فسكتوا ونظروا في شيء من الغيظ إلى ريمة، كأنها قد خيبت أملهم في غرقها، وسرنا في موكب متهامس حتى بلغنا ماهوش، وعدت بامرأتي إلى داري.
هذه هي امرأتي التي لا تخجل من أن تضع نفسها إلى جانب صورة ابنة السلطان؛ صورة الملك الكريم الذي أسبح معه في أعلى الملكوت مترنما بالترتيل والتسبيح. هذه هي امرأتي التي لا ترضى أن يمر بي يوم بغير أن تدخل علي حزنا جديدا. هذه هي امرأتي التي لو شئت أن أثبت على القرطاس ما أعانيه من سوء عشرتها لضاقت بي الصحف، وتكسرت الأقلام وجف المداد.
وليتها إذ تنغص علي عيشي بخلافها وسوء عشرتها تعرف شيئا من معنى الكرامة أو الصدق. لقد عرفت من النساء من يشبهنها في حمقها وشراستها، ولكني عرفتهن يندفعن مع ما فطرهن الله عليه من حدة الطبع والسلاطة، وعرفت اندفاعهن صريحا بسيطا لا التواء فيه، فلهن العذر فيما لا حيلة لهن في خلافه. ولكن ريمة امرأة تستطيع أن تضحك وأن تمرح، وهي ذات حظوة عند لكيعات أهل الحي، فإذا اجتمعت بهن أو اجتمعن بها شغلن الملائكة في إحصاء حماقاتهن، وأحفين أقلامهم في كتابة أوزارهن، وهي إذ تريد أن تملأ قلبي غيظا تدبر لغيظها تدبيرا، وتمكر وتحتال وتحكم مكائدها في براعة توحي إليها بها شياطينها.
وهي في كل مكرها تتعمد أن تذلني وأن تجعلني للناس سخرية، وتعين أشياعها من الشياطين على أن يهزءوا بي من وراء ظهري.
هذه هي ريمة امرأتي التي حكم القضاء علي أن أقيم معها تحت سقف واحد، وأن تكون لي منها ذرية تشاركنا ما نحن فيه من شقاء.
فكيف أستطيع الحياة على مثل هذا؟ لمن شرع الله الطلاق إذا لم يكن قد شرعه لمثلي ومثلها؟
أيها الناس، من كان منكم زوجا لمثل امرأتي ريمة فليطلق، لقد عزمت على الطلاق ولن أعيش مع ريمة بعد هذا أبدا.
ولكن أواه من قلبي؛ إن لي ولدين من ريمة، وما ينبغي لي أن أشقيهما بشقائي. عفوك يا عجيب ولدي، وعفوك يا جميلة ابنتي.
الفصل الرابع
كلما تذكرت ولدي كاد قلبي يتقطع رحمة لهما ورقة، ولن أقطع بيني وبين ريمة من أجلهما. إنهما بهجة عيشي لا بهجة لي غيرها سوى ذلك الخيال الذي يملأ قلبي من علية ابنة علاء الدين. فلأجعل هؤلاء عزائي، ولأتحمل ما استطعت تنكيد امرأتي وسوء عشرتها. أي جميلة ابنتي! إنك قطعة من كبدي، وحسبي أن أقول قطعة من كبدي. وأنت يا عجيب ولدي، إنك الحبيب الخبيث معا، وإن خبثك ليحلو لي وإن كنت في بعض الأحايين أضيق به ذرعا. وولدي عجيب من تلاميذ هذا العصر الحديث الذين يعتقدون أنهم ناشئة جيل جديد قد تقدم وأصاب غير ما أصابت أجيال آبائه من الذكاء والعلم، وهو مثل أبناء جيله يسيء الظن بجيل الآباء بقدر إحسانه الظن بنفسه. ولا عجب في ذلك؛ فإنه أمر تقضي به سنة الكون منذ خلق الله جيلا بعد جيل؛ فكل جيل يبدأ في تحصيل المعرفة، فيظن أنه قد أوجد تلك المعارف أول مرة، وكل منها يذوق أول طعم تجارب الحياة فيكون كل شيء عنده جديدا، فيحسب أنه قد كشف شيئا لا عهد لأحد به من قبله، فلم لا يكون ابني كذلك؟ لست ألومه على ذلك الوهم؛ فهو أمر طبيعي سبقته إليه ألوف من الأجيال، وكلما رأيته منتفخا بأوهامه تبسمت وتذكرت أحوالي إذ كنت في مثل سنه، وأرد له دين الرحمة الذي كان لأبي في عنقي. هكذا نحن نسدد ديون الآباء للأبناء.
Halaman tidak diketahui