Al-Tafsir Al-Wasit - The Research Complex
التفسير الوسيط - مجمع البحوث
Penerbit
الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
(١٣٩٣ هـ = ١٩٧٣ م) - (١٤١٤ هـ = ١٩٩٣ م)
Genre-genre
الأزهر
مجمع البحوث الإسلامية
التفسير الوسيط
للقرآن الكريم
تأليف
لجنة من العلماء
بإشراف
مجمع البحوث الإِسلامية بالأزهر
الحزب الأول
الطبعة الثالثة ١٤١٣هـ - ١٩٩٢م
مطبعة المصحف الشريف
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 3
تصدير
يسر الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية، أن تقدم لقراء الثقافة الإسلامية، كتاب: (التفسير الوسيط للقرآن الكريم) وهو ثمرة توصية لمس فيها المؤتمر الرابع للمجمع، حاجة المسلمين إلى وضع تفسير وسيط للقرآن الكريم، في أسلوب ميسر: يسهل للقارىء الوصول إلى معانيه.
ولقد سارع المجمع - إثر صدور هذه التوصية - إِلى العمل على تنفيدها، مدركا خطورة الموضوع الذي يتصدى له، مستجيبا للهفة المسلمين إلى تفسير للقرآن الكريم: ييسر لهم الرجوع إليه- باعتباره أساس وجودهم، ومصدر شريعتهم- في وقت أخذوا يتلمسون فيه الطريق إلى ذاتهم، وبناء حضارتهم: على أساس راسخ، وبنيان متين.
فعقد مجلس المجمع عدة جلسات للنظر في التخطيط؛ لتنفيذ هذا المشروع، ووافق على الخطة التي انتهى إليها، وعهد إلى بعض أعضائه بالإشراف على إِخراجه.
وقد سار العمل في هذا المشروع على درجتين: أولاهما يتم فيها وضع التفسير، بتوزيع أجزاء القرآن على نخبة من العلماء الممتازين ليقوم بكتابة التفسير، وفقا للخطة العلمية التي أقرها المجلس. وثانيتهما: يتم فيها مراجعة ما كتب والتنسيق بينه، بحيث يظهر في أسلوب موحد واف بالمقصود.
وقد اشترك في لجنة التنسيق من السادة أعضاء المجمع فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أحمد أبو زهرة، والأستاذ محمد خلف الله أحمد، والأستاذ الدكتور محمد مهدى علام.
وانضم إليهم من السادة العلماء:
١ - فضيلة الأُستاذ الدكتور عبد العظيم الغباشى.
٢ - السيد الأُستاذ على عبد العظيم.
٣ - فضيلة الأُستاذ الدكتور محمد السيد ندا.
1 / 5
٤ - فضيلة الأُستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي.
٥ - فضيلة الأُستاذ الشيخ محمد سليم زيدان.
٦ - فضيلة الأُستاذ الشيخ مصطفى محمد الحديدى الطير.
كما اشترك في بعض المراحل فضيلة الأُستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة.
واننا لنتوجه إلى الله العلى القدير، أن يمدهم بعونه وتوفيقه، ليكملوا أداء هذه الرسالة الجليلة، وأن يوفقهم إلى إتمامها، في الصورة التي يرضى عنها الله المؤمنون.
كما نرجوه -سبحانه- أن يوفق الأمانة العامة إلى موالاة إصدار ما يتم من هذا التفسير. ولله الموفق، والهادى إلى الصواب.
تحريرا فى
٣٠ من ربيع الأول١٣٩٣هـ
٢٣ من أبريل ١٩٧٣م
الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية
دكتور محمد الرحمن بيصار
1 / 6
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، بعث محمدا خاتما للمرسلين، وأَنزل عليه القرآن العظيم، بلسان عربى مبين، وجعله حجة باقية على الزمان، ونبراسا للهدى والعرفان، ففتح به قلوبا غلفا، وأسمع به آذانا صما، وبَصَّرَ به أعينا عميا.
والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين: سيدنا ومولانا محمد صفوة خلق الله أجمعين: اختصه برسالته الخالدة، واصطفاه لدعوة الحق الباقية، وشرفه بالعلم والعرفان، وزينه بأكرم السجايا وأكمل الأَخلاق.
ورضوان الله ورحمته وبركاته، على آله وأصحابه، ومن نهج نهجهم، واتبع سبيلهم من المؤمنين الصادقين إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن القرآن الكريم: كتاب الله الخالد، نزل به الروح الأمين، على أكمل البشر، وخاتم الرسل: سيدنا محمد ﷺ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعد ما اشتبه عليهم الضلال بالهدى، والجهل بالعرفان.
وكان ذلك من رحمة الله بعباده، وعظيم رأفته بخلقه.
وقد استطاع القرآن - ببلاغته وعظيم هداه - أن يلين قلوب العرب بعد عنادهم، ويروض جماحهم بعد شماسهم، فلانوا بعد صلابة، وانقادوا بعد شرود، واستجابوا بعد إباء، إذ انشرحت له صدورهم، وتفتحت له قلوبهم.
