخلاقية، وإلا فسيكون عدمية خالصة. عدل كامو شخصية شيريا في النسخ اللاحقة ليضيف جملا يعبر فيها عن تصميمه على القتال ضد «فكرة عظيمة سيعني انتصارها نهاية العالم» - في إشارة واضحة إلى القتال ضد النازيين.
بوجه عام، في نسخة عام 1939 الأصلية عندما واجه شيريا كاليجولا، يخبر شيريا إمبراطوره باعتقاده أن بعض الأفعال أجمل من غيرها. يجيب كاليجولا بأن جميع الأفعال البشرية متشابهة، ويرد شيريا «أفهمك وأتفق معك»، أزال كامو تلك الجملة الأخيرة بدلالتها الأخلاقية من نسخة عام 1944. وفي سياق تحرير فرنسا (عندما عرضت المسرحية لأول مرة على خشبة المسرح)، كان على كامو تعديل النسخة الأصلية لكيلا يظهر رد شيريا كمبرر للمستبدين. لكن من عجيب المفارقة أن نسخة عام 1939 الأصلية لم تعرض على المسرح خلال الغزو لنقيض هذا السبب؛ وهو أنها كانت ستبدو هجوما ضمنيا على هتلر.
عدل كامو مسرحية «كاليجولا» عدة مرات بسبب تغير السياق التاريخي. وهذا مصير يدعو إلى السخرية؛ لأن كامو أراد بتلك المسرحية التعبير عن نسخة العبث الأكثر نقاء وعدمية. وقد مثل وجود شيريا وموقفه المعتدل نبرة عبث أخف وقعا، وأشار إلى رؤية كامو المتغيرة؛ أنه قد أصبح من غير الممكن الدفاع عن العبث بكل نقائه العدمي - وبالطبع ليس بعد هتلر. وقد أدت الحرب العالمية الثانية والواقع الأخلاقي الذي تلاها بكامو إلى إدخال درجة من درجات الأخلاقية والإنسانية في فكره، والتي نتج عنها لاحقا فكرته عن التمرد، والتي هي موضوع المرحلة الثانية من أعماله.
على الرغم من أن هذا التفسير أصبح متوافقا عليه، فعندما عرضت المسرحية لأول مرة في سبتمبر لعام 1945، رأى كثير من النقاد أنها متساهلة للغاية مع كاليجولا، وأنها دمجت عدمية الإمبراطور المجنون ومعتقدات كامو الشخصية؛ الأمر الذي سبب إزعاجا كبيرا لكامو، وذلك رغم مقاله الأخير الذي أدان فيه تفجير هيروشيما. «الغريب» والعبث
دون كامو في أغسطس لعام 1937 الملاحظات التالية على عجل في يومياته عن «الغريب»:
قصة رجل التمس الحياة كما يراها معظم الناس (في الزواج والوظيفة، إلخ) ويكتشف فجأة بينما يقرأ كتابا مصورا للأزياء مدى غربته التي كان فيها عن حياته (الحياة كما ترى في كتب الأزياء المصورة).
كانت كتب الأزياء في الأصل دليل أزياء لمختلف المراكز الاجتماعية. وهي اليوم في صميم ثقافة المستهلك. في تلك الرواية، يرفض كامو البرجوازية وقيمها، إلى جانب الشعائر الكاثوليكية، ودورهما الذي يلعبانه في هذا العالم العبثي. سيصبح هذا الموقف مصدر استحسان هائل للعديد من أجيال القراء؛ لأن رواية «الغريب» تقدم شخصية مختلفة في الأدب الفرنسي: الموظف المكتبي. يقع هذا المركز الاجتماعي الحديث نسبيا والممثل لفئة اجتماعية جديدة في صميم الرواية.
تنقسم أحداث رواية «الغريب» - التي تدور أحداثها في الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين - إلى جزأين. الأول هو قصة ميرسو، موظف مكتبي شاب. عندما ماتت أمه، لم يشعر ميرسو بأي شيء، ولم يفهم أن المجتمع يريده أن يبدي انفعالا. العبارة الافتتاحية الشهيرة لتلك الرواية، والتي تفسر دائما على أنها تعكس عدم اكتراثه بموت أمه، نجحت نجاحا مدويا في المؤسسة الأدبية الفرنسية:
اليوم ماتت أمي. أو لعلها ماتت أمس، لست أدري. وصلتني برقية من دار المسنين: «توفيت الأم. الدفن غدا. المخلص لكم.» وهذا لا يعني شيئا. ربما حدث الأمر بالأمس.
وكما أخبرته دار المسنين، يذهب ميرسو إلى الجنازة في اليوم التالي. ثم يعود في اليوم الذي تلاه إلى البيت، ويذهب لمشاهدة الأفلام، ويقيم علاقة مع زميلة سابقة له. كما يساعد قوادا على الأخذ بالثأر من امرأة. وفي عطلة نهاية الأسبوع التي تليها، يذهب إلى الشاطئ مع بعض أصدقائه، وبعد مشادة لسبب غير مفهوم - «بسبب الشمس» كما يقول في المحكمة - يطلق النار على شاب عربي 5 مرات فيرديه قتيلا.
يتناول الجزء الثاني من الرواية حبس ميرسو ومحاكمته. على الرغم من أن محاميه توقع حكما مخففا، يواجه ميرسو الآن خطر عقوبة الإعدام، ليس لقتل عربي، بل لرفضه أن يظهر حدادا على وفاة أمه. يحاكم بسبب «غرابته»، بسبب عدم اكتراثه المتعمد ورفضه الامتثال للقيم المؤسسة للمجتمع الفرنسي: احترام المرء لوالديه، والزواج، والسعي وراء النجاح الوظيفي. عاش ميرسو حياته وكأنه شديد الوعي بالطبيعة العبثية لوجودنا الجمعي، وهذا الوعي جعله لا يبالي بجميع القيم؛ ولهذا فهو خطير على المجتمع.
في النهاية، يحدث ما يريده المجتمع: صدر الحكم على ميرسو بالإعدام بالمقصلة في مكان عام. لكن من الصعب تصديق هذه الحبكة منذ بدايتها؛ حيث لم يحل أي مستوطن فرنسي إلى الإعدام قط لقتل عربي في الجزائر المحتلة. تمثل الحبكة عذرا: قتل العربي هو وسيلة لنيل غاية، المجتمع البرجوازي الفرنسي هو الذي يحاكم، من خلال طقوسه، وعاداته، ومسلماته. القيم الفرنسية المسلم بصحتها يجري تحديها، مع استثناء ملحوظ لتلك القيم المتعلقة بالاستعمار، لكن مثل هذا الاستثناء نادرا ما يلاحظ.
يضع ميرسو طقس الحداد موضع تساؤل في العبارات الافتتاحية بالرواية التي يعترف فيها أنه لا يتذكر تاريخ موت أمه، ثم يلفت النظر إلى خواء تلك الأعراف. وبوضع عبارته الصادمة («لا أذكر متى ماتت أمي») في مقابل عبارة أكثر عرضية (تعبيرات نمطية ولكنها خالية من المعنى مثل «المخلص لكم»)، يخل ميرسو باتزان القارئ. ذات القارئ «المحترمة» مصدومة بصراحة ميرسو، لكنها أيضا تتعاطف مع الهجوم الذي يشنه ميرسو على التقاليد؛ ولذا تتقلب ذاته بين الاتفاق معه وإلقاء اللائمة عليه.
يفند الجزء الأول من الرواية طقوس الحداد، لكن الأقسام اللاحقة تشكك في الآمال الاجتماعية، والصداقة، ونظام العدالة، والزواج، وهذا غيض من فيض. يبدأ ميرسو والقارئ في إدراك أن المجتمع البرجوازي يريد دراما فيها تعبير واضح عن تلك الأدوار - الابن المتألم، والزوج المحب، وخلافه. ورفض تلك الأدوار يثير شكوك أفراد المجتمع الآخرين فيه. ولهذا، فإن ميرسو متهم من قبل أن يرتكب أي جريمة.
يضرب مثال آخر بعدما يرجع ميرسو إلى العمل، عندما يسأله رئيسه عن عمر أمه:
عملت اليوم كثيرا في المكتب. وقد كان الرئيس ودودا. سألني إذا ما كنت متعبا، وأراد أيضا أن يعرف عمر أمي. قلت له: «ما يناهز الستين عاما» حتى لا أخطئ. ولست أدري لم بدا لي وكأنما تخفف من عبء، واعتبر أن الأمر قد انتهى.
المفارقة هنا أنه على الرغم من أن ميرسو لا يتذكر عمر أمه، فهو شديد الوعي بأهمية المظاهر، ويخاف أن يصدم مديره بإجابة صادقة. يناسب هذا الخوف التوقعات المألوفة لدى القارئ. لكن ما فاجأ ميرسو أن رئيسه شعر بالارتياح من رده المبهم. إنه على الأرجح لا يود أن يعرف عمر أمه، بل فقط إذا ما كانت مسنة بالقدر الكافي الذي لا يجعل من موتها مأساة. شعر الرئيس بالارتياح؛ لأن موتها كان طبيعيا، ومطابقا لتوقعات المجتمع. باختصار، السؤال الذي طرحه رئيسه لا يعبر بأي شكل عن اهتمام صادق بالآخرين، بالقدر الذي تكون به الأسئلة العرضية بعد الأحداث المأساوية مجردة من المعنى. علاوة على ذلك، يعتبر عدم اكتراث ميرسو رد فعل أيضا تجاه الشخصيات الأخرى في الرواية الذين يتسمون - شأن القارئ العادي - بأنهم «مندمجون تماما في المجتمع»، وذلك هو المفهوم الحقيقي للامتثال.
يعني السلوك القويم أيضا صون النظام الاجتماعي البرجوازي الجديد. يجعلنا هذا المبدأ نتساءل: من الغريب؟ هل هو ميرسو، الذي يقول الحقيقة، أم نحن القراء، من نخفي مشاعرنا ولا نكترث بالكلمات ونحيدهما؟ تلك العملية الخفية تمكننا من النظر فيما كنا نظنه قيما أخلاقية خاصة بنا، ونكتشف أنها ليست إلا نتاج منظومة أخلاقية جمعية. ومن ثم، نشرع في تحرير أنفسنا من تلك المنظومة الأخلاقية، ونواجه انعدام المعنى في العالم.
تناول كامو الزواج من خلال ميرسو الذي يقضي وقته مع زميلة سابقة له. تطلب منه زميلته أن يتزوجها، ويجيبها بعدم مبالاته المعهودة:
مساء مرت بي ماري، وسألتني عما إذا كنت راغبا في الزواج بها. أجبتها أن الأمر سواء بالنسبة إلي، وأننا نستطيع الزواج إن كانت تلك رغبتها. فأرادت أن تعرف إذا ما كنت أحبها. أجبتها، مثلما فعلت في مرة سابقة، بأن هذا الأمر لا يعني شيئا، بيد أني ما كنت أحبها على الأرجح.
مرة أخرى، لا يهاجم ميرسو هنا الزواج مباشرة. إنه يقبل طلب الزواج من ماري بينما ينفي في الوقت نفسه أهميته. ومن جديد، يقوض ميرسو القيم المجتمعية من خلال الموافقة عليها والتشكيك فيها على حد سواء.
يبدو ميرسو أنه يبدي عدم مبالاة تامة تصل إلى حد التعنت تجاه أي شيء تقريبا يشغل بقية الشخصيات (كالحب، العمل، الطقوس الاجتماعية). فما سبب تلك اللامبالاة؟ عادة ما تكون اللامبالاة آلية دفاعية، رد فعل على خيبة أمل محطمة أو تحرر من وهم. إذا نظرنا إلى حياة كامو الخاصة، فثمة أحداث قد تسلط الضوء على رد فعل ميرسو، لا سيما ما يخص لامبالاته تجاه الطموح الوظيفي. فحديثه عن تخليه عن دراساته وآماله الوظيفية يتردد صداه في تجربة كامو الخاصة. فقد درس لسنوات عديدة في الجامعة وكتب أطروحة، فقط ليرفضه أطباء الدولة الفرنسية رفضا باتا باعتباره غير كفء للتدريس في النظام التعليمي الفرنسي بسبب حالته الصحية. لعل ميرسو كان يتحدث هنا عن مشاعر كامو ويتأمل آماله في الماضي: «عندما كنت طالبا، كان لدي آمال عديدة كتلك. لكن عندما كان علي أن أتخلى عن دراساتي تعلمت بسرعة شديدة أن أيا منها لم يكن مهما حقا ». في مرحلة ما، لا بد أن كامو رأى سنواته التي قضاها في الجامعة بلا معنى. يمكن ربط الفقرة الافتتاحية في الرواية بتناقض كامو الوجداني في جنازة جدته لوالدته التي شعر خلالها بقليل من الأسى، وبكى امتثالا ليس إلا. يمكننا أيضا أن نربط زواجه الفاشل من سيمون ييه باعتباره مؤثرا في تجسيده لموقف ميرسو من الزواج. لقد نقل كامو تجارب العناء أو الخذلان الشخصية وعدم مبالاته الناتجة عنها إلى أدبه.
صاغت تفسيرات أخرى عدم مبالاة ميرسو بوصفها نقدا لتعصب المجتمع نحو من لا يمتثلون له. في رأي سارتر، قلة وعي ميرسو بالقواعد الأخلاقية جعلته يشبه كانديد، وهو نقيض البطل في أشهر الأعمال الأدبية الفلسفية لفولتير. ركز الناقد والفيلسوف رولان بارت (1915-1980) على نقاء الأسلوب في رواية «الغريب»، واعتبره دالا على عدم مبالاة ميرسو.
ومع ذلك، عدم مبالاة ميرسو غير شاملة لكل شيء. فهي تتبع المنطق العبثي في الرواية في أن صديقه الوحيد، رايمون سينتس، يعمل قوادا. وبما أنه رجل عبثي بلا أخلاقيات، فإن عمل رايمون لا يضايق ميرسو. وعندما يضرب سينتس امرأة بهمجية شديدة لدرجة أن صرخاتها استحضرت الشرطة، يدلي ميرسو بشهادة زور ليحمي صديقه. لقد اختفى الحب التلقائي للخير في الشخصية الرئيسية، وهو الأمر المعتاد في الروايات. يبدو أن ميرسو يعيش حياة خالية من الأخلاق.
هناك شيء مشترك بين ميرسو وسينتس، وهو كرههما الشديد للشرطة. بغضهما للشرطة هو تصريح علني بأن المجتمع هو العدو، لكن لا يتضح على الفور أي جزء من المجتمع هو المستهدف. ومن المهم أن نعرف أن الشرطة في سياق الجزائر المستعمرة هي الممثل الممقوت للسلطة الباريسية المركزية، سلطة العاصمة الإمبراطورية. يلتحم ميرسو وسينتس مع هويتهما باعتبارهما من الأقدام السوداء: لا يكترثان لحياة العرب، ويمتعضان بشدة من فرنسا الأم.
يتجسد الاتحاد ضد العرب في العديد من أحداث الرواية، وإن لم يكن هذا بوضوح كبير في قتل ميرسو للشاب العربي. يقع هذا الحدث على الشاطئ في الجزائر العاصمة. فبعد مشاجرة بين ميرسو وسينتس وصديق لسينتس، وبين ثلاثة جزائريين شهدوا تراجع الأقدام السوداء، يعود ميرسو إلى مكان الحادث. يرى رجلا عربيا مستلقيا يعزف الناي. وفي المشهد الذي لربما هو الأشهر بالكتاب تقريبا - الذي تلعب فيه كل من الشمس والحرارة دورا بارزا - يسير ميرسو نحو الرجل، الذي يكشف لميرسو عن سكينه. تنعكس الشمس على السكين، وتنعكس على عيني ميرسو. بعدها يطلق النار على العربي خمس مرات. يوضع ميرسو قيد الحبس، وتدور المحاكمة التي تتبع ذلك في معظم الجزء الثاني. الغريب أن المحاكمة لم تخاطب جريمة ميرسو الحقيقية؛ إذ لم يطلب من أي عربي الشهادة، ولا يبدو أن جريمة القتل تلك تشغل الجهاز القضائي.
تعد المحاكمة فرصة كامو للتنديد بالقضاء الفرنسي، لكنها أيضا توفر المنصة التي سيندد كامو من خلالها بالامتثال البرجوازي العام. فبدءا من القاضي المتدين تدينا متطرفا، الذي يلوح بصليبه في وجه ميرسو خلال الإجراءات السابقة للمحاكمة ويلقبه بعدو المسيح، إلى محامي الدفاع غير الكفء والمدعي العام المزايد، يبدو النظام القضائي مشغولا في الغالب بسمعته وبتطبيق القيم الأخلاقية المحافظة. وفي نهاية المطاف، فإن نتيجة المحاكمة مرهونة كليا بالجانب الأخلاقي لدى المتهم.
بهذا التركيز يصبح ميرسو في وضع سيئ، بالنظر إلى عدم ذرفه للدموع في جنازة أمه، وعدم معرفته لعمرها، وإقامته لعلاقة مع زميلة له بعدها بفترة قصيرة للغاية. هنا مرة أخرى، تشكل تجارب كامو الحياتية جذور خيبة الأمل تلك؛ ففي الوقت الذي قضاه كصحفي يكتب تقارير المحاكمات، كان عادة ما يشجب الأحكام، حتى إنه كان أحيانا يكتب عرائض في محاولة لنقضها. رغم ذلك، فإن المجتمع البرجوازي هو الذي يحاكم هنا في الوقت نفسه. كل من في قاعة المحكمة هو مثال على الامتثال؛ كلهم يلعبون دورهم المجتمعي إلى حد الإتقان. وكما هو واضح، هدف المحاكمة هو لفت النظر إلى عبثية حقيقة أن ميرسو مذنب ليس لقتله كائنا بشريا، بل لأنه لم يذرف دموعا في جنازة أمه. لكن يبقى اللغز: لماذا يقتل ميرسو الشاب العربي؟
بغض النظر عن عدم مبالاته الواضحة، هناك بعض الأمور التي يحبها ميرسو إلى حد بعيد. يستمتع ميرسو بالطعام (والنبيذ والتبغ)، ويرغب في ماري، وإن كان ذلك لأسباب جسدية بحتة. ويعشق الطبيعة أكثر من أي شيء، في تكرار للفكرة الرئيسية المهيمنة على أبطال كامو في مجموع إنتاجه الأدبي. لا يبدو ميرسو سعيدا حقا إلا عندما يصف البحر والشاطئ، وتحديدا الشمس. إن تفاعل ميرسو مع الطبيعة يصل إلى حد الاتحاد معها. هذا التواصل مع الطبيعة هو مثال آخر لمفهوم الغبطة لدى كامو. لا يهتم ميرسو بالتخطيط للمستقبل (رفض الترقية، والزواج)، بل يعيش الحاضر، في اللحظة الآنية.
تجسد الشمس وضوءها - اللذان يهيم بهما ميرسو طوال الرواية - تلك العلاقة الخاصة مع الطبيعة، التي أطلق عليها بعض المعلقين وصف المقدسة. لحظات الاتصال مع الطبيعة تلك توفر مهربا من الزمن كما يقيسه البشر، مهربا من الماضي، ومن التاريخ، ومن الذاكرة الجمعية.
يعكس تصوير الطبيعة في رواية «الغريب» اختلافا جوهريا بين رؤى كامو ورؤى جان بول سارتر. في وجودية سارتر، تثير التفاعلات مع الطبيعة لحظات من اللايقين الوجودي العميق، لكن ينبغي التسامي على تلك اللحظات من خلال الأنشطة الإنسانية. أما في عبثية كامو، فإن التفاعلات مع الطبيعة مرغوبة، وهي المصدر الوحيد للعزاء في النهاية.
وفيما يخص القتل، يرى أحد التفسيرات أن ميرسو قتل الشاب العربي لأنه أعاق تفاعله مع الطبيعة. فمن خلال استرخائه واستلقائه على الشاطئ، استعاد هذا الشاب تلك المنطقة رمزيا (إنه «يجعل نفسه كما لو كان في بيته»). ثم يستولي على الشمس رمزيا، ويوجه انعكاسها في سكينه على وجه ميرسو. وبالنظر إلى حب ميرسو للطبيعة وللشمس، يعد ذلك انتهاكا للمقدسات.
كتب العديد من المعلقين، أمثال كونور كروز أوبراين وإدوارد سعيد، عن غياب العرب في الرواية باعتبارهم كائنات بشرية لها أسماء وتستطيع التحدث. وغياب العرب وحياة البربر في الرواية أمر غريب؛ لأن من الواضح أن كامو كان واعيا بالوضع الاستعماري ومهتما به، وكتب بإسهاب عن محنة سكان منطقة القبائل. يبدو أن هناك تكتما ظاهريا - لم يرد كامو أن تكون روايته عن الاستعمار بشكل صريح (الأمر الذي كفل كونها كذلك في أعين بعض القراء ، وهذه إحدى المفارقات). كتبها كوسيلة لإخفاء موقع الجزائر من التاريخ، كاستراتيجية للتمسك بالمسائل الميتافيزيقية المرتبطة بالعبث عوضا عن الاستعمار. يرمز إلى ذلك بقتل العربي، والذي يبدو كذريعة لمناقشة مسائل فلسفية يرتأى أنها أعلى جانب أكبر من الأهمية من جريمة القتل وضحيتها الذي لا اسم له.
يعارض أوبراين معلقين آخرين مثل روبرت زارتسكي وديفيد كارول، ويعتبرون أن إقصاء ميرسو عن المجتمع يجعله في منزلة عربي؛ ولذا بتجريده من إنسانيته يصبح ميرسو في النهاية هو ذلك الآخر، المقصى.
رغم ذلك، وصف كامو الفعلي للعرب في روايته هذه - وهي الأكثر شهرة له - وصف مشوش. لعل بإمكاننا الرجوع إلى خيبة أمله الشديدة من رفض فرنسا مشاركة قوتها وسلطتها مع عدد قليل من النخبة الجزائرية. قبل أن ينهي كامو روايته، أخفق مشروع قانون بلوم-فيوليت إخفاقا تاما، وإن صدر لحقق ذلك الهدف الشديد التواضع. يكمن خلف هذا الوصف الفاتر والمغفل للعرب حلم كامو المحطم، المتمثل في وضع مسار يقود نحو وجود فرنسي بالجزائر أكثر عدالة وإنصافا. في رواية «الغريب»، يقمع كامو أي مشكلة قد تكون لديه مع الاستعمار. وينتقد بعنف عددا كبيرا من القيم المجتمعية - الحب، والصداقة، والعمل، والعدالة - لكن ليس قمع العرب. الأمر كما لو أن كامو فقد الأمل في تلك المشكلة المحورية وقرر أن يقمعها. وفي أثناء ذلك يقر إقرارا غير مباشر بالنظام الاستعماري بإبقائه في الخلفية.
