Al-Ta'liqah al-Kabirah - Abu Ya'la - From I'tikaf to Sales
التعليقة الكبيرة - أبو يعلى - من الاعتكاف للبيوع
Penyiasat
لجنة مختصة من المحققين بإشراف نور الدين طالب
Penerbit
دار النوادر
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٣١ م - ٢٠١٠ هـ
Genre-genre
التعليقة الكبيرة
في مسائل الخلاف
علي مذهب الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل
«الشامل لبعض كتاب الاعتكاف وكتاب الحج وبعض كتاب البيوع»
«المجلد الرابع من أصل أحد عشر مجلدًا»
تصنيف
القاضي أبي يعلى الفراء
محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي الحنبلي
المولود ببغداد سنة ٣٨٠ هـ والمتوفى بها سنة ٤٥٨ هـ
رحمه الله تعالى
1 / 1
الرابع من
التعليقة الكبيرة
في مسائل الخلاف
علي مذهب الإمام الأعظم المبجل إمام الأئمة ورباني هذه الأمة
أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ﵃
تصنيف
الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره وفريد دهره
القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء
الحنبلي البغدادي ﵁
فيه من الأبواب
بعض الاعتكاف، وكتاب الحج،
وبعض كتاب البيوع المشتمل على مسائل الربا
من كتب الفقير إلى الله تعالى
محمد بن أحمد بن المنجا
الحنبلي التنوخي
ملكة أحمد بن أحمد بن أحمد […] بن محمد […]
الحنبلي في سنة ست وستين وثمان مئة
من كتب الفقير السيد فيض الله
المفتي في السلطنة العلية العثمانية
عفي عنه
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا
[كتاب الاعتكاف]
١ - مسألة
لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعات:
نص عليه في رواية ابن منصور، فقال: الاعتكاف في مسجد تقام فيه الصلاة، وقد ذكره الخرقي في «مختصره».
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: في أي المساجد اعتكف جاز.
دليلنا: ما روى أبو بكر النجاد في «كتابه» فقال: ثنا عبد الله قال: ثنا عثمان قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «كل مسجد له إمام [و] يؤذن فيه، فهو جائز».
روى الدارقطني بإسناده عن حذيفة، عن النبي ﷺ قال: «كل مسجد له مؤذن وإمام، فالاعتكاف فيه يصلح».
1 / 5
فلولا أن مسجد الجماعة شرط، لم يكن لذكره وتخصيصه فائدة.
فإن قيل: فقد قال الدارقطني: الضحاك لم يسمع من حذيفة!
قيل: لأنه أكبر ما فيه، والمرسل عندنا حجة.
فإن قيل: هذا الحديث قد طعن عليه السلف؛ لأن أبا بكر النجاد روى بإسناده عن حذيفة: أنه قال لعبد الله بن مسعود: ألا تعجب من قوم بين دارك ودار أبي موسى يزعمون: أنهم معتكفون؟! فقال: لعلهم أصابوا وأخطأت.
وروي: أنه قال لعبد الله: عكوفًا بين دارك ودار أبي موسى، وأنت لا تغير! وقال النبي ﷺ: «لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه».
وقال ابن مسعود: ما يدريك لعلك أخطأت وأصابوا، أو حفظوا ونسيت؟
وروي: أن حذيفة أتى ابن مسعود فقال: إني رأيت أناسًا معتكفين بين دارك ودار أبي موسى، وكان بينهما مسجد، فقال عبد الله: لعلهم علموا وجهلت، وحفظوا ونسيت، فقال حذيفة: إنه لا اعتكاف إلا في ثلاث مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى.
1 / 6
قيل له: لم يكن اعتراض ابن مسعود على الحديث الذي رواه عن النبي ﷺ، وإنما كان اعتراضه عليه فيما يذهب إليه من انه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي، وهذا مذهب معروف لحذيفة، وأنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي، وليس احتجاجنا بمذهب حذيفة، وإنما احتجاجنا بروايته.