ثم ما لبثوا أن انتقلوا من الضلالة إلى الرشاد، ومن البداوة إلى الحضارة، ومن الجهالة إلى العلم، ومن الفرقة والشقاق، إلى الأُلفة والاتحاد، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهوان إلى العزة، وصدق الله إذ يقول: " ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. (١)﴾
ويقول: ﴿... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ... (٢)﴾.
_________
(١) الجمعة: ٢
(٢) المنافقون: ٨
1 / 7
وتحت راية هذا الذكر الحكيم: انتشر الإسلام في العالمين وسادت اللغة العربية كثيرا من لغات البلاد التي آمنت به، وازدهرت الحضارة الرفيعة في ربوعها، فإنه أباح لهم عمارتها والتمتع بطيباتها وزينتها، إلى جانب أنه حثهم على السمو الروحى عن طريق العلم والعمل الصالح، للفوز في دار الخلود.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .﴾ (١)
ويقول ﷿: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾. (٢)
ويقول سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (٣)
وفي ظلال تمسكهم بهداه، استحقوا أن يكونوا خير أُمة أُخرجت للناس. وذلك لأنهم: يأْمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤْمنون باللهِ، ويسلكون سبيل الرشاد.
ولما تراخى المسلمون في الاعتصام به: انتثر عقدهم، وذهبت ريحهم، وتفرق شملهم، فلا سبيل إلى استعادة أمجادهم وعزتهم وتوتهم، إلا بأَن يعودوا إلى التمسك حهذا الكتاب العظيم: وأن تخفق قلوبهم لتوجيهه، وتنقاد لإرشاده، في شئون الدنيا والدين.
ومن أبرز صفات المؤمنين الصادقين، التجاوب العقلى والروحى، والعملي مع آي الذكر الحكيم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (٤). وأن يتأثروا بعظاته على نحو ما يقوله سبحانه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .﴾ (٥) وأن يحذروا الفرقة بعد أن جمعهم الله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ...﴾ (٦).
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. . .﴾ (٧). وأن يأخذوا بأسباب القوة علمًا وعملا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .﴾ (٨)
_________
(١) الأعرف: ٣٢
(٢) طه: ١١٢
(٣) الزلزلة: ٨،٧
(٤) الأنفال: ٢
(٥) الزمر: ٢٣
(٦) النحل: ٩٢
(٧) آل عمران: ١٠٣
(٨) الأنفال: ٦٠
1 / 8
القرآن والتفسير
القرآن هو المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية، لهذا عني به علماءُ المسلمين منذ عهد الرسول ﷺ حتى الآن تلاوة وتدبرًا، ودراسة من جمع نواحيه:
البلاغية والتشريعية، والاجتماعية والخُلقية والعلمية.
وهو المعجزة الكبرى لنبينا محمد ﷺ ودستور العفيدة والشريعة والاخلاق لأُمته.
والقرآن الكريم في أعلى درجات البلاغة، بحيث لا تصل إِلى مثله قدرة البشر؛ ومع هذا فقد كان ميسر اللهم للعرب الذين نزل بلغتهم، وقلما كانوا يحتاجون إلى بيان مَقصد غامض فيه، فإذا جدَّ لهم ذلك سألوا رسول الله- ﷺ ببانه عملا بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (١)
ومن ذلك أنه لما نزل في إباحة الفطر في ليالى رمضان قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ (٢). سأل عدى بن حاتم رسول الله عن الخيطين، فقال: هما بياض النهار، وسواد الليل.
ولما اتسعت الفتوح الإسلامية، واختلط العرب بالأعاجم، فسدت عروبتهم بما شابها من لغات هؤُلاء الأعاجم، وأُترف المسلمون، فأصابتهم أمراض الترف، من ضعف في التدين، ثم اقتراف للمآثم وإشاعة للبدع. فخاف المصلحون من العلماء الأَعلام على كتاب ربهم أن يفسره من لا يحسن تفسيره، أو من يزيغ به عن معناه لغرض في نفسه، كبدعة يريد ترويجها، فألفوا التفاسير، ووضعوا قيودًا وشروطًا للمفسر، لا يصح تجاوزها، حتى يسلم كتاب الله من التأويلات الفاسدة، الناشئة عن الجهل، أو مرض القلوب.
وأول المبينين هو رسول الله ﷺ فقد شرح من الآيات ما التبس فهمه على أصحابه، ثم تلاه بعض أصحابه، ثم تدفق الخبر من التابعين ومن يليهم، ممن آتاهم الله بسطة في العلم، ورسوخا في الإيمان.
_________
(١) النحل: ٤٤
(٢) البقرة: ١٨٧
1 / 9
ومن أبرز مفسري الصحابة: عبد الله بن عباس، فقد عُرِف- لدقة فهمه، وصدق حسه - بأَنه ترجمان القرآن، وأنه حبر الأُمة.
