ثم أسرعت إلى دار صديقي كمال الدين لأقضي معه ساعات في الدرس والعبادة؛ إذ قضيت اليوم كله لاهيا عن عبادتي، وأحسست شوقا إلى مجلس العلم، وحمدت الله إذ بقي لي في جانبولاد صديق أتذوق معه لذة الدرس. فلما طرقت الباب فتحت لي «نجوى» الكريمة الصالحة، فهشت إلي وبشت، ونظرت إليها وكأن نورا يشع منها إلى قلبي. وخفق قلبي فأسرعت داخلا وأغضيت حتى لا أطيل النظر إليها. ولست أدري لم كانت صورتها تنطبع في خيالي وتعاودني في خلواتي وتلازمني في سيري، حتى كادت تنافس الصورة التي طويت عليها جوانحي، وجعلتها رمز الكمال والأمل؛ صورة علية ابنة علاء الدين.
وبعد قليل جاء أخوها، فجلسنا ثلاثتنا نتدارس ونتعاطى أطيب الحديث، وصلينا وقرأنا الأوراد حتى مضى صدر من الليل، وأخبرتهما بما كان من أمري، فاختلفت فيه الآراء، وراجعني كمال الدين في رأيي مراجعة شديدة، ولكنني ما كنت لأرجع عن أمر تبين لي فيه وجه الحق، ولم يراجعني كمال الدين إلا لأنه خشي علي من عواقبه. ولكن ما هذه العواقب التي يخشاها؟ إن الحق واضح ولا يليق بنا أن نتردد فيه.
ثم قمت عائدا إلى داري والسرور يملأ قلبي، والأمل يضيء لي سبيلي، ولم أنس أن أذكر نظرة «نجوى» عندما ودعتها. لقد خفق قلبي خفقة شديدة عندما نظرت إلى عينيها الواسعتين، ولست أستطيع أن أعبر عن أثر نظراتها في نفسي؛ فإن الألفاظ تتضاءل عن وصفه؛ تلك الألفاظ التي لم يتخذها الناس إلا مطية لما اعتادوه من معانيهم. حقا أني لم ألبث أن غضضت من بصري وسرت عنها مسرعا، ولكني جعلت ألوم نفسي، فما كان ينبغي لي أن أستبيح تلك المتعة من النظر إلى جمالها البارع وملء عيني منه. ومضيت في سبيلي وصورتها ماثلة في قلبي حتى غلبت على صورة علية ابنة علاء الدين. ما لي وعلية! إنها ليست إلا خيالا، وهذه «نجوى» الطاهرة التي كنت أسمع حديثها وأستوحي العلا من نظرتها. «نجوى» التي كنت أراها حقيقة أمامي. وما يدريني إذا أنا رأيت علية وحدثتها كيف أجد حقيقتها؟ ألا أراها ترفع حاجبيها استعلاء وتزور عني ولا تهش لي كما تهش نجوى الكريمة إذا لقيتها؟
بلغت منزلي أخيرا ولم أنس أن أحاسب نفسي على نظرتي التي نظرتها، فأخذت حفنة من الحصى من إحدى القدرين وقذفت بها إلى جانب، ثم قمت إلى أحد العلمين فحططته عن داري ريثما ييسر الله من الحسنات ما يعوض ذلك النقص. وأطلت في ليلتي من القيام بالصلاة لعل الله يتجاوز عن خطيئتي، وعزمت على أن أمسك قلبي من بعد فلا أنظر إلى «نجوى» إلا كما نظر موسى إلى النور المقدس.
الفصل التاسع عشر
كانت الليالي بطيئة كأنها تزحف زحف الدبى، وكانت النجوم تلمع من وراء القضبان الحديدية الغليظة كأنها قد سمرت في مواضعها من السماء. وكنت أقفقف من البرد في سجني المظلم، ولولا الصلاة وقرة عيني فيها لتمزق صدري من غيظه وتطايرت عنه أضلاعي. قذف بي في السجن كما ترمى الهرة في البئر أو كما يخبط الحجر فيتدحرج إلى الهاوية. وقد حاولت أن أعرف ما الذي دعا إلى سجني وأنا رجل قد كفيت الناس كل أمري فلم أستطع أن أهتدي إلى شيء؛ لأن السجان الفظ كان يأبى أن يكلمني، وكنت لا أرى سواه إلا بعض رفاق كانوا مثلي لا يعرفون لهم جريمة .
وبقيت كذلك إلى أن أحسست يوما على جدار حجري حسا، فنظرت حولي ورفعت رأسي فإذا وجه يطل علي من بين القضبان، فبرقت فيه لأعرفه فلم يسعفني الضوء الضئيل، ثم رأيته يفتح فمه الأهتم ويهمس يناديني، فصعدت بصري فيه حتى بلغت رأسه الأصلع وصحت فرحا: «طوطاط!» فهز رأسه وهو صامت، وكان يحاول في مشقة أن يلف ذراعه اليمنى حول القضبان ليتعلق بها، ثم رمى إلي حزمة بيده اليسرى وقال هامسا: «كيف حالك؟ تشجع!»
فصحت به: «قل لي لم جيء بي إلى هنا.»
فقال متأثرا: «ألم أقل لك؟ إنك لا تسمع النصح. كيف تجرأت على تزوير القدور؟»
وعند ذلك ثقل جسمه على ذراعه فاختل تماسكه ووثب إلى الأرض بعد أن قال لي: «تصبر.»
Halaman tidak diketahui