وأيضًا فالمسألة إجماع الصحابة، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة:
فروى النجاد بإسناده عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة.
وروى بإسناده عن قتادة، عن ابن عباس: لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة.
وروى بإسناده عن عروة، عن عائشة: أنها قالت: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة.
1 / 7
وروى بإسناده عن الزهري قال: مضت السنة أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد جماعة تجمع فيه الجمعة.
وهو قال جماعة من التابعين: الحسن، وجابر بن زيد، وعطاء، وكحول، والزهري، وعكرمة، وإبراهيم، ذكره النجاد في "كتابه" بإسناده.
ولأن صلاة الجماعة فرض عندنا، فلو أجزنا الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الصلاة، أدى ذلك إلى ترك الاعتكاف والخروج منه لطلب الجماعات، وذلك يتكرر في اليوم والليلة خمس دفعات، فلم يجز؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد، وحبس النفس عليه.
فإن قيل: فكان يجب أن تشترط مسجدًا تقام فيه الجمع لئلًا يؤدي ذلك إلى الخروج لطلب الجمع، وقد أجزت الاعتكاف في مسجد لا تجمع فيه الجمعة، كذلك الجماعة.
قيل له: الجمع لا تتكرر، إنما تجب في الجمعة مرة، فلا يؤدي ذلك إلى ترك الاعتكاف.
وقد نص أحمد على جواز الاعتكاف في غير المسجد الجامع في رواية الأثرم، وقد سئل عن الاعتكاف في غير المسجد الجامع، فلم ير به بأسًا.
1 / 8
ووجدنا أن للتكرار تأثيرًا، ألا ترى أن من يتكرر دخوله إلى مكة من الحطابة، يجوز دخوله بغير إحرام، ومن لا يتكرر لا يدخله [ــــا] إلا بإحرام؟
وأيضًا: فإن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد، فاختصت بمسجد مخصوص.
دليله: الطواف.
فإن قيل: الطواف أخص، ألا ترى أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام؟
قيل: لا يمتنع أن يتساويا في تعلقهما بمسجد مخصوص، وإن كان أحدهما أعم، ألا ترى أن الطواف والذبح يتفقان في اختصاصهما بالحرم، وإن كان الطواف أخص؛ لأنه يختص [ب] المسجد، والذبح يعم جميع الحرم!
واحتج المخالف بأنه مسجد بني لصلاة الجماعة، فصح الاعتكاف فيه.
دليله: المسجد الذي تقام فيه الصلاة.
والجواب: أن مسجد الجماعة لا يؤدي إلى ترك الاعتكاف، وليس كذلك ما هنا؛ لأنه يؤدي إلى تركه على التكرار من الوجه الذي بينا.
1 / 9
أو نقول: ليس إذا جاز في مسجد الجماعة جاز في غيره؛ كالطواف يجوز في المسجد الحرام، ولا يجوز في غيره.
وإن قاسوا على المسجد الذي لا تقام فيه الجمعة، فالفرق بينهما ما ذكرناه
٢ - مسألة
لا يصح اعتكاف المرأة في بيتها:
أومأ إليه أحمد في رواية أبي داود، وقد سئل عن المرأة تعتكف في بيتها، فذكر النساء تعتكفن في المساجد، ويضرب لهن فيه بالخيم، وقد ذهب هذا من الناس.
وهو قول مالك والشافعي.
قال أبو حنيفة: يجوز اعتكافها في مسجد بيتها.
دليلنا: ما روى النجاد بإسناده عن كثير مولى ابن سمرة: أن امرأةً أرسلت إلى رسول الله ﷺ: أني أريد أن أعتكف العشر الأواخر فما ترى؟
قال: "ادخلي المسجد، واقعدي في طست، فإذا امتلأ، فليهراق عنك".
فوجه الدلالة: أنه أمرها [بالاعتكاف] بالمسجد، ولم يجعل
1 / 10
ذلك عذرًا في تركه.
