Al-Hikmah fi Al-Da'wah ila Allah Ta'ala
الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى
Penerbit
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٢٣هـ
Lokasi Penerbit
المملكة العربية السعودية
Genre-genre
الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى
Halaman tidak diketahui
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] (١). ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] (٢). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١] (٣).
أمّا بعد:
فما خلق الله الجن والِإنس إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال ﷿: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] (٤).
_________
(١) سورة آل عمران، الآية ١٠٢.
(٢) سورة النساء، الآية ١.
(٣) سورة الأحزاب، الآيتان ٧٠ - ٧١.
(٤) سورة الذاريات، الآية ٥٦.
1 / 7
ولما كانت العبادة لا يمكن أن تُعرف أحكامها على التفصيل أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل عليهم الكتب؛ لبيان الأمر الذي خلق من أجله الخلق؛ " ولِإيضاحه وتفصيله لهم حتى يعبدوا الله على بصيرة، فقاموا بواجبهم على الوجه الأكمل عليهم الصلاة والسلام.
ثم ختم الله تعالى الرسل بأفضلهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد بن عبد الله، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله على بصيرةٍ سرًّا وجهرًا. ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] (١).
وهذه طريقته ومسلكه وسنته، يدعو إلى الله على بصيرة، ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (٢).
١ - أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
١ - قد بيّن القرآن الكريم طرق الدعوة إلى الله تعالى، ويأتي في مقدمة هذه الطرق: الحكمة في الدعوة إلى الله ﷿ وقد أمر الله تعالى نبيه محمدا ﷺ بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، فقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] (٣).
٢ - من تتبع سيرة النبي ﷺ وجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى الله ﷿، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجا بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم ﷺ الذي ملأ الله قلبه بالِإيمان والحكمة، فعن أنس ﵁ قال: «كان أبو ذر يحدث أن
_________
(١) سورة يوسف، الآية ١٠٨.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير ٢/ ٤٩٦.
(٣) سورة النحل، الآية ١٢٥.
1 / 8
رسول الله ﷺ قال: " فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل فَفَرجَ صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست (١) من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي. . .» الحديث (٢).
وهذا يُثبتُ أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى، حيث امتلأ بها صدر رسول الله ﷺ وهو صاحب الدعوة، مع الِإيمان، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة، كما يؤكد قيمة وأهمية الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل وهو روح القدس، في طست من ذهب، وهو أغلى المعادن، في مكة المكرمة، وهي البقعة المباركة، ليمتلئ بها صدر محمد رسول ﷺ وهو خير الخلق، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر الماء وأفضله.
كل هذا يؤكد أن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى أمرها عظيم وشأنها كبير، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] (٣).
ثم سار أصحاب رسول الله ﷺ على طريقه وهديه في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، فانتشر الِإسلام في عهدهم ﵃ انتشارًا عظيمًا، ودخل في الِإسلام خلق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وجاء التابعون، وكملوا السير على هذا الطريق في الدعوة إلى الله بالحكمة، وهكذا سارت القرون الثلاثة المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم والِإيمان، فأظهر الله الِإسلام وأهله، وأذَلَّ الشرك وأهله وأعوانه.
_________
(١) إناء كبير مستدير. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١/ ٤٦٠، والمعجم الوسيط مادة (الطسْت) ٢/ ٥٥٧.
(٢) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الِإسراء؟ ١/ ٤٥٨، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات، ١/ ١٤٨.
(٣) سورة البقرة، الآية ٢٦٩.
1 / 9
٣ - من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم. . . فحسب. وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون:
باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علمًا وعملًا واعتقادًا بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق.
وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بحُسن خلق، ولطف، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقَلية وَالنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل لا بدَّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد.
وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة. وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل رده ووقف في طريقه (١).
وما أحسن ما قاله الشاعر:
دعا المصطفى دهرًا بمكةَ لم يُجب ... وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (٢)
_________
(١) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ١/ ١٩٤، وتفسير ابن كثير ٣/ ٤١٦ و٤/ ٣١٥، وفتاوى ابن تيمية ٢/ ٤٥ و١٩/ ١٦٤.
(٢) ذكر سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز في مجموع فتاواه. ٣/ ١٨٤ و٢٠٤: أن هذا الشعر يروى لحسان بن ثابت ﵁.
1 / 10
وصدق هذا القائل فقد قال: قولًا صادقًا مطابقًا للحق (١)؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «إن من الشعرِ حكمة» (٢).
٤ - الحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور قدرها فلا يزهد في الدنيا والناس بحاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة.
