الفصل الثامن
ماذا أصنع لكي أعيش في ماهوش؟ لقد زعم القاضي - حرسه الله - أن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها، ولكني سعيت وسعيت وسعيت ولم أجد لي نصيبا.
ذهبت اليوم مرة أخرى إلى الشيخ عماد الدين الفقيه لأحاول أن أذكره بديني عليه، ولكني علمت أنه عند القاضي. فقلت هذه الفرصة، وذهبت إليه في حضرة القاضي - أعزه الله - فوجدته على عهده لا يزال يهز لحيته، والناس يقبلون يده التماسا للبركة. فدخلت وسلمت، وخطر لي أن أذهب إليه وأقبل يده مع الناس، لعله يذكر ديني عليه. ولكني ما كدت أقف أمامه وأراه يصرف وجهه عني حتى وجدت نفسي أقول له: ألا تعرفني يا سيدي الشيخ؟
فنظر إلي وجعل يحرك شفتيه كأنه مشغول بالقراءة، ثم حرك لحيته حركة لم أفهم معناها، ولكن القاضي ناداني وجعل يحدثني ويسألني عن أحوالي. وسألني كذلك عن الوزات التي طلب مني أن أبتاعها له منذ شهر، فذكرت عند ذلك أنني مدين له بثمن تلك الوزات، وعلاني خجل شديد. وهكذا ذهبت أطلب ديني فوجدت نفسي مدينا مطالبا.
وملت على القاضي فأسررت إليه أنني قد جئت أطلب دينا لي على صاحبه الفقيه، فهمس في أذني: ما ينبغي لك أن تطالبه في داري.
فخرجت مرتبكا بعد أن سلمت، ولمحت الشيخ الفقيه يشيعني بلمعة شماتة من عينيه وهزة سخرية من لحيته.
وسرت أفكر ماذا عساي أن أصنع في ماهوش لكي أجد فيها رزقي. لكأني بذلك الرزق كامن في قلب صخرة من دونها بحر من دونه صحراء قاطعة. أو كأنه في كهف مغلق عليه باب من حديد ليس فيه إلا ثقب إبرة أحاول أن أنظر إليه من خلالها. على حين أرى ماهوش سخية ليس بها بخل، غنية ليس بها فقر، مسرفة ليس فيها اقتصاد.
هنا في ماهوش راقصة ليس عليها إلا أن تحرك خصرها فتنهال عليها الدنانير من كل صوب، وهناك مغنية لو طلبت على أغانيها نصف ثروة ماهوش لسخا أهلها بالنصف الآخر طربا. ألا أستطيع أن أجد لنفسي سلعة نافقة في ماهوش؟ لو كان خصري نحيلا لينا لاستطعت الرقص، ولو كان غنائي مطربا لعرضت على قومي الغناء. ولكن ما حيلتي إذا كان خصري غليظا جامدا، وكان صوتي لا يطرب أحدا. لقد دخلت الحمام يوما فخطر لي أن أجرب صوتي في أغنية لعلي أجيدها فأنال منها خيرا، وأنا أعرف أن أهل ماهوش يحبون الغناء ويطربون له؛ فهم يتغنون في كل وقت وكل مكان. هم إذا حزنوا غنوا وإذا فرحوا غنوا وإذا باعوا أو اشتروا غنوا، كل من أراد أن يعرض سلعة جعل عرضها غناء، وكل من أراد نداء جعل نداءه غناء. وسمعت صوتي في الحمام فوجدته مطربا، فدب الأمل في قلبي وقلت هذه سلعة نافقة. وخرجت إلى الطريق وأنا أغني، فاجتمع علي الناس وجعلوا يضحكون مني، فدعوتهم أن يعودوا معي إلى الحمام لعل صوتي فيه يطربهم، ولكنهم زادوا ضحكا ولم أصب منهم درهما. فما حيلتي إذا كان أهل ماهوش لا يرضيهم شيء مني؟
ولما بلغت الدار جلست مهموما حتى جاء صاحبي أبو النور، وما كاد يسلم علي حتى سألني: أين كنت اليوم يا صديقي؟
فقصصت عليه ما كان مني. يا له من صديق نبيل! لقد رأيته يمسح دمعة في عينه، ولا أدري أكان ذلك إشفاقا علي أم كان كما قال لوجع في عينه. ولما فرغت من قصتي قال لي: إن عندي سربا من الوز لا أجد حاجة إليه، فخذ منه عشرين وزة فاحملها إلى القاضي.
Halaman tidak diketahui