ولأن كل موضع لا يصح اعتكاف الرجل فيه، لا يصح اعتكاف المرأة فيه.
دليله: الشوارع والطرقات.
أو نقول: كل موضع يجوز لها المقامة فيه في حال الجنابة والحيض، لا يصح الاعتكاف فيه.
دليله: ما ذكرنا.
ولأنها عبادة لا تصح من الرجل إلا في المسجد، فلا تصح من المرأة إلا في المسجد.
دليله: الطواف.
ولأن ما كان شرطًا في صحة اعتكاف الرجل، كان شرطًا في صحة اعتكاف المرأة.
دليله: النية واللبث.
ويبين صحة ذلك: أن ما يفسد اعتكافه يفسد اعتكافها؛ كالمباشرة ونحوه.
فإن قيل: قد أجمعنا على الفرق بينهما في موضع الاعتكاف واللبث؛ لأن عندكم يكره للشابة أن تعتكف في المسجد، ونحن نمنعها من ذلك، وهما في اللبث والنية سواء!
1 / 11
قيل: قد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن النساء يعتكفن؟
قال: نعم، ولم يخص الشابة من غيرها.
وقياس قوله: أنه يكره للشابة؛ لأنه قد نص [على] ذلك في خروجها لصلاة العيدين، وأنه مكروه.
فعلى هذا إذًا: افترقا في كراهة الحضور، مما يوجب الفرق في المحل بدليل: أنه يكره للشابة حضور الجمع، ثم حضور موضع الجماعة شرط في صحتها، وكذلك يكره لها الطواف نهارًا، ومع هذا فالمسجد شرط في طوافها.
واحتج المخالف بما روي عن النبي ﷺ: أنه أراد أن يعتكف، فخرج إلى المسجد لاعتكافه، فراى قبابًا مضروبة، فقال: "ما هذه؟ " فقيل له: هذه لعائشة، وهذه لحفصة، وهذه لزينب، فقال: "آلبر يردن بهن؟! " وأمر بنقض القباب، وأخر الاعتكاف.
فدل على أن المرأة لا تعتكف في المسجد، لأنه لو جاز لها ذلك لما غضب.
والجواب: أن الخبر يدل على الكراهة، ونحن نقول: إنها إذا كانت شابة، فإنه يكره لها أن تعتكف في المسجد، وتصلي فيه.
نص عليه في الصلاة في رواية حنبل، وقد سئل في خروج النساء
1 / 12
إلى العيد، فقال: هؤلاء يفتن الناس إلا أن تكون امرأة طعنت في السن.
فيجوز أن يكون النبي ﷺ أنكر لهذا المعنى، ويجوز أن يكون أنكر لأنه لم يحب ظهورهن في المسجد، وللزوج أن يمنع امرأته عن مثله، وإن [كان] ذلك قربة؛ كما يمنعها من حج التطوع، وإن وجدت المحرم، وكان الطريق آمنًا.
واحتج بما روي عن عائشة ﵂: أنها قالت: لو علم النبي ﷺ ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد؛ كما منعت نساء بني إسرائيل.
والجواب: أن هذا محمول على الشباب بدليل ما ذكرنا.
واحتج بأن بيتها موضع يستحب أداء الصلوات المفروضة والمسنونة فيه، فجاز أن يكون موضعًا للاعتكاف.
دليله: المسجد.
وإذا ثبت أنه يجوز أن يكون موضعًا له، ثبت أن للمرأة أن تعتكف فيه.
والجواب: أن كونه موضعًا تستحب فيه صلاتها لا يدل على أنه موضع للاعتكاف؛ لأن بيت الرجل تستحب فيه صلاة النافلة، وليس
1 / 13
بموضع لاعتكافه، وإن كان الاعتكاف نافلة.
ولأنه لو كان معتبرًا بموضع استجاب الصلاة الفريضة، لوجب أن لا يصح اعتكافها في المسجد؛ لأنه ليس بموضع استحباب صلاتها فيه.