روى البخاري عن دقة فهمه أَنه قال: "كان عمر يدخلنى مع أشياخ بدر، فكأَن بعضهم وجد فى نفسه، فقال: لِمَ يدخل هذا معنا، وإِن لنا ابناء مثله؟
فقال عمر: إِنه ممن علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخلهم معه، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: ﴿إذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ فقال بعضم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره، إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجَلُ رسول الله- ﷺ أعلمه له، قال: إذا جاء نصر الله والفتح، فذلك علامة أجلك، فسبح بحمد، بك واستغفره إنه كان توابًا، فقال عمر: "لا أعلم إلا ما تقول".
وقد كثرت الروايات عنه عناية بآرائه.
وما يروى له من اختلاف في الرأى في المسألة الراحدة أحيانًا، فإن مرجعه إلى اختلاف الروايات قوة وضعفا، أو أنه بدا له فيها من الأدلة ما لم يبد له أولًا، فعدل إلى ما رآه راجحًا، وذلك حق الله على كل مجتهد.
وقد عرف بالتفسير من الصحابة أيضًا: الخلفاءُ الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأَبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم. ولم يتوقف أحد في قبول تفسير الصحابة وإنما الأمر في التابعين.
وقد وقع الإجماع على وجوب تفسير القرآن بما صحت روايته عن النبي ﷺ أما ما روى عن الصحابة في تفسيره، فقد أخذ به الكثيرون: لسلامة عروبتهم ودقة فهمهم، واحتمال سماعهم من الرسول ﷺ ومن الأئمة من كان يأخذ في فهم الآية بما رجح عنده من أدلة الرجحان، وإن خالف به فهم الصحابي، ما دام لم ينسبه الصحابي إلى الرسول ﷺ فكما اجتهد الصحابة في فهمه، يجتهد غيرهم من أثبات العلماء؛ أهل الاقتدار وسلامة الدين.
1 / 10
ولما جاء عصر التدوين، جمع بعض المفسرين الأقوال المأثورة في التفسير، عن الرسول والصحابة والتابعين، واقتصروا عليها. وجنح آخرون إلى إِضافة ما هداهم الله إلى فهمه في الذكر الحكيم مع المأْثور، ليكون القارىءُ على بينة مما قيل في تفسيره، فيختار ما رجح عنده مما قوى دليله.
ومنهم من كانت عنايته بالأحكام الفقهية أعظم، كالقرطبى، والجصاص.
ومنهم من كانت عنايته بوجوه الإعجاز فيه أبلغ كأبي بكر الباقلاني.
ومنهم من كانت عنايته بالنحو أكثر كأبى حيان. ومنهم من فسره بحسب الآراء الفلسفية أو الطائفية.
ومنهم من فسره وفق النظريات العلمية، وبالغ في ذلك مبالغة كبيرة، مع أن النظريات العلمية عرضة للتبديل والتغيير، فإذا فسر بما يظهر مع الأيام فساده، كان في ذلك خطورة على عصمته من الباطل، والله تعالى يقول: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (١).
أما تفسيره بالحقائق العلمية الوطيدة، فلا مانع منه إِن كان بغير تكلف، بل بحسن نية. هذا، إلى أن سيلا جارفًا من الأساطير الإسرائيلية، والأقاصيص الخرافية، تطرق إلى بعض كتب التفسير التي ألفها أعلام العلماء، ونقلت عنهم من بعدهم بحسن نية.
وأكبر الظن أن هذه الأساطير والخرافات، سرت إِلى كتب القوم من أعداءٍ الإسلام الذين عجزوا في وقت ازدهاره عن حربه علنًا، فنسخوا كتب أُولئك العلماء ودسوا فيها تلك الأكاذيب، بعد رحيلهم إِلى دار الخلود في غفلة عن عيون الرقباء، لتضعف الثقة بالقرآن وبعقليات المفسرين!
وبذلك يتم لهم ما أَرادوا من حرب الإسلام عن طريق القلم، بدلا من حربه بالسيف.
وهناك من المفسربن، من أوجزوا في التفسير، فبالغوا في الإيجاز حتى قل الانتفاع به. وهناك من أطنبوا فجاوزوا القصد، وضموا إلى تفسيرهم بعض المصطلحات الفنية التى لا يفهمها إلا المتخصصون، فعسرت الاستفادة منه.
_________
(١) فصلت: ٤٢
1 / 11
لهذا كله، كان المثقفون المعاصرون - على اختلاف ثقافاتهم - في أشد الحاجة إلى تفسير وسيط: يخلو من الإسرائيليات والخرافات، ويبتعد عن الخلافات الطائفية، ويتجنب الجدل الفلسفي ما أمكن، ويتضمن الأحكام الفقهية التي يساعد عليها ظاهر النصوص في إيجاز، ويبتعد عن الصطلحات النحوية والبلاغية إلا ما دعت إِليه الضرورة، ولا يذْكُر من الأُمور العلمية والكونية إلا ما ثبت منها قطعًا، وما اتفق مع النص بلا تكلف، ويعرض لربط الآيات والسور بعضها مع بعض، ويبيّن أَسباب النزولِ، كل ذلك في لغة سهلة محببة إلى القارىء: تستدعى المتابعة، وتلتقى مع الرغبة في الاستفادة.
