ادفعوا لحامل هذا مبلغ ألف جنيه مصري لا غير.
ويستمر يحدق في الشيك حتى تهجمع الزوابع التي في جوفه، ثم يطويه بعناية ويعيده إلى جيبه الخاص في المحفظة ويتنهد، وكأنما قد انتهى من اعتراف أو صلاة، ثم يعود هو في بطء إلى الناس وزحمتهم، يعود كما كان عسكريا طويلا وأسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.
الحالة الرابعة
انتهى العشاء وهب الدكتور مازن كي يقوم بنوبتجيته في الاستقبال. كان عشاء بيت الامتياز سخيفا في ذلك المساء كعادته كل مساء، كان مكونا من بطاطس مفروض أنها محمرة، ولم تكن لا محمرة ولا مسلوقة ولا شيء من هذا القبيل، إنما كتل لزجة متراصة من مادة البطاطس يفصلها زيت رخيص، ثم أرز باللبن، أو بطاطس باللبن، أو حجارة وحصى و«زلط» باللبن، كله ماشي، وكله لا يقيم أود مخلوق. كان العشاء محنة يضطر إليها الأطباء الذين لا يملكون سوى مرتباتهم، وحتى لا يملكونها كلها فجزء غير قليل منها يذهب إلى عائلاتهم التي رأت المر كي تنفق عليهم، وتجعلهم في نهاية الأمر أطباء «قد الدنيا». أما الدكتور مازن، فلم يكن يحفل بالعشاء أو بالغداء، أو حتى بطعام بيت الامتياز كله. كان أبوه أحد كبار الأطباء في وزارة الصحة، ومن صغره وهو يذهب إلى المدرسة في عربة ويعود في عربة. وحين كان في كلية الطب لم يره زملاؤه الطلبة أبدا إلا ثمة شيء جديد قد أضيف إليه، قد يكون جاكتة، وقد يكون في أحلك الأحوال منديل صدر جديد. وكان العمل بالنسبة للدكتور مازن شيئا مهما حقا. اليوم الذي يأخذ نوبتجيته فيه كان يسبقه إعداد أيما إعداد؛ فلا بد أن يتفق مع اثنين من زملائه «الغلابة» على أن يأتوه ليسلوه في وحدة نوبتجيته. ويختارهم مازن بعناية؛ فأحدهم لا بد يجيد رواية النكت ويخلق من التفاهة فكاهة، والآخر لا بد أن يكون عليما ببواطن الأمور يحدثه حديث العارف عن الأسرار الرهيبة التي تدور داخل جدران المستشفى، وعن الزملاء الأطباء وعلاقاتهم الخفية مع الممرضات والحكيمات، وعن الفضائح. ثم لا بد أيضا من إعداد للعشاء؛ فقبل الثامنة يرسل عبد الغني فراش بيت الامتياز إلى جروبي أو الإكسلسيور ومعه قائمة معدة ومنتقاة بعناية لعدد كبير من الساندويتشات. ثم لا بد آخر الأمر من إحضار عدد من المجلات المصورة الأمريكية والفرنسية، تحتوي على عدد من الوجوه والأجساد الجميلة يكفي للتفرج عليها ليلة بأكملها. كان لا بد من إعداد هذا كله في يوم النوبتجية؛ حتى لا يحس مازن بأي سأم أو ملل. ومع كل هذه الاحتياطات، ولو فرض ووقع المحال، وأحس بشيء من الملل والسأم، فهناك التليفون، وهناك ثلاث فتيات وامرأة متزوجة تملك أجمل صدر في جاردن سيتي، مستعدات أن يقضين معه الليلة في كلام ودردشة وفكاهات.
هبط الدكتور مازن إلى الممر الطويل، وكل شيء على أتم ما يرام؛ البالطو أبيض ونظيف ومكوي، والبنطلون الأبيض حده كحد السيف، والسماعة معلقة في صدره يلمع معدنها، والحمام الدافئ الذي أخذه بعد إغفاءة الظهر يخدر وجهه، ويجعل من خلاياه دوامات صغيرة تدور بها السعادة. كل شيء حتى شكله كان قد ألقى نظرة طويلة على نفسه في مرآة التسريحة الحكومية الحادة في بيت الامتياز، واطمأن - كعادته - إلى الصورة التي سيكون عليها حين يراه الناس. جسده طويل رياضي لا انبعاج فيه، وسنواته لم تتعد الخامسة والعشرين، ووجهه أبيض حليق ناعم جميل، والشعر موزع توزيعا أنيقا على رأسه. أربعة أخماسه تتموج إلى اليمين، والخمس الباقي يستكين إلى اليسار، ولا تنفر منها شعرة واحدة.