أسطورة سيزيف «أسطورة سيزيف» لكامو هي رسالة يتغير أسلوبها وموضوعها بتقدمك فيها. إنها نقاش لأفكار فلسفية، ووصف لأحاسيس؛ وأحيانا تقرأ كرثاء، وأحيانا كقصيدة غنائية. إنها وصف مفصل لطريقة عيش حياة عبثية، إنها هجوم ذكي على الذكاء. ولذا من الصعب تحديد ماهيتها على نحو قاطع.
يحذرنا كامو في ملاحظة استهلالية قصيرة: هذا النص لن يكون عن فلسفة العبث، بل عن شعور العبث. رغم ذلك، في العبارة الافتتاحية في المقال يكتب: «ثمة مشكلة فلسفية واحدة فقط هي المهمة بحق: إنها الانتحار»، واضعا نفسه مباشرة في ملكوت الفلسفة. يستعمل كامو تلك الافتتاحية ليعرفنا إحساسه بالعبث، الذي سيسود الجزء الأول من المقال. تنظر العبارة الافتتاحية إلى شخص يواجه إدراك أن الحياة تخلو من المعنى، اللهم إلا فيما يخص حتمية الموت. ألا يكون الانتحار - وهو قرار المرء في النهاية - هو التصرف الوحيد الذي في إمكان القدرة البشرية؟ يجيب كامو بالنفي؛ فالعبث هو نتيجة للمواجهة المزعجة بين بحث المرء عن المعنى وغياب المعنى في الحياة، وينصح قراءه بتقبل ذلك. وينبغي للمرء بإدراكه محدودية الحياة أن يعيش حياته إلى أقصاها؛ ومن ثم، يشكل الموت السابق لأوانه عن طريق الانتحار عائقا وليس حلا. ويقر كامو أنه لا يستطيع أن يعرف العبث في كلمات، لكن ينبغي له بالأحرى أن يحصي الأحاسيس التي تنطوي على العبث والمواقف التي تثيره: على سبيل المثال، عندما يحدق في صخرة، هذه «الغلظة، غرابة هذا العالم، ذاك هو العبث».
لا يفترض بأحاسيس العبث تلك أن تتبدد أو تتجاوز، ولا حتى أن تفسر. يهاجم كامو في «أسطورة سيزيف» فكرة المعرفة، والعلم، والتفسيرات من أي نوع. بعض أهم العبارات المعبرة في هذا المقال عبارة عن تأكيدات من جانب كامو: «المنطق أعمى»، «المنطق الكلي والشامل مثير للضحك». ويذهب كامو إلى التصريح بأنه ضد النظريات المفسرة لكل شيء، وأنه يعتنق ما يراه طلاقا غير قابل للصلح (بمنصوص كلامه) بين اللامعقول وبين رغبته في الجلاء والفهم. إن إرادة العبث الخاصة به هي قبول لإحساس العبث باعتباره نقطة بدء لعيش حياة عبثية. وفي الجزء الثاني من المقال، يستعرض كامو أمثلة على الحيوات العبثية الجديرة بالملاحظة ويمدحها.
الوعي بالعبث معتق؛ تلك هي أحد معتقدات كامو الرئيسية في «أسطورة سيزيف». وبرفضه إرساء نظام فكري، يعلن كامو عن أسلوب للحياة يتبعه الرجل العبثي (لا يوجد مثال واحد على امرأة عبثية)، يقدم وجهة النظر، والمثل العليا، والمهن المثلى المطلوبة. يكتب كامو الآن عن نفسه بصيغة المتكلم، باعتباره مثالا على الرجل العبثي: «العقائد التي تفسر كل شيء تجعلني غير مسئول، تجعلني أضعف: يجب على المرء أن يموت راضيا بفكرة الموت، لا بإرادته الحرة.» في الوقت نفسه، يقترح كامو أن تعيش الحياة لأقصاها لكن بصفتك فردا، لا بصفتك جزءا من جماعة: «لا أستطيع أن أعايش إلا حريتي.»
الرجل العبثي «يستمتع بالتحرر من القواعد العامة». كيف ذلك؟ في البداية، رجل العبث لا يبالي بالمستقبل، يعيش للحظة. لديه ولع بأن يأخذ كل ما يستطيع أخذه، وليس لديه إحساس راسخ بالقيم؛ لأن امتلاكه لها سيعطي معنى للحياة التي يعرف أنها بلا معنى. وبناء على ذلك، فإن حياة العبث تدور حول العيش أطول في مقابل العيش أفضل. يمثل كامو هذا التصريح بشخصية دون خوان: «إذا ما ترك دون خوان امرأة، فلا يعني هذا بالتأكيد أنه لم يعد يرغب فيها. فالمرأة الجميلة مرغوبة دائما. لكن كل ما هنالك أنه يرغب في أخرى. وشتان بين هذا وذاك ...» هنا يقدم كامو نفسه بوصفه شاهدا خبيرا ليبين بثقة شديدة دوافع دون خوان. هل كان كامو على شاكلة دون خوان يوما؟ تميل حياته الخاصة إلى تأكيد ذلك. فقد كانت له علاقات كثيرة، بعضها كان خلال زواجه الثاني. وبعد الحرب، عندما كان أصدقاؤه يأتون من خارج البلدة لزيارته، كانوا عادة ما يتصلون بفرانسين (زوجته) ليسألوها عن رقم عشيقته الحالية؛ لأن تلك كانت أفضل طريقة لإيجاده. كان ذلك يؤلم فرانسين بشدة، وأخبر كامو الجميع (بمن فيهم عشيقاته) كم يشعر بالذنب. ورغم ذلك ظلا معا حتى موته.
مثال آخر يخص ممثلي المسرح، الذين يصفهم بأنهم عبثيون من نوع خاص بسبب طبيعة عملهم العابرة. يطلع الممثل على دور تمثيلي، ويعيش حياة شخص آخر - عادة ما تكون بطولية - إلى أقصاها، وبعدها ينتقل إلى الحياة التالية، والدور التمثيلي التالي.
يخلع كامو على المحاربين، وأمثال دون خوان، والممثلين ثوب المثالية: كلهم يواجهون طبيعتهم، إنهم «أمراء بلا ممالك» - صدى لتشبيه بودلير للشاعر بالقطرس، «أمير السحاب». شبه كامو تلك النخبة، التي كان واحدا منها، ب «الخراف» - قطعان عادية، لا تعي العبث، ويخونها - على حد تعبيره - الرجال العبثيون.
وبنهاية المقال فقط، يعود كامو إلى سرده الجديد لأسطورة سيزيف: رجل محكوم عليه من قبل الآلهة بأداء مهمة عبثية، وهو أن يدفع إلى الأبد صخرة إلى أعلى التل، بحيث يراها فقط تنحدر من جديد إلى أسفل في كل مرة يصل بها إلى القمة. يجب أن يعتبر سيزيف - كما يخبرنا كامو - شخصا سعيدا؛ بمعنى أن علينا أن نعي مأزقنا، ونقبل لأقصى درجة أيا ما كانت الحياة التي سيتحتم علينا أن نعيشها على الأرض.
أهمية الغبطة
إحدى طرق مواجهة العبث بوعي هي عيش حياة مليئة بلحظات التفاعل المميز مع الطبيعة قدر المستطاع، لحظات «الانشراح». يعبر الانشراح عن الهناء، عن الوقت الذي تقضيه في الطبيعة، تحت الشمس، على الشاطئ، وسط الأطلال، إنه حيث شعر كامو بالانسجام مع العالم، وتحرر من الإحساس بالزمن. كان المكان الوجيه لإحساسه هذا - إلى جانب شمس الجزائر - هو الأنقاض الرومانية في مدينة تيبازة.
في إحدى مجموعات المقالات المبكرة المنشورة في الجزائر العاصمة عام 1938، يحكي كامو عن رحلة مدتها يوم واحد إلى تيبازة («أعراس في تيبازة»). يصف كامو في نص تعبيري بدرجة كبيرة لحظة من التوحد السامي مع الطبيعة، أثارت فيه مشاعر الحب والإحساس بالانتماء إلى «سلالة» تتمثل عظمتها «في بساطتها، تقف على الشواطئ وترسل ابتسامات متلألئة، ذات مغزى، إلى السحب». ورغم كل ما تحمله تلك اللحظة من عظمة وفخامة، فإنها مؤقتة - يقر كامو أنه لن يبقى أبدا لأكثر من يوم هناك. فلحظات الانشراح ذاتية وقصيرة - بعدها يعود إلى الجزائر العاصمة، إلى عمله النهاري، مثل سيزيف. في الواقع، من الغريب أن تناسب طبيعة حياة كامو - حياة عمل ووحشة تتخللها لحظات اتحاد مع الطبيعة - حياة موظف مكتبي تقليدي، بأسابيع طويلة من العمل الشاق تقطعها عطلات نهاية الأسبوع. يضع كامو نظاما لحياة الموظف الجديدة ويمجدها، وقد أصبحت الآن تشمل إجازات مدفوعة الأجر، وهي أحد أعظم انتصارات الحركة العمالية الفرنسية.
بعد أكثر من عقد على ذلك، يعود كامو إلى أنقاضه المحبوبة، ويكتب «عودة إلى تيبازة»، بالتعبير النابض والعاطفي نفسه عن الصلة القديمة الثابتة بينه وبين الطبيعة وتلك الأرض - صلة يدعوها عشقا. تلك هي اللحظة المطلقة للشخص الذي يعي بالعبث: لحظة الاتحاد مع الطبيعة، ورفض الحضارة، والمنطق، والتقدم ، والتاريخ. والمفارقة بالتأكيد هنا هي أن تيبازة كانت إحدى البؤر الاستعمارية في روما القديمة. وعلى الرغم من أن كامو يريد أن يتجنب التاريخ البشري وأحداثه، فإنهما يواصلان العودة: أحيانا يتجليان من الخارج، فيفرضان تغييرا على النصوص، كما حدث في «كاليجولا»، وأحيانا يكونان جزءا من المنظر الطبيعي كما في تيبازة.
يكتب كامو أن الحياة بلا معنى، لكن حتى غياب المعنى فيها يضفي عليها معنى. ولذا يعطي غياب المعنى اسما. فكرة العبث هي شكل من أشكال التناقض، ويخصص كامو لنفسه مكانة بطولية لملاحظته إياه والعيش فيه. وبدفاعه عن الجهل ورفضه لاعتبار التفسيرات شرطا مسبقا للسعادة، ينظر كامو يأسه ببراعة، الأمر الذي قد يكون مرجعه هو الوضع الصعب في الجزائر المستعمرة، ويعقلن رفضه مواجهة ذلك الوضع. من هذه اللحظة فصاعدا، يرفض كامو الالتزامات السياسية الطويلة الأمد، ويصبح تدخله في السياسة مبنيا على أساس التدخل في كل قضية على حدة.
نجاح فكرة كامو عن العبث وجاذبيتها هو على الأرجح ما يعطي قراءه وسيلة للإحساس بتعاستهم - والتعايش معها، وهذا شكل من أشكال التحولات الميتافيزيقية عند كامو. إذ يخبر قراءه أن يقبلوا بتعاستهم، أن يضعوها في صميم حياتهم ويستخدموها لتساعدهم على العيش بأسلوب أفضل. بتلك الطريقة يصبح العبث أيديولوجية لتقبل المرء لذاته تستبعد الصراعات الاجتماعية والتاريخية.
لكن، في الوقت الذي انتهى فيه كامو من «أسطورة سيزيف»، عاد التاريخ البشري إلى الصخب، باندلاع الحرب العالمية الثانية. أدى هذا إلى تغيرات جدية في طريقة تفكير كامو. وبعدها بقليل، تراجع العبث أمام فكرة كامو الجديدة عن التمرد.
الفصل الرابع
متمرد بلا قضية
كتب كامو عام 1943 في يومياته: «أن تطرح السؤال الخاص بالعالم العبثي هو أن تسأل: «هل سنقبل اليأس بسلبية؟» ولا أعتقد أن ثمة امرأ صادقا سيجيب بالإيجاب.» تلك المقدمة المبكرة تعبر بإيجاز عن وعيه بأن الأحداث كانت تدفعه إلى التسامي عن عدمية العبث (شكل
4-1 ). ففي خضم الحرب العالمية الثانية، أدرك كامو أنه لا يستطيع أن يكون غير مكترث بالاحتلال النازي لفرنسا؛ ولذا كانت عدمية عبثه واهية.
شكل 4-1: واحدة من أكثر الصور المعبرة عن كامو، التقطها المصور الشهير هنري كارتييه-بريسون عام 1947.
كان كامو لا يزال يعارض بحزم النظريات المفسرة لكل شيء والتغيير المنظم، لكن كان عليه أن يجد طريقه إلى التنظير لقراره بالانضمام إلى المعارضة وسرده، القرار الذي تعارض مع بعض المبادئ الأساسية للعبث على العديد من المستويات. وقد كشف عمله المبكر والرامي إلى المقاومة بعنوان «رسائل إلى صديق ألماني» كيف أنه كافح من أجل أن يبين التزامه بتلك القضية باعتبار ذلك جزءا من إرادة العبث. قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الشخصيات الرئيسية في أعماله - ميرسو، وكاليجولا - تبدي لا مبالاة تامة بالأخلاق والآداب، بفكرة الخير والشر. وسيغير كامو موقفه جذريا في الثلاثية الثانية من أعماله - «الطاعون»، و«القتلة المنصفون»، و«الإنسان المتمرد» - التي كانت جزءا من دورة أعمال كامو في التمرد.
يطور كامو مفهومه عن التمرد باعتباره تكيفا مع عبث الزمان. كما كتب لاحقا في «الإنسان المتمرد» أن اتباع عدمية العبث دون تمحيص لا يخلو من المآزق والمخاطر؛ لأنه إذا «لم يكن ثمة صواب أو خطأ، وخير أو شر، فستكون القاعدة هي أن تكون الأكفأ ... الأمر الذي يعني أن تكون الأقوى». باختصار، لا يدين العبث القتل: «إذا كنا نتظاهر بقبول وجهة النظر العبثية ونعيش بها، فيجب أن نعد أنفسنا لأن نقتل.» كان التمرد بالنسبة إلى كامو في البداية شبه غريزي، شيء يقوم به المرء كردة فعل تجاه القمع، لكن في لحظة معينة من الزمان، عندما تصل الأمور إلى حد معين يكون فيه التسويغ أو الإذعان أمورا لم تعد محتملة؛ تلك المرحلة هي التمرد. التمرد هو الاسم الذي أطلقه على قراره للانضمام إلى المقاومة، والذي حوله بعد ذلك إلى نظرية. في سبتمبر 1944، كتب أن التمرد لا الثورة هو ما يستحث المقاومة: «ينبع التمرد من القلب». ولذا فالتمرد إحساس كالعبث. رغم ذلك، فإنه أيضا - على غرار العبث - إحساس مؤقت وعابر، ولا يسعى إلى إرساء نظام أو قيم راسخة. التمرد عاطفة مبنية على نظام أخلاقي بدائي، إحساس سعى كامو إلى إبرازه لأول مرة في روايته «الطاعون».
الطاعون
حبكة «الطاعون» بسيطة نسبيا: مدينة في الجزائر المستعمرة فرنسيا يجتاحها الطاعون. يبدو النظام الاستعماري مقبولا للوهلة الأولى عندما كان الراوي يصف المدينة التي تقع فيها الأحداث: «في الواقع، إن وهران مدينة عادية، وليست أكثر من مقاطعة إدارية فرنسية على الساحل الجزائري.» يبدو هذا الوصف اعتياديا، لكن الاستثنائي هنا أن مدينة في شمال أفريقيا تعتبر عاصمة مقاطعة فرنسية، وأن تلك المدينة توصف بالعادية. بتلك الكلمة، يحدث التسويغ مع التاريخ: ويصبح الاحتلال مقبولا وطبيعيا.
تبدأ رواية «الطاعون» باقتباس من دانيال ديفو (وإن كان يختفي عادة في الترجمات الإنجليزية): «من المعقول أن ترمز إلى أحد أنواع الحبس بنوع آخر، كما نرمز إلى أي شيء موجود فعلا بشيء لا وجود له.» تبين تلك العبارة بوضوح الهدف الرمزي للرواية؛ أنها عن الاحتلال الألماني لفرنسا، والطاعون في محل الألمان. لكن، بتلك القصة الرمزية، ينفي كامو فاعلية الإنسان في التاريخ؛ إذ يحل الاحتلال الألماني محل الفيروس. وعلى مدار الرواية لا يوجد أي حديث حول أسباب هذا الطاعون؛ إنه يظهر ويختفي وحسب، دون أي تفسير. إنها رواية شائكة مثل قصة رمزية؛ فالطاعون على الأرجح رمز في الأساس، أداة لتقديم الكائنات البشرية (خاصة الرجال)، وهي تواجه المصائب، ولرسم تصوره الجديد عن التمرد.
المدينة تحت العزل: أولا تموت الفئران، ثم الناس، ولا يستطيع أحد الدخول أو الخروج. السلطات والأطباء عاجزون ومرتبكون. يركز السرد على أفعال ستة فرنسيين - برنار ريو، والأب بانيلو، ورايمون رامبير، وجان تارو، وجوزيف جران، وكوتار، الذين تتغير حياتهم في مواجهة الجائحة. يعبر كل من هؤلاء الرجال الستة عن توجه من اثنين لا ثالث لهما تجاه الاحتلال الألماني: المقاومة، أو التعاون مع المستعمر. تناضل الشخصيات لفهم المعنى في مواجهة الطاعون: ما هدفه؟ لماذا يوجد؟ هل سيكونون هم الموتى القادمين؟ وما الذي يمكن عمله بشأنه؟ وفي مواجهة تلك البلبلة الشديدة (في نهاية المطاف، تلك مشاكل وجودية، وقد تفشت بفعل الطاعون)، يواجه كل منهم هذا الصراع بأسلوب مختلف.
إحدى الشخصيات الرئيسية هي ريو، طبيب المدينة الذي يقوم على رعاية المرضى المصابين بالطاعون بلا كلل. وقد فصل بينه وبين زوجته بسبب العزل المفروض بسبب تفشي الطاعون، ويستحضر هذا تجربة كامو، الذي افترق عن فرانسين. وما يعمله ريو لا يؤدي إلى النتائج المتوقعة على الرغم من أنه لا يفتر؛ إذ يموت بعض مرضاه، والبعض الآخر لا يموتون، وذلك دون تفسير. ومع ذلك، يتمسك بفطرة أخلاقية في مواجهة عبثية الحياة. وهو واقعي ولا ينشغل بدرامية الموقف.
ريو أيضا شخصية محورية؛ لأننا نعرف بنهاية الرواية أنه راوي القصة، في تغير مفاجئ للحبكة يصعب تصديقه (كان ريو هو الراوي طوال الوقت، يقرأ مقتبسات من يوميات تارو). حتى تلك اللحظة كان القارئ موجها إلى الاعتقاد في أن الراوي راو عليم. وعلى الرغم من أنه تغير غير مقنع، فإنه يناسب هدف كامو في تحدي كل السلطات شبه الإلهية في الرواية. بإخباره القارئ أن الراوي كان ريو، يشير كامو إلى موقفه من الراوي العليم، وهو المعادل الروائي للإله العليم بكل شيء الذي يستبدله بشخصية بشرية.
عندما سألته إحدى الشخصيات عن إذا ما كان يؤمن بالإله، يرد ريو أنه إذا آمن بإله مطلق القدرة فسيتوقف عن محاولة علاج مرضاه. ومن ثم فهو لا يتحدى وجود الإله، بل بالأحرى قدرته على التدخل في شئون البشر. ما يهم هو العامل البشري. يقول ريو أيضا إنه لا يستطيع أن يؤمن بإله يسمح بموت الأطفال الأبرياء. يقع هذا الحوار في صميم المغزى الإنساني للرواية.
في رواية «الطاعون»، ريو الذي يستمر في الاعتناء بمرضاه دون أمل في علاجهم يشبه سيزيف: إنها «هزيمة لا تنتهي». يصبح ريو في مواجهة الموت وعبثية الحياة يوميا تجسيدا للإنسان المتمرد. إنه يستمر في القتال لأجل إخوانه من البشر بغض النظر عن هول الظروف أو مدى صعوبة نيل فرصة النجاح. ريو مدفوع بإيمان راسخ في الإنسانية، والتي سينظر لها كامو لاحقا باعتبارها القوة الدافعة لتمرده.
رجل آخر من الرجال الستة هو الأب بانيلو، القس اليسوعي الذي يظهر في بداية الرواية بمعتقدات مطلقة، ويمثل الدين المنظم. يخبر أبناء أبرشيته أن الطاعون عقاب سماوي - «أنتم تستحقونه!» - ويهاجم «العلم البشري العقيم». في النهاية، يصبح الأب بانيلو من خلال التجارب التي عايشها في الطاعون أقل تشددا، ويموت في تطور مثير للمفارقة، ألحقه الطاعون عنوة بصفوف البشر البسطاء.
الشخصية الصالحة التي تشارك كامو العديد من الصفات هي رايمون رامبير، صحفي من فرنسا أتى إلى البلدة المستعمرة ليتقصى ظروف حياة العرب. يحاول رامبير العالق هناك بسبب العزل، يائسا أن يهرب، على مدار جزء كبير من الرواية. ولانشغاله كثيرا بالرجوع إلى زوجته والهروب من وهران إلى باريس، يقرر في النهاية البقاء والمشاركة في مكافحة الوباء. يمثل رايمون أحدث المشاركين في المقاومة. والدافع الأولي لوجوده مهم من حيث إنه ينسى بسرعة بمجرد ظهور الطاعون.
جان تارو هو تجسيد آخر لشخصية المقاوم. يؤسس تارو مجموعة من المتطوعين، ويمثل تجسيدا للمقاومة وللتمرد. وهو الأكثر أخلاقية بين الرجال الستة، مدفوعا في ذلك بأخلاق الإنسانوية. وهو كذا منكر لذاته وشجاع. يموت تارو أيضا بالطاعون؛ الأمر الذي يعود بنا إلى الإحساس بغياب المعنى والإجحاف اللذين يسودان الرواية. لا يوجد جزاء للأفعال الخيرة، سواء كنت متمردا ملحدا أو قسا يسوعيا، لا توجد سلطة عليا رحيمة.