وقد أدرك (مجمع البحوث الاسلامية) حاجة المسلمين في هذا العصر إلى مثل هذا التفسير؛ ليروى ظمأهم من معانى كتاب الله تعالى، فقرر إخراجه استجابة منه لتلك الدواعى الشريفة.
فلذلك عهد إلى ثلاثة من أعضائه، بالإشراف على إخراج هذا التفسير، من حيز التفكير إلى حيز التنجيز. واستعان بمجموعة من العلماء الفضلاء الأثبات، للقيام بهذا التفسير، وانتظم من الجميع مؤْتمر عام تعددت جلساته.
واستقر الرأى- أخيرًا- على النهج الذي ينبغى أن يمضى فيه المشروع، وتكونت لجان فرعية؛ كل لجنة مؤلفة من عالمين يقومان بالتأليف، وخصت كل لجنة بحزبٍ من أحزاب القرآن، فإن فرغت من تفسيره، أخذت سواه. وهكذا.
واقتضت دقة العمل وتوحيد المنهج والأسلوب والروح، تأْليف لجنة لتنسيق ما يؤَلفه السادة الاعضاءُ، مكونة من أعضاء المجمع الثلاثة الذين تقرر إشرافهم على العمل، ومن لفيف من الخبراء الباحثين، حتى يخرج التفسير على نسق واحد محققًا الأمل المنشود.
ولما كانت بعض آى الذكر الحكيم، تشير إلى نوع من الحقائق العلمية في ملكوت السموات والأرض، وعوالم الإنسان والحيوان والنبات، أو تقضى استيفاءَ بعض الأحداث التاريخية، أو الاستيثاق من بعض الآراء التي ينبغى أن تشرح الآيات بها، رأت اللجنة أن تستعين بالخبراء المختصين بتلك الشئون، عملا بقوله تعالى: " .... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (١).
_________
(١) الأنبياء: ٧
1 / 12
منهج هذا التفسير
١ - تسبق السورةَ مقدمةٌ لها: تحوى أهم مقاصدها، حتى يلم القاريءُ بمجمل أغراضها،
قبل أن يتناول فهم كل آية على حدتها.
٢ - يُذْكَرُ نص الآية أو الآيات المترابطة، وتتبع كل آية برقمها في المصحف، مع التزام الرسم العثماني في كتابتها، ومراعاة العلامات والرموز التي اتفق عليها في الرسم العثماني.
٣ - تُفَسَّر المفردات اللغوية بايجاز، مع التزام ما يتفق وظاهر معني اللفظ في الآية، وترك التفصيلات اللغوية التي لا تتصل بالمعنى القرآني المراد.
٤ - تذكر أسباب النزول - إن وجدت - واستدعى التفسير ذكرها.
٥ - يربط معنى الآية أو الآيات الكريمة بما سبقها؛ ليتضح التسلسل- البياني في السرد القرآنى بقدر الإمكان، مع البعد عن التكلف أو الإغراب.
٦ - تتجنب الإسرائيليات والأخبار الخرافية.
٧ - يترك التعرض للإشارات الصوفية، والخلافات الطائفية، والأساليب الجدلية.
٨ - يذكر التفسير بعبارة واضحة سهلة، يستطيع فهمها المثقف العادى، ويجد من أسلوبها
ما يرغبه في متابعة القراءة مع ذكر نص الآية المراد تفسيرها، قبل الشروع في التفسير، مسبوقة برقمها.
٩ - تترك المصطلحات الفنية التي تعوق القارئ غير المتخصص عن متابعة القراءة، إلا إذا دعت الضرورة إليها لغرض التوضيح، وإبانة المعنى المراد.
١٠ - تذكر الأحكام الفقهية التي تظهر بوضوح من النص، وعند اختلاف الفقهاء في الحكم المستفاد منه، يذكر هذا الاختلاف لمصلحة القارئ ـ، ولا يتوسع فيه، وان أمكن التوفيق بين الآراء، يوفق بينها.
١١ - إذا تكرر موضوع الآية في أكثر من سورة، شرح في كل موضع شرحًا كافيًا؛ ولكن التوسع في معناه، يترك إِلى النص الأوفى في الموضوع، ويشار إلى ذلك، للرجوع إليه عند الحاجة.
1 / 13
١٢ - إذا صحت وثبتت أمور كونية يمكن تفسير الآية بها، ذكرناها في تفسيرها، مستعينين بآراء الخبراء فيها.
١٣ - يقتصر في الكلام على أسماء الحروف التي استهلت بها بعض السور على أرجح الأَقوال، وكذا في الكلام على القضاء والقدر، ونحو ذلك.
١٤ - تُرَدَّ شبهات الملحدين في شرح الآيات التي أثاروها فيها.
١٥ - لا يتعرض لاختلاف القُرَّاء إلا إذا احتاج إليه تفسير الآية، بأن أفاد معنى آخر أو حكما ينبغى أن يعلم.