ثم المعنى في الأصل: أنه محل لاعتكاف الرجل، أو لأنه موضع بني لذكر الله والصلاة، وليس كذلك البيوت والمساكن؛ لأنه ليس بمحل لاعتكاف الرجل، ولأنه مبني لمصالح الدنيا، فهو كالشوارع، ولأنه يجوز للجنب والحائض والنفساء المقام فيه؛ كالشوارع.
واحتج بأنها ممنوعة من الخروج إلى المسجد واللبث فيه، فلا يجوز أن يكون ذلك شرطًا في صحة اعتكافها.
والجواب: أنها ممنوعة من الخروج إلى الجامع يوم الجمعة، ولا تصح جمعتها مع ذلك إلا مع الإمام.
وكذلك [هي] ممنوعة من الخروج لحج التطوع، ولا يصح فعلها للحج والعمرة إلا بالخروج إلى مكة، وحضور تلك الأماكن، كذلك هاهنا.
٣ - مسألة
يصح الاعتكاف بغير صوم في أصح الروايتين:
نص عليها في رواية حنبل، وعلي بن سعيد، والميموني:
1 / 14
فقال في رواية حنبل: إن صام كان أحوط له.
وظاهر هذا: أنه غير واجب.
وقال - أيضًا - في رواية الميموني: أكثرهم يوجب عليه الصيام مع الاعتكاف، إلا أن حديث عمر حين قال: نذرت أن أبيت ليلةً في المسجد الحرام، فقال له النبي ﷺ: "أوف بنذرك".
وكان رأيت أبا عبد الله في هذا الموضع يجعله حجة لمن لم يوجب عليه الصيام.
وقال - أيضًا - في رواية علي بن سعيد: ومن يعتكف بالليل، فليس عليه صوم، ولكن يحتار للمعتكف أن يصوم.
وظاهر هذا: أنه غير واجب عليه الصوم، وبه قال الشافعي.
وروى الأثرم عنه - وقد سئل عن المعتكف: يصوم؟ - قال: نعم يصوم، هو أكثر ما جاء فيه، فعاوده السائل، فقال: نعم، إذا اعتكف وجب عليه الصوم.
ونقل حنبل عنه في موضع آخر - وقد سئل عن الاعتكاف في غير شهر رمضان - فقال: لا يكون إلا في شهر إلا النذر، فإن كان نذرًا فلا تأثير، وإنما الاعتكاف في شهر رمضان؛ لأنه لا اعتكاف إلا بصوم.
وظاهر هذا: أنه واجب فيه الصوم، وبه قال أبو حنيفة ومالك.
1 / 15
وجه الرواية الأولى: ما روى حنبل بإسناده عن ابن عمر قال: كان على عمر ﷺ اعتكاف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فسأل النبيصلى الله عليه وسلم، وأمره النبي ﷺ: أن يعتكف، ويف [ـي] بنذره.
فوجه الدلالة: أنه أمره بالوفاء به في ليلة مفردة مع امتناع جواز الصوم في الليل، فدل على أنه ليس من شرطه الصوم.
فإن قيل: قد روي في خبر آخر: أنه قال: نذرت أن أعتكف يومًا وليلةً.
فيحمل الأمر على أنه سأله عن الأمرين، فقال: "أوف بنذرك"؛ يعني: في النهار الذي يصح فيه الصوم.
قيل له: المعروف ما ذكرناه، وما ذكروه لا يضر؛ لأنه يحتمل أن يكونا نذرين مختلفين:
أحدهما: ليلة مفردة، فأمره بالوفاء بها.
والآخر: يوم وليلة، فأمره بالوفاء.
وأيضًا روى أبو الحسن الدارقطني بإسناده عن ابن عباس، عن النبي ﷺ: أنه قال: "ليس على المعتكف صيام، إلا أن يجعله على نفسه".
