Al-Qisas Al-Qurani - Yasser Burhami
القصص القرآني - ياسر برهامي
Genre-genre
أسباب عدم تمكين أهل الحق
اعلم أن طائفة الحق قد لا تمكن لأمور: إما لأن الله ﷾ ادخر لهم من الفضل والإنعام ما لا يخطر ببالهم، ويرشدنا إلى ذلك النبي ﷺ فيقول: (ما من سرية تسلم وتغنم إلا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من سرية تخفق وتصاب إلا كان لهم أجرهم كاملًا)، أو كما قال ﷺ.
وإما أن يكون ذلك لقصور وجد في السائرين إلى الله ﷾ ويحتاج منهم إلى تعديل، وغالبًا لا يكون النظر في التعديل إلا عند أوقات الشدائد والمحن، فيفكر الإنسان من أين أصابنا ما أصابنا؟ كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:١٦٥].
فهكذا يبين لنا كتاب ربنا ﷾ الحكم من وراء تقدير المحن، فيكون في ضمنها منح وفضائل على أهل الإسلام؛ ليراجعوا قلوبهم وأعمالهم ودعوتهم، ويتأملوا فيما يجري حولهم من تغير موازين القوى حتى تكون النهاية بفضل الله ﷾ حتمًا وقطعًا لصالح أهل الإسلام، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك لجيل أو طائفة، ولذلك نقول: عندما يشتد الأمر على المسلمين يحتاجون إلى الرجوع إلى كتاب الله والسنة؛ ليجدوا في الكتاب والسنة قصص الدعاة إلى الله ﷿، وقصص أنبياء الله ﷾.
ومن لم تثمر دعوته النتائج المرجوة التي قد يرجوها الإنسان، فلا يظن أن النتيجة هي أن يحصل التمكين وأن يظهر الدين ويعلو، فهذا ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [المائدة:٥٤]، وقد قص النبي ﵌ على أصحابه أنه عرضت عليه الأمم ﷺ فرأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.
وبعض الدعاة إلى الله ﷿ كانت نتيجة دعوتهم في الدنيا موت جميع المؤمنين بل قتلهم، وكان في ذلك الانتصار، وكان في ذلك الفوز العظيم، فقصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله ﷿ في كتابه ترشدنا إلى هذه النقطة العظيمة الأهمية، فنحن نريد أن يؤمن الناس مهما حصل بعد ذلك، وإذا حققنا معاني العبودية لله ﷾ فلا يضرنا ما جرى بعد ذلك، فإن الخطر الأعظم في فترات المحن أن يقع التنازل عن مفهوم من مفاهيم العبودية، أو أصل من أصول الإيمان، أو أن يحرف الدين ويبدل، أو أن يعتقد الناس خلاف الحق تحت ضغط الباطل، فنحن نعلم يقينًا أن الموازين بيد الله ﷾، وأن القوى ليست بأيدي البشر، بل الله هو الذي يهبهم الملك إذا أراد وينزعه منهم إذا شاء كما قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:٢٦].
فإذا أيقنا بذلك، فإن القضية التي ابتلينا بها اليوم هي أن جعل الله ﷿ القوة بأيدي أعدائنا؛ لينظر كيف نثبت على الإيمان، وكيف نزداد لله إيمانًا وتسليمًا في فترات المحن والشدائد، وهو ﷾ يفعل ما يشاء ويقلب قلوب العباد بما أراد، ونحن نرى في واقع الحال من ينهار إيمانه، ويزول التزامه عندما يقف في محنة، وعندما يرى أمته مستضعفة ولا يدري ما المخرج لها مما يصيبها من أعدائها، فيختار لها طريق الذل والهوان، وهو طريق التبعية والخنوع لعدوها، وأن تقبل بما يصلها من ذلك العدو الذي كان بالأمس يترك الناس أن يقولوا ما يريدون، أما اليوم فهو يقول لهم: لا تتكلموا إلا بما أريد أنا، فلا تتكلموا بما يعاديني ويعارضني، قولوا كذا ولا تقولوا كذا، علموا أولادكم كذا ولا تعلموهم كذا، وهذا موطن الخطر العظيم.
لذلك نقول: يجب ثبات المؤمنين والدعاة إلى الله ﷿ على دينهم كاملًا غير منقوص لا يترك منه أي جزء، ولا يقال: إن الدين واسع، ويمكننا أن نتكلم في الدين بأشياء كثيرة بغير ما يغضب عدونا، وبغير ما يغضب من يخالفنا في ديننا كطريقة من يريد جعل إبليس والعياذ بالله من المؤمنين؛ لأنه يقر بالربوبية ويقول: ربي الله، ويدعو الله وحده حين يدعو، فلم يتوسل إليه بأموات ولا بملائكة وإنما كما قال الله عنه: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر:٣٦]، وهو يقر بأن الله الخالق، ويقر بأن هناك يوم بعث فيجعله مؤمنًا بالله واليوم الآخر، ولا تتعجب، فإن من الزنادقة والمنافقين والكفرة الملحدين من يجعل أكفر الكفرة أعداء الله ورسله من أكمل الناس إيمانًا وتقوى، وأنهم ينبغي أن يقبل منهم كلما يقولون وما يعلنون، لذلك نحتاج إلى أن نتذاكر دائمًا، ونكرر ما في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من تلك القصص الذي تعطينا معنى الثبات، وتوضح لنا عدم قبول الاحتواء الذي يريده العدو والذي يريده من حارب الله ورسوله ﷺ وسعى في الأرض فسادًا، نريد أن نتذكر حتى لا نضيع في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن المتلاطمة، والتي نعلم ونوقن أن المقصود الذي يقصده الأعداء هو أن يهدموا هذه الصورة الحقيقية لدين الله، فهم يجزمون أن القوة المادية التي بأيديهم لا يمكن أن تقف في وجه طائفة قليلة ضعيفة من أهل الحق، وأن النمو الأكيد والحقيقي والطبيعي الذي فطر الله العباد عليه هو أن الحق ينمو في قلوب الناس إذا وجد، ولا يقف الباطل أمامه، بل ينهار بكل قوته المادية إذا ثبت الحق، فالحق صخرة صلبة لا يمكن أن يقف في وجهها تلك الهشاشات الباطلة، لكن بشرط أن يكون ثابتًا في القلوب، نقيًا صافيًا، لا يقبل الاحتواء، ولا يقبل التوجيه المنكر الباطل، ونحن نعلم أن أهل الباطل لهم وسائلهم المتعددة لكي يفرضوا باطلهم.
وفي قصة أصحاب الأخدود ما نحتاج إلى تذكره دائمًا، نذكر به أنفسنا، ويذكر به بعضنا بعضًا، والقصة من قصص الكتاب ومن قصص السنة كذلك، وقد ذكرت نهايتها في القرآن العظيم، وذكر تفصيلها وبدايتها ونهايتها في سنة الرسول الكريم ﷺ.
فالله ﷿ إنما ذكر النهاية لكي تتضح لنا قضية الأهداف كما ذكرنا، ولكي نعلم أن تحقيق الإيمان هو الفوز وإن قتل من قتل من المسلمين، بل حتى لو قتلوا عن آخرهم.
1 / 3