الرجل الخامس هو جوزيف جران، وهو موظف بالبلدية كان يكتب أول عبارة في روايته مرارا وتكرارا في محاولة للوصول إلى الكمال الأدبي، ينضم في النهاية إلى المقاومة وينجو من الطاعون، الأمر الذي يسترجع مرة أخرى وجهة نظر كامو في «أسطورة سيزيف» عن عشوائية الحياة والموت. هنا يلعب الطاعون دور كاليجولا (إذ يعاقب بالموت على نحو تعسفي)، لكن لا يتركز محور القصة حول مصدر اعتباطية الموت، بل حول كيفية استجابة قلة مختارة من البشر تجاهه.
تمثل كل الشخصيات ردود فعل مختلفة خلال فترة الاحتلال. بعد الأبطال (ريو، وتارو، ورايمون، وجران)، ورموز السلطة الدينية (بانيلو)، يتبقى لدينا في النهاية كوتار معبرا عن المتواطئين. كوتار رجل حاول أن ينتحر وأنقذه جران. يشرع كوتار في التربح من الجائحة (حيث يبيع البضائع في السوق السوداء، ويساعد الناس على الرحيل بطرق غير شرعية). وتكتب له النجاة، لكن يلقى القبض عليه في نهاية الرواية. هنا، تنتصر العدالة البشرية في غياب العقاب الإلهي.
وفي المرات القليلة التي يأتي فيها كامو على ذكر الجزائريين في الرواية يكون ذلك لجعلهم جزءا غير مترابط أو خفيا من التدبيج. كذلك لا توجد شخصيات عربية، لا حديثا ولا وصفا، على الرغم من أن وهران بها تعداد سكاني كبير من الجزائريين.
في النهاية لا يوجد تفسير للطاعون، ولا لكيفية ظهوره، أو لماذا توقف عن حصد الأرواح. في الواقع، يختفي الطاعون ببساطة وبلا تفسير، متأهبا للعودة في أي وقت، وذلك حسب تحذيرات الراوي المنذرة بالشر. تحتوي رواية «الطاعون» على العديد من المواضيع الموجودة في «أسطورة سيزيف»، إلى جانب الدعوة إلى التصرف بناء على توجه أخلاقي وإنساني. وكما كتب كامو في يومياته:
لا يوجد اعتراض آخر على التوجه الاستبدادي غير الاعتراضات الدينية أو الأخلاقية. إذا كان العالم بلا معنى فهم محقون. وأنا لا أتقبل أنهم محقون. ولذا ... تلقى على عاتقنا مسئولية أن نخلق إلها. الإله ليس هو الخالق. هذا هو كل تاريخ المسيحية. لأن لدينا طريقة وحيدة لخلق إله، وهي أن نصبح آلهة.
أن نصبح آلهة هو ما يقترحه كامو فيما كتبه في يومياته حينها، وهذا ما يفعله دكتور ريو بطريقتين: (1) بتصرفه كعنصر فاعل يتصرف برأفة ورحمة في أوقات الأزمات، (2) وباضطلاعه الرمزي بوظيفة الراوي العليم. تلك الفكرة عن البشر الذين يتصرفون كالآلهة ستظهر مرة أخرى في مجرى كثير من نقاشات كامو العلنية مع المثقفين الشيوعيين الذين ازدروه بأن أطلقوا عليه لقب قديس علماني. ووسط كل الأسئلة الوجودية عن وجود الإله ومعنى الحياة، ثمة هاجس ينتاب الرواية بين الحين والآخر. وعلى الرغم من أن ظروف حياة العرب ستكون موضوع سلسلة مقالات يكتبها الصحفي الفرنسي في الرواية رامبير، فإن هذا الاهتمام يختفي في ضوء الحالة الطارئة المنبثقة: اجتياح الطاعون للبلدة. يبدو أن الرسالة هي أن الأشياء الاعتيادية مثل «الظروف المعيشية عند العرب» يجب أن تكون على الهامش. إن السكوت على تلك المشكلة يعكس السكوت على سبب الطاعون في الرواية.
لا ضحايا ولا جلادون: التمرد كموقف سياسي
في سلسلة مقالات شهيرة كتبت عام 1947، وتحمل في مجموعها عنوان «لا ضحايا ولا جلادون»، بدأ كامو بالإفصاح عن رؤيته السياسية حول التمرد في بيئة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان أحد الأهداف الرئيسية في تلك المقالات هو الشيوعية. والسياق الذي تبنى فيه كامو موقفه مهم: بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة كان الاتحاد السوفييتي في أوج قوته من حيث التأثير والقوة العسكرية الملموسة. وقد كان الحزب الشيوعي الفرنسي قويا إلى حد بالغ، ليس من ناحية عدد أعضاء البرلمان وحسب (حيث كان أكبر حزب سياسي فرنسي)، لكن أيضا في اتحادهم - الكنفدرالية العمالية العامة - الذي كان الأقوى في فرنسا.
على جبهة أخرى، دعم كثير من المثقفين العظام الحزب الشيوعي، بمن فيهم فنانون أمثال بابلو بيكاسو وفرنان ليجيه وكثير من الكتاب الذين احتشدوا حول السريالي السابق لويس أراجون، وحول دورية الحزب الشيوعي الأدبية المؤثرة «لي ليتر فرانسيز». جعل العديد من الشيوعيين - وأولهم لينين - من تحرر المستعمرات السابقة واستقلالها هدفا محوريا للشيوعية حول العالم؛ الأمر الذي كان يعلمه كامو. في الواقع، كانت قيادة العديد من الحركات المؤيدة للاستقلال من الشيوعيين، بدءا من هو تشي منه في الهند الصينية المحتلة من قبل فرنسا، الحقيقة التي كان كامو واعيا بها أيضا. كان شغل كامو الشاغل في ذلك الوقت هو أن تحتفظ فرنسا بإمبراطوريتها. على سبيل المثال، في لقاء له مع صحيفة بروتستانتية عام 1945، صرح كامو:
إذا ما كانت فرنسا لا تزال تلقى معاملة كريمة، فهذا ليس لماضيها المجيد. فالعالم اليوم لا يعبأ بالمواضي المجيدة. لكن ذلك سببه أن فرنسا قوة عربية، وهي الحقيقة التي يتجاهلها 99٪ من الفرنسيين. وإذا كانت فرنسا ليس لديها تصور عن سياسة عربية حقيقية في السنوات القادمة، فلا مستقبل لها.
كان التحليل الأكثر انتشارا للاستعمار في ذلك الوقت يحوي في صميمه دافع الربح الرأسمالي، وكان أفضل معارض لهذا التحليل هو الشيوعية، الموقف الذي لم ينظر له سوى جان بول سارتر بنفسه في مقدمة إلى مجموعة شعرية لشعراء واقعين تحت وطأة الاستعمار. شجع هذا الموقف كامو على التوجه المعادي للشيوعية. كان كامو يتبع اليسار، لكنه يسار إصلاحي وأوروبي في المقام الأول. والسمات المميزة لنسخة كامو الخاصة عن اليسار - عن المركزية الأوروبية ورفض الثورة لميلها إلى الإصلاح - تتشابه مع فكرته عن التمرد. يقتصر تمرد كامو على أوروبا والأوروبيين، ومؤطر بالمسائل الوجودية وليس الوعي الاجتماعي. أعلن كامو مواصفات التمرد كما يراها في «لا ضحايا ولا جلادون» (وطورها إلى حد أبعد في «الإنسان المتمرد»).
في أول مقال في المجموعة بعنوان «قرن الخوف»، يكتب كامو في هجوم صريح على الشيوعية معارضا اليوتوبيا السياسية والعلم: «نحن نختنق وسط رجال يعتقدون أنهم محقون تماما، سواء كان ذلك فيما يخص آلياتهم أو أفكارهم». السؤال بالنسبة إلى كامو هو كيف نتخلص من هذا الخوف. والخطوة الأولى هي نبذ العنف كله والتخلي عنه. ويشترط لمواجهة الخوف أن تنتفي لديك الرغبة في أن تقتل (أن تصير ضحية)، أو أن تقتل في سبيل فكرة (أن تصير جلادا). الخوف بالنسبة إلى كامو هنا هو تطبيق العنف المؤسسي في سبيل قضية أسمى. هدفه هو الشيوعية بوضوح.
يكتب كامو في مقال آخر بعنوان «الاشتراكية بصفتها لغزا» أنه بين نظام تنتشر فيه الحرية لا العدالة الاجتماعية، ونقيضه الذي تنتشر فيه العدالة الاجتماعية دون الحرية، فإنه سيختار الحرية في النهاية. ينبه كامو بشدة إلى أن الحزب الاشتراكي الفرنسي - الذي كان حينها كيانا أقليا، ولكنه سيصل إلى السلطة في النهاية عام 1981، بعد موت كامو بوقت طويل - في حاجة إلى أن يختار ما بين الموالاة التامة للماركسية وفكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، وبين التوجه الإصلاحي. باختصار، يريد كامو من الحزب الاشتراكي الفرنسي أن يهجر الثورة، وأن يترك الماركسية باعتبارها «فلسفة مطلقة». سبب آخر للتخلي عن الثورة هو سبب يتوقف على السياق؛ حيث يرى كامو أن الثورة الوحيدة الصالحة والقادرة على الاستمرار هي ثورة عالمية، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى تهديد جسيم بالحرب وعدد كبير من القتلى. وبالنسبة إلى كامو، هذه المجازفة لا تستحق العناء.
وبديل كامو للثورة العالمية هو «الديمقراطية الدولية»، وهي تصور لا يعرفه إلا سلبيا. والديمقراطية الدولية ليست بالشيوعية، لكنها أيضا ليست بالأمم المتحدة. وعلى وجه التحديد، يعتبر كامو أن الأمم المتحدة ستصبح ديكتاتورية دولية لأنها محكومة بقوى تنفيذية؛ عوضا عن ذلك، يؤيد برلمانا عالميا يتشكل بانتخابات عالمية. رغم ذلك، يشير إلى أنه ينبغي لمقاومة الديكتاتورية الدولية ألا تستخدم وسائل تعارض الهدف المرغوب، وهو الموقف الذي حظر المعارضة المسلحة على نحو فعال.
وفي فقرة محورية في مقال «العالم يتحرك بسرعة»، يتحدث كامو عن «صدام الحضارات» القادم. يزعم كامو أن تفوق الحضارة الغربية سيكون في خطر عن قريب «في غضون عشر سنوات أو خمسين سنة». فالوقت من ذهب، ويطالب بافتتاح البرلمان العالمي، الذي وصفه في المقال السابق، في أقرب وقت ممكن «لتكون الحضارة الغربية ونظامها العالمي كونيين حقا». باختصار، يريد كامو الحفاظ على تفوق الغرب، ويقترح إنشاء برلمان عالمي ليتحقق ذلك. ولا يذكر كامو كيف سيحدث ذلك بالضبط، لكنه بتأييده حلا كهذا وبدعمه لهذا الهدف، يرسخ لحماية تفوق قوى الغرب في قلب برنامج إجراءاته. وهذا هو أقرب ما يمكنه الوصول إليه لغرض الدفاع علانية عن نظام عالمي استعماري.
في نهاية المقال، يؤيد كامو «اليوتوبيا الجزئية»، التي ستستلزم على سبيل المثال تأميم الموارد الطبيعية (كاليورانيوم، والبترول، والفحم) لكن لا شيء آخر. باختصار، هدف كامو قريب من مبادئ الديمقراطية الاشتراكية: حل وسط بين تأميم وخصخصة كل شيء. وفي مقاله قبل الأخير، «العقد الاجتماعي الجديد»، يريد كامو أن ينشئ نظاما دوليا للعدالة. هذا أيضا أول مقال يقترح فيه تحريم عقوبة الإعدام. رغم ذلك، لا يؤيد كامو التغييرات الأيديولوجية. فهو يطلب من البشر أن يتحلوا بشجاعة التخلي عن بعض أحلامهم (أي الشيوعية) والتركيز على الحفاظ على الأرواح (أي السلام). ولتلك المقالات نبرة تقريرية، كما أنها عاطفية تماما، وكأن كامو يعلن عن القواعد وليس يقترحها.
لم يكن مقاله الأخير استثناء بغض النظر عن عنوانه «نحو الحوار». هنا يتخذ كامو مرة أخرى موقفا معاديا ل «المنطق التاريخي»؛ إذ يصف فكرة التقدم، فكرة التحرر كمنطق، بقوله «صنعنا من العدم» أفكارا «ستئول بنا عقدها إلى الاختناق».
ما الذي يشغل كامو هنا؟ تحتاج النزعة المعادية للتاريخ والمنتشرة في أعمال كامو تفسيرا. يأتي ذلك المفهوم عن التاريخ من فهم كامو لهيجل، الذي عرف عنه إعلانه أنه رأى التاريخ على حصان عندما رأى نابليون قادما إلى مدينته - ومن ثم إسقاط النظام الأرستقراطي. ولذا، أصبح نابليون تجسيدا للتاريخ التقدمي. ورغم أن هذا كان يمثل إشكالية بأساليب شتى (بالنظر إلى أفعاله في هايتي وإسبانيا وغيرهما)، فقد كانت تلك هي النظرة الفرنسية لنابليون - محرر الشعب، والمطيح بالأنظمة المستبدة. كانت الفكرة هي أن كل الأنظمة القمعية ستواجه ب «التقدم» نهايتها العنيفة لا محالة على أيدي شعبها.
كان كامو من أكثر العارفين بأن فرنسا احتلت الجزائر، وأن الجزائر كانت مقموعة بالفعل وتتوق إلى التحرر. إحدى الطرق للتفكير في عداء كامو للتاريخ والحكم عليه هي النظر إليه باعتباره خوفا من سردية تنتهي بتحرير الجزائر. وعي كامو بتلك النظرية القائلة بحتمية التقدم - ومن جانب آخر إيمانه بها - جعله غير مرتاح إلى الوضع في الجزائر. كان ذلك مصدر مناشدة كامو لقرائه علنيا أن يتخلوا عن مثلهم، عن مثاليتهم حول التحرر الكامل، لصالح «تغيير في أسلوب الحياة» أكثر تواضعا أو «يوتوبيا جزئية». أراد كامو إصلاحات يسيرة وليس تغييرات جذرية، خاصة فيما يتعلق بالجزائر. وعلى الرغم من أن هذا الموقف الإصلاحي وجد قليلا من الحلفاء خلال حرب الاستقلال الجزائرية لأن كلا الفريقين لم يفضل التسوية، فإنه أدى في النهاية إلى شعبية متجددة بعد سقوط سور برلين عام 1989 وسقوط الاتحاد السوفييتي، حينها جرى الاحتفاء بكامو باعتباره كان محقا منذ البداية. «القتلة المنصفون» و«الإنسان المتمرد»
معارضة كامو للعنف السياسي، أو كما يقول إدانة «أحقية القتل باسم التاريخ»، كانت وسيلة لرفض التغيير الثوري الكاسح ولمعارضته الحركات المناهضة للاستعمار. ولذا، فإن مسألة العنف لسبب وجيه - سواء إذا كان القتل مبررا بأي شكل أم لا - تقع في لب ثاني أشهر مسرحيات كامو، وعنوانها «القتلة المنصفون»، المنشورة عام 1949. وبما أنها تنبني على مذكرات الإرهابي الروسي السابق بوريس سافنكوف الذي حاول قتل القيصر عام 1905، يقدم كامو معضلة العنف السياسي عبر نقاش بين مناضلي الخلية الإرهابية الذين يخططون لاغتيال القيصر.
الشخصيات الرئيسية الثلاث في المسرحية هي إيفان كاليايف وستيبان فيدوروف ودورا دوليبوف. في البداية تبدو الشخصيات ذات عقيدة لا تتزعزع في مشروعية أفعالهم. من ناحية، يقدم كامو كاليايف بوصفه البطل الحقيقي الذي يعاني من وسواس. في البداية، لم يستطع أن يلقي بالقنبلة؛ لأن ابنة أخ القيصر وابن أخيه كانا موجودين. بعد محاولة ثانية، يتمكن من قتل الدوق الأكبر وحده. ثم يلقى القبض عليه، ويرفض عرض السلطات بالعفو عنه شريطة أن يخون رفاقه. ويجري إعدامه بيد الدولة في المشهد الأخير. كاليايف هو بطل المسرحية؛ لأن أفعاله تتوافق مع الحالات المحددة التي تجعل من العنف أمرا جائزا بالنسبة إلى كامو: كان ينوي المخاطرة بحياته. يطرح كامو أن تلك النية هي الضمان على ألا يكون العنف على نطاق واسع، وعلى أنه سيكون محدود المدة؛ ومن ثم لن يؤدي إلى نظام استبدادي.
يبدو ستيبان على الجانب الآخر مغالى فيه؛ إذ يؤيد قتل الأبرياء بحماس. ويمثل ستيبان المقاتلين الشيوعيين الذين يكرههم كامو بشدة؛ فهو يؤيد العقاب الجماعي، بل القتل الجماعي. إنه عنيف، ومتعصب، ومتلهف للقتل. في رأيه أن الغاية تبرر الوسيلة. ولكنه رغم ذلك ضعيف؛ حيث يعترف في النهاية أنه كان يحسد كاليايف. وتنقاد دورا بحبها لكاليايف، على الرغم من أنها مناضلة أيضا. وبمجرد أن يموت، تقرر أن تواصل النضال علها تلقاه بالموت.
لم تلق المسرحية استقبالا جيدا؛ إذ وجد النقاد أن من الغريب أن تدرج قصة حب في مسرحية سياسية كتلك. لكن على الأرجح كان ذلك أحد أهداف كامو؛ إذ يبدو الحب في نهاية المطاف ساميا على الالتزامات السياسية، وهو ما يعلي المشاعر البشرية فوق التاريخ البشري، وفوق الأفعال السياسية.
على الرغم من أن الإرهابيين يبدون متصدعين، يبدو أن كامو يقدرهم فقط إن كانوا مستعدين للموت خدمة لأفكارهم بقدر ما هم مستعدون للقتل خدمة لها. يقارن كامو بين هذا الموقف وبين موقف الفلاسفة والمفكرين عندما كتب عن «سلالتين من الرجال. إحداهما تقتل مرة وتدفع الثمن حياتها. والأخرى تبرر آلاف الجرائم وتقبل كل أشكال التكريم». تعاود مناهضة كامو للفكر الظهور مرة أخرى هنا؛ إنه يؤيد اتخاذ الإجراءات، خاصة العنيف منها، لكن على المدى القصير فقط: فموت القائم بالعنف هو أفضل ضمان لمحدودية مدى التمرد.
لا يمكن فصل المسرحية عن مقال كامو اللاحق لها عن التمرد بعنوان «الإنسان المتمرد»؛ لأنه يمثل التحول الموضعي لمقال نشره كامو قبل مسرحية «القتلة المنصفون»، والذي سيعيد إضافته لاحقا في مسرحية «الإنسان المتمرد». هذا المقال الطويل هو استمرار لهجمة كامو المتعددة المحاور على الشيوعية والثورة. إنه يمثل للتمرد ما تمثله «أسطورة سيزيف» للعبث: مخطط تفصيلي.
يبدأ كامو «الإنسان المتمرد» بإعادة النظر في العبث. لقد أعيدت صياغته على أنه نقطة بدء للتمرد. يعلن كامو أنه لا يعتقد في شيء، وأن كل شيء عبث، لكن اعتقاده هذا في حد ذاته يعد تمردا واحتجاجا. يولد التمرد من العبث، من غياب المعنى؛ إنه رد فعل تجاه عبثية الحياة. ويتمثل الخلاف الأكبر مع العبث في أن العبث لا يملك مكونا أخلاقيا (القتل مسموح به)، والتمرد رد فعل تجاه ذلك أيضا. بالنسبة إلى كامو التمرد هو نقطة الانفصال، رد فعل وجودي، هو أشبه بقول أحدهم لا يمكنني الاستمرار على هذا النحو! في أحد الأمثلة الأولى يستخدم كامو مكونا اجتماعيا غير مألوف: اللحظة التي يقول فيها العبد «كفى!». رغم ذلك، لا يعالج كامو ما يحدث بعد ذلك: التمرد الكاموي ينص على عنف محدود ومؤقت، وغير منظم، يرتبط باللحظة فقط.
بغض النظر عن مثال العبد، النقطة المحورية هي أن التمرد مقتصر على أوروبا: «مشكلة التمرد لها معنى في مجتمعنا الغربي فقط»، يضيف كامو أنه «من الصعب على التمرد أن يعبر عن نفسه في مجتمعات ذات تفاوتات بالغة الاتساع». ويكتب كامو أيضا أن التمرد لا يمكن أن يحدث في المجتمعات التي يكون فيها للمقدسات شأن كبير؛ في رأيه، تلك المجتمعات لم تتصالح بعد مع العبث. وبالتأكيد تعبيره الذي يفصل بين أوروبا وبقية العالم هو ترديد لأفكاره عن «صدام الحضارات» القادم الذي يشغله، الذي كتب عنه في «لا ضحايا ولا جلادون».
المفارقة في «الإنسان المتمرد» هو أن كامو في معظم صفحاته الكثيرة يصف ما ليس بالتمرد. يحتوي «الإنسان المتمرد» على قائمة طويلة من الأمثلة المضادة - عن الأعداء من كل نوع وعلى كل صعيد: السياسي (النازيون والشيوعيون)، والتاريخي (الثورة)، والفلسفي (هيجل). على سبيل المثال، يشتبك كامو مع ماركيز دي ساد (المؤلف الفرنسي الشهير الذي أدت قصصه الإباحية وأفعاله الخلاعية إلى ظهور كلمة السادية، واشتهر عنه أنه سجن بالباستيل) لأنه كان مساقا ب «كراهيته المطلقة» للآخرين. وينتقد كامو الكتاب الرومانسيين؛ لأن تمردهم محدود وفردي وشديد الارتباط بالأدب. كما يناقش «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، لكنه يراها تقدم طريقا مسدودا؛ لأن رفض كارامازوف لحقيقة الإله قاده إلى الجنون الذي به «كل شيء مسموح»، في عودة إلى العدمية المقترنة بالعبث.
يناقش كامو أيضا التمرد الإنساني بوصفه تعبيرا فنيا، وهنا يرى التمرد شيئا وجوديا، لا اجتماعيا. ومع التقدم في الكتاب، تصبح نبرته أقذع. فيصدر كامو مراسيم عن الطبيعة البشرية وعما يجب أن نعتقده وألا نعتقده. إنه يلوح مهددا بغاية إنسانية مبهمة في وجه كل مشاريع التحرر الواسعة النطاق. فأي معارضة لوجهة نظر كامو تصبح صوتا مؤيدا للقتل الجماعي و«العبودية». كانت عبارته باتة ولا تحتمل أي نقاش.
