Al-Sahib and Caliph Abu Bakr Al-Siddiq
الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق
Genre-genre
ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب
وتعالوا نرى ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب، وفتنة الرئاسة فتنة عظيمة جدًا، وابتلاء كبير، فكثير من الناس يعيش حياة التواضع فإذا صعد على منبر الحكم تغير وتبدل وتجبر وتكبر؛ إنها فتنة كبيرة، وهنا كلمة حكيمة جدًا للحسن البصري ﵀ يقول: وآخر ما ينزع من قلوب الصالحين حب الرئاسة.
لكن الصديق نزع من قلبه حب الرئاسة من قديم.
والصديق ﵁ وأرضاه وإن كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة فإن هذا القدر تضاعف أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن أعظم خلفاء الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق ﵁، فوالله! لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ومن المؤكد أنه تعلم من صديقه وحبيبه محمد ﷺ ما ذكره رسول الله ﷺ في الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار ﵁ وأرضاه قال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، والصديق جاهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأشد ما يكون الجهد والنصح.
ولذلك فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم بل يسبقهم إليها، وكيف يتكبر الصديق وهو الذي كان حريصًا طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر والخيلاء من شخصيته وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره؟ روى البخاري عن عبد الله بن عمر ﵄ أن النبي ﷺ قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) هذه الكلمات وقعت في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، فأسرع الصديق ﵁ وأرضاه إلى رسول الله ﷺ وقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده).
أشعر والله! أنه قال هذه الكلمة وهو يرتجف يخشى من حكم رسول الله ﷺ، لكن رسول الله ﷺ أثلج صدره وطمأنه ووضح له متى يكون الاسترخاء للإزار منهي عنه فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذه شهادة من رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى: أن الصديق لا يفعل هذا خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له: إنك لست متعمدًا للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى حقيقة تواضع الصديق ﵁ وأرضاه.
وتعالوا نتجول في حياة الصديق كخليفة وكرئيس وكحاكم، ذكرنا بعض المواقف في السابق وذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد ﵄ وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال.
والآن نذكر بعض المواقف الأخرى: موقف عجيب من مواقف الصديق وهو خليفة: كان الصديق ﵁ وأرضاه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، مكان قريب من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه وذلك أيام رسول الله ﷺ، وفي أيام رسول الله ﷺ كان أبو بكر الصديق هو الوزير الأول لرسول الله ﷺ، ومع ذلك كان يحلب للضعفاء أغنامهم، فسمع جارية بعد مبايعته بالخلافة وبعد أن أصبح خليفة تقول: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا، سمعها الصديق ﵁ فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، فكان يحلبها وهو خليفة، وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ يعني: أجعل اللبن فيه رغوة وإلا بدون رغوة؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالته فعل.
وهذا موقف آخر من مواقف الصديق ﵁ أغرب: كان عمر بن الخطاب ﵁ يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها، يعني: أن سيدنا عمر كان يذهب بنفسه ليدبر أمر هذه العجوز العمياء، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة لكي لا يسبق إليها فكل مرة يلقى نفسه قد سبق إليها، فرصد عمر هذا الرجل الذي يأتي العجوز العمياء فإذا هو أبو بكر الذي كان يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري.
وكان أبو بكر من الممكن أن يكلف رجلًا أن يفعل هذه الخدمة، لكنه يشعر بالمسئولية الفردية نحو كل فرد في الأمة، وأيضًا هو يربي نفسه على التواضع لله ﷿، ويربي نفسه ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أن أبا بكر الصديق ﵁ قام يوم جمعة فقال: إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، يعني: أ
5 / 4