٥ - الحكمة تجعل الداعية إلى الله يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتَون من قبلها، والقدر الذي يبين لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى الله بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى الله بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح.
_________
(١) انظر: فتح الباري ١٠/ ٥٤٠، ٦/ ٥٣١، وشرح النووي على صحيح مسلم ٢/ ٣٣، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، ١٣/ ٣٥٤.
(٢) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجَزِ والحداء وما يكره منه، ١٠/ ٥٣٧.
1 / 11
والمهم أن تكون أقوال الداعية إلى الله - تعالى - وأفعاله وتدبيراته وأفكاره نابعة من الحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، لا زيادة فيها عما ينبغي ولا نقص، مجتهدًا في معرفة نفعه وصلاحه، سالكًا أقرب طريق يوصل إلى ذلك.
وهذا يؤكد أن دراسة الحكمة في الدعوة إلى الله - تعالى - من أهم المهمات، ومن أعظم القربات، وأنها بحاجة إلى من يبرزها في صورة ميسرة؛ ليستفيد منها الدعاة في دعوتهم إلى الله ﷿؛ ليقدموا للناس الِإسلام بالطُّرق السليمة التي توصله إليهم بيسر وسهولة، وهذا يحتاج إلى معرفة أحوال المدعوين، سواء كانت اعتقادية أو نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ثم معرفة الشُّبَه لديهم؛ لِإزالتها بالطرق المناسبة لأحوالهم، وهذا كله يحتاج إلى دراسة علمية دقيقة متكاملة متأنية، ولا سيما أن هذا الموضوع لم يتناوله أحد من الباحثين في دراسة مستقلة شاملة تستوعب جميع جوانبه المختلفة.
ولهذه الأهمية، وهذه الأسباب، وللعديد من غيرها، وحُبّا في خدمة هذا الموضوع عقدت العزم، واستعنت بالله، وقررت بعد الاستخارة والاستشارة أن أجعل موضوع رسالتي " الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ".
والله أسأل أن يلهمني رشدي، ويعيذني من شر نفسي، ويوفقني للهدى والسداد، وجميع المسلمين.
1 / 12
٢ - الدراسات السابقة:
بالنسبة للدراسات السابقة لهذا الموضوع فحاصل ما اطلعت عليه منها ما يأتي:
* لقمان الحكيم وحكمه: لمؤلفه محمد خير رمضان.
وقد حاول تعريف الحكمة لغةً واصطلاحًا، وترجم للقمان الحكيم، وسرد بعض الآثار في حِكَم لقمان، وربما يكون بعضها من الإسرائيليات، ولم يتعرض في كتابه للحكمَة في الدعوة إلى الله تعالى.
* حكمة الدعوة: لرفاعي سرور.
وقد ذكر بعض الجوانب لتعريف الحكمة، ثم ذكر قيام الجماعة الواحدة، وأحكام الفكر الِإسلامي، ولم يتعرض في كتابه إلى شيء من جوانب الخطة التي وضعتها.
* وما كتبه ابن القيم - رحمه الله تعالى - حول الحكمة في كتابه: " مدارج السالكين "، فقد اقتصر على تعريفها، وأركانها، وأنواعها، ولم يتعرض ﵀ إلى الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن موضوع كتابه عن: منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]
* وما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، في كتابه: " الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة "، إذ خصص صفحتين فقط من الفصل السابع عشر من هذا الكتاب عن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى.
ولم تحظ الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى -بعد- بمؤلَّف مستقل شامل يتطرق للموضوع من جميع جوانبه في دراسة علمية متخصصة شاملة، دقيقة متكاملة.
1 / 13
٣ - خطة الرسالة:
وقد كانت خطة الرسالة كما يلي:
المقدمة:
الفصل الأول: الحكمة مفهومها وضوابطها:
المبحث الأول: مفهوم الحكمة.
المبحث الثاني: أركانها.
المبحث الثالث: أنواعها.
المبحث الرابع: طرق اكتسابها.
الفصل الثاني: مواقف الحكمة:
المبحث الأول: مواقف النبي ﷺ.
المبحث الثاني: مواقف الصحابة ﵃.
المبحث الثالث: مواقف التابعين ﵏.
المبحث الرابع: مواقف تابعي التابعين ﵏.
المبحث الخامس: نماذج من مواقف الحكمة عبر العصور.
الفصل الثالث: حكمة القول مع المدعوين:
تمهيد: إنزال الناس منازلهم ومراعاة أحوالهم.
المبحث الأول: حكمة القول مع الملحدين.
المبحث الثاني: حكمة القول مع الوثنيين.
المبحث الثالث: حكمة القول مع أهل الكتاب.