المعضلة هي أن كامو عندما يقصر على الأوربيين تلك المسائل المتعلقة بالطبيعة البشرية والتمرد - على سبيل المثال - فإنه يجعل نفسه عرضة للنقد القائل بأنه هو نفسه المخلص المنتظر الذي ينطق بالحقائق، ذلك المخلص الذي ينتقده كامو نفسه في كل موضع آخر في المقال.
ينتهي المقال بإشارة مديح ذات نزعة إقليمية غريبة ل «الفكر المتوسطي»، الذي يترادف عند كامو مع سمات ثقافية متميزة وواضحة، والتي تتضمن حساسية فريدة تجاه الطبيعة وعلاقة متميزة مع الشمس. بالتأكيد، كان كامو ممتنا لأنه ولد في تلك المنطقة من العالم وليس في مدن الطبقة العاملة في فرنسا:
يا له من حظ سعيد أن تولد في عالم تلال تيبازة بدلا من سان إتيان أو روبيه. أعرف حظي وأتعامل معه بامتنان.
تلقى هذا المقطع قدرا وافيا من النقد. هل يمكن، كما يحاول كامو أن يقول، أن يرتبط فكر من نوع خاص ونظرة خاصة للعالم بالجغرافيا وأنماط الطقس؟ في ذلك الوقت، لم يقتنع كثير من النقاد بذلك.
دفعت النبرة المتصلبة واستبعاد غير الأوروبيين من التمرد، والمساواة بين النازية والشيوعية، كثيرا من المثقفين من كل الاتجاهات إلى انتقاد الكتاب بقسوة بعد نشره. وعلى الرغم من أن كامو لم يرد ذلك في البداية، إلا أن جان بول سارتر، وهو صديق كامو القديم، صار فيما بعد الناقد الأقوى لكتاب «الإنسان المتمرد»، بل والأكثر إقناعا. كان ذلك بداية أهم شقاق علني بين اثنين من أشهر مثقفي فرنسا في ذلك الوقت.
الفصل الخامس
كامو وسارتر - الشقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان
عندما نشر كل من رواية «الغريب» وكتاب «أسطورة سيزيف» لكامو عام 1942، كان جان بول سارتر مؤلفا راسخا ومعروفا بالفعل. لكن كامو وسارتر لم يلتقيا بعد. يعزى جزء من شهرة سارتر إلى نشر روايته الأولى «الغثيان» عام 1938، التي يواجه فيها معلم في مدينة ريفية لحظات عميقة من الشك الوجودي بينما يحدق في جذور شجرة. انتشرت الرواية انتشار النار في الهشيم في المجتمع الأدبي الباريسي. وتتشابه رواية «الغريب» مع رواية «الغثيان» في كثير من الجوانب، فهما تحكيان قصة رجل ساخط ومنعزل يشك في كل شيء حوله: المجتمع ومعنى الحياة. ومع ذلك، فإنهما روايتان مختلفتان أيضا: في رواية «الغثيان» تثير الطبيعة القلق الوجودي، لكن الفن - في شكل موسيقى الجاز - يداويه (أو يعطي أملا)، بينما في «الغريب» تهدئ الطبيعة من قلق ميرسو الوجودي، ويغيب الفن.
في عامي 1938 و1939 استعرض كامو رواية «الغثيان» ومجموعة القصص القصيرة بعنوان (الجدار) التي تبعتها. وكان النقد مزيجا من المديح الواجب والانتقاص الحاذق. كتب كامو أنه أحب نصف الرواية، لكن لم يحب الجزء الذي اعتبر أنه محاضرات حول الفلسفة . فامتدح النواحي الإبداعية في الرواية لكنه لم يعجب بالتأملات الفلسفية؛ المزج بين الاثنين جعل من المستحيل في رأي كامو النظر إلى «الغثيان» على أنها رواية أو عمل فني من أي نوع. فوق ذلك، رأى كامو إيمان سارتر بقدرة الفن على توفير أمل في إيجاد معنى للحياة أمرا يكاد يكون مثيرا للضحك. من وجهة نظر كامو، لا شيء يمكنه أن يتسامى على عبثية الحياة. وقد انتهت الفقرة الأخيرة في نقده الأول بنبرة عالية التناقض إلى حد ما. حيث يمدح كامو «موهبة سارتر اللامحدودة»، معلنا أنه ينتظر بشغف الأعمال القادمة، ومضيفا - بسخرية - دروس سارتر أيضا. من الواضح أن كامو كان يتسخط من شخصية البروفيسور الكامنة في سارتر.
عندما كتب سارتر مقالا نقديا عن رواية «الغريب» بعدها بأربع سنوات، كان ذلك من موضع قوة؛ إذ كان سارتر مؤلفا متمكنا. كان وضع سارتر أيضا نابعا من عمله الأكاديمي المرموق بعنوان «رحلات»: كان سارتر عضوا في «المدرسة العليا للأساتذة» النخبوية إلى جانب رفيقة عمره سيمون دي بوفوار. وهذا على النقيض من كامو. من المفهوم أن سخط كامو تجاه النظام التعليمي الفرنسي كان سيلقي بظلاله على سارتر، أحد ألمع نجوم هذا النظام.
ولذا، فمن دواعي المفارقة أن سارتر عندما كتب مقاله النقدي عن «الغريب» و«أسطورة سيزيف» لكامو في فبراير 1943، كان نقده يبدو إلى حد كبير تقريرا مفصلا أو درسا، حتى من العنوان «تفسير لرواية الغريب» نفسه. كان سارتر أشد قسوة مع كامو فيما يتعلق بالفلسفة بالطبع. ففي صفحتين من مقاله النقدي، أسدى سارتر نصائح إلى كامو فيما يتعلق بكتابته في «أسطورة سيزيف» كما لو كان تلميذا، بل تلميذا غير كفء في ذلك الصدد: «يريد كامو أن ينال الرضا باقتباسه نصوصا من ياسبرس، وهايدجر، وكيركجارد، والتي يبدو على الدوام أنه لا يفهمها.» (رددت دي بوفوار هذا النقد لاحقا، حيث كتبت في مذكراتها أن كامو «كان يطالع الكتب، لكنه لم يكن يفهمها».) استمر سارتر على هذا المنوال بقوله إن كامو «يثرثر» في «أسطورة سيزيف» رغم زعمه ب «حبه للصمت». ولم يعتبر كامو «الغثيان» رواية أصيلة بحق، وفي المقابل كان سارتر متشككا في إذا ما كانت رواية «الغريب» تستأهل هذا الوصف. واختتم سارتر بأن كامو لم ينجح في تحقيق مبتغاه.
كتبت هذه التقييمات عن كامو من قبل ناقد كان يفوقه في ذلك الوقت في معرفته الفلسفية ومكانته الأدبية. فكيف استجاب كامو لذلك؟ شكا إلى معلمه جين جرينييه «النبرة اللاذعة» للنقد، لكنه أيضا أقر بنزاهة بمقدرة سارتر الثقافية: «في كثير من المناسبات تساعدني على فهم ما كنت أحاول أن أقوم به». كانت الكلمات القليلة الأخيرة تلك شهادة تامة؛ إذ يعترف كامو بالفعل أن في مقدور سارتر فهم أعماله أفضل مما يفهمها هو.
شكل 5-1: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار.
عندما التقى الكاتبان لأول مرة، في باريس المحتلة بعد شهور قليلة من نقد سارتر، سرعان ما أصبحا صديقين، كانا عادة ما يلتقيان في المقاهي (انظر شكل
5-1 ) - أحد الأماكن القليلة التي كان بها تدفئة خلال الاحتلال النازي - فيتحدثان، ويشربان، ويمازحان بعضهما بعضا. أعجب سارتر بكامو خصوصا لما وصفته بوفوار في مذكراتها ب أساليبه « المشاكسة» - على عكس نثره المتأني. لم يكن كامو متكلفا كصديقيه الباريسيين الجديدين؛ على سبيل المثال، عندما يكونون في الشارع أو المقهى، ويرى امرأة يعتقد أنها جذابة، يقطع كامو الحديث على الفور، فيتوقف عن الحديث أو الإصغاء ويحدق بزهو في موضع اهتمامه. بعد ذلك بعقد من الزمن، سيعلن كلامنس، وهو الشخصية الرئيسية في رواية «السقطة»، أنه يفضل أن يحادث امرأة جذابة على الحديث مع أينشتاين. أراد كامو أن يرى مثل شخصية دون خوان الأسطورية، وبالفعل كان يتصرف مثله؛ إذ كانت له علاقات غرامية كثيرة طوال حياته، وعادة ما كانت متداخلة.
وهكذا في أيام الصداقة الأولى تلك، كان كامو شخصا يستمتع سارتر بصحبته؛ كانا غالبا ما يتواصلان معا اجتماعيا، ولم يكن ثمة محادثات طويلة عن أعمالهما. وفي عام 1943، كان العديد من الكتاب المشهورين الذين ينشرون أعمالهم عند الناشر الفرنسي جاليمار والفنانين البارزين يذهبون معا إلى الحفلات، التي كان أشهرها في بيت بيكاسو، حيث شاركوا جميعا في مسرحيته.
قبيل انتهاء الاحتلال، طلب كامو من سارتر أن ينضم إليه في جريدة «كومبات» مراسلا صحفيا. وبعد انضمامه إلى فريق العمل، كتب سارتر العديد من المقالات عن المناوشات والعوائق التي حدثت خلال تحرير باريس، كما سافر إلى نيويورك ضمن دعوة للصحفيين الفرنسيين كانت ترعاها الولايات المتحدة لتقوية العلاقات بين الدولتين المتحالفتين. في تلك الفترة، كان سارتر قد ألقى محاضرته البالغة الشهرة عن الوجودية، وقد نشرت تلك المحاضرة بعد هذا بعام واحد. كانت الوجودية رائجة للغاية في ذلك الوقت، وكان من الواضح أن سارتر ودي بوفوار في طليعة تلك الظاهرة الفلسفية.
كان ثمة شيء واحد واضح: لم يرد كامو أن يظن الناس أنه كان أحد تلاميذ سارتر، فبذل قصارى جهده لتوضيح أنه لم يكن وجوديا. رغم ذلك، قلة فقط من الناس هم من فرقوا بين عبث كامو ووجودية سارتر؛ إذ كان كامو عادة (وما زال) يوصف بأنه وجودي، وكان هذا الوصف يزعجه إلى حد أنه كثيرا ما أعمل قلمه على الورق ليعبر عن رفضه لهذا الانتساب، أحيانا بهزل ومرح لكن بحزم وقوة أيضا بين الحين والآخر.
عندما كتب ناقد يحظى باهتمام كبير أن «مسرحية «كاليجولا» كلها كانت تصويرا خالصا لمبادئ السيد سارتر الوجودية»، رد كامو يقول: «بدأت أشعر بقليل (والقليل فقط) من الانزعاج من الخلط المستمر الذي يربطني بالوجودية»، كان هذا تعبيرا متحفظا. فقد احتوى رده على ثلاث نقاط تفصيلية أوضح فيها أن: (1) مسرحية «كاليجولا» كتبت عام 1938، قبل بزوغ نجم وجودية سارتر، (2) وأن «أسطورة سيزيف» كتبت لمناهضة الوجودية، (3) وأنه في نهاية المطاف لم يكن يثق في العقل بالقدر الذي يكفي لأن ينتمي إلى نظام فكري. وبالرغم من هذا التوضيح، بقي الخلط والالتباس، وظلت الأسئلة تتوالى.
خلال رحلته إلى نيويورك في يونيو لعام 1946، أجاب كامو عن الأسئلة نفسها التي طرحها عليه صحفي أمريكي بطريقة مازحة، لكنها لا تخلو من السخرية:
لا، أنا لست وجوديا. دائما ما نتفاجأ أنا وسارتر عندما نجد أسماءنا مجتمعة. ونفكر مليا في نشر إعلان مفاده أن الموقعين أدناه يؤكدان ويقران بأنه لا يوجد شيء مشترك بينهما ...
كان الفرق بين الوجودية وعبث كامو واضحا من البداية؛ فالوجودية ترتكز حول الإنسان، وتهتم بالمسئولية الشخصية في عالم جمعي، بينما العبث انفصال عن الشئون البشرية، ورفض ظاهري لكل النظم.
نقطة الخلاف هذه بالتحديد بين العبث والوجودية هي ما أدى إلى أول جدال حقيقي بين الكاتبين. حدث هذا في الأيام الأولى للحرب الباردة التي مثلت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي طرفي الصراع الرئيسيين، وكان من المستحيل تقريبا عدم الانحياز إلى أحد الجانبين. كان كامو بطبيعته تقريبا مناهضا للشيوعية. وحتى عندما كان في الحزب الشيوعي فيما مضى، كان من الواضح من مزاحه مع معلمه أنه لم يكن شيوعيا. (تذكر أن سبب انضمام كامو إلى الحزب لم يكن لتمسكه بالمذهب الشيوعي، بل بالأحرى لمحاولة منع مقاومي الوجود الفرنسي في الجزائر من العرب من إنشاء حزبهم.)
في إحدى أمسيات عام 1946، في حفل أقامه الكاتب والموسيقي والمطرب بوريس فيان، دار جدال كبير بين كامو وبين موريس ميرلو-بونتي، أحد الفلاسفة المقربين من سارتر، والذي كان قد كتب لتوه مقالا أعلن فيه أن على المرء أن ينحاز إلى أحد الأطراف في الصراعات الضخمة الدائرة في عصره، وأنه لم يكن هناك خيار آخر. ورفض القيام بذلك يعني الانحياز إلى جانب القامع؛ إذ ينبغي للمرء أن ينخرط في شئون البشر. كان هذا درسا من دروس المقاومة؛ لأنه ينطبق على الحرب الباردة، وحض ميرلو-بونتي على الانحياز إلى جانب الاتحاد السوفييتي. أثار ذلك حفيظة كامو، الذي وازن بين كفتي هذا الموقف بالدعم غير المشروط لستالين (وعلى مستوى آخر، بالالتزام بقضية ما، أي قضية)؛ تجادل كامو مع ميرلو-بونتي جدالا عنيفا، ثم اندفع غاضبا إلى خارج الشقة. حاول سارتر وصديق آخر له دون جدوى أن يعيداه لينضم إلى الحفل مجددا، لكن كامو رفض.
كان موقف ميرلو-بونتي بغيضا بالنسبة إلى كامو، الذي كره فكرة أن عليه أن يؤيد جانبا، مجبرا على ذلك بالأحداث التاريخية. كان كامو غاضبا من الألمان «لإجباره على دخول التاريخ»، وكان يفضل أن يتنقل من قضية إلى أخرى، دون أي التزام دائم. ورغم أنه دافع عن مبادئ وأفكار عظيمة، فإنه لم يتقيد علانية قط بإحدى القضايا أو الأيديولوجيات - وخاصة الشيوعية؛ لأنها كانت مرتبطة تاريخيا بالصراع ضد الاستعمار. كما أن العلاقة بين الشيوعية ومناهضة الاستعمار أصبحت أكثر رواجا وتفشيا بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت مسألة الاستعمار مسألة معقدة بالنسبة إلى كامو: لا يمكن اختصارها في مجرد القبول بها أو استهجانها. وبينما كان كامو يعي المظالم الواقعة على العرب ويدينها، كانت الجزائر الفرنسية هي مسقط رأسه، وموطن عائلته كلها وكثير من أصدقائه، وكان مخلصا لها.
بعد هذه الفجوة، لم يتحدث كامو وسارتر إلا في السنة التي تلت ذلك، وكان لقاؤهما مصادفة. كانا يتعاملان بلطف عندما يلتقي أحدهما بالآخر في مناسبات اجتماعية، إلا أن كامو كان يصرح بأن إعجابه بسارتر يقل بمجرد أن يبتعد عنه.
بعد هذا الخصام بقليل، نشر سارتر مقالا افتتاحيا غير موقع في مجلة «لي تمب مودرن» بعنوان «الجلادون والضحايا كلاهما». (أنشأ سارتر مجلة «لي تمب مودرن» في أكتوبر 1945 بعد أن أغلقت مجلة «نوفل ريفو فرانسيز» بسبب تعاونها مع السلطات الألمانية خلال الاحتلال). كان هذا المقال الافتتاحي أول رد فعل علني لسارتر على الحرب الاستعمارية الفرنسية في الهند الصينية، ومثل نقدا مباشرا لمقالات كامو الرافضة للعنف «لا ضحايا ولا جلادون». فيها، قطع سارتر علاقته بكل الأحزاب البرلمانية، وأدان الحرب، وطالب بانسحاب القوات الفرنسية من الهند الصينية. برر مقال سارتر الافتتاحي العنف الثوري، وشبه وجود فرنسا في الهند الصينية بالاحتلال الألماني؛ الأمر الذي أثار سخط العديد من المعلقين، وبالتأكيد حنق كامو. بعدها بسبع سنوات، أي عام 1954، في يوم الهزيمة الكارثية للعسكرية الفرنسية في الهند الصينية، التي انتهت بانسحاب فرنسا من المنطقة، كتب كامو في مذكراته:
8 مايو 1954. سقوط ديان بيان فو. كما في عام 1940، إحساس مختلط من الخزي والغضب. في ليلة المذبحة، كانت النتيجة واضحة. وضع ساسة الجناح اليميني أرواحا مسكينة في وضع لا يحتمل ، وفي الوقت نفسه راح رجال اليسار يطلقون النار عليهم من الخلف.
جاءت مقارنة شعب الهند الصينية بالألمان على النقيض تماما من موقف سارتر. أصبح من الواضح أن سارتر وكامو كانا في معسكرين متعارضين فيما يخص مسألة الاستعمار.
نشب بين الرجلين خلاف آخر فيما يخص مسألة العنف السياسي. في عام 1946 كان كامو قد نشر مقالا قصيرا - بعنوان (القتلة الحساسون) - يتناول فيه الإرهابيين الروسيين الذين حاولوا قتل أعضاء من عائلة القيصر في فترات زمنية مختلفة من أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين. كانت معضلات وأفعال تلك المجموعات الإرهابية بالغة الأهمية لكامو. هل كان من الصواب قتل أعضاء من عائلة القيصر؟ ماذا عن أطفالهم؟ هل كان القتل مبررا بأي شكل؟ ستكون تلك الأسئلة في صميم مسرحية كامو بعنوان «القتلة المنصفون».
بالنسبة إلى سارتر كانت تلك المسائل رجعية وساذجة، أو مصدر إلهاء في أحسن الأحوال. وقد عبر سارتر ببراعة في مسرحيته «الأيدي القذرة» عن رأيه في اهتمام كامو بالإرهابيين الروسيين. حيث يناقش اثنان من قادة الأحزاب، هما لويس وهوجو، الإجراءات السياسية:
هوجو :
في روسيا في نهاية القرن الماضي، كان هناك فتية يضعون القنابل في جيوبهم، ويعترضون طريق الدوق الأكبر. انفجرت القنبلة، ومات الدوق الأكبر وذاك الرفيق أيضا. ويمكنني أنا القيام بذلك.
لوي :
لقد كانوا من دعاة الفوضى. أنت تحلم بذلك لأنك مثلهم؛ مثقف يدعو إلى الفوضى. أنت متخلف عن العصر بخمسين سنة. لقد انقضى عهد الإرهاب.
هوجو :
إذن فأنا غير كفء.
لوي :
على هذا الصعيد، نعم.
سخر سارتر باهتمام كامو، وحقر من شأن هوجو، الشخصية التي تعبر عن آرائه. لكن هذا الانتقاد الأدبي كان ضمنيا، يكاد يكون على الهامش.
رغم ذلك، أدى نشر كامو لمقاله «الإنسان المتمرد» إلى مواجهة شاملة لا مناص منها. ففي مقاله الطويل هذا، شبه كامو الشيوعية بالنازية، وأكد على أنها أدت دون استثناء إلى الاضطهاد والقتل الجماعي أنفسهما. وفي سياق الحرب الباردة، كان ذلك بمثابة وضع حد فاصل. وبمعايير ذلك الزمان، كان هذا يعني الوقوف في صف الولايات المتحدة .
تتسم نظرة سارتر إلى الأمور بأنها أكثر عملية. ورغم أنه أدان الأيديولوجية الستالينية - والاتحاد السوفييتي لاحقا (بسبب غزوه للمجر عام 1956) - فقد أيد الحزب الشيوعي خلال الفترة الأخيرة من حرب الجزائر. كما كان من أوائل الداعمين والمتحمسين للثورة الكوبية، وإن كان قد تراجع عن دعمه عندما سجنت الحكومة الكوبية الشاعر المنشق هربرتو باديلا. كان سارتر مصدوما عندما صدر كتاب «الإنسان المتمرد» عام 1952، ولم يرد أن ينقد كتاب كامو بسبب صداقتهما، رغم ما كان عليه من علات. عوضا عن ذلك، تولى مسألة النقد فرانسيس جانسون، الفيلسوف الفرنسي المقرب من سارتر (الذي سيصبح لاحقا داعما نشطا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية المؤيدة للاستقلال). ولم يكن لفرانسيس جانسون أي وجه تقارب مع كامو، كما كان من الناقدين له في الماضي.
جاء النقد لاذعا؛ إذ أبرز جانسون في البداية أن الكتاب لقي استحسانا من أصحاب اليسار وأصحاب اليمين، وتساءل مجازا عما إذا كان ذلك بسبب أن أفكاره طيعة، أو «قادرة على التطبع بأشكال متباينة». كما لام جانسون على كامو «إنسانيته المبهمة» وانتهى بالإشارة إلى أن كامو ركز في كتابه على نحو شبه كامل على ضحايا الستالينية. فماذا عن ضحايا الأنظمة الغربية، ماذا عن المستعمرين الذين هم أيضا من عمال أوروبا، وماذا عن «عامل المناجم، والموظف الحكومي الذي يعاقب لدخوله في إضراب ...»، والفيتناميين «الذين تجري تصفيتهم» بالنابالم، والتونسيين «المجموعين» في الفيلق الأجنبي؟ كانت هذه خاتمة دفعت كامو إلى موضوع لم يرد التطرق إليه.