١٦ - يتناول الشرح الآية جملةً جملةً، وأحيانًا يكون التفسير وراء النص، متناولا لمشتملات الآية كلها، عندما يرى أن ذلك أوضح للقاريءٍ، وأيسر وأجمع للفكرة.
١٧ - عند الاستشهاد بآية أُخرى في الشرح، يذكر رقمها وسورتها، وعند الاستشهاد بالحديث النبوى الشريف، تذكر درجته أو مصدره من كتب السنة المعتمدة.
١٨ - عند الفراغ من شرح قصة قرآنية، يذكر الغرض من ذكرها.
١٩ - إذا وردت القصة القرآنية في أسفار العهد القديم أو الجديد، ولم تتعارض مع النص القرآنى أشرنا إلى ذلك إِن رأينا فيه فائدة، فإن خالفته، فالمعول عليه هو ما في القرآن الكريم، ولذا نغفل الإشارة إليها في أسفارهم.
٢٠ - التزمت اللجنة القصد في التعبير، ما لم يقتض موضوع الآية البسط، فإنها تسلك سبيله لمصلحة القراءِ.
هذا هو المنهج الذي صارت عليه اللجنة.
وهي تقرر أنها انتفعت بجهود أعلام المفسرين القدامي والمعاصرين - جزاهم الله على ما قدموا خير الجزاء - كما أضافت ما وصل إليه العلم في شتى الميادين.
وبعد:
فإن اللجنة تتوجه إلى الله تعالى أن يجعل عملها خالصًا لوجهه الكربم، وأن يتقبل منها ما قامت به، وأن يعفو عما يكون منها من تقصير.
والله الموفق للصواب.
أعضاء اللجنة
1 / 14
سورة الفاتحة
مقدمة
هذه السورة الكريمة، نزلت بمكة قبل الهجرة، وهي سبع آيات، نزلت بتمامها، وسميت الفاتحة لأنها أول القرآن في ترتيب المصحف، فهى فاتحته.
وهذه. السورة - مع قلة آياتها وإيجازها - تشتمل على مقاصد القرآن كله.
فالقرآن نزل لتعريف الناس برب العالمين، وما يتصف به من صفات جليلة، ولحثهم على حمده وعبادته، وإثبات يوم الجزاء، وأن الملك له تعالى في هذا اليوم، وأنه يجب توحيده بالعبادة دون شريك، والاستعانة به تعالى في جميع الشئون، إذ لا يوجد شيء ولا يتم إلا بمعونته.
ولهذا يطلب من العباد أن يستعينوا به في أمرهم كله، وأن يهديهم الطريق المستقيم، وأن يكفيهم شر طريق المغضوب عليهم والضالين، وقد اشتملت الفاتحة على هذا كله فى إيجاز، فلا غرابة في أن تسمى أُم الكتاب، وأن يفتتح بها القرآن الكريم، وأن تفرض في الصلاة.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾.
لما كانت الفاتحة تتلى في كل ركعة في الصلاة، فإن استحضار معانيها في ذهن المصلي، أمر مطلوب، لأنه يثني بها على ربه ويناجيه، فلهذا قدمنا تفسيرها بمجمل مرقم لمعانيها فيما يلى:
1 / 15
١ - أَستعين متيمنا متبركا ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ الذي لا معبود بحق سواه، ﴿الرَّحْمَنِ﴾ المنعم بجلائل النعم، ﴿الرَّحِيمِ﴾: المنعم بدقائقها.
٢ - الثناءُ كله لله تعالى، على ما أسداه. من النعم على عباده، وعلى ما اتصف به من صفات الكمال، لأنه منشيءُ العالمين، ومبلغهم كما لا تم، وحافظهم.
٣ - (الرحَّمْن) واسع الرحمة لعباده جميعًا في الدنيا، إذ عمهم بنعمه فلم يحرم منها كافرا ولا فاسقا.
(الرَّحْمن) واسع الرحمة لعباده المؤمنين في الآخرة، يقبل من محسنهم ويحسن ثوابه، ويعفو عن مسيئهم ويقبل متابه.
٤ - مالك يوم الجزاء، فلا سلطان فيه لأحد سواه، في ظاهر الأمر وباطنه: يحاسب فيه عباده، فيعاقب من عصى، فلا يمتنع عليه بملك ولا جاه، ويثيب من أطاع، فيعطيه بغير حساب.
٥ - نخصك - يا من هذه صفاتك العلية - بالعبادة، فلا نشرك فيها أحدًا سواك، فأنت وحدكَ المعبود ونخصك بالاستعانة، فأنت وحدك المعين.
٦ - وفقنا يا رب، واهدنا الطريق المستقيم، الذي سنه كتابك العظيم، وبيَّنه رسولك الأَمين.
٧ - (صراط الذين أنعمت عليهم): في الدنيا بالتوفيق إلى طاعتك، وفي الآخرة بحسن مثوبتك، لا صراط الذين غضبت عليهم لكفرهم، ولا الضالين الذين لم يهتدوا بهداك.