كان الممر طويلا قد حل الفساد في بعض مصابيحه، فانطفأت تنتظر الاستمارات ومصلحة المباني لاستبدالها، وكان النور يتسرب إلى الممر من الأقسام التي على يمينه وعلى يساره، فيضيء الممر بنور شاعري رقيق. وكان البالطو الأبيض يحف حفيفا خافتا كلما اصطدم بساقيه الطويلتين السائرتين، والكولونيا تدفع ببرودة ذات رائحة جميلة إلى ذقنه، وكان جيب البنطلون على صغره يضيق بباقي الورقة ذات العشرة الجنيهات، والدنيا في نظره لحن جميل كأنغام الكمان في رقصة شهرزاد.
وكان يلقي التحيات ذات اليمين وذات اليسار، تحيات المساء كان يلقيها من أنفه إلى تلميذات الأقسام الساهرات. وكان دقيقا في إلقاء تحياته؛ فهو يعرف أنه جميل وغني ومن عائلة، وأن التلميذات لا بد يحلمن به وبابتسامة منه، ولكنه أعرف الناس بالبيئة التي ينشأن فيها، ويقبلن منها إلى المستشفى تدفعهن الحاجة لأكل العيش والعمل، وإهدار سيرتهن على الألسنة والأفواه؛ ولهذا لم يفكر أبدا في مصاحبة إحداهن أو حتى في التحدث معها. كان حديثه مع الواحدة منهن لا يستغرق لحظات، وكله «حديث عمل» لا يزيد كلمة ولا ينقص كلمة، ولكنه لم يكن يحب أن يبدو متكبرا في نظر الناس، وكان عليه أن يحييهن، ولكنها لا بد أن تكون تحية مضبوطة لا تغري بالألفة، ولا تهبط بمستواه، ولا ترتفع بمستواهن.
مضى في الممر المظلم الحالم يلقي بتحيات المساء بإيماءاته، ويحس أن الناس كلهم لا بد في مثل دقته ونشاطه، وأن الوجود لا يستحق مليجراما واحدا من التعاسة، والحياة لو أخذت هكذا سهلة بسيطة بلا أحقاد أو تعقد لما أصبح للناس في الدنيا مشاكل.
ووصل إلى قسم الاستقبال. كان زبائنه كثيرين في تلك الليلة، وكانوا ينتظرونه لا بد من قبل أن تغرب الشمس. وعلى الرغم من كل شيء فالدكتور مازن كل يحب نوبة المساء. كانت بالنسبة إليه فترة مستحبة لا تتملكه فيها عصبية النهار، ولا يقاسي من كثرة المرضى الذي يقفون أمامه في طابور لا أول له ولا آخر، ويقبلون إلى المستشفى مع الفجر.
وتصاعدت الهمهمات من الجمع الصغير لمقدمه، ولم يكن قد تمعن فيهم، أو حتى ألقى إليهم تحية المساء. اكتفى بالتفاتة سريعة يعرف بها كم عددهم، وكان واضحا أنهم أكثر من العدد الذي وجده في النوبة السابقة، وأحس لهذا بنوع من الزهو. وحين وقف أكثرهم، وأفسحوا له الطريق، ودلف من بينهم تحفه التحيات والدعوات من الجانبين ملأه يقين بأهميته، ودون وعي أمسك بوق السماعة بأصابعه، وازداد إحساسا بضرورته، وشخط في التمورجية العجوز؛ فقد وجد مقبض الباب لا يلمع، وبقايا بصاق عالقة بالحائط، وأسرعت المرأة بأعوامها الخمسين تجري ويطرقع قبقابها على البلاط، وتزيل البقايا، وتلعن المرضى وقذارتهم.
Halaman tidak diketahui