ورحت بدوري أحدق في المرآة، وأحاول أن أستشف ما في رقبتي من شذوذ أو بروز يكون قد أوحى للأسطى زكي بما قاله، ولكني لم أجد شيئا، وعبرت له عما يجول بخاطري، فابتسم ابتسامة الحاوي العجوز، وقال وهو يضبط المرآة التي خلفي: بص سيادتك، بص كويس، شايف إيه؟ رقبة مش كده؟ وشعر، الناس بتسميهم قفا، أنا بسميهم وش، أنا عندي القفا وش بس من الناحية التانية، بني آدم زي السكين بوشين، فليه نسمي الناحية دي وش والناحية دي قفا؟ هنا وش وهنا وش.
وسكت فجأة وسهم وهامت عيناه، ثم نطق بصوت مضموم خيل إلي أنه يخرج من سيجاره الأسود: أما حتة وزن!
ورأيت طرف المرآة يطالعني بجزء من الحتة، كان نصف امرأة ماشية في الشارع طويلة سمراء وممتلئة ملتهبة، وكما هام فجأة عاد فجأة، وكان أول ما فعله أن شتم الصبي وأمره بنش الذباب، وكان الصبي ينش فعلا ولا حاجة به إلى أمر أو سباب، ثم استطرد: ليه ما ينفعش وش؟ أنا وجهات نظري كده، أنا بشوف ده وأشوف ده، طول النهار وشي في قفا الزبون، بشوف فيه كل حاجة كأنه وش.
وكان يتحدث طوال الوقت بصوت سريع منخفض وكأنه يخاف أن يسمعه أحد غيري، ولكنه خفض صوته أكثر على حين بغتة وهمس في أذني: وبيني وبينك الوش الوراني ده أحسن من القدماني.
ولم أستطع أن أعلق أو أسأل أو أوقفه لحظة. كان كاللعبة التي ملئ زمبلكها وانطلقت تتحرك، وأصبح لا يمكن وقفها حتى تفرغ شحنتها، واستمر يقول بصوته الخافت المتلصص الحافل بالحماس وكأنه نبي يبشر برسالته في السر: القدماني دهه حتى باظ، بقى بترينة ما عدش ينفع، اتعلم الحركات، بقى يمثل وباظ، الواحد يبقى قلبه شايل الهم ووشه بيضحك، ويبقى وشه بيقول لأ وهو من داخليته بيقول أهين، إلا دي. شوف يا أستاذ، على قد ما تقدر قول على الوش القدماني دهه، دهه، الله يلعنه، لا مؤاخذة ما أقصدكش، باردون. الرك كله على القفا، هو الوش المظبوط، النضيف قفاه نضيف، والعيان قفاه عيان، والغني قفاه ملظلظ، هو ده الوش اللي بحق وحقيق، هنا هه. كل حاجة هنا هه!
وقاطعه صوت جاءنا من بعيد، كان صوت زميل له يسأله عن البودرة، وحين هب الأسطى زكي من استغراقه في الكلام معي، ورآه زميله وهو في موقفه ذاك الضاحك، وقال وهو يخاطبني: أظن قاعد يقولك عن القفا يا بيه. دا أصله دوشجي، خلي بالك منه، دا اسمه الأسطى قفا.
وامتلأ الصالون بالضحك والقرقعات، واحمر وجه الأسطى زكي قليلا، وبدا عليه حزن سريع، ولكنه التفت لزميله وقال: قفا قفا يا سي أنور، إلا دي، قفاك يملا حله، قفاك يملا حله.
ومرة أخرى دوى الضحك وانصرفت عنه الأنظار، فانقض على أذني من جديد. ويبدو أننا لا نتأثر بمعنى الكلام فقط، ولكن أيضا بالطريقة التي يقال بها. وأول الأمر كان زكي يضحك ويصبغ الهزل كلامه، ثم بدأ يتكلم وكأنما ليذهلني بما يقول. ثم تطرقت إلى صورته رزانة ووقار، وبعد أن كنت أسمع له ساخرا تطرقت الرزانة إلى سمعي أنا الآخر وبدأت أنصت: بيضحكوا، والله بيضحكوا على أرواحهم، داحنا في نومة والله، دول بيضحكوا على بعض. الراجل يبقى مزوق من قدام وقفاه زي الطين، يبقى ده لا مؤاخذة راجل مش نضيف، وعايز يقول للناس إنه نضيف، بيضحك على الناس، كل الناس بتضحك على الناس، تعرف سيادتك بيقولوا علي ملحوس ليه؟ عشان وشي زي قفايا، تسمح؟
وخلع رأس الكرسي بسرعة وطلى وجهي بالرغوة، وسن الموسى، ووضع السيجار جانبا بناء على طلبي، وبينما الموسى يعمل ويزحف فوق ذقني بخفة ومهارة، مضى هو يقول: أهو احنا كده يا ولاد العرب، ثم تعالى هنا، تعرف إن الناس ليهم طبايع غريبة، قلت لي ازاي؟ كل واحد يخلي وشه القدماني مختلف عن الباقيين، وكل واحد عايز وشه الوراني يخليه على قد ما يقدر زي الباقيين. ده يربي شنب قد كده، وده يخليه دوجلاس صغير، وده دوجلاس كبير وده يدوبك خط، وده يقول والنبي تخلي القصة طويلة، وده يقول خليها إنجليزي وحياتك. كل واحد عايز وش لوحده. إنما تيجي للقفا، اللي رقبته قصيرة يقول خلي التدريجة عالية، واللي طويلة يقول خليها واطية. ليه؟ علشان ما يبقاش مختلف عن بقية الناس، عشان يبقى طبيعي. اتأمل يا أستاذ في أحوال الخلق، التلميذ ولا مؤاخذة عايز يبقى وشه زي وش البيه، والصنايعي عايز يبقى وشه زي وش التلامذة، والفلاح عايز يبقى زي الأفندي، وكلهم عايزين قفواتهم تبقى زي بعض. بص للزباين والناس اللي ماشيين في الشارع. بص لهم كويس تلاقي لهم مليون وش وقفا واحد بس، قفا واحد بس.
حكمته! ربنا حط في كل واحد عقل وقال له امشي، قوم شوف، إلا دي. يقولوا علي ملحوس، يقولوا حلاق، يقولوا اللي يقولوه، إنما والله العظيم تلاتة بالله العظيم الناس بتضحك على نفسها، كل واحد بيضحك على نفسه، وكلهم ليهم قفا واحد. قول لي يا أستاذ، بذمتك قول لي، ما دام قفاهم واحد ليه عايزين وجوههم مختلفين؟
Halaman tidak diketahui