Al-Awraq: Section of News of the Poets
الأوراق قسم أخبار الشعراء
Penerbit
شركة أمل
Lokasi Penerbit
القاهرة
Genre-genre
[مقدمة الجزء الأول]
[مقدمة رئيس التحرير]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تعريف
- ١- عزيزى القارىء.. تقدم لك الذخائر هذه المرة (قطعة) من تاريخنا الأدبى المطعّم دائما بالسياسة، هذه (القطعة) هى كتاب (الأوراق) للصولى (أبوبكر محمد بن يحيى ت ٣٣٥ هـ) .
هذا الكتاب يلف رحلته شىء من (الدرامية) - إن جاز التعبير- فقد ذكروا أن المؤلف لم يتمّه، كما أن الأجزاء التى أنجزت منه لم يتم تحقيقها بالكامل. ومع ذلك فقد دفعت قيمة الكتاب التى نوه بها القدماء، كما نوه بها الذين اطلعوا على بعض صفحاته من المحدثين.. أقول: دفعت قيمة الكتاب ذلك العاشق القادم من الغرب- من انجلترا على وجه التحديد- إلى أن يتحمل مشقة تحقيق ما تيسر له من أجزائه، هذا العاشق هو محققه الأستاذ ج. هيورث. دن، الذى شده ما سمع عن الكتاب من أساتذته من المستشرقين وأصدقائه من المصريين، كما لفتته طرافة مادة الكتاب، فانتهز فرصة قدومه إلى مصر معلما للغة الإنجليزية- وضع خطا تحت كلمة (الإنجليزية) - فهو لم يأت كواحد من المستشرقين لتدريس العربية أو بعض الموضوعات التى يعنى بها المستشرقون، وإنما قدم لتدريس الإنجليزية، وعلى الرغم من ذلك فقد انتهز فرصة وجوده فى مصر وحصوله على نسخة القطعة المتبقية من الكتاب ليشرع فى تحقيقه وتقديمه إلى القراء، ليبصروا عيانا ما سبق أن نوّه به سماعا.
م 1 / 5
- ٢-
المادة الأدبية فى الكتاب- وعمادها الشعر- كلها لمحدثين عبّاسيّين سواء كانوا من البيت العباسى- خلفاء وأبناء خلفاء- أو كانوا من غيرهم؛ والأحداث السياسية كلها أبطالها عباسيون- سواء من العرب أو غير العرب- والكل مثير ولافت، سواء الشعر أو الأحداث السياسية أو الأشخاص الذين أسهموا فى صنع تلك الأحداث.
من هذه الزاوية يعد كتاب الأوراق وثيقة أدبية وتاريخية لاغنى عن قراءتها لكل من يهمه تاريخ الأدب العربى، وقبل هذا لكل من يهمه تاريخ هذه الأمة العربية التى بقدر ما نعمت بعهود من التوحد والقوة عانت عهودا أطول من التفكك والهوان.
- ٣- قدّم الأستاذ المحقق ثلاثة أجزاء من الكتاب على مدى سنوات ١٩٣٤، ١٩٣٥، ١٩٣٦، هى- وفقا لترتيب طباعتها: قسم أخبار الشعراء، أخبار الراضى بالله والمتقى لله، أشعار أولاد الخلفاء.
كلمات المؤلف- الصولى- فى مطلع الجزء الثانى- أخبار الراضى والمتقى- تنص على أنه فرغ قبله من أخبار الخليفة القاهر (٣٢٠- ٣٢٢ هـ) [انظر ص ١] بينما تشير كلمات المحقق إلى وجود جزء تاريخى آخر يتناول أخبار خليفتين سابقين على القاهر، هما: المكتفى بالله (٢٨٩- ٢٩٥ هـ) والمقتدر بالله (٢٩٥- ٣٢٠ هـ)، وقد وعد المحقق بالبدء فى طبع هذا الجزء التاريخى بعد الجزء الخاص بأشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم [انظر صفحة (د) من مقدمة المحقق لأشعار أولاد الخلفاء] لكن يبدو أن حائلا حال دون ذلك، فبقى الكتاب- فيما نعلم- قاصرا على هذه الأجزاء الثلاثة التى
م 1 / 6
نقدمها اليوم لقراء الذخائر، بنفس الترتيب الذى قدمها به الأستاذ المحقق، وإن كانت القرائن تدل على أن ترتيب تأليفه كان مختلفا.