التفسير
(١) ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾:
أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن، لأنها وردت في سورة النمل " الآية (٣٠).
واختلف العلماء في مكانها من سور القرآن:
فأَكثر علماء السلف، على أن البسملة آية من الفاتحة. ولذا تجب قراءتها مفتتحة بها في الصلاة، وبها تم آياتها السبع، كما أنها آية من كل سورة. وممن قال بذلك: قراءُ مكة، والكوفة وفقهاؤُهما، والشافعى وأصحابه.
1 / 16
ويؤيد مذهبهم: إثباتها في المصاحف أول كل سورة، ما عدا "التوبة". مع ما ورد من الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه: ولذلك لم يكتبوا "آمين" فى آخر الفاتحة؛ لأنها دعاءُ مطلوب بعدها، وليس منها.
وذهب آخرون إلى انها آية من الفاتحة وحدها، وبه أخذ بعض الشافعية وحمزة، ونسب إلى الإِمام أحمد، وقد أقام الفخر على ذلك ست عشرة حجة منها نصوص من السنة: وقراءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤُها، ومالك والأوزاعى- على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من أي سورة أخرى، وإنما أثبتت في المصحف للتبرك بها والفصل بين السور.
﴿بسْم اللهِ﴾: المراد بالاسم هنا: المسمى، وهو ذات الله تعالى، فإنه سبحانه هو المستعان به في كل أمر يؤْتى بالبسملة فيه. والدليل على ذلك أنه لما نزل: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أول سورة الأعلى، قال رسول الله ﷺ: "اجعلوها في سجودكم" (١).
وكان يقول في سجوده: "سبحان ربى الأعلى" ولم يقل: سبحان اسم ربي الأعلى.
وقال الآلوسى: الأسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين، وهي عندهم أسماء مترادفة، كما قال الإِمام ابن فورك في كتابه الكبير فى الأَسماء والصفات، وأبو القاسم السهيلى في شرح الإرشاد، ثم قال: ومنه ﴿سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأعلَى﴾ إذًا التسبيح إنما يتوجه إلى الذات الأقدس. إلى آخر ما قال.
ويمكن تقدير فعل محذوف تقديره: أبتدىءُ باسم الله، ويكون ذكر الاسم هنا على معناه المشهور.
ولفظ الجلالة (الله). علم على الذات العلية، وهو الإله المعبود بحق، الذي يخلق عباده، يرزقهم، ويدبر شئونهم ويقتدر عليهم، وله ما في السموات وما في الأرض.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: تذكير برحمته التي وسعت كل شىءٍ، وبذلك جمع الله لعباده في البسملة من أسمائه الشريفة، بين ما يقتضى الإجلال والتقديس والعبادة وهو لفظ الجلالة علم الذات، وبين ما يقتضى الأنس والأمل في الخير، وهو الرحمن الرحيم، ليأْنسوا بربهم، ولا يقنطوا من رحمة الله تعالى.
_________
(١) رواه أبو داود وأحمد.
1 / 17
وسيأتي الكلام على معناهما في الفاتحة.
وينبغى أن يضمر القاريءُ في نفسه معانى ما جاءَت البسملة من أجله، كالقراءَة، والتبرك، والاستعانة ونحوها ...
٢ - ﴿الْحَمْدُ للهِ﴾:
الحمد: هو الثناءُ على الجميل الذي يصدر عن المحمود باختياره، من نعمة أو غيرها.
أما الشكر فهو مقابلة النعمة بالثناءِ على صاحبها بالقول، أو مقابلة نعمته بعمل يدل على
الاعتراف بها: كآداب الجوارح، أو الشعور القلبى بفضل صاحبها. ولذلك يقول الشاعر:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد شعبة من شعب الشكر الثلاث، ولكنه أَدل على إجلال المنعم وشكره من سائر الشعب؛ لخفاء الاعتقاد، وما في آداب الجوارح من الاحتمال فلذا جعل الحمد رأس الشكر والعمدة فيه.
قال ﷺ "الحمد رأْس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده" (١) وأل في الحمد للاستغراق، والمعنى: جميل الحامد لله تعالى.
ولفظ الجلالة (الله) يشعر باستحقاقه تعالى وحده للحمد، كما يشعر به لفظ ﴿رَبِّ﴾ في قوله:
﴿رَبِّ الْعاَلمينَ﴾: أي أنه تعالى مستحق للحمد؛ لألوهيته ولأنه رب العالمين، أى منشئهم ومبلغهم إلى كمالاتهم اللائقة بهم، وحافظهم حتى ينتهوا إلى غاياتهم.
وكلمة: ﴿الْعاَلَمِينَ﴾ جمع عالَم، وهو ما سوى الله من جميع المخلوقات، فيشمل العاقل وغيره من الأجناس.
وحكمة بدء الفاتحة بالحمد لله، الإِشارة إلى حصول النعم الإلهية التي أحاط الله بها عباده، وأن المصلي يحمده تعالى على ذلك.