المبحث الرابع: حكمة القول مع المسلمين.
الفصل الرابع: حكمة القوة الفعلية مع المدعوين:
تمهيد: مراتب الدعوة بحسب مراتب البشر.
المبحث الأول: حكمة القوة الفعلية مع الكفار.
1 / 14
المبحث الثاني: حكمة القوة الفعلية مع عصاة المسلمين.
الخاتمة: وفيها:
* ملخص البحث.
* أهم النتائج.
* التوصيات.
الفهارس:
١ - فهرس المراجع والمصادر.
٢ - فهرس الموضوعات.
٤ - منهجي في الرسالة:
استخدمت في هذا البحث المنهج الاستردادي التاريخي التحليلي، حيث تتبعت النصوص من القرآن والسنة، ومواقف النبي ﷺ في دعوته إلى الله بالحكمة، وأخذت مواقف الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم التي سلكوا فيها طريق الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى من أمهات الكتب.
كما استخدمت منهج الاستدلال؛ لأني احتجت إلى الاستدلال العقلي الذي ينبني على قواعد التأمل والتفكر في الوصول إلى الحقائق، واستخدمت هذا المنهج كثيرًا في حكمة القول مع الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب.
وقد راعيت الأمور التالية:
١ - عزوت الآيات القرآنية إلى سورها، وذكرت اسم السورة ورقم الآية منها.
1 / 15
٢ - خرجت الأحاديث والآثار من مصادرها الأصلية.
٣ - حاولت الاقتصار على الأحاديث الصحيحة أو الحسنة.
٤ - أشرت إلى من صحح الحديث أو حسنه من العلماء المحققين إذا كان في غير الصحيحين ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
٥ - حرصت على جمع المعلومات من المصادر الأصلية مباشرة، ورجعت إلى أكثر من مصدر في المسألة الواحدة ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، مع الاستفادة من المراجع الحديثة.
٦ - بينت في الحاشية بعض الكلمات التي أرى أنها في حاجة إلى البيان.
٧ - حرصت على رسم الآيات القرآنية بالرسم العثماني، اتباعًا لرسم المصحف الشريف، إلا بعض الأحرف؛ لعدم وجودها في الكمبيوتر.
٨ - ترجمت لأصحاب المواقف الحكيمة ما عدا الصحابة ﵃ كما ترجمت لغير المشهورين من الأعلام.
٩ - عملت فهارس تفصيلية للآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والآثار، وقد ميزت الآثار بذكر اسم صاحب الأثر أمامه، وفهرس الأبيات الشعرية، وفهرس الأعلام المترجم لهم، والمصادر والمراجع، والموضوعات.
ولا أدَّعي الكمال، فالكمال من صفات الله تعالى، والنقص والتقصير واختلاف وجهات النظر من صفات الِإنسان، ولكني قد بذلت قصارى جهدي؛ ليخرج هذا البحث المتواضع على الوجه المطلوب، فما كان من صواب وسداد فمن الواحد المنان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله ﷺ، وأستغفر الله من ذنبي كله: هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، إنه سميع مجيب.
1 / 16
٥ - الشكر والتقدير:
هذا، والشكر والحمد لله الكريم الحكيم الذي أسبغ علي النعم الظاهرة والباطنة، ووفق عبده الفقير إليه وحده لمعالجة هذا الموضوع، وهو أهل الثناء والمجد.
وفي مقامي هذا أمتثل حديث رسول الله ﷺ حيث قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناسَ» (١).
فأشكر أستاذي الفاضل المشرف على هذه الرسالة، فضيلة الأستاذ المشارك الدكتور / فضل إلهي، رئيس قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والِإعلام، بجامعة الِإمام محمد بن سعود الِإسلامية، الذي بذل الكثير من وقته وراحته، ولم يبخل علي بالرأي والمشورة والتوجيهات القيمة لرفع مستوى هذه الرسالة حتى خرجت بهذه الصورة، فقد أفادني كثيرا، فجزاه الله خيرا، وأجزل له الثواب، إنه قريب مجيب الدعوات.
كما أشكر الأستاذين الفاضلين: الدكتور / محمد بن عبد الله الفهيد، الأستاذ بكلية أصول الدين، قسم السنة وعلومها، والدكتور / أحمد بن محمد أبابطين، وكيل قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والِإعلام، على تفضلهما بقبول عضوية مناقشة الرسالة وإعطاء الكثير من وقتهما وراحتهما لقراءة الرسالة، فجزاهما الله خيرا.
