فنظر تلاميذي بعضهم إلى بعض وتصايحوا: «نتدسس إلى الشهوات؟ هذا مستحيل. وما جدوى الخير إذا كانت الشهوات سبيله؟» فقال كمال الدين مترفقا: «أقصد أن نتدسس إلى المسرات!» فقال التلاميذ: «نعم، أما هذه فلا بأس بها.» وأخذنا ندبر الخطة المحكمة.
بالاختصار جعلنا نعقد في المدرسة كل أسبوعين مجلسا للهو ندعو إليه علية جانبولاد وأوساط أهلها، وكنا نحشد فيه المغنين وصناع اللهو والمضحكين، وجعلنا لذلك أجرا، فكنا نأخذ من البعض ذهبا ومن البعض الفضة، كل على قدر وجاهته. وكنا نميز أصحاب الذهب بمقاعد في الصدر، فكان هذا كافيا لأن يبذل الجميع ذهبا حتى صارت القاعة كلها مقاعد صدر.
وكان نجاحنا منقطع النظير؛ فإن علية جانبولاد أسرعت إلى التلبية، ولم يرد أحد منهم دعوتنا، وانهال علينا المال انهيالا، فأمكننا أن نطعم الفقراء ونكسو المساكين ونعين المرضى على الدواء، ولكنني مع هذا النجاح كنت أحس في قرارة نفسي أنني أخطأت سبيلي، وأنني أحيي ألف سيئة في سبيل حسنة واحدة. وما قيمة الخير إذا لم يفعله صاحبه متجها إليه؟
وكنت أحس أن الله لن يرضى عن عملي ولن يقبل خيري. ولم ألبث أن وجدت عقوبة الله أمامي، فما كان الله ليبارك في خير جاء عن سبيل الشهوات.
الفصل السابع عشر
عاد تيمور إلى جانبولاد بعد أن قهر الملوك وقتل الجيوش، وأتى معه بعدوه بايزيد العثماني في قفص من الحديد؛ ليراه الناس ويعتبروا ويمجدوا في الأرض اسم تيمور.
ولم تطاوعني نفسي على الخروج مع الناس لرؤيته؛ فما حاجتي إلى رؤية منظر شهدت مثله في الغابة من قبل! وزاد من زهدي في رؤيته ما سمعت عن منظره؛ فقد قيل إنه أشل اليد والرجل، تعترض وجهه ضربة سيف تركت فيه جرحا غائرا يجعل نظرته كنظرة الفهد. فآثرت الذهاب إلى دار صديقي كمال الدين لأقضي عنده اليوم؛ لأن مدرستي كانت خاوية؛ إذ خرج أكثر تلاميذي كما خرج الناس لرؤية موكب المنتصر. ولست ألوم أحدا منهم على ذلك فإنه من طبع الإنسان. كان الإنسان منذ القدم يعبد الأقوياء القساة.
ولم يكن كمال الدين وحده في الدار، بل كانت معه أخته الصالحة الكريمة «نجوى»؛ نجوى الطاهرة البتول التي كانت لأخيها كل ما في الحياة.
كانت شابة في البضع والعشرين، وإن كنت كلما حدثتها رأيت من عقلها كمال الخمسين، وكنت كلما نظرت إليها تذكرت علية ابنة علاء الدين.
كانت لها عيناها الواسعتان وجبينها الوضاح وصفحة وجهها الوضاء، حتى لقد كان يخيل إلي أحيانا أنها هي التي رأيتها في الهودج المزركش في موكب السلطان في ماهوش.
Halaman tidak diketahui