٣ - ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمَ﴾:
أصل الرحمة في اللغة: رقة القلب وانعطافه بالشفقة. وهذا المعنى ينطبق على المخلوقات فإطلاقه على الله تعالى، إنما يكون باعتبار لازمه الذي يليق به تعالى، وهو التفضل والإحسان.
_________
(١) رواه الطبرانى وعبد الرزاق والبيهقى عن ابن عمرو، والحديث حسن، ورواه الديلمى بسند رجاله ثقات.
1 / 18
والرحمن الرحيم: صفتان لله - تعالى - وصيغة كلتيهما: تدل على الكثير وقد جمع ببن الرحمن والرحبم؛ لتأكيد كثرة رحمته جل وعلا.
ويختص الوصف بالرحمن شرعا، باللُه -تعالى- بخلاف الرحيم، فيصح إطلاقه على المخلوقات.
ومن ذلك قول الله تعالى في وصف النبي - صل الله عليه وسلم - ﴿... حَرِيصٌ عَلَيكُم بالمؤمنين رءُوفٌ رحيمٌ﴾ (١) وقوله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿... رُحَماءُ بَينَهم ...﴾ (٢).
٤ - ﴿مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ﴾:
هذا هو رابع الأوصاف للفظ الجلالة: وصف أولا بكونه: ﴿رَبِّ العاَلَمينَ﴾، وثانيا بقوله: ﴿الرَّحْمَنِ﴾، وثالثا بقوله: ﴿الرَّحِيمِ﴾، ورابعا بقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ﴾.
والمالك: من له التصرف الشامل فما يملك بدون منازع. والدين: هو الجزاءُ على الأَعمال.
ومعنى: (مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ): المالك لكل ما في هذا اليوم من جنة ونار، وإنس، وجن، وحساب وجزاءٍ - من ثواب أو عقاب - وغير ذلك.
وهذه الآية دالة على المعاد، ومجازاة كل مخلوق بما قدم من عمل، ولو لم يكن معاد للخلق يجازون فيه، لكان الموت هو نهاية الجميع. وبذلك يستوى المؤْمن والكافر، والبر والفاجر والمصلح والمفسد، وذلك أمر يتنافى مع العدالة الإلهية، ولا تسلم به المبادىءُ العقلية؟.
لهذا اقتضت حكمة الله أن يكون للناس معاد، يجازون فيه بالثواب أو العقاب على ما قدموا:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (٣).
ووصف الله بـ ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ لإظهار استحقاقه تعالى للحمد، وللإشعار - من طريق المفهوم - بأن من لم يتصف بتلك الصفات، لا يستحق أن يحْمد، فضلا عن أن يعبد!
_________
(١) التوبة: ١٢٨
(٢) الفتح: ٢٩
(٣) فصلت: ٤٦
1 / 19
٥ - ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:
من أول السورة إلى هنا، كان الأُسلوب للغيبة، ثم تغير هنا إلى الخطاب حتى آخرالسورة. وفوق ما يفيده تغير الأسلوب من التنبيه إلى موضوع الكلام، فإن فيه إشارة لطيفة إلى ترقي الحامد كلما أثنى على ربه، وأخلص في مناجاته، فينتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وذلك حال المصلي الذي يقرأ الفاتحة، فإنه حين يدخل الصلاة، يكون قريب عهد بما كان يشغله من الشئون قبل الدخول فيها، فإذا أقبل على ربه بحمده له، وثنائه عليه، تاركا شواغله، انتقل إلى مقام الإحسان في عبادته، وهو أن يعبده الله كانه يراه على ما سنبينه.
وهذا يقتضى أن ينتقل من الغيبة إلى موقف المخاطب لمولاه، فيقول:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
هذا، وتقديم ضمير المفعوك ﴿إيَّاكَ﴾، في كل من الجملتين، للاهتمام، مع إفادة القصر، كأَنه قيل: إياك يا الله وحدك نعبد، واياك يا الله دون سواك نستعين. وفي ذلك إقرار له تعالى، بالأُلوهية والوحدانية.
وقدمت جملة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ على جملة: ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، لأن المقصود الأوَّلي هو العبادة، ولما كان فعل الطاعة وتوفر الدواعى إلى فعلها، لا يتمان إلا بمعونة الله وتوفيقه، فلهذا يطلب العبد الاستعانة باللهِ عقب تخصيصه بالعبادة، إذ أن العبد لا حول له ولا قوة إلا باللهِ.
والعبادة للمعبود هي الطاعة الخالصة له، المبنية على حبه، المؤَداة على وجهِ يشعر بمنتهى الخضوع له.