وكذلك أتقدم بالشكر والتقدير لجامعة الِإمام محمد بن سعود الإسلامية، على ما تقوم به من جهود عظيمة في خدمة الِإسلام والمسلمين، فجزى الَلّه القائمين عليها خير الجزاء. كما أتقدم بالشكر والتقدير للمسئولين في كلية الدعوة والِإعلام، وعلى رأسهم فضيلة عميد الكلية الدكتور / زيد بن عبد الكريم الزيد، والدكتور مسفر البشر، وكيل الدراسات العليا بالكلية على ما يبذلونه من جهود في خدمة العلم وطلابه، فجزاهم الله خير الجزاء، وضاعف مثوبتهم إنه سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
_________
(١) أبو داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف ٤/ ٢٥٥، والترمذي بنحوه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك ٤/ ٣٣٩، وأحمد ٢/ ٢٩٥، ٥/ ٢١١، وانظر: صحيح أبي داود للشيخ الألباني ٣/ ٩١٣، وصحيح الترمذي للألباني ٢/ ١٨٥.
1 / 17
الفصل الأول
الحكمة مفهومها وضوابطها المبحث الأول: مفهوم الحكمة.
المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها
المبحث الثالث: أركان الحكمة.
المبحث الرابع: طرق اكتسابها.
1 / 19
المبحث الأول مفهوم الحكمة
المطلب الأول: تعريفها في اللغة.
المطلب الثاني: تعريفها في الاصطلاح الشرعي.
المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي.
1 / 21
المطلب الأول تعريف الحكمة
في اللغة جاءت الحكمة في اللغة بعدة معان، منها:
١ - تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل.
وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد (١).
٢ - والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (٢).
٣ - والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أحكمته التجارب (٣).
٤ - والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل (٤).
٥ - والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (٥).
_________
(١) القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، المتوفى ٨١٧هـ، باب الميم، فصل الحاء، ص١٤١٥، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء١٢/ ١٤٣، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص٦٢.
(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم ١/ ١١٩، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، ١٢/ ١٤٠، والمعجم الوسيط، مادة: حكم: ١/ ١٩٠.
(٣) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، ١٢/ ١٤٣، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص ٦٢.
(٤) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم ١/ ٤١٩.
(٥) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم ص ١٢٧.
1 / 23
٦ - والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير (١).
٧ - والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرس، سميت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (٢).
٨ - والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلانًا تحكيمًا: منعته عما يريد (٣).
ومما تقدم يتضح ويتبين أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع:
فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم.
والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب.
_________
(١) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١/ ٢٨٨ بتصرف يسير.
(٢) انظر: المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، المتوفى سنة ٧٧٠هـ، مادة: الحكم، ١/ ١٤٥، وتاج العروس ٨/ ٢٥٣.
(٣) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس ٢/ ٩١، باب الحاء والكاف، مادة: حكم.
1 / 24
والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل.
والنّبوة، والقرآن، والِإنجيل: فالنبي إنما بعث لمنع من بعث إليهم من عبادة غير الله، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والِإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها الله تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح.
ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الِإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الِإسلام ابن تيمية ﵀: " الِإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه " (١).
_________
(١) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية ٢/ ٧.
1 / 25
المطلب الثاني تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية (١) واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة؛ النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع والعمل الصالح، وقيل: الخشية لله، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين الله، وقيل: العلم والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيمًا إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة (٢).
_________
(١) جاء لفظ: الحكمة في كتاب الله - تعالى - في أكثر من تسعة عشر موضعًا، انظر: سورة البقرة، آيات: ١٢٩، ١٥١، ٢٣١، ٢٥١، ٢٦٩، وآل عمران: ٤٨، ٨١، ١٦٤، والنساء: ٥٤، ١١٣، والمائدة: ١١٠، والنحل: ١٢٥، والإسراء: ٣٩، ولقمان: ١٢، والأحزاب: ٣٤، وص: ٢٠، والزخرف: ٦٣، والقمر: ٥، والجمعة: ٢.