- ٤- عزيزى القارئ.. كم أتمنى أن يكون قد لفتك وصفى لمحقق الكتاب الأستاذ (ج. هيورث. دن) بأنه (ذلك العاشق القادم من الغرب)، كم أتمنى أن تسألنى عن سر هذا الوصف، وأقول لك: إجابتى شرطها أن تقرأ كلمات الرجل فى وصف حماسته للسفر إلى مصر شوقا إلى رؤية مخطوط (الأوراق) والعمل على تحقيقه ونشره.
يقول: «ظللت أتحين الفرص التى تذلل لى الطريق إلى مصر، وكنت كما قال الشاعر:
أعلّل النفس بالامال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
وحدث أن اختارتنى وزارة المعارف فى مصر مدرسا للغة الإنجليزية، فكان هذا الاختيار الغاية التى لا مطلع وراءها، ووقع من نفسى (مواقع الماء من ذى الغلة الصادى) .
وطبعا لم يكن ثمة ما يحبب إلىّ مثل هذا الاختيار سوى أنه يتيح لى نشر الكتاب، وكما يقول المتنبى:
ولو لم يكن فى مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشرق المستهام المتيّم
لقد جاء هذا النص فى مقدمته للجزء الأول- قسم أخبار الشعراء (صفحة د) - واصفا- كما قلت- حماسته لإخراج الكتاب، ولقد أخرج جزءه الأول ثم جزءه الثانى (أخبار الراضى والمتقى)، وها هو ذا فى مقدمته للجزء الثالث يشعر بالامتنان للذين نوّهوا بعمله فى الجزئين ثم حثوه على إخراج جزئه الثالث، يقول: «لم تكد المطبعة
م 1 / 7
تفرغ من إصدار القسم الثانى المشتمل على أخبار الراضى بالله والمتقى لله.. ولم تكد النسخ الأولى منه تصل إلى أيدى العلماء حتى انثالت علىّ الرسائل، بعضها فرح مستبشر بمضيّى فى إظهار ذلك القسم وسابقه، متفائل بالنجاح فى إخراج كتاب الأوراق، وبعضها يطرى عملى فيه وعنايتى به.. ولم يكن حظى من الذين قرأوا الكتاب ولم يكتبوا إلىّ، بأقل من حظى من أولئك الأفاضل الذين قرأوا الكتاب وكتبوا إلىّ، بل كان حظى من بعضهم أوفى وأجل، فهم لم يكتبوا إلىّ فحسب، إنما ملأوا الدنيا كتابة فى الصحف وإذاعة فى المذياع» .
[مقدمة أشعار أولاد الخلفاء. صفحة أ، ب] .
أذكرك- عزيزى القارئ- بأن النصين اللذين قرأتهما للتوّهما لرجل غير عربى، تعلم العربية هناك فى مدرسة العلوم الشرقية بلندن، وقد يكون هناك- إلى جانب الدراسة- ما ساعده على إجادتها، ومع ذلك يظل هو الرجل صاحب اللسان الآخر، الذى لم يرضع العربية من ثدى الأم كما يقولون، يكتب العربية بهذا المستوى الرائع، ويضمّن نصه الأول بيتين ونصف البيت من الشعر تضمينا محكما واقعا موقعه من سياق الكلام، وأنا أحيلك على المقدمات التى صدّر بها الأجزاء الثلاثة التى نشرها من الكتاب، وهى صفحات قليلة، ولكنها تؤكد إلى أى مدى كانت العربية طيّعة لقلمه- وهو الغريب عنها، القاطن فى بلد لا يتكلمها- هذا فى الوقت الذى يتلوّى فيه أبناؤها تحت دعوى صعوبتها، ويعتذرون- أولا يعتذرون- عن الخطأ فيها، وربما جعلوا ذلك الخطأ مدعاة للفخر والتباهى بأنهم من دارسى اللغات الأجنبية، أو أنهم غير مختصين بالعربية.