استشاط كامو غضبا. فكتب ردا في «لي تمب مودرن»، لكن ليس على جانسون، بل اختار عوضا عن ذلك أن يخاطب سارتر بوصفه الناشر، ملمحا بذلك إلى أن سارتر هو كاتب النقد، أو أنه على الأقل يتحمل مسئولية سماحه بنشره. في رده، رفض كامو أن يناقش نقاط جانسون مباشرة، وضاعف نقده للستالينية، وتساءل لم لا يدين جانسون/سارتر «معسكرات اعتقال» ستالين، متحديا إياهما أن يفعلا ذلك. وكتب أن من المستحيل الاستمرار في النقاش ما لم يلبوا طلبه في الإدانة القاطعة. كما أدان كامو نبرة نقد جانسون، وشكا لاحقا في يومياته: «مناظرة مع لي تمب مودرن. ... باريس غابة، وحيواناتها المتوحشة بائسة.» وتبرم بطرق شتى من «الإهانة»، والتشهير بأخيهم. وفي نهاية المطاف، زاغ رده عن مسألة الاستعمار التي طرحها جانسون، وشكل هجوما معاكسا بالنسبة إلى مسألة الاتحاد السوفييتي.
كان سارتر قاسيا في رده؛ إذ أسهب في ذكر النقائص القديمة الخاصة بنقده الأول لرواية «الغريب» التي كتبها قبل ذلك بعشر سنوات. وبحيوية شديدة، كتب يتساءل إن لم يكن كتاب «الإنسان المتمرد» دليلا كافيا على عدم جدارة كامو كفيلسوف، وعاب عليه «كرهه الجهود الفكرية» ودأبه على عدم قراءة المصادر الرئيسية. كما ذكر سارتر كامو كيف أنه انتقد الستالينية، واستشهد بمقالات افتتاحية من مجلة «لي تمب مودرن» تدين الاتحاد السوفييتي دليلا على ذلك. وأبرز سارتر أيضا استخدام وسائل الإعلام الرئيسية والسائدة الإدانات ضد الاتحاد السوفييتي كوسيلة لتقليل محنة المستعمرين، مكررا ما خلص إليه جانسون ومسهبا فيه. وصرح سارتر أن بإمكانه انتقاد الغرب والشرق كليهما، وسأل كامو مجازا، لم لا يمكنك أنت ذلك؟ ولفت سارتر بعد ذلك الانتباه إلى موقف كامو الغامض في مسألة الهند الصينية، واختتم بأن نشر رد كامو النهائي، وأعلن في الوقت نفسه أن الأخذ والرد قد انتهى من جانبه.
كان هذا الصدع الثاني نهاية صداقتهما الغريبة. إذ لن يتحادثا بعدها أبدا. ولكنهما ظلا يتواصلان تواصلا غير مباشر عبر أعمالهما، وذلك طوال حياتهما. وبعد أزمتهما العلنية، أصبح الانتقاد الموجه إلى المثقف اليساري البرجوازي أحد أركان أعمال كامو المكتوبة، بالإضافة إلى الهجوم على سارتر والوجودية في يومياته.
نتيجة لتلك المخاطبات العلنية بخصوص كتاب «الإنسان المتمرد»، كان سارتر يعد هو المنتصر، وذلك على نطاق واسع؛ إذ تفوق كتابة ودهاء على كامو الذي ترك معزولا. حتى إن كامو فكر مليا - على طريقة الأقدام البيضاء الذكورية - أن يوسع سارتر ضربا، لكنه تخلى عن فعل ذلك؛ لأن سارتر كان شديد النحافة. وتجنب كامو الحي اللاتيني والمقاهي التي يجتمع فيها سارتر ودي بوفوار مع الأصدقاء، بل إنه عزل نفسه عن المجتمع بصفة عامة . وعلى الرغم من أنه توقف أيضا عن الاشتراك في الجدال علنا، فقد تطرق إلى جميع الانتقادات في رد مستفيض بعنوان «دفاع عن الإنسان المتمرد»، الذي لم ينشر خلال حياته.
السقطة
رواية «السقطة» هي العمل الذي شكل أكبر مساحة لخلاف كامو، ليس فقط مع سارتر، بل مع معاصريه أيضا. قصة شخص وحيد يدعى كليمنس، وهو محام سابق عاش في فرنسا، لكنه الآن في منفى فرضه على نفسه طواعية في أمستردام. في حانة متهالكة، تدعى مكسيكو سيتي، يتحدث بلا انقطاع إلى رجل فرنسي آخر، يظل هذا الآخر مجهولا حتى الصفحات الأخيرة من الرواية، حتى يكتشف أنه محام هو الآخر. وإليك كيف التقيا:
هل لي، يا سيدي، أن أعرض عليك العون دون أن يزعجك هذا؟ أخشى أنك قد لا تستطيع أن تعبر عما تريد للفظ الذي يشرف على هذا المكان. الواقع أنه لا يتحدث غير الهولندية. وإذا لم تخولني بعرض مسألتك، فإنه لن يعرف أنك تريد شراب الجن. والآن، يسعني أن أرجو أن يكون قد فهمني؛ فهزة رأسه لا بد أنها تعني أنه أذعن لطلبي.
يلتقي الرجلان خمس مرات، وفي كل لقاء يسترسل كليمنس في الحديث (وكليمنس هو مزيج من اسم كامو، والكلمة الفرنسية «كليمنسي» بمعنى الرحمة)؛ فيستطرد، ويمزح، ويتندر، ويستغرق في التفكير، ويدلي بإفادات عامة عن فرنسا، وعن العالم، وعن النساء، والسياسة، والدين ...
يطلق كليمنس على نفسه لقب «قاض تائب» متخصص في القضايا النبيلة. والقضاة التائبون (كما يجري تعريفهم في الرواية) يشعرون بالذنب بسبب خلفيتهم الاجتماعية وما يتمتعون به من امتياز؛ ولذا يتبنون قضايا المحرومين من حقوقهم كأحد أشكال التوبة، لكنهم ينهمكون في دورهم إلى حد أنهم يصدرون الأحكام على الآخرين. (كتب كامو في يومياته ذات مرة أن القضاة التائبين وجوديون.)
يصف كليمنس نفسه بأنه مدافع عن الأرملة وابنها اليتيم، ويبين أن ممارسته القانونية تتمحور حول مساعدة المظلومين والمساكين والمجني عليهم. مع ذلك، وباعتراف كليمنس نفسه، فإن شفقته تلك أنانية. فيعترف أنه يهرع إلى مساعدة رجل أعمى لمجرد أن يحس بالرضا النابع عن مساعدته. مساعدة الآخرين في رأي كليمنس هي أحد مظاهر نرجسيته، وليست نابعة من كرم حقيقي وأصيل. وخلف هذا الإيثار يكمن زهو وتفاخر: على سبيل المثال، يرفض كليمنس أعلى الأوسمة الفرنسية؛ لأن في رفضه إشباعا أكبر من قبوله للميدالية.
في كل صفحة من صفحات «السقطة» نجد كليمنس يتأمل العديد من الموضوعات. بل إن ثمة انتقادا لفرنسا، حيث يقول إن البذاءة تعد من التسلية على الصعيد الوطني. وفي خضم هذا القدر من «الحكايات والتعليقات الخيالية»، يبرز أحد الأحداث. فبينما يتجول كليمنس في باريس في إحدى الليالي، يسمع صرخة امرأة ألقت بنفسها في نهر السين. تلك هي «السقطة». لكن على الرغم من شخصيته العامة وطريقة تفكيره الإنسانية المزعومة، يبتعد كليمنس عن المكان دون أن يساعد المرأة. يفترض أن المرأة ماتت. وبعد سنتين أو ثلاث، وبينما هو في رحلة بحرية، يرى كليمنس بقعة سوداء في المحيط، ويتذكر المرأة مباشرة؛ ويعي أن عليه أن يواجه ذنبه ويسقط تظاهره بأنه ذو نزعة إنسانية؛ يجب عليه أن يكون نفسه. (ربط بعض المعلقين ذلك بتناقضات كامو فيما يخص الجزائر، حيث عرف عنه توقفه عن نشر كتاباته عنها بعد عام 1954؛ فعوضا عن أن يواجه كامو مشكلة مستعصية، يبتعد عنها رمزيا.)
لكن المشهد الذي يتجاهل كليمنس فيه امرأة تلقي بنفسها في النهر يمكن أن يفسر أيضا كهجوم على سارتر، الذي كان في منظور كامو يتحدث عن مساعدة الآخرين لكن لم يساعدهم على نحو محسوس. في الواقع، وطبقا لبعض النقاد، قد يتطابق الاقتباس الآتي مع مفهوم كامو عن الشيوعية باعتبارها عقيدة عالمية في كتابه «الإنسان المتمرد»: «عندما أستطيع، ألقي بالمواعظ في كنيستي في حانة مكسيكو سيتي، فأدعو الصالحين من الناس إلى الإذعان للسلطة والتماس راحة العبودية في خضوع، حتى ولو تعين علي أن أقدمها إليهم باعتبارها الحرية الحقيقية.» ويستطرد كليمنس: «لقد علمت على الأقل أنني كنت أقف في جانب المذنبين والمتهمين، فقط إلى الحد الذي لن تتسبب فيه آثامهم لي بأي أذى. كانت ذنوبهم تجعلني بليغا؛ لأنني لم أكن ضحيتهم .»
وينهي كليمنس خطابه الطويل بالأسباب التي لأجلها قرر أن ينهي عمله كقاض تائب: «وحين كنت أتلقى تهديدا بدوري، فإنني لم أكن لأصبح قاضيا وحسب، وإنما الأسوأ من ذلك، كنت أصبح سيدا غضوبا يريد - بما هو خارج نطاق القانون - أن يصرع المسيء أرضا ويجعله راكعا على ركبتيه. وبعد ذلك، يا ابن بلدي العزيز، من الصعب الاستمرار في الإيمان جديا بتكريس المرء نفسه للعدالة، وبأنه المحامي الذي قدر له أن يدافع عن الأرملة واليتيم.» تلك العبارة الأخيرة كانت رمزا لنقد كامو للشيوعية؛ إذ حولت البواعث الإنسانية إلى أيديولوجيا تعتزم تغيير العالم.
رغم هذا، سيكون من الخطأ قراءة «السقطة» باعتبارها مقصورة على الهجوم على سارتر؛ لأن كثيرا من جوانب كليمنس أقرب إلى كامو نفسه. فهي تمثل صورة ذاتية بأكثر من طريقة. وقد أفضى كامو بعد أن أنهى مسودة الرواية إلى صديقه والناقد روجيه كيوه بأنه قلق من رد فعل زوجته الثانية فرانسين عند قراءتها المسودة.
مشهد السقطة قريب الشبه من محاولة انتحار فرانسين؛ فطبقا لكيوه، حاولت فرانسين ذات مرة أن تقتل نفسها بالقفز من النافذة. وقد قص كامو تلك الحادثة في رسالة لعشيقته الممثلة الفرنسية الشهيرة ماريا كاساريس. والعديد من تجارب كامو مع النساء وأفكاره عنهن التي عبر عنها في يومياته لها صدى عند كليمنس في رواية «السقطة». حيث يرى كليمنس نفسه أسير الرغبة - ذلك أنه يمل النساء في غير ممارسة الجنس.
تعكس الفقرات الغفيرة الخاصة بالنساء في رواية «السقطة» إجلال كامو لدون خوان في «أسطورة سيزيف» باعتباره النموذج الأمثل للرجل العبثي الذي يعايش «الغبطة» الحقيقية بانتقاله من انتصار إلى آخر. في «السقطة»، يتفاخر كليمنس بأنه يستخدم مختلف الحيل ليحصل على مبتغاه من النساء، ويقر ب «ألا تحصل على رغبتك لهو «أصعب شيء في العالم»». في يومياته يعتبر كامو أن انجذابه إلى النساء علة به، «عبودية». وبالنسبة إلى كليمنس، ثمة رغبة في التحكم في النساء، حتى وإن توقف عن مواعدتهن. يتحدث كليمنس عن أنه يطلب من النساء اللاتي لم يعد يريدهن أن يقسمن بالإخلاص له. ويكتب كامو إلى كاساريس يخبرها أنه عندما يكون كل منهما بعيدا عن الآخر، فإنه يريدها أن تلزم غرفتها ولا تبرحها. من الواضح أن هناك علاقة بين آراء كامو وكليمنس حول النساء.
كانت فرانسين ذات ميول انتحارية - نظرا لعلاقاته الغرامية على أقل تقدير - ويروي كيوه أنها سألته: «أنت دائما ما تندد بمواطن ضعف الآخرين، ماذا عن مواطن ضعفك أنت؟»
وبخلاف زوجته، فإن آراء كامو عن النساء وعن النسوية (التي كان يحتقرها) قادته إلى صدام مع أقرب شخص إلى سارتر: سيمون دي بوفوار، مؤلفة العديد من الروايات والمقالات. كتبت دي بوفوار واحدة من الأعمال المؤسسة للنسوية: كتاب «الجنس الآخر». لدى صدور الكتاب، عبر كامو عن نفوره منه، وقال إنه يهين الرجل الفرنسي. وكانت دي بوفوار في ردها قاسية كسارتر؛ إذ قالت عن كامو «كان لا يقبل اختلاف الرأي؛ وإن رأى شيئا منه يلوح في الأفق، فإنه يسلم نفسه لنوبات الغضب التي تلوح مثل ملاذ له»، وذلك إلى جانب تحيزه الجنسي ضد المرأة كرد فعل على الكتاب. واستطردت: «لديه صورة عن نفسه لا يزعزعها عمل أو حتى وحي». وصفته أيضا بالكسل: «لأنه يطالع الكتب عوضا عن فهمها». وعلى رأس كل هذا، قدمت دي بوفوار في أنجح رواياتها بعنوان «الماندرين»، شخصية إشكالية ومضطربة هي هنري بيرون، الذي كان يؤول على نطاق واسع أنه تمثيل لكامو. وقد أغضبه أن روايتها حصلت على جائزة جونكور، وهي الجائزة الأدبية الأرفع في فرنسا.
استمر التوتر بين كامو وسارتر - وأيضا دي بوفوار - إلى ما بعد الموت. ففي رواية كامو التي نشرت بعد موته بعنوان «الرجل الأول»، كان ثمة فقرات متكررة تصور المثقفين الباريسيين على أنهم جاهلون بحياة طبقة الأقدام السوداء العاملة التي ينتقدونها. وفي تلك الرواية التي تعد سيرة ذاتية إلى حد كبير، رأى كامو المثقفين منافقين يطعنون في الظهر، بل ربما حتى خونة؛ فمن الواضح أنه كان يحتقرهم. ومن الواضح أيضا أن سارتر كان من المقصودين بين آخرين. وبعد سنين قليلة من موت كامو، أدلى سارتر بحديث عن المثقفين في مؤتمر باليابان. وفي التفريق بين المثقف الأصيل والزائف، كتب سارتر يقول:
يقول أولئك المثقفون المزيفون، بينما هم متوارون خلف قيم كونية غامضة ومتغطرسة: «طرقنا الاستعمارية ليست كما ينبغي لها أن تكون، فهناك أوجه انعدام مساواة هائلة في أراضينا الواقعة فيما وراء البحار. لكني ضد العنف بكل أشكاله، وأيا كان منبعه، فلا أريد أن أكون ضحية ولا جلادا؛ ولذا أعارض تمرد الشعوب المحليين ضد المستعمرين».
أشار سارتر بإيجاز وبلاغة إلى أن هذا «الموقف الكوني الزائف» يعني بالضبط أن: «أؤيد العنف الدائم الذي يوقعه المستعمر على المستعمر (من إساءة الاستغلال والبطالة وسوء التغذية، وهي كلها ثابتة في مواضعها بفعل الإرهاب)». كان هذا هجوما صريحا على كامو، وعلى سلسلة مقالاته «لا ضحايا ولا جلادون».
كانت معارضة سارتر للاحتلال الفرنسي للجزائر شاملة ولا هوادة فيها؛ فقد أيد الفرنسيين الفارين من الخدمة العسكرية، وعرف عنه تمنيه هزيمة الجيش الفرنسي. أما كامو فقد قدم تسويات؛ إذ اقترح في البداية نظاما يمنح الجزائر سيادة محدودة، ثم اقترح هدنة، ثم ركن إلى الصمت. لكن الأهم أن أحد الثوابت في حياته العامة كان معارضة استقلال الجزائر. باختصار، كان موضوع الاستعمار في قلب النزاع المستمر بين الرجلين.
الفصل السادس
كامو والجزائر
كان كامو دائما ما يجمع بين المتناقضات فيما يخص استعمار الجزائر، وقد أثر ذلك عليه بدرجة كبيرة. ففي عام 1943، كتب في مذكراته يقول:
الجزائر. لا أدري إن كان كلامي واضحا تماما. لكني عندما أعود إلى الجزائر أشعر بنفس إحساس المرء عندما ينظر إلى وجه طفل. وبالرغم من ذلك، أعلم أنه ليس نقيا تماما.
في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين دافع كامو عن تمرير مشروع قانون بلوم-فيوليت، الذي كان من شأنه أن يمنح الجنسية الفرنسية إلى أقلية صغيرة من الرجال العرب (يصل عددهم إلى بضعة آلاف). فشلت كل الجهود لتمرير مشروع القانون في ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن الحرب العالمية الثانية غيرت كل شيء. خلال الاحتلال الألماني، قبل قادة المقاومة الفرنسية مقترحا - وهو «بيان الشعب الجزائري » - من قادة قوميين عرب، حيث كانوا في أمس الحاجة إلى دعم العرب، وكان من بين هؤلاء مصالي الحاج ممثلا لحزب الشعب الجزائري، والشيخ بشير الإبراهيمي ممثلا لعلماء الدين المسلمين، وفرحات عباس ممثلا لمؤيدي الحكم الذاتي. كان هدف «البيان» هو تأسيس دولة جزائرية مستقلة.
ورغم أن حاكم الجزائر المحتلة قبل «البيان» عام 1943 كأساس لمفاوضات مستقبلية، فقد تراجع لاحقا عن دعمه. كانت الاستجابة الأولية للبيان قد رفعت آمال القوميين الجزائريين. وقد أدى هذا التراجع، مصحوبا بشعور اليأس لدى الشعب الجزائري - الذي يعاني بشدة من القيود الغذائية في زمن الحرب - إلى وضع متأزم.
في بدايات عام 1944، عرض شارل ديجول، الذي كان يشغل حينها منصب رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية - حكومة فرنسا الانتقالية - أن يمرر مشروع قانون بلوم-فيوليت ليصبح قانونا. ولكن، رفض القادة الجزائريون القوميون ذلك لاستشعارهم الضعف. واستمرت السلطات الفرنسية في التقلب في مواقفها: وفي السابع من مارس عام 1944، ألغى ديجول قانون السكان الأصليين على نحو انفرادي (وإن كانت حقوق المساواة في التصويت لم تكن قد أتيحت بعد)، لكن في الخامس والعشرين من أبريل عام 1945، أبعد مصالي الحاج، القائد القومي الجزائري الأقوى شخصية والأكثر راديكالية وجرأة، إلى برازفيل في الكونغو. كانت هذه هي خلفية الشغب الذي اندلع في يوم النصر في أوروبا، والذي انتهى بمذابح سطيف وقالمة. المواطنون الجزائريون الذين عانوا من تقييدات الحرب أكثر من الفرنسيين في فرنسا، والقيادة القومية التي اعتقدت أن الاستقلال أصبح وشيكا وفي المتناول، والشعب الذي ساهم بالآلاف من شبابه في أول الانتصارات الفرنسية على الجبهة الإيطالية - كل هؤلاء أصبحوا الآن غير قادرين على رفع أعلامهم للاحتفال بيوم النصر. كان رد فعل الفرنسيين والأقدام السوداء هو مذبحة حقيقية استمرت لأسابيع؛ ذبح فيها آلاف الجزائريين. أخرت المذابح حركة الاستقلال الجزائرية لعشر سنوات، لكنها كفلت أيضا أنه لدى بزوغها مرة أخرى سيكون زعماؤها أكثر إصرارا وتصميما من ذي قبل. كان السبب الرئيسي لهذا القمع الذي استمر شهرا كاملا هو دولة فرنسية واهنة، تستميت في السيطرة على إمبراطوريتها الاستعمارية بأي وسيلة .
ورغم أن كامو لم يناقش مذابح سطيف وقالمة بالتفصيل قط، فقد كان متحمسا بشأن إبطال قانون السكان الأصليين وتمرير قانون بلوم-فيوليت بحكم الأمر الواقع، رغم أن المذابح الدموية أظهرت أن هذا كان أقل مما ينبغي وجاء بعد فوات الأوان. وقد ناضل كامو بعد الحرب من أجل منح مزيد من الحقوق إلى الجزائريين. فأراد أن يتاح لمزيد من الجزائريين السبيل إلى التعليم، وأن يحصل جميع الخريجين من المدارس الابتدائية على الجنسية الفرنسية، لكنه لم يصل إلى حد المطالبة بحقوق تصويت للجميع. كان كامو يريد أن يكون راعيا للسلام والتسوية، واضعا هدفا واحدا نصب عينيه: أن تظل الجزائر فرنسية. فناشد السلطات في فرنسا في المقام الأول، وكتب في الصحافة أن الجهد المبذول للحفاظ على الجزائر كجزء من فرنسا يتطلب «غزوا ثانيا»؛ بعبارة أخرى، يجب استمالة قلوب الجزائريين وعقولهم.
رغم ذلك، تطلب الوضع تنازلات أكبر، الحقيقة التي كان كامو واعيا بها تماما. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، أصبح من غير الممكن تجاهل مطالبة الشعب المستعمر بحقوقه؛ ظهرت تلك المطالبات على كل المستويات: السياسية، والثقافية، وفي الشوارع. وخلال تلك الفترة، بدأ الواقع الاستعماري الذي ظل مكبوحا لمدة طويلة في الظهور في أدب كامو، حتى انتهى به الأمر في قلب المشهد.
المنفى والملكوت «المنفى والملكوت» هي آخر أعمال كامو الأدبية المنشورة في حياته، وهي مجموعة قصص قصيرة معظمها مشبع ببيئة شمال أفريقيا. تعكس بعض تلك القصص أصداء غضب كامو من سارتر وتداعيات خصومتهما. لكن يحضر في بعضها الآخر وبقوة قلقه المتصاعد من الحس القومي في الجزائر، رغم أنه لم يناقش ذلك مباشرة قط حتى قصة «الضيف».