وجاء لفظ الحكمة في السنة النبوية في عدة مواضع، انظر معظمها: في البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الإغتباط في العلم والحكمة، ١/ ١٦٥، برقم ٧٣، وكتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس ﵄، ٧ برقم ٣٧٥٦، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم ٧٢٧٠، وكتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ٨/ ٩٨، ٩٩ برقم ٤٣٨٨، ٤٣٩٠، وكتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجَز والحداءِ وما يكره منه، ١٠/ ٥٧٣، برقم ٦١٤٥، وباب الحياء، ١٠/ ٥٢١ برقم ٦١١٧. ومسلم، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، ١/ ٧١ - ٧٣ برقم ٥١، وباب عدد شعب الإيمان، ١/ ٦٤، برقم ٣٧، وكتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه وغيره فعمل بها وعلمها، ١/ ٥٥٩ برقم ٨١٦ والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل العلم على العبادة / ٥١، برقم ٢٦٨٧، وكتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، ٤/ ٣٧٩ برقم٢٠٣٣، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحكمة، ٢/ ١٣٩٥ برقم ٤١٦٩، والدارمي، في المقدمة، باب من هاب الفتيا مخافة السقط، ١/ ٧٥ برقم ٢٩٣، وباب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله، ١/ ٩٠ برقم٣٩٥، وباب فضل العلم والعالم، ١/ ٨٤، برقم ٣٥٧، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، ٢/ ٣١٢ برقم ٣٣٣٠.
(٢) انظر: تفسير مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية في المصادر التالية: جامع البيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ١/ ٤٣٦، ٣/ ٦٠، ٦١ وتفسير غرائب القرآن للنيسابوري المطبوع بهامش تفسير الطبري ١/ ٤١٣، وتفسير البغوي١/ ٢٥٦، ١/ ١١٦، وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ١/ ٣٢٤، ١/ ١٤٦، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٢/ ١٣١، ٣/ ٦٠، ٦١، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ١٨٤، ١/ ٣٢٣، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي ١/ ٣٨٧، ٣/ ٤١، وفتح القدير للشوكاني ١/ ٢٨٩، ١/ ١٤٤، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا ١/ ٤٧٢، ٢/ ٢٩، ٣/ ٧٥، ٣/ ٢٦٣، وتفسير المراغي ١/ ٢١٤، ٢/ ١٩ ٣/ ٤١، وتفسير السعدي ١/ ١٧٣، ١/ ٢٩٠، ٦/ ١٥٤، وفي ظلال القرآن لسيد قطب ١/ ٣١٢، ١/ ١٣٩، ٣٩٩، ٢/ ٩٩٧، وصفوة المفاهيم والآثار لعبد الرحمن الدوسري ٢/ ٣٦٠، ٤١٦ ٣/ ٤٩٨، ٤٩٩ ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ٦/ ٦٦، ٦٧، ٩، ٢٣، ومجموع فتاوى شيخ الِإسلام ابن تيمية ١٩/ ١٧٠، ومدارج السالكين لابن القيم ٢/ ٤٧٨، ٤٧٩، والتفسير القيم لابن القيم ص ٢٢٧، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاتي ١/ ٦٧، ٧٠، ٦/ ٥٣١، ٧/ ١٠٠، ١٠/ ٥٢٢، ٥٢٩/ ٥٤٠، وشرح النووي على صحيح مسلم، ٢/ ٧، ٣٣، ٦/ ٩٨، ١٥/ ١٢، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي ٦/ ١٨٢، ٧/ ٥٨، ١٠/ ٣٢٧، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، ١٣/ ٣٥٤، ٣٥٥.
1 / 26
وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولًا في تعريف الحكمة (١).
" وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الِإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه ﷺ حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه. فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كل فعل قبيح. . " (٢).
وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذه الأقوال في تعريف الحكمة هو: " الِإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه ".
_________
(١) انظر: تفسير البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، أبو حيان الأندلسي ٢/ ٣٢٠.
(٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٣/ ٣٣٠، وانظر: البحر المحيط ٢/ ٣٢٠، قال الإمام النووي ﵀ وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها: أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله ﵎ المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. قال أبو بكر بن دريد: " كل كلمة وعظتك وزجرتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم "، شرح النووي على صحيح مسلم، ٢/ ٣٣.
1 / 27
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلانًا لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبين الِإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول، لأن الِإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهمِ منه بموِاضع الصواب يكون في جميع أموره: فهمًا، خاشيًا لله، فقيهًا عالما، عاملا بعلمه، ورعًا في دينه. . . والحكمة أعم من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مسددون، مفهمون، وموفقون لِإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (١).
والحكمة في كتاب الله نوعان (٢) مفردة، ومقرونة بالكتاب.
فالمفردة كقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] (٣). وقوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] (٤). وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: ١٢] (٥).
وهذه الحكمة فسرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة، وهذا النوع كثير في كتاب الله تعالى.
_________
(١) انظر: تفسير الطبري ١/ ٤٣٦، ٣/ ٦١.
(٢) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم ٢/ ٤٧٨، والتفسير القيم لابن القيم، ص٢٢٧.
(٣) سورة النحل، الآية ١٢٥.
(٤) سورة البقرة، الآية ٢٦٩.
(٥) سورة لقمان، الآية ١٢.
1 / 28