ولكون العبادة بهذا المعنى، فلا تكون إلا لله وحده (١)، وهي أخص من الطاعة التى تتحقق في مطلق الامتثال، فكل عبادة طاعة، وليس كل طاعة عبادة، فأنت إذا امتثلت أمر والديك أو ولى أمرك، يقال لك: أنت أطعتهم، ولا يصح أن يقال: أنت عبدتهم، فالعبادة أعلى مقام في الطاعات، وهي المعراج الروحى الذي يصعد فيه العباد إلى درجة،
_________
(١) لأنه هو المستحق لأن يعبد دون سواه، لتفرده بكامل القدرة وعظيم السلطان، وجمع ألوان الإنعام، وجمع صفات الألوهية، فلذا يخصه قارئ الفاتحة بالعبادة فيقول: (إياك نعبد).
1 / 20
كأنهم فيها يشهدون الحق ﷾ فإن لم يصلوا إلى ذلك، فليشعروا بأنه تعالى
يراهم، وذلك هو مقام الإحسان الذي يشير إليه الحديث الشريف بقوله -عليه الصلاة
والسلام- في تعريف الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (١) ".
والعبادة: تشمل عمل القلوب، وعمل الجوارح. وتشمل فعل المأمور به، وترك المنهى عنه. فلا يتحقق معنى العبادة إلا بذلك كله.
وفي الآية سؤَال وهو ان مقام العبودية يقتضى التواضع والذلة لله تعالى. فكان الظاهر أن يقول العبد.: إياك أعبد، وإياك استعين " بضمير المفرد الذي لا يعظم نفسه".
والجواب: أن النون في (نَعْبُدُ)، و(نَسْتَعِينُ)، ليست للمتكم المعظم نفسه، ولكنها للمتكلم ومعه غيره من المؤمنين، فكلهم يعبد الله، ويستعين به وحده، فهذا إقرار من المصلي، وشهادة منه بان هذا هو شأن المؤمنين مع ربهم. وفي ذلك إدراج لعبادته واستعانته، ضمن عبادتهم واستعانتهم؛ رجاء القبول ببركة ذلك.
ومن أجل هذا الملحظ -ولما سبق- طلبت الصلاة في جماعة.
٦ - ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾:
بعد أن يخص العبد ربه بالعبادة، والاستعانة مخاطبا له بقوله: ﴿إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعِين﴾ يناجيه، وايصلب منه الهداية إلى الطريق المستقيم، فإن الله وحده هو المانح للخير، والهادى إلى الصرط القويم والهداية: هي البيان والإِرشاد، سواء اهتدى من ترشده أم لم يهتد، وقد يراد منها:
خلق الاهتداءَ في القلب. وهي بهذا المعنى مختصة باللهِ -تعالى- إذ لا يقدر عليها سواه، ولما كانت من أشرف المطالب وأسناها. شرع الله لعباده أن يرجوها منه سبحانه بقولهم:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
اما الصراط: فهو الطريق الذىَ يسلكه السائر إلى المقصود، وهو نوعان: حسي ومعنوي؛ فالطريق إلى منزلك حسي، والطريق إلى الله معنوي، وهو الطاعة. ووصف الطريق بالمستقيم؛ للاحتراز عن الطريق المنحرفة المعوجة، وهي طريق أَهل الضلال والفساد.
_________
(١) رواه الخمسة.
1 / 21
ومعروف، أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتى المبتدأ والمنتهى.
وإذا كان المقصود للعباد في رحلة الحياة الدنيا، هو الوصول إلى الله تعالى: فإن أقرب الطرق إليه هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (١)﴾.
ففى وصف الصراط بالمستقيم، إِشارة لطيفة إلى أن سبيل الله هي أقرب الطرق إلى مرضاته تعالى. وأَما غيرها فإما أنها لا توصل إلى الله أصلًا، وهي صراط المغضوب عليهم والضالين، وإما أنها توصل بعد محنة العقاب، وهي صراط العصاة المؤْمنين.
٧ - ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ...﴾ الآية
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ ...﴾ إلخ بدل من الصراط المستقيم، مبين لمعناه، فإن الصراط المستقيم هو طريق من أنْعَمَ الله عليهم بالإيمان والإسلام، أي اهدنا صراط المؤمنين الذين أنعمت عليهم في الدنيا بحسن الطاعة، وفي الآخرة بحسن الثواب: ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (٢).
﴿غَيْرِ المغَضْوُبِ عَلَيْهِمْ﴾، المغضوبُ عليهم: هم الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، وأفسدوا دينهم بالكفر والمعاصى، فغضب الله عليهم، أي أَراد الانتقام منهم لذلك.
﴿وَلا الضَّالَّين﴾. الضالون، هم الذين أَفسدوا عقيدتهم بالجهل بدين الله، فانحرفوا عن سواء السبيل.
هذا، واشتهر بين المفسرين: أن المراد بالمغضوب عليهم: اليهود، لقول الله فيهم:
﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ (٣) ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾. وأن المراد بالضالين: النصارى، لقول الله فيهم: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءالسَّبِيلِ﴾ (٤) ولأَن الرسول -صلى الله عليه وسم- فسرهما بذلك كما رواه عنه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وحسنه.
_________
(١) الأنعام: ١٥٣
(٢) النساء: ٦٩
(٣) المائدة:٦٠
(٤) المائدة: ٧٧
1 / 22