1 / 16
فإن قيل: هذا الخبر غير معروف عن ابن عباس، وإنما هو موقوف على علي، وقد روي عنه مثل مذهبنا.
قيل له: قد روينا [هـ] عن أبي الحسن مسندًا في "سننه"، وهو من علم الحديث بموضع.
فإن قيل: قد روي عن ابن عباس وابن عمر: أنها قالا: لا اعتكاف إلا بصوم، فلو كان الحديث صحيحًا لم يخالفه ابن عباس!
قيل له: مخالفة الراوي للحديث لا تدل على ضعفه؛ لجواز أن يكون قد نسي سماعه.
ولهذا قلنا في قول ابن عباس: (بيع الأمة طلاقها): لا يمنع الاحتجاج بروايته عن النبي ﷺ: أن عائشة اشترت بريرة، فأعتقتها، فخيرها رسول الله.
ولو كان بيع الأمة طلاقها لما خيرها رسول الله، فتركنا قول ابن عباس، واحتججنا بروايته.
فإن قيل: يحتمل أن يكون معناه: ليس على من يلبث في المسجد ويقعد فيه صوم، إلا أن يوجب الاعتكاف على نفسه، فحينئذ يلزمه الصوم.
1 / 17
قيل له: من يلبث في المسجد، ولا يعتقد الاعتكاف، لا يكون معتكفًا، والنبي ﷺ نفى الصيام عمن هو معتكف بقوله: "ليس على المعتكف صوم" فاقتضى ذلك النفي عن المعتكف اعتكافًا شرعيًا.
فإن قيل: يحتمل أن يريد به: ليس على المعتكف في رمضان صوم آخر لأجل الاعتكاف.
قيل له: النفي عام يقتضي ليس عليه صوم؛ لا لأجل الاعتكاف، ولا لغيره.
على أنه قد يلزم المعتكف صوم لأجل الاعتكاف، وهو أنه إذا نذر اعتكاف شهر غير رمضان، فإنه يلزمه اعتكاف شهر وصومه، وهذا الصوم إنما لزمه لأجل الاعتكاف.
والقياس: أنها عبادة يصح استفتاحها بالليل، فوجب أن لا يكون الصوم شرطًا في صحتها.
أصله: الصلاة والحج والعمرة والزكاة والطهارة.
ولا يلزم عليه من نذر أن يعتكف شهرًا بصوم: أنه يصح، بل الاعتكاف صحيح، ولكن لا يجزئ عن فرضه؛ كما إذا نذر اعتكاف شهر متتابع، فاعتكف شهرًا متفرقًا، فإنه يكون اعتكافًا صحيحًا، ولكن لا يعتد به عن نذره، كذلك هاهنا.
فإن قيل: قد اتفقنا على الفرق بين الاعتكاف وبين سائر العبادات؛
1 / 18
لأنكم تقولون: الصوم مشروع فيه استحبابًا، ونحن نقول: وجوبًا، وليس كذلك سائر العبادات؛ لأنه ليس بمشروع ولا واجب، فبان الفرق بينهما.
قيل له: هذا لا يمنع صحة الاعتبار؛ لأن الصلاة يستحب لها كمال اللباس، وما زاد على ستر العورة ليس بشرط فيها؛ كما ليس بشرط في صحة سائر العبادات، وافتراقهما في استحباب كمال اللباس لا يوجب افتراقهما في الإيجاب.
فإن قيل: يجوز أن يكون ابتداء الاعتكاف يخلو من الصوم، ويكون شرطًا في استدامته؛ كما كانت القراءة شرطًا في استدامة الصلاة دون ابتدائها.
قيل له: القراءة ليست بشرط، وإنما هي ركن من أركان الصلاة كالركوع والسجود، وأما ما كان شرطًا، فابتداؤها واستدامتها فيه سواء، كاستقبال القبلة وستر العورة.
ولأن ما لم يكون شرطًا في صحة الاعتكاف بالليل لم يكون شرطًا فيه بالنهار، وقياسًا على سائر الأذكار والأفعال، وعكسه الكون في المسجد والإيمان والعقل.