القصة القصيرة الأولى، «المرأة الزانية»، هي قصة جانين، زوجة بائع أقمشة من الأقدام السوداء. تسافر جانين وزوجها بالحافلة في الصحراء - 200 ميل جنوبي الجزائر - لكي يتمكن زوجها من بيع بضائعه إلى السكان المحليين. يروي كامو القصة من وجهة نظرها وانطباعاتها، بينما يتعمقان فيما يبدو على نحو متزايد أنه أرض غريبة. في البداية، تصف جانين العرب بأنهم جماعة غامضة . تشعر بأنهم يتظاهرون بالنوم؛ لا تحب صمتهم وعدم مبالاتهم. على مدار القصة، تشعر أنها في غربة عن العرب وتعلق على لغتهم، التي سمعتها طوال حياتها لكنها لم تفهمها. تكره «الغطرسة الحمقاء» في عيون عربي ينظر إليها، ويضيف إليها زوجها «يعتقدون أن بإمكانهم القيام بأي شيء الآن». توضح تلك الملاحظات أن إلغاء قانون السكان الأصليين عام 1944 كان يشكل مصدر فزع للأقدام السوداء. هناك فزع أيضا من اضطرابات قادمة. طوال الوقت، تشعر الزوجة بأن كل العرب يحيطون بها، كما لو كانوا قوة جائرة.
في المشهد الأخير، تستيقظ جانين في منتصف الليل، وتتجه إلى الشرفة، تحدق في الأفق، فتأسرها قوى الطبيعة، في لحظة غبطة جوهرية كاموية، لحظة «مثالية يتوقف الزمن فيها». في الوقت نفسه، تتوقف الأصوات الآتية من البلدة العربية. (بعبارات كامو: «كانت العقدة التي عقدتها العادة والملل والسنون تنحل رويدا رويدا.») رمزيا، يختفي العرب. وفي اتحاد بالغ الحدة مع الطبيعة، تتسامى عن البرد، وثقل الآخر، وكآبة الحياة والموت. في النهاية، برجوعها ورؤيتها لزوجها في غرفتهما الصغيرة بالفندق تغلبها دموعها. لقد عايشت لحظة تطهير.
رجوعا إلى كامو، تمثل تلك اللحظات الرمزية من الاندماج مع الطبيعة رفضا قويا للتاريخ البشري. إن تخيله لجزائر غير محددة بزمن وخالية من معظم أهلها هو خيال ناقص يشكل المصدر الوحيد للنعيم القوي والحقيقي - أو الغبطة - لشخصية جانين، وبالتأكيد لكامو نفسه.
يمكن القول بأن «الضيف» أقوى قصص المجموعة. البطل اسمه دارو، وهو معلم من الأقدام السوداء. يعيش في جبال الجزائر في بيته الذي هو أيضا مدرسة. يستقبل دارو في صباح يوم شتوي بارد بالدوكي الذي يصل على حماره، وبالدوكي شرطي محلي صارم ذو قلب عطوف - نسخة من خيار الناس من الأقدام السوداء، الذين كثيرا ما يظهرون في أدب كامو. ويأتي مع بالدوكي عربي محلي متهم بقتل قريبه، يسير على قدميه ومربوطا بحبل إلى الحمار. (وكما في رواية «الغريب»، لا يسمي كامو العربي أبدا.) يتولى دارو دون سابق إنذار مسئولية تسليم الرجل العربي إلى السلطات، وهو لا يرغب في فعل ذلك . لكن بالدوكي يجعل الأمر مسألة ولاء وشرف ليجبره على ذلك، فيضعه في موقف محرج. شعر كامو بالشعور نفسه خلال حرب الاستقلال الجزائرية، عالقا بين مجموعتين متناحرتين دون أي مجال للتعبير عن منظوره الخاص. ولذا، قد يرى البطل دارو تمثيلا لكامو.
وعلى الرغم من أن دارو يصدق ظاهريا ما يقول بالدوكي عن كون الرجل العربي مذنبا، فإنه لا يريد أن يسلم الرجل إلى السلطات. ولا يريد كذلك أن يزعج الرجل العجوز. ولكي يضغط على دارو، يقول بالدوكي إن الحرب على وشك أن تندلع، وإن العرب قد يثورون، وبعدها «سنكون كلنا متورطين». لا يريد دارو أن يكون متورطا، لكن تتداركه الأحداث التاريخية. يتحاور دارو وبالدوكي، وفي النهاية يوافق دارو على مضض أن يوقع على مذكرة تثبت أنه قد تسلم السجين، لكنه لا يعد بأن يسلمه. يخلق هذا صدعا بين الرجلين. وبمجرد أن يغادر بالدوكي، يشعر دارو بالذنب؛ لأنه خيب أمل بالدوكي. دارو عالق مثل كامو بين رغبته في تجنب الصراع وولائه لمجتمع الأقدام السوداء وقربه منه.
دارو عالق بين ولاءين متصارعين؛ فهو حانق على العربي لارتكابه جريمة قتل، ومنزعج من بالدوكي لأمره بتسليم المقبوض عليه إلى السلطات. ولذا، يصل دارو إلى حل وسط في النهاية. يصل بالعربي إلى منتصف الطريق بين المدينة والسجن، ويخبره أن طريق السجن إلى الشرق، وأن الجنوب طريق البدو الذين سيستقبلونه كواحد منهم. وبعد تردد، يتجه العربي شرقا، ويرجع دارو إلى بيته.
يصور كامو دارو رجلا عالقا بين فصيلين، لكنه رجل طيب يحاول أن يكون عادلا. من المفترض أن نشعر بالمشاركة الوجدانية معه؛ الأمر الذي لا يهيئنا للصدمة في الفقرة الأخيرة. فلدى رجوعه إلى غرفة الصف الدراسي، يجد دارو على السبورة كلمات التهديد التالية: «لقد سلمت أخانا. وستدفع الثمن.» إنه محسن وعادل، لكن يسيء الجميع فهمه، وهو وحيد، ويضغط على نفسه بنفسه، والعرب يتهددونه؛ هكذا رأى كامو نفسه في خضم الصراع الجزائري نحو الاستقلال.
انقسم المعلقون في تفسير نهاية القصة: كان التركيز إما على شخصية دارو النبيلة بحق (فهو رغم كل شيء، يرفض أن يسلم العربي إلى السجن)، وإما على غرابة تلك السردية الواقعة في عصر استعماري التي تصور المستوطن ضحية وشخصية عاطفية وحيدة.
هدنة مدنية
كانت الحرب في الجزائر - التي بدأت يوم عيد جميع القديسين عام 1954 - تؤثر على كامو ليس بوصفه كاتبا، ومواطنا فرنسيا، ومنتميا إلى الأقدام السوداء وحسب، بل بوصفه شخصية عامة أيضا. فبعد عامين من بدء الحرب، سافر كامو إلى الجزائر ليلقي خطابا، مناشدة جياشة طلبا للسلام. وهذا هو ما يعرف ب «الدعوة إلى هدنة المدنية في الجزائر».
لم يكن كامو أسير وهم إيقاف الحرب؛ إذ كان هدفه هو التوصل إلى اتفاق بين المجموعتين المتحاربتين لوقف قتل الأبرياء. كان المناخ المحيط بتدخل كامو مناخا عدائيا من جماعات غير متوقعة؛ إذ كان عمدة الأقدام السوداء في الجزائر قد رفض أن يستضيف المؤتمر، وعندما وجد المكان لاستضافته - بفضل مؤسسات جزائرية متهاودة، تولت أيضا تنظيم التأمين - كان بإمكانه سماع صرخات عدائية من الشارع لحشد من الأقدام السوداء: «الموت لكامو! الموت لمنديس-فرانس (وهو رئيس وزراء فرنسا بين عامي 1954-1955، الذي كان مؤيدا لإنهاء الحروب الاستعمارية)! تحيا الجزائر الفرنسية!» في نهاية المطاف، جرى تقصير وقت المؤتمر خوفا من اندلاع أعمال عنف من جانب جماعات الأقدام السوداء.
استهل كامو خطبته بإدانته الفورية للمتظاهرين الراغبين في إسكاته. كانت خطبته إعادة سرد يحرك المشاعر لدافعه ومحنته: «فعلت ما بوسعي طيلة عشرين عاما للمساعدة في التوفيق بين شعبينا». كما أنها كانت أيضا اعترافا بالفشل: «يمكنكم أن تقاطعوني كثيرا، بل أن تسخروا مني»، ثم استتبع كامو، «لكن الحاجة الملحة في هذه المرحلة هي أن نمنع المعاناة التي لا داعي لها».
حاول أن يفصل ما بين قتال الجزائريين من أجل العدالة وبين قتالهم من أجل الاستقلال، الذي وصفه ب «المطامح الأجنبية» التي ستخرب فرنسا بلا شك. فهل كانت تلك إشارة إلى الاتحاد السوفييتي؟ في سياق الحرب الباردة، كان شبح الاتحاد السوفييتي المسيطر حجة كلاسيكية صاغها مؤيدو القوى الاستعمارية للاستمرار في السيطرة على مستعمراتهم. وقد وقع ما يلي محل القلب من حديث كامو: بالنسبة إليه، لا يمكن أن يسمح للقومية الجزائرية بالتعبير عن نفسها رسميا على حساب فرنسا؛ إذ لم يكن الاستقلال الجزائري مطروحا. استمروا في فعل ذلك، وستكون الحرب دائمة؛ هكذا قال كامو لجمهوره الذي يكثر فيه الجزائريون. كما تضمنت رسالته السلمية أيضا تهديدا غير مباشر: إذا لم تلجئوا إلى المفاوضات، فسيستمر القتال إلى ما لا نهاية.
واختتم كامو بمدح أعضاء المجتمع الإسلامي لتنظيمهم المؤتمر، وأخبر مزيج الحضور أن الباعث الذي حشدهم جميعا هو الإنسانية، لا السياسة. يكشف كامو هنا عن سذاجة تكاد تكون محببة إلى النفس؛ في الواقع، كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية هي القوة المنظمة للمؤتمر. وكان عمار أوزقان - وهو صديق كامو وزميله في الحزب الشيوعي في ثلاثينيات القرن العشرين - أحد منظمي المؤتمر. كما أنه كان عضوا في جبهة التحرير الوطنية، وهو ما كان يجهله كامو. وكان هدفه هو ضم كامو إليها، وإقناعه بأن الثورة لها مبرراتها.
بعدها بسنوات عديدة سيوضح أوزقان قائلا: «كانت الهدنة المدنية وسيلتنا [جبهة التحرير الوطنية] إلى مساعدة الصادقين، أعداء الظلم المعادين للعنف، لتفتيح عيونهم، ولكي يدركوا مع الوقت أن جبهة التحرير كانت على صواب». فهل حازت جبهة التحرير فرصة إقناع كامو؟ هذا الأمر كان مستبعدا بشدة، لكن لا شك أن إلقاء كامو خطبته الداعية إلى السلام، وهو محاط بمئات من الأقدام السوداء يهتفون بموته، كان يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح بقدر ما يعني لجبهة التحرير؛ إذ كان بالنسبة إليهم بمثابة ضربة مفاجئة على مستوى العلاقات العامة.
تعد تلك اللحظة علامة على موقف كامو الإشكالي والمبهم، النابع من مزيج من رغبته الصادقة في السلام وعجزه عن إدراك مدى الظلم الذي يعانيه الجزائريون طوال فترة الاحتلال الفرنسي. يتذبذب كامو بين القومية والإنسانية، محاولا على نحو يائس أن يشكل المزج المستحيل بينهما.
وفي خطاب إلى صديق مقرب له بعد المؤتمر، كتب كامو: «رجعت من الجزائر مكتئبا بشدة. ما يحدث يثبت قناعاتي. الأمر كله بالنسبة إلي «محنة شخصية».» والمحنة هي مقابل المنحة والغبطة ؛ إذ كان هذا بمثابة مأساة وفاجعة شخصية في نظر كامو (شكل
6-1 ).
شكل 6-1: كامو مكتئبا.
على مدار حياته، أخفى كامو أصوله المتواضعة المنتمية إلى الأقدام السوداء بأشكال متعددة؛ بطراز ملابسه منذ كان مراهقا، وبأسلوب وموضوع أعماله الثلاثة الكبرى الأولى (كانت مواضيعها إنسانية)، حتى في تركيزه على إسبانيا، البلد الذي حصل علنا على معظم اهتمامه من المنظور السياسي (وليس الجزائر)، والذي كان بمثابة مكان مثالي يستطيع فيه المزج بين أصوله الإسبانية وقضية تقدمية. لكن في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، ومع الخطر المحدق على وجود الجزائر الفرنسية، لم يكن أمام كامو خيار آخر غير أن يتطرق إلى جذوره، وأن ينحاز إلى جانب في الصراع الجاري، كما في روايته المنشورة بعد موته، «الرجل الأول». ولذا قد تكون هذه الرواية هي أفضل تقديم لأعماله؛ لأنها توضح ما يقع في صميم رفضه للتاريخ وما يدفعه إلى تبجيل الطبيعة.
ما يتكشف من أدبه، لكنه كان حتى تلك اللحظة مستترا أو خفيا على الدوام، هو الدفاع العاطفي الصريح عن المستوطنين الفرنسيين، وعن الجزائر الفرنسية؛ إذ إنه بمثابة مجاهرة وانكشاف، كقناع يسقط: لا شيء أكثر أهمية إلى كامو من وجود فرنسا في الجزائر. تلك هي قصة النشأة الخفية لأعماله والتزاماته ونظرته إلى العالم، بل حتى حبه للطبيعة. وكتابه الأخير بعنوان «الرجل الأول» هو التماس صادق من رجل يشعر أنه لا يملك شيئا ليخسره، لا شيء ليخفيه بعد الآن. إنه مفتاح جميع أعماله.
تقع معظم أحداث روايته غير المكتملة في الحرب. ثمة إحساس واضح أن الجزائريين سيستردون أرضهم، وفي بؤرة أحداث القصة تغلب مشاعر القلق والخوف والغضب من جانب المستوطنين. يحاول كامو أن يبرر الوجود الفرنسي بالجزائر: يتعامل مع الوضع الاستعماري من موضع غير مسبوق، من موضع ضعف. الحرب هي أسوأ مخاوف كامو التي تتحقق. تعد الرواية نفسها سيرة ذاتية إلى حد كبير، إنها قصة رجل من الأقدام السوداء يدعى جاك كورمري، الذي يعيش الآن في فرنسا. (أحيانا كان كامو يسميه ألبير في مسودة الرواية، وكورمري هو اسم عائلة جدته لأبيه.) ويتناوب سرد جاك بصيغة المتكلم مع حوارات تدور بين المستوطنين وذكريات طفولة جاك. وعندما يعود جاك - الذي يعيش في باريس - إلى وطنه، يواجه غضب المستوطنين وخوفهم وامتعاضهم من صعود القومية العربية. تقدم الرواية حوارات طويلة بين مستوطن متضرر وآخر معاد للعرب أقل تعنتا، إلى جانب الراوي الذي يحاول أن يجعلنا نفهم سبب غضب المستوطنين.
يقع أحد الحوارات عندما يتذكر ليفسك - وهو صديق والد جاك - خدمتهما في الجيش الفرنسي عام 1905 لمحاربة المغاربة. إذ يقول والد جاك عن المناضلين المغاربة لدى اكتشافه لجثة جندي فرنسي مشوهة جرى وصفها بإسهاب: «يمنع المرء نفسه. ذاك هو ما يفعله المرء، بخلاف ذلك ...» ثم هدأ ... ثم صاح فجأة: «جنس قذر، يا له من جنس، جميعهم، كلهم ...»
تتماشى تلك الفقرة مع كثير غيرها في الرواية، حيث ينفي معظم الحوار آدمية العرب. أفعال العرب ضد الغزاة الفرنسيين مذكورة بالتفصيل، بينما يكتفى بالتلميح وحسب إلى جرائم الأوروبيين. نهاية هذه الفقرة رمزية أيضا؛ لأنها تنتهي بحكم قاطع على سلالة بأكملها صادر عن شخصية الأب، الذي تضفى عليه صفة المثالية على مدار الرواية. وتقدم صرخته العنصرية للقارئ باعتبارها ردة الفعل «المفهومة» للضحية. يضمن كامو أيضا محاولات لتفسير ما يطلق عليه السارد رهاب المستوطنين من الغرباء: «البطالة ... كانت أكثر ما يخشى [من جانب الأقدام السوداء] من الشرور. أوضح هذا أن العمال - الذين يكونون دائما أكثر الرجال تسامحا في الحياة اليومية - كانوا دائما يرهبون الغرباء في مسائل العمل، ويتهمون الإيطاليين والإسبان واليهود على التوالي، وكذلك العالم كله في نهاية الأمر، بأنهم يسرقون منهم عملهم - وهذا بلا شك موقف محير للمثقفين الذين ينظرون على طبقة العمال، لكنه مع ذلك موقف إنساني ومبرر تماما.»
لا يعترض كامو على عنصرية الأقدام السوداء في الجزائر الفرنسية، لكنه عوضا عن ذلك يبررها. ويستخدم مشاغل الطبقات الاجتماعية ومخاوفها (كالبطالة) كتفسير لرد الفعل الذي ينم عن رهاب الغرباء من جانب المستوطنين. ومن خلال الراوي نجد العنصرية هنا جزءا من الطبيعة البشرية، كرد فعل يمكن فهمه من شخصيات محببة تماما. هنا يستخدم كامو أيضا أصوله المتواضعة كسلاح، فيستدل أحيانا أن تلك الأصول تقدم له وعيا وأصالة يفتقر إليهما بعض المحاورين الآخرين من ذوي الخلفيات الأكثر امتيازا. وهذه إشارة أخرى إلى سارتر.
لربما كان من الغريب أن الخصم الرئيسي لهذا الدفاع عن الجزائر الفرنسية ليس المتمرد أو الثائر العربي، بل اليساري الفرنسي المعادي للاستعمار. في فقرة أخرى ذات دلالة، يقتلع مستوطن، لديه بستان عنب، الكروم من أرضه ليضمن ألا يتمكن العرب من الانتفاع بها بمجرد أن يستردوا أرضهم. وعندما يسأله كورمري عما يفعل، يجيب المستوطن بما يفترض أن يكون سخرية لاذعة: «أيها الشاب، بما أن ما قمنا به جريمة، فيجب أن نمحوها.»
يصور كامو صاحب الأرض كشخصية مأساوية: رجل مذهل يعمل بجد، عجوز من الأقدام السوداء، واحد من الذين «يهانون في باريس». لكن تدمير بساتين العنب هذا يعود بالذاكرة إلى أكثر الساعات إظلاما في تاريخ غزو فرنسا للجزائر، في عام 1840 عندما وافق صديقا ألكسي دي توكفيل، وهما الجنرال دي لاموريسيير والحاكم العام المستقبلي للجزائر بيجو، على الإتلاف المنظم للمحاصيل باعتباره سياسة «لمنع العرب من التمتع بثمار حقولهم». كان اقتلاع أشجار الزيتون وتدمير الحقول أو الاستيلاء عليها لحظة محورية في غزو فرنسا للجزائر. وبما أن الفرنسيين مجبرون على ترك تلك الأرض المغزوة، فإنهم راحوا يدمرون مرة أخرى الأراضي المزروعة، لكن هذه المرة يصورهم كامو على أنهم ضحايا للظلم.
تصبح هذه الرواية الأخيرة وغير المكتملة، «الرجل الأول»، منبرا للتعبير عن امتعاض المستوطنين البيض. والامتعاض من العاصمة الإمبراطورية خاصة (السلطة المركزية الباريسية، ومن فرنسا عامة) حاضر دائما، على سبيل المثال، في هذا الحوار بين الشخصية الرئيسية - الأنا الأخرى لدى كامو، متمثلة في كورمري - ومزارع من الأقدام السوداء الذي يخبره: «أرسلت عائلتي إلى الجزائر العاصمة [لأجل سلامتهم] وسأموت هنا. إنهم في باريس لا يفهمون هذا.» يبغض المزارع العاصمة الإمبراطورية لدرجة أنه يعبر عن احترام أكبر للعرب الذين يعارضون حكمه بعنف. ويوصي مالك المزرعة مزارعيه العرب بالانضمام إلى المقاومة الجزائرية لأنه «لا يوجد رجال في فرنسا»؛ أي إن الأقدام السوداء سيهزمون بسبب ضعف الحاضرة فرنسا. هذا هو مصدر يأس المستوطن الأبيض: يشعر بتخلي باريس عنه، ونتيجة لذلك يستسلم لصعود المقاومة الجزائرية.
من الأفكار الأخرى المهيمنة والمتكررة في هذا العمل التصوير المثالي لفترة زمنية سبقت الوجود البشري. ذلك أن كامو يرى نفسه - من خلال كورمري - ممزقا بين عالمين يفصلهما البحر المتوسط؛ هما أوروبا والجزائر:
يرسم البحر المتوسط حدود عالمين بالنسبة إلي، أحدهما فيه الذكريات والأسماء محفوظة في مساحات محددة، والثاني تمحو فيه الرياح والرمال آثار الإنسان على امتداد مساحات شاسعة.
أي إن الجزائر هي المكان بلا ذكريات، بلا آثار للإنسان. هنا يساوي كامو مرة أخرى بين فكرة إخفاء الهوية والجزائر (ومن ثم مع الجزائريين)، لكنه أيضا بمقياس أخلاقي يساويها مع مكان لا أهمية للتاريخ البشري فيه، الأمر الذي يسمح ليس فقط بمحو ماضي السكان الأصليين، بل الماضي الاستعماري القريب أيضا.
عنوان الرواية هو أيضا احتكام إلى ماض من نوع مختلف. فالتضمينات من الكتاب المقدس واضحة، ومن المثير للاهتمام أن كامو فكر أن يسمي الشخصية الأولى آدم. هذا جزء من خيال الأقدام السوداء أو المستعمر الذي لا يجري التعبير عنه، لكنه موجود وحاضر؛ فكرة أن أحدا من قبله لم يكن موجودا على تلك الأرض - في تشابه كبير مع آدم وحواء. تلك رؤية للعالم تضع المستوطنين الأوروبيين والأسطورة الأوروبية تباعا في قلب الأشياء كلها. على سبيل المثال، يصف كامو الشخصية الرئيسية بأنها مولودة «على أرض بلا أجداد ولا ذكريات ... حيث لا يجد العجزة أي راحة من الكآبة، التي يتلقونها في البلاد المتحضرة ...»