1 / 19
فإن قيل: ليس من حيث لم يكن شرطًا ليلًا يجب أن يكون نهارًا؛ كما أن اللبث في المسجد ليس بشرط في حال خروجه لحاجة الإنسان، وهو شرط في حالة أخرى، كذلك هاهنا.
قيل له: حاجة الإنسان يستوي فيها الليل والنهار، وكان يجب - أيضًا - أن يستوي في ذلك الليل والنهار.
فإن قيل: الصوم يصح بالنهار، ولا يصح بالليل، فجاز أن يشترط في أحدهما، ولا يشترط في الآخر.
قيل له: الصوم يصح في صلاة النهار، ولا يصح في صلاة الليل، وهما متفقان في أن الصوم ليس بواجب في أحدهما، وكذلك التسبيح وقراءة القرآن والصلاة تصح بالنهار، وليس بشرط فيه.
ولأن الليل زمان يصح فيه الاعتكاف، فجاز إفراده بالاعتكاف كالنهار.
وقد قيل: إن الصوم عبادة مقصودة في نفسها من فروع الدين، فلم يكن شرطًا في صحة عبادة أخرى؛ كالصوم مع الصلاة، والصلاة مع الحج.
ولا يلزم عليه الإيمان؛ لقولنا: من فروع الدين.
فإن قيل: الاعتكاف لا يكون عبادة إلا بالصوم، فلا معنى لقولك: وجب أن لا يكون الصوم شرطًا في عبادة أخرى.
قيل له: كون الصوم شرطًا فيها عندك لا يمنع أن يكون عبادة بنفسه؛
1 / 20
كالصلاة من شرطها التيمم، ثم لا يخرج أن يكون كل واحد منهما عبادة، وكذلك من شرط صحة الصلاة الإيمان، وكل واحد منهما عبادة منفردة.
واحتج المخالف بقوله تعالى: ﴿وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ﴾ [البقرة:١٨٧].
والاعتكاف لفظ شرعي مفتقر إلى البيان، والله - تعالى - لم يبين صفته، فاجتجنا إلى بيان من غيره، فوجنا النبي ﷺ لم يعتكف إلا بصوم، فيكون فعله بيانًا للجملة المذكورة في الكتاب، وفعله إذا وقع موقع البيان كان كالوجود في لفظ الآية، ولو وجد في لفظها كان الصوم شرطًا في الاعتكاف، كذلك إذا ثبت بفعله.
والجواب: أن النبي ﷺ قد بين الواجب وبين المستحب، فيحمل هذا على بيان الاستحباب دون الإيجاب، كما ذكرنا.
واحتج بما روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: "لا اعتكاف إلا بصوم".
وروي موقوفًا على عائشة.
والجواب: أنه محمول على أن لا اعتكاف كامل إلا بصوم، كما قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له"، و"لا صلاة لجار المسجد إلا في
1 / 21
المسجد"، ونحو ذلك.
واحتج بما روي عن عمر: أنه قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف يومًا في الجاهلية، فقال له النبي: ﷺ"اعتكف، وصم".
وقال عمر: (في الجاهلية) قالوا: معناه: أنه نذر قبل فتح مكة في حال كان أهلها في الجاهلية، وليس معناه: أنه نذر في حال الشرك؛ لاتفاقهم على: أن من نذر في حال الكفر أن يعتكف لم يلزمه بعد الإسلام شيء.
والجواب: أننا نحمل قوله: "وصم" على طريق الاستحباب دون الإيجاب، بدليل ما تقدم.
واحتج بأن ما ليس له أصل في الفرض لا يلزم بالنذر، بدليل: أنه لو قال: لله علي أن أقعد في الشمس، أو أعود مريضًا، أو أدخل هذه الدار، لم يلزمه شيء.
واتفقوا على: أن الاعتكاف يلزم بالنذر، وليس له أصل في
1 / 22