بطريقة كاموية محضة، يدرك كورمري كنه نفسه كجزء من الطبيعة في تيار وعي طويل، والذي تقرر أن يكون نهاية الرواية:
مثل موجة وحيدة تتحرك دائما وقدرها أن تتحطم مرة واحدة وللأبد، مثل ولع خالص بالحياة في مواجهة الموت التام، شعر [هو] بهروب الحياة والشباب والكائنات منه دون أن يسعه فعل أي شيء تجاهها، وبأنه مهجور وحيدا إلا من صحبة ذلك الأمل الأعمى أن تلك القوة الغامضة ، التي سمت به لسنين طويلة فوق الأيام، وعضدته على نحو يفوق الوصف، على قدر أحلك الظروف، أن تلك القوة ستكون في عونه ومدده، وسيكون منبع ذلك السخاء الدءوب نفسه الذي منحته منه أسبابا لعيش الحياة، وبعض الأسباب للتقدم بالعمر والموت متمردا.
تلك «القوة الغامضة» هي فكر كامو بكل قدراته ومحدودياته؛ تلك القوة هي رفض للذكاء، وفي الوقت نفسه عودة إلى الطبيعة: إنه جزء من الكل الأكبر، موجة في البحر. هذا الاتحاد مع الطبيعة ساعد كامو من قبل في التسامي عن الوقائع الاستعمارية والهرب منها. لم يعد هذا ممكنا؛ نحن متروكون مع توسل كامو المؤثر والعاطفي أن تأتي تلك القوة وتنقذه، حتى في الهزيمة. إن إدراك كامو أن حلم العودة إلى «الأيام الخوالي الطيبة» هو وهم خداع؛ لقد تهدم خياله الاستعماري الذي يرى الفرنسيين «سكانا أصليين للجزائر». إن فزع كامو ها هنا طاغ.
كما تحطم أيضا حلمه بعالم تحكمه الطبيعة بدلا من المجتمع في أول رواية منشورة له. بالعودة إلى رواية «الغريب»، يمكننا أن نرى أن العربي لقي حتفه ليس فقط لأنه شغل منطقة ميرسو المميزة للتواصل مع البحر والشمس، لكن أيضا لأنه أعلن حتمية ثورة «الآخر» العربي. تعكس رواية «الرجل الأول» رغبة مضطربة في إنكار هذا الواقع الجديد (اندلاع حرب استقلال الجزائر) (انظر شكل
6-2 )، وكذا الحداد المديد على النظام الاستعماري القديم.
شكل 6-2: احتفالات النصر في الجزائر العاصمة في نهاية حرب الاستقلال الجزائرية.
على مدار عمله الأخير، كان كامو ممزقا بين ميوله الإصلاحية والواعية اجتماعيا ورغبته المتناقضة في أن تبقى الجزائر مقيدة بفرنسا للأبد. ومن ثم، يحاول النص أن يضفي الشرعية على احتلال فرنسا للجزائر بطرق هي الأكثر إثارة للاهتمام. فعوضا عن محاولة نقاش مهمة نشر الحضارة الفرنسية (وهي حجة شهيرة استخدمتها فرنسا لقرون)، أو الحاجة إلى الاستعمار للحفاظ على وضع فرنسا كقوة عظمى (منظور سياسي واقعي أوضح استخدمه كامو أحيانا)، يصف كامو مستوطني الأقدام السوداء بالثوريين. وأصبحت هذه الحجة الجديدة، التي طورها في رواية «الرجل الأول»، هي المحاولة الأخيرة من جانبه لحل هذا التناقض.
يكتب كامو أن المستوطنين الأوائل للجزائر كانوا جزءا من الثورة الفرنسية عام 1848، خاصة أنه يقر أنهم كانوا ضحايا للقمع المعادي للثورة الذي وقع في يونيو من السنة نفسها، ونتيجة لذلك رحلوا إلى الجزائر. رغم ذلك، يعترض مؤرخون على فكرة أنه كانت هناك طبقة عاملة فرنسية ثورية في الجزائر. فطبقا للخبير الرائد في هذا الصدد، وهو المؤرخ شارل-أندريه جوليان (1891-1991)، أصبح العمال الفرنسيون أنفسهم الذين تركوا فرنسا متجهين نحو الجزائر بعد قمع يونيو 1848؛ قامعين: «العمال والحرفيون الذين نجوا من أيام يونيو لعام 1848 ... كانوا هم الأشد قسوة مع العرب.»
حاول كامو استدعاء النضال الثوري عام 1848 ليشرعن وجود المستوطنين الفرنسيين في الجزائر. وتلك الفكرة غريبة على كامو، الذي يرفض عادة اعتبار التاريخ البشري إطارا مرجعيا. رغم ذلك، كان كامو مستعدا إلى أن يبطل كل شيء في سبيل قضية الأقدام السوداء، حتى معتقداته الخاصة ومبادئه اللاتاريخية.
رواية «الرجل الأول» هي قصيدة معبرة ودفاع عن الأقدام السوداء. إنها عمل مأساوي، حيث يواجه كامو لأول مرة تناقضه ويحسم اختياره لصالح الجزائر الفرنسية، كما كتب في يومياته في مايو لعام 1958:
مهمتي هي أن أكتب كتبي، وأن أقاتل عندما تكون حرية عائلتي وشعبي في خطر. ولا شيء بخلاف ذلك.
كان التعبير الرمزي أيضا لاختيار كامو لجذوره على حساب العدالة «صرخة من القلب»، صرخ بها خلال مؤتمر صحفي في ستوكهولم بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للآداب. وعندما هاجمه مناضل من جبهة التحرير الوطني لتبنيه قضية الأوروبيين الشرقيين لا الجزائريين، كان رده: «أنا أومن بالعدالة، لكني سأدافع عن أمي قبل العدالة.» كان ردا غريبا؛ لأنه يعترف ضمنيا أن النظام الاستعماري الفرنسي لم يكن عادلا. بعبارة أخرى، كان رد كامو دفاعا عن أمه، لكنه اعتراف أيضا أن قضية جبهة التحرير عادلة. كان كامو منكسرا على المستوى الشخصي بسبب الأحداث في الجزائر، كما كتب في مذكراته: «... الجزائر تتملكني. لكن فات الأوان، فات تماما ... فقدت أرضي، ولن تكون لي قيمة.»
لم يكن كامو قادرا على تصور استقلال الجزائر، ولا أن يتصور نفسه منفصلا عن الجزائر الفرنسية. كان هذا الأمر «خطه الأحمر في الرمال»: الحد الذي ينبغي ألا يتخطى، الحد المحظور المطلق. كانت الجزائر جوهرة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية، كانت شديدة الأهمية إلى حد أن السلطات الفرنسية اعتبرتها جزءا من فرنسا. لم يكن الغزو مجرد غزو عسكري، بل إداري أيضا. كان كامو جزءا لا يتجزأ من الجزائر المستعمرة، وينتمي إليها، ولم يكن في استطاعته العيش دونها. لكن المعضلة في رأي كثير من المعلقين والقراء أن ما يبقى هو إدراك أن كامو يستخدم الخطاب الإنساني بأسلوب مقنع في دعمه سيادة فرنسا على الجزائر. هذا التناقض مزق كامو إربا في حياته، لكن لا يزال الوهم بأنه تغلب عليه باقيا.
لكن كامو تغلب عليه بالفعل عند مستوى ما. ففي عام 1956، حيث أصبح الاستقلال الجزائري وقتها احتمالا شديد الواقعية، قدم كامو مشروع تسوية أكثر طموحا. أراد أن يعطي الجزائريين استقلالا ذاتيا شبه كامل بنظام المجلسين التشريعيين. سيكون ثمة برلمانيان، أحدهما للجزائريين والآخر للمستوطنين الفرنسيين، وستكون السلطة مشتركة على نحو متساو إلا في مجالين اثنين، هما العسكري والاقتصادي، اللذان سيظلان في نطاق اختصاصات الفرنسيين. ستكون النتيجة تفويضا بإدارة يومية للجزائريين. ورغم أن كامو أساء تقدير توازن القوى بين الجانبين الجزائري والفرنسي، فقد كان ما قدمه للجزائر هو تسوية تشبه في جوانب عديدة الوضع الحالي للعديد من المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا، والتي تتشارك رغم سيادتها عملة تخضع لسيطرة باريس، وتشكل موضع مصالح اقتصادية فرنسية مهمة بالإضافة إلى قواعد عسكرية فرنسية. هذا التشابه بين مشروع كامو للجزائر وما ظهر اليوم في معظم الدول الأفريقية المتحدثة بالفرنسية، يفسر جزئيا لماذا أصبح كامو نفسه مصدر الشرعية الثقافية لواقع الاستعمار الجديد في الوقت الحالي، ولماذا تعلن العديد من الشخصيات السياسية والثقافية الغربية حاليا وتزعم أنه واحد منهم.
الفصل السابع
إرث كامو
في أحد أيام أكتوبر عام 1957، وبينما يتناول كامو غداءه، اكتشف أنه حصل على جائزة نوبل للآداب. لم يكن حينها قد أتم الرابعة والأربعين من عمره، ليصبح بذلك ثاني أصغر فائز بالجائزة بعد روديارد كيبلنج. كان رد فعله الأول هو قوله إن أندريه مارلو - مثله الأعلى ومعلمه - يستحقها أكثر منه. كان عام 1957 فترة توتر شديد بالنسبة إلى كامو، الذي أراد أن يبقى بعيدا عن دائرة الضوء بينما كانت حرب الاستقلال الجزائرية مشتعلة، فوضعته الجائزة تحتها مرة أخرى. كان ثمة العديد من المقالات في الصحافة عن الجائزة. وكان كثير منها إيجابيا، لكن كان ثمة هجمات من الصحافة الشيوعية ومن نقاد آخرين أيضا، بمن فيهم صديق كامو السابق ومعلمه باسكال بيا. وتساءل بعض المعلقين بالفعل عن سبب عدم فوز مارلو بالجائزة.
في ستوكهولم لاستلام الجائزة، احتفت اللجنة والوجهاء المحليون بكامو، لكن وكما رأينا، تحداه أيضا طالب جزائري في إحدى الجلسات النقاشية. فسر مناصرو الجزائر الفرنسية رد كامو الشهير الذي يضع حب الابن لأمه فوق العدالة بأنه إدانة للإرهاب، وفسره مناصرو الاستقلال الجزائري بأنه دفاع عن النظام الاستعماري. خلق هذا لغطا عظيما، وأصبح جدالا عالميا؛ وهو آخر ما كان يبغيه كامو.
مات كامو بعدها بعامين فقط في حادث سيارة. لربما كان سيقول إن موته بلا معنى، وإن كان يقدم بالفعل لمحة عن حياته الشخصية. وقع الحادث في طريق العودة إلى باريس من بيته الريفي بلورمارين جنوبي فرنسا. كانت خطته في الأصل هي السفر بالقطار مع زوجته وطفليه، لكن عوضا عن ذلك وافق على أن يصحب الناشر ميشيل جاليمارد - الذي مات بعدها بأيام متأثرا بإصاباته - وزوجته جانين، وابنته أنوشكا - اللتين كتبت لهما النجاة. حتى وقت الحادث، كانت رحلة لطيفة استغرقت يومين، في سيارة ميشيل الرياضية الجديدة، وتوقفوا خلالها مرتين في مطاعم حائزة على نجمة ميشلان.
قبل أن يغادر كامو صوب باريس، كتب العديد من الخطابات، من بينها ثلاثة إلى عشيقاته وقتها: عارضة الأزياء الدنماركية ميت إيفرس، التي أطلق عليها «مي»، وكاثرين سيللرز، التي مثلت في إحدى مسرحياته؛ ويقال إنها حب حياته الكبير، وماريا كاساريس. وقد أخبر كلا منهن بميعاد وصول مختلف. أسفر هذا الجانب من حياة كامو عن العديد من الأعمال المنشورة، التي تتضمن تقريرا بحجم كتاب عن أيامه الأخيرة ومجلدا ضخما عن مراسلاته الخاصة مع كاساريس، والذي نشر عام 2017، ويغطي أحداث خمسة عشر عاما، ويحوي ما يقارب تسعمائة خطاب، وملاحظات، وبرقيات. (بعد ستين عاما تقريبا من وفاته، أصبح هذا المجلد من أعماله الأكثر مبيعا في فرنسا.) هكذا كانت أهمية كاساريس في حياة كامو، حتى إنه يقال إن فرانسين نفسها أعربت عن قلقها على صحتها وسلامتها يوم جنازته.
في الرابع من يونيو لعام 1960 وخلال الأيام التي تلته، كل ما كان مهما هو أن كامو مات، وكان ذلك مأساة على المستوى القومي. علق موظفو الإذاعة الفرنسية - الذين كانوا في إضراب في ذلك الوقت - حركتهم مؤقتا للسماح بإعلان الخبر. شاركت كاميرات التليفزيون، والعديد من المراسلين، وبالطبع الأصدقاء والعائلة، في الجنازة في لورمارين. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، خصصت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالا عن «موته العبثي».
وأثيرت مسألة إرثه على الفور. وعندما وجدت مخطوطة مسودة رواية «الرجل الأول» في حطام الحادث، تحفظت عليها السلطات في البداية بأمر من مارلو، ثم أعيدت إلى عائلته. وبعد مداولات طويلة بين الأصدقاء المقربين، بمن فيهم الشاعر رينيه شار وجان جرينييه والروائي لويس جيليو، تقرر عدم نشر الكتاب في حينها، حيث اعتقدوا أنه قد يكون مهيجا سياسيا في خضم حرب أهلية جزائرية.
كان كامو مشهورا في الوقت الذي مات فيه، ويرجع هذا جزئيا إلى حصوله على جائزة نوبل والمقابلة التي أجريت معه بشأن الجزائر في المؤتمر الصحفي الذي تلا ذلك، لكنه لم يكن محبوبا أو مقبولا من قبل الجميع. بعد موته فقط أصبح أكثر من مجرد كاتب مشهور، أصبح ظاهرة ثقافية. فوصلت شعبيته إلى مستوى جديد بداية من سقوط الاتحاد السوفييتي. وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، وأصبحت رواية «الغريب» أحد عمد المناهج الدراسية في العديد من المدارس الثانوية في جميع أنحاء العالم الغربي. وتحولت العديد من رواياته وقصصه القصيرة إلى أفلام، وعرضت مسرحياته حول العالم، وثمة روايات معدلة مصورة عن أعماله، بالإضافة إلى منشورات بحثية عديدة. وكثيرا ما يقتبس السياسيون من كل الأطياف عن كامو ويورده الباحثون في غالب الأمر ليدعموا مجموعة متنوعة من المواقف عادة ما تكون متناقضة. وتعد راوية كامو الأكثر شهرة - «الغريب» - مصدر إلهام مباشر لإحدى أغاني البوب، وثمة كاتب جزائري خط رواية كاملة تكملة لها.
فما الذي في أعمال كامو يجعلها تلهم العديد ليقتبسوا منها، ويناقشوها، ويستخدموها باعتبارها مصدر إلهام لتأليف الكتب والأفلام والأغاني؟
الاستشهاد بمقولات كامو وأفكاره
أحد التفسيرات الممكنة لشهرة كامو في الوقت الحالي هي أن الطبيعة المجردة لفكر كامو تجعله قابلا للإحالة والإسقاط. فهو يتحدث عن وعي مجرد بالطبيعة والفناء، لكنه لا يخبر قراءه ماذا يفعلون بذلك الوعي. ولا تتبع كتاباته أي نظام عقائدي بعينه. لا يتبنى كامو مشروعا بعينه ولا أيديولوجية بعينها، ولعل ذلك يفسر شيئا من شهرته.
لا شك أن تلك الطبيعة المجردة تفسح المجال أمام محاولات «الاستشهاد» بكامو، لكنها تقود أيضا إلى قدر كبير من سوء الفهم. بعد نشر «الإنسان المتمرد»، كانت إحدى أكثر القراءات المغلوطة لفتا للأنظار هي تلك التي جرت في العالم العربي، حيث أسيئ فهم عمل كامو على نطاق شاسع باعتباره سارتريا، أو بيانا ثوريا مؤيدا للقوى الرافضة للاستعمار. أثنى أحد الباحثين من السكان الأمريكيين الأصليين، الذي يحظى بتقدير كبير - وهو فاين ديلوريا - على فقرات لكامو في كتاب «الإنسان المتمرد»، تمجد الطبيعة وتعليها على التاريخ البشري، رغم أن كامو فضل المكان (الطبيعة) على الزمان (التاريخ)، ليس بسبب حبه للطبيعة في ذاتها، بل بسبب أنه رأى أن التاريخ البشري يقود حتما إلى تحرير السكان الأصليين؛ ومن ثم زوال الجزائر الفرنسية. تبنى كامو بالطبع العديد من القضايا علانية على مدار حياته، لكن كان ذلك على أساس كل حالة على حدة، وهو ما أدى إلى تفسيرات متعددة ومختلفة لتلك الالتزامات القصيرة الأجل. فوصف كامو بأنه إنساني، ومن دعاة الفوضى، ومعاد للشيوعية، وديمقراطي اجتماعي، ومن مؤيدي الاستعمار، بل معاد للاستعمار.
ومع ذلك، ليست أفكار كامو والتزاماته وحدها هي ما تجعله اليوم عرضة لكثير من التأويلات المختلفة، لكن شعبيته العريضة أيضا. فكامو لا يساء فهمه بقدر ما يستشهد به. وقد صرح المنظر المحافظ نورمان بودهوريتز علنا بأن كامو «يستحق أن يستشهد به». وتمثل حقيقة أن الوسط السياسي كله يستشهد بكامو دليلا على الفرص التي تقدمها كتاباته لكثير من المتشوقين إلى إقران اسمه بقضيتهم، وذلك ليس فقط من جانب الأحزاب السياسية الكبرى، بل أيضا من جانب المثقفين العرب الراديكاليين، وكذلك اللاسلطويون الفرنسيون. ينشر عدو كامو القديم - وهو الحزب الشيوعي الفرنسي - جريدة يومية كثيرا ما تقتبس منه في صفحتها الأولى.
للسياسيين الفرنسيين دور رئيسي في هذه الممارسة كما قد يتوقع المرء، حيث استهلت مارين لوبان زعيمة الجبهة القومية المنتمية إلى اليمين المتطرف في يناير 2015 مقال رأي افتتاحيا في صحيفة «نيويورك تايمز» بالاقتباس من كامو. ويحاكي إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي المنتمي إلى حزب الوسط، تعبيرات كامو المجازية، كما تظهر طبعة فاخرة لأعمال كامو الكاملة في صورته الرسمية كرئيس، والتي تظهر في كل مكتب لرئاسة البلديات في فرنسا. وكان كاتب خطب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عادة ما يقتبس من كامو. وفي عام 2009، اقترح ساركوزي أن ينقل رفات كامو إلى مقبرة العظماء «البانثيون»، مثوى رجال الجمهورية الفرنسية العظام. وقد نشأ خلاف رفض خلاله جين بن كامو المقترح؛ الأمر الذي منع نقل الرفات.
يزخر الوسط السياسي بسياسيين من جميع الأطياف ممن يستشهدون بكامو: يصر اللاسلطويون الفرنسيون، على وجه التحديد، على تصوير كامو واحدا منهم؛ على سبيل المثال، ثمة موجز لمجموعة مقالات أعدها زعماء اتحاد اللاسلطويين الفرنسي بعنوان «كتابات ليبرالية»، الذي يشير بالفرنسية إلى جديلة من اللاسلطوية، ويحوي مقالات قصيرة لكامو. وقد امتدح الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي كامو علنا باعتباره نصيرا للثورة. في الوقت نفسه، سمح الرئيس الأمريكي جورج بوش بأن يعرف عنه أنه قرأ رواية «الغريب» في صيف عام 2006 (في خضم حرب العراق).
هكذا، يقدم الساسة الغربيون نسخة مبسطة لكامو، التي هي الوجه الآخر لرؤية كامو ثوريا، والتي قدمها المثقفون العرب ومجموعات اللاسلطويين الفرنسيين في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين. ويشكل كامو دعما نافعا للإنسانية التي تسهب بالتصريحات الكبرى لكنها تفتقر إلى التفاصيل؛ لأن كامو عندما كتب عن السياسة كان معظم الوقت عازفا عن تبني مواقف واضحة.
رفض كامو أن يختار علنا بين مناصري الجزائر الفرنسية وبين مناصري جبهة التحرير المؤيدة للاستقلال. ويفسر موقفه الساعي إلى التسوية ولو جزئيا سبب شعبيته عند القادة الغربيين، الذين تدخلوا عسكريا واقتصاديا في شئون المستعمرات السابقة بينما يستشهدون بالإنسانية والديمقراطية تبريرا لهم. هذا في الأصل هو تناقض كامو باختصار؛ يمثل كامو لكثيرين تجسيدا لحل يخلق توليفة مستحيلة بين التنوير والاضطهاد الاستعماري. هذا أيضا السبب الذي يجعله شخصية بهذه الأهمية في العالم الغربي، إنه الرؤية المثالية لماضي فرنسا الاستعماري، ومن ثم أوروبا، وحاضرها الاستعماري الجديد.
التسوية سمة من سمات كامو، رغم أنه هو نفسه لم يستطع في النهاية التمسك بالتوجه الوسطي. ففي نهاية المطاف أيد جانب الاستعمار، مصرحا في مقابلة أن مطالبته باستقلال الجزائر كانت نابعة من «العاطفة»، وأعلن بقوة أنه ضدها. يجري تجاهل تلك العبارات والكتابات عادة؛ لأنها لا تتناسب مع النظرة الشائعة لكامو كإنساني مهموم يترفع عن الشئون والشواغل السياسية. إلا أن هذا التناقض بين الإنسانية والاستعمار كان حاضرا في كثير من أعماله منذ بداياتها، وذلك بدرجات متفاوتة الحدة.
كامو الأيقونة الثقافية
يستشهد بكامو أيضا في المجال الثقافي. ففي وسائل الثقافة الشائعة، خاصة التليفزيون، استشهادك بكامو هو أقصر طريق لإضفاء الطابع المثقف على شخصيتك، وبالتبعية على العرض التلفزيوني نفسه. وعادة ما يكون الاقتباس نفسه غير ملائم للسياق؛ المهم هو ذكر اسم كامو.
وفي السينما، ألهمت أعمال كامو على مر العقود نجوم السينما (آلان ديولن، ويليام هارت، فيجو مورتنسن، مارسيلو ماستروياني) إلى تقديم التقدير اللائق به كمؤلف. ونزعت المعالجات السينمائية الرئيسية إلى معاملة أعماله كآثار تجمدت في الزمن. مثال آخر على ذلك هو فرقة البوب «ذا كيور»، التي كانت أول أغنية لها حققت نجاحا واسعا باسم «قتل عربي» أشبه بأنشودة لقطاعات من الشباب الأوروبي في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. لكن وإن كانت الأغنية ملخصا قصيرا للمشهد الرئيسي في رواية «الغريب»، فإنها تعكس عدم الاكتراث بحياة العرب الذي تنطوي عليه الرواية بالفعل وتعززه. يمثل قتل العربي ذريعة، حدثا يؤدي إلى انعكاسات وجودية مهمة عند الجمهور الغربي.
وما يتجلى بوضوح في الأغنية والرواية على حد سواء هو أن ثمة أشياء أهم بكثير من قتل إنسان عربي. ليست الفظاعة في الرواية أن ميرسو قتل عربيا، بل أنه سيق إلى الإعدام لعدم حداده على أمه. تضخم أغنية البوب من هذه الفظاعة بقوة، ولم يصدق البعض في فرنسا أن الأغنية كانت عن رواية «الغريب»، هكذا كان حجم الإنكار في حق الحدث الرئيسي في الرواية. في النهاية، التغير على الساحة السياسية والنجاح العالمي الذي حققته فرقة «ذا كيور» دفعا الفرقة إلى تعديل الكلمات والعنوان ليصبح «تقبيل عربي». المفارقة هنا هو أن هذا التغيير يعكس ما حاول كثير من النقاد فعله مع أعمال كامو ككل، وهو تهذيب الحواف الحادة وصقلها لأغراض سياسية أو تجارية محددة.
وفي الجمهورية الفرنسية يعد كامو مبجلا بالفعل. إنه يجسد مثالها الأعلى؛ فقد كان رغم كل شيء الابن البسيط لخادمة، ومشرف على بستان عنب مات في الحرب. وبمساعدة الدولة الفرنسية ونظامها التعليمي، أصبح كاتبا مشهورا وحائزا على جائزة نوبل؛ تلك الإنجازات في حد ذاتها دعاية لنظام التعليم الفرنسي والجمهورية الفرنسية ككل. أصبح كامو أشبه بمعبود الجماهير المنزه عن الانتقاد بالنسبة إلى فرنسا. وانتقاده يرى إلى حد ما انتقادا لفرنسا نفسها.
يرقى انتقاده أيضا إلى «قتل الإوزة السحرية التي تبيض ذهبا»؛ ففي عالم النشر، يعد كامو مصدر إيراد كبير. فهو يوفر ما لا يوفره إلا قليل من المؤلفين الفرنسيين: إمكانية قراءة قصص في إطار استعماري تخفي ما يتعرض له السكان الأصليون من قمع. معظم الكتاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر كانوا إما يطربون بالاستعمار وإما متألمين منه؛ أما كامو فيظهر عدم اكتراث به في روايتيه الأكثر شهرة، «الغريب» و«الطاعون». يقمع كامو اللاوعي الاستعماري، ويفسر هذا القمع كثيرا من الجاذبية الدائمة نحوه.
لكن كامو كان مصدر إلهام أكثر من كونه شخصا يحظى بالتقدير أو تمارس محاولات للتمسح بآرائه وأفكاره. في عام 2013، كتب الصحفي والروائي ومؤرخ الأحداث كامل داود «ميرسو، تحقيق مضاد»، وهي تتمة جريئة وأصيلة لرواية «الغريب» لكامو. من حيث بنيتها، رواية داود تماثل «السقطة» أكثر من «الغريب»؛ لأنها حوار ذاتي طويل يتنكر في شكل حوار بين رجلين. الشخصية الرئيسية، واسمها هارون، هي بعينها أخو الرجل العربي الذي قتله ميرسو. تبدأ الرواية بمعارضة الرؤية الأوروبية الأحادية الجانب في الرواية الأصلية. نتعرف على الرجل الذي قتله ميرسو، والذي كان يسمى موسى، وعلى حزن عائلة موسى الشديد، الذي لم يثره فقط الحدث نفسه، بل غياب اهتمام كامو والمجتمع الفرنسي بهم وبجانبهم من القصة أيضا. وفي المقابل نكتشف أن هارون نفسه قتل شابا أبيض عن غير عمد على ما يبدو، الجريمة التي اعتقل بسببها.
رغم ذلك، لا تعد «ميرسو، تحقيق مضاد» عملا للتنديد؛ لأننا سرعان ما نعي أن الكتاب أيضا فيه تكريم وتقدير لرواية «الغريب». في الواقع، العديد من موضوعات رواية داود وفقراته كاموية الطابع على نحو فريد واستثنائي. على سبيل المثال، يعترض داود على الدولة الجزائرية الأحادية الحزب في فقرة يلقي فيها ضابط من جبهة التحرير خطبة على مسامع موسى - بعد اعتقاله - عن العلم الجزائري الجديد، تماما كما فعل المدعي العام بالصليب في وجه ميرسو في رواية «الغريب». يتحدى داود وكامو كلاهما مجموعة من القيم الثقافية المصاحبة لما يرونه أنظمة إقصائية، سواء كانت الجمهورية الفرنسية أو الدولة الجزائرية المستقلة حديثا. ولذا، فإن رواية داود نقد لتحيز كامو الاستعماري واحتفاء بنقده القاسي لجوانب أخرى من المجتمع الفرنسي.
مثال آخر من نوع مختلف على إحياء كامو هو فيلم «يازجي» (الذي يترجم إلى «القدر»)، وهو المعالجة السينمائية التركية المقتبسة عن رواية «الغريب»، والذي أخرجه زكي ديميركوبوز، وصدر عام 2001. في فيلم «القدر»، ميرسو يدعى موسى. وبعد قتله لرجلين، توجه الاتهامات إليه ويدان، ويعفى عنه في النهاية في جريمة قتل أخرى لم يرتكبها. تقع أحداث الفيلم في تركيا، في مفترق طرق جغرافي وثقافي بين أوروبا والشرق الأوسط، وهي بيئة تحرر القصة من وطأة الاستعمار. في هذا الإطار، حيث لا يعد العرق عاملا فاعلا، ربما يكون عدم اكتراث موسى أشد تدميرا. يحول ديميركوبوز الاغتراب الاجتماعي العميق والناتج عن عالم تحكمه قيم العائلة والعمل والوطن إلى فن، كما فعل كامو في «الغريب» مع القيم المسيحية والحياة المكتبية وصعود السلم الاجتماعي.
بقاء كامو في الأذهان
من دواعي المفارقة أن ما يجعل كامو كاتبا استثنائيا، كاتبا كانت أعماله ولا تزال قابلة لأن يرتبط بها الملايين حول قارات العالم ويروا فيها أنفسهم، ربما يكون أصوله المتواضعة. فعلى عكس أغلبية الروائيين الفرنسيين المشهود لهم، أتى كامو من عائلة شديدة الفقر؛ وقبل أن يصبح مشهورا، كان المال وطريقة كسب ما يكفي منه للعيش على نحو مريح مصدر قلق دائم. كان كامو في شبابه دائم العمل في وظيفة. فقد عمل عندما كان في المدرسة الثانوية، وعمل عندما كان طالبا في الجامعة - في وظائف مختلفة كلها غير جذابة يقوم فيها بمهام مكررة ومملة على طاولة مكتب في مقر ما. وتعكس رواية «الغريب»، وهي أشهر أعمال كامو، تلك الخلفية. كما أوفد كامو نوعا جديدا من الأبطال في الأدب الفرنسي: الموظف، وهو في بطولته واقعي؛ فقصته لم تكن عن صعود السلم الاجتماعي.
وتتجلى موهبة كامو العظمى، التي تتمثل في قدرته على ترجمة مجموعة من القوانين الجديدة، وواقع اجتماعي جديد، وأسلوب حياة جديد إلى فن، في أحسن صورها في فكرته عن الغبطة. ففي عام 1936، بعد انتخاب التكتل اليساري الذي يعرف باسم «الجبهة الشعبية»، وبعد الإضرابات والاستيلاء على المصانع الذي تبع ذلك، حصل العمال الفرنسيون على إجازات مدفوعة الأجر وأسبوع عمل أقصر. بدأ الناس يخرجون في رحلات، على دراجاتهم بشكل رئيسي، وحدثت مجموعة تفاعلات جديدة مع الطبيعة. فمع تقصير أسبوع العمل، ذهب الناس إلى الشاطئ والجبال والريف. كان ذلك اكتشافا على الصعيد القومي وتغيرا شاملا في الحياة اليومية لغالبية الشعب الفرنسي، التغير الذي لا يزال مستمرا حتى اليوم. أصبحت الطبيعة مصدر سعادة ومهربا من تقلبات الحياة.
بعدها بأشهر قليلة فقط، وبالنظر إلى هذه التغيرات، كون كامو تصوره الأول عن فكرة «الغبطة»، علاقة خاصة مع الطبيعة، لحظات (لا تكون طويلة أبدا، كما أشار) من التفاعل المميز مع الشمس والشاطئ، كمصدر للسعادة وطريقة لإضفاء معنى لوجود كان سيصبح بلا معنى لولاها. تصور كامو عن العبث وتجربته معه يعليان من أهمية فكرة «الغبطة» على نحو محوري؛ ولذا لا يمكن فصل بعضهما عن بعض. «غبطة» كامو هي عطلة نهاية الأسبوع، أو رحلة إلى الشاطئ، أو التجول في الطبيعة. قد نرى أن ذلك بديهي في وقتنا الحاضر، لكنه كان طفرة صاعقة في ثلاثينيات القرن العشرين.
بالإضافة إلى ذلك، سجل كامو وصور طريقة حياة جديدة لا تشبه غيرها. كانت موهبته العظيمة والمتميزة قادرة على أن تحول واقعا اجتماعيا جديدا للعالم إلى أعمال عن طريق إحساس «الغبطة». تصوره عن الطبيعة - كمصدر نفيس للدعم الشديد الأهمية في عالم كان سيكون عدوانيا دونها - له صدى قوي عند القراء؛ لأنه يرتبط بالطريقة التي يعيش بها كثيرون حياتهم الآن. كامو كاتب استثنائي؛ لأنه كان قادرا على تسجيل لحظات يومية وعادية من حياة قرائه (التي كانت من حياته أيضا) وتحويلها إلى فن. لكنه كان محاصرا بين المستعمرة وعاصمة الإمبراطورية الاستعمارية، وأعماله تعكس في الوقت نفسه تنشئته الاستعمارية بكل النواقص التي تتضمنها، لا سيما فيما يخص غياب شخصيات جزائرية ذات قيمة في رواياته أو مسرحياته.
هذا الصراع بين السخاء وعدم الاكتراث يقوي أعماله، والتعرف عليه أداة لا غنى عنها لتقييم أعماله الكاملة. جعله هذا الصراع أيضا التجسيد الأدبي للتناقضات الثقافية والسياسية المعاصرة عند القوى الغربية، جعله تنويرا قمعيا وتحرريا في الوقت عينه، جعله معبود البعض ومحل هجوم البعض الآخر. إن كامو هو كاتب كل الأزمنة.
المخطط الزمني لحياة ألبير كامو
7 نوفمبر 1913:
مولد ألبير كامو في موندوفي (الجزائر الفرنسية).
1914-1918:
الحرب العالمية الأولى.
1914:
موت والد كامو متأثرا بإصابته في معركة المارن.
1924-1931:
التحاق كامو بمدرسة ثانوية في الجزائر بمنحة دراسية.
1930:
الاحتفالات بمئوية احتلال فرنسا للجزائر.
النوبة الأولى لمرض السل.
1931:
يلتقي كامو بالأستاذ والمعلم جين جرينييه.
1932:
يواصل دراساته في الجامعة بالجزائر.
1934:
يتزوج سيمون ييه. انفصلا بعدها بسنتين؛ وتمت إجراءات الطلاق فعليا عام 1940.
1935:
الانضمام إلى الحزب الشيوعي.
1936-1939:
الحرب الأهلية الإسبانية.
1936:
يشارك كامو في المسرح مخرجا وممثلا. يشارك في تأليف مسرحية «تمرد في أستورياس». كامو ينهي رسالة الدكتوراه حول أفلوطين.
1937:
نشر مجموعة مقالات «ما بين هذا وذاك» في الجزائر.
ترك الحزب الشيوعي.
1939-1945:
الحرب العالمية الثانية.
1939:
ينشر كامو مجموعة مقالات بعنوان «مأساة القبائل».
1940:
تمنع السلطات الفرنسية نشر جريدة باسكال بيا وكامو.
عودة كامو إلى فرنسا للعمل بجريدة باريسية.
يتزوج كامو زوجته الثانية فرانسين فور.
1942:
ينشر رواية «الغريب» وكتاب «أسطورة سيزيف» في باريس المحتلة.
يذهب كامو إلى جبال فرنسا للاستشفاء من مرض السل.
يفترق عن زوجته فرانسين التي لا تزال في الجزائر.
1943:
الانضمام إلى المقاومة الفرنسية بنهاية العام.
1944-1947:
يعمل محررا لجريدة «كومبات»، جريدة المقاومة الفرنسية الرئيسية.
1944:
نشر مسرحيته «كاليجولا».
يقابل عشيقته والممثلة الشهيرة ماريا كاساريس في يوم إنزال نورماندي.
1945:
مذابح في الجزائر في مدينتي سطيف وقالمة في يوم النصر.
يدين كامو تفجيرات هيروشيما وناجازاكي.
مولد توءميه، كاثرين وجين.
1947:
نشر «الطاعون».
1949:
عرض مسرحيته «القتلة المنصفون».
1951:
نشر كتاب «الإنسان المتمرد».
1952:
الانفصال عن جان بول سارتر.
1954-1962:
حرب الاستقلال الجزائرية.
1956:
يقترح كامو «هدنة مدنية»، وهو ما رفضته جميع الأطراف المعنية بالنزاع الجزائري. يتعهد بألا يتدخل علنا مرة أخرى خلال هذه الحرب.
نشر رواية «السقطة».
يدين كامو علنا تدخلات الاتحاد السوفييتي في المجر.
1957:
نشر «المنفى والملكوت».
ينال كامو جائزة نوبل للآداب.
1958:
نشر مقالاته عن الجزائر؛ «الوقائع الجزائرية».
1960:
يموت في حادث سيارة مع الناشر ميشيل جاليمار.
1994:
نشر رواية «الرجل الأول» بعد موته.
2009:
اقتراح بنقل رفات كامو إلى البانثيون.
2017:
نشر مراسلاته الخاصة مع ماريا كاساريس.
قراءات إضافية
A testimony to his ongoing popularity, there is a multitude of books on Camus; I have been deliberately selective.
السير الذاتية
There are two major biographies of Camus. The first is Herbert Lottman’s thorough volume, which was viewed as slightly irreverent when it came out in 1979: it was only translated into French in 1985 (
Albert Camus: A Biography (Corte Madera: Gingko Press, 1997)). There is also Olivier Todd’s enormous free-flowing portrait, which ideally should be read in French; the English version has been edited and is much shorter than the original (in French:
Albert Camus, une vie (Paris: Gallimard, 1997); in English:
Albert Camus, A Life (New York: Carroll & Graf, 2000)). Other portraits include Edward J. Hughes’s
Albert Camus (London: Reaktion Books, 2015) and Robert Zaretsky’s
Albert Camus: Elements of a Life (Ithaca, NY: Cornell University Press, 2010), both laudatory. For a more critical perspective, see Patrick McCarthy’s
Camus: A Critical Study of his Life and Works (London: Hamish Hamilton, 1982).
دراسات عن جوانب معينة من أعمال كامو أو حياته
Ronald Aronson,
Camus & Sartre: The Story of a Friendship and the Quarrel that Ended it (Chicago: U of Chicago Press, 2004). The best book-length study on the famous break.
Alice Kaplan,
Looking for The Stranger (Chicago: U of Chicago Press, 2016). The biography of Camus’s best-known novel, from the real life crime that may have inspired it to Kamel Daoud’s novel. Superbly written and researched.
Agnès Poirier,
Left Bank (New York: Holt, 2018). A fine introduction to what literary life was like in Paris between 1940 and 1950, through the portrait of many artists, including Camus. An original overview of his complicated relationship with Simone de Beauvoir.
Conor Cruise O’Brien,
Camus (London: Faber & Faber, 2015). Originally published in 1970, Conor Cruise O’Brien’s hard-hitting, irreverent interpretation of Camus’s major works is still significant.
Edward Said, 'Camus and the French Imperial Experience’ in
Culture and Imperialism (New York: Knopf, 1993). The original critical post-colonial perspective.
المراجع
All translations are my own
الفصل الأول: كامو، ابن فرنسا في الجزائر
Ch.-Robert Ageron,
Histoire de l’Algérie contemporaine (Paris: Presses Universitaires de France, 1994) 62-3
Baudelaire,
Œuvres complètes I (Paris: Gallimard, 1992)
Albert Camus,
Œuvres complètes I (Paris: Gallimard, 2006) 44
Albert Camus, Jean Grenier,
Correspondance 1932-1960 (Paris: Gallimard, 1981)
Alexis de Tocqueville, 'Travail sur L’Algérie’, 1841.
Œuvres I (Paris: Gallimard, 1991) 704, 706
Charles-André Julien,
Histoire de l’Algérie contemporaine, tome I (Paris: Presses Universitaires de France, 1979)
Herbert Lottman,
Albert Camus a Biography (New York: Doubleday, 1979)
Lacheraf Mostefa,
L’Algérie: Nation et société (Alger: Ed. Casbah, 2004)
Olivier Todd,
Albert Camus, une vie (Paris: Gallimard, 1996)
الفصل الثاني: كامو، بين مراسل ومحرر
Boussetta Allouche,
Albert Camus n’a pas compris les Kabyles (Paris: L’Harmattan, 2017)
Albert Camus,
Œuvres complètes I (Paris: Gallimard, 2006) 575, 585, 646, 656
Albert Camus,
Œuvres complètes II (Paris: Gallimard, 2006) 9-25, 618
Albert Camus,
Œuvres complètes IV (Paris: Gallimard, 2008) 351
Alice Kaplan,
Looking for The Stranger (Chicago: U of Chicago Press, 2016)
الفصل الثالث: كامو والعبث
Albert Camus,
Œuvres complètes I (Paris: Gallimard, 2006) 106, 228-9, 233, 257-59, 283
Albert Camus,
Œuvres complètes III (Paris: Gallimard, 2008) 824, 1010
Albert Camus, Francis Ponge,
Correspondance 1941-1957 (Paris: Gallimard, 2013)
Alice Kaplan,
Looking for The Stranger (Chicago: U of Chicago Press, 2016)
Conor Cruise O’Brien,
Camus (London: Faber, 2015)
Edward Said, 'Camus and the French Imperial Experience’ in
Culture and Imperialism (New York: Vintage, 1993)
Jean-Paul Sartre,
Œuvres romanesques (Paris: Gallimard, 1981)
الفصل الرابع: متمرد بلا قضية
Ian Birchall, 'The Labourism of Sisyphus’,
Journal of European Studies , Vol. 20, No. 2 (1990), 135-65
Albert Camus,
Œuvres complètes II (Paris: Gallimard, 2006) 437, 453, 1010
Albert Camus,
Œuvres complètes III (Paris: Gallimard, 2008) 660, 1008, 1177, 1243
الفصل الخامس: كامو وسارتر - الشقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان
Ronald Aronson,
Camus & Sartre (Chicago: U of Chicago Press, 2004)
Simone de Beauvoir,
La Force des choses I (Paris, Gallimard, 1972) 151, 158, 264, 354
Albert Camus,
Œuvres complètes I (Paris: Gallimard, 2006)
Albert Camus,
Œuvres complètes III (Paris: Gallimard, 2008) 412-30
Jean Grenier,
Albert Camus, souvenirs (Paris: Gallimard, 1968)
Agnes Poirier,
Left Bank (New York: Holt, 2018)
Jean-Paul Sartre,
Situations I (Paris: Gallimard, 2010) 126-46
Jean-Paul Sartre,
Situations IV (Paris: Gallimard, 2010) 90-129
Jean-Paul Sartre,
Situations VIII (Paris: Gallimard, 2010) 375-412
الفصل السادس: كامو والجزائر
Ch.-Robert Ageron,
Histoire de l’Algérie contemporaine (Paris: Presses Universitaires de France, 1994)
Albert Camus,
Œuvres complètes II (Paris: Gallimard, 2008) 1010
Albert Camus,
Œuvres complètes IV (Paris: Gallimard, 2008) 751-915
Charles-André Julien,
Histoire de l’Algérie contemporaine, tome I (Paris: Presses Universitaires de France, 1979)
Charles Poncet,
Camus et l’impossible trêve civile (Paris: Gallimard, 2015)
الفصل السابع: إرث كامو
Albert Camus,
Écrits libertaires (1948-1960) (Paris: Indigènes Éditions, 2013)
Vine Deloria Jr,
God is Red (New York: Putnam, 1973)
Yoav Di-Capua,
No Exit (Chicago: U of Chicago Press, 2018)
John Dickerson, 'Stranger and Stranger: Why is George Bush reading Camus?’
Slate (14 August 2006). <slate.com/news-and-politics/2006/08/why-is-george-bush-reading- camus.html>
Henri Guaino,
Camus au
(Paris: Plon, 2013)
Norman Podhoretz, 'Camus and his Critics’,
New Criterion (November 1982)
Marine Le Pen, 'To Call this Threat by its Name’,
New York Times (18 January 2015)
Kamel Daoud,
Meursault, contre-enquête (Paris: Actes Sud, 2014)
Yazgi (Fate), Filmed and directed by Zeki Demirkubuz. Performances by Serdar Orçin, Zeynep Tokus, Engin Günaydin. Produced by Turkishfilmchannel, 2001.
مصادر الصور
(1-1) In the workshop of Camus’s uncle in Algiers in 1920 (Photo by Apic/Hulton Archive/Getty Images). (1-2) Albert Camus as a young dandy in Florence (Photo by Keystone-France/Gamma-Keystone via Getty Images). (2-1) In the editorial offices of French resistance paper
Combat , 1944 (Albert Camus/Photo © Rene Saint Paul/Bridgeman Images). (4-1) One of the most emblematic pictures of Camus, taken by famous photographer Henri Cartier-Bresson in 1947 (© Henri Cartier- Bresson/Magnum Photos). (5-1) Jean-Paul Sartre and Simone de Beauvoir (Photo by David E. Scherman/The LIFE Picture Collection/Getty Images). (6-1) Camus, anguished (Photo by Kurt Hutton/Getty Images). (6-2) Victory celebrations in Algiers at the end of the Algerian War of Independence (Photo by REPORTERS ASSOCIES/Gamma- Keystone via Getty Images).
Halaman tidak diketahui