م 1 / 8
- ٥-
ألست معى- عزيزى القارئ- فى أننى وأنت- إن كنت منتميا مثلى إلى هذه الأمة- فى أننا معا من أمة حار فى فهمها المنجمون؟، هى الأمة التى ضحكت من (حالها) الأمم، الأمة التى فيها من المضحكات المبكيات ما لا يحصى، وإن كان أشدّها مدعاة للضحك- أو للبكاء، سيان- تنكّر أبنائها للغتهم والتباهى بعدم إتقانها، بل وبالجهل بها، وليتهم وقفوا عند هذا الحد، حد استشعار القصور فى أنفسهم، ومحاولة ستره، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد إلى انتقاد اللغة، فهى- مرة- قاصرة، ومرة صعبة، ومرة فيها تزيّد فائض عن الحاجة!! ما وجه القصور؟ يجيبون القصور عن ملاحقة التطور العلمى بعدم الاشتمال على المصطلحات اللازمة لمجاراة هذا التطور! ناسين أن اللغة نتاج حضارى وأن غناها وفقرها- فى مجال المصطلحات خاصة- إنما هو انعكاس لغنى أو لفقر الحضارة التى أنتجتها، وأن الحضارة التى تنتج (المسمّيات) هى التى تحمل اللغة على تقديم (الأسماء)، أما الحديث عن الصعوبة فكلام مرسل، وكل لغة لها بنيتها الخاصة فى الاشتقاق والتصريف وتعلق الكلمات بعضها ببعض وعناصر الربط بينها عند الإضافة، فضلا عما يقدّم وما يؤخر.
ويأتى حديث الزيادة أو الفائض الذى لا لزوم له.. فلا لزوم للإعراب ولا لزوم لنون النسوة ولا لزوم للتثنية- يكفى المفرد والجمع- ولا لزوم للجملة الفعلية- تكفى الجملة الإسمية- لماذا؟ لأن هذه الظواهر لا وجود لها في بعض اللغات الأخرى الحديثة المتطورة!! وليس هذا مكان النقاش، ولكنى فقط أذكر بمبدأ أساسى يجب أن نقر به: إنّ من
م 1 / 9
الخطأ الفادح قياس بنية لغة على بنية لغة أخرى، هذا مرفوض بالنسبة لكل اللغات، ولو كان للنقاش والمقارنة مكان هنا لذكرت كثيرا من الظواهر فى بعض اللغات الأخرى مما يمكن الجدل حول جدواها، لكن ليس هذا هو المكان المناسب.
وإنما أقول لأصحاب هذه الأفكار ممّن أصابتهم عقدة الخواجة: إننى على يقين من أنه لو كان الأمر بالعكس، أى لو كان الإعراب وعلامة التأنيث- أقصد نون النسوة- والتثنية والجملة الفعلية موجودة فى بعض اللغات الأخرى دون العربية لأصبح الموقف- فى تصورى- مختلفا ولوقفتم تهاجمون العربية لخلوها من هذه الظواهر، التى كانت ستكون عندئذ خصائص تدل على رقى اللغة التى توجد فيها ودقتها وحرصها على التفريق بين النوعين وعلى إبراز الفارق المعنوى بين الجملة الفعلية والإسمية..
إلخ.
هذه- أيها السادة- هى الحقيقة: إننا نأتمر- ربما لا شعوريا- بأوامر من خارجنا، أوامر- قد لا نكون على وعى بها- تجعلنا عبيدا للإحساس بالدونية، ومن ثم للتقليد، وإلا فلو كان الأمر أمر صلاحية للاستمرار لوجبت التحية لتلك اللغة التى ضربت الرقم القياسى فى طول عمرها بين اللغات الحية، ولعد طول العمر هنا دليلا على الحيوية والمرونة والقابلية للتطور، لا مظهر عجز وشيخوخة لا وجود لهما إلا فى أذهان القائلين بهما.
معذرة- عزيزى القارئ- إذا كنت قد أقحمت عليك هذا الموضوع.. وإنما جر إليه التداعى.. التداعى بالتناقض بين جمال العربية التى كتب بها الرجل الغريب عنها، الأستاذ (ج. هيورث. دن) وهو يقدم تحقيقه لكتاب (الأوراق) للصولى، وركاكة اللغة التى يتحدث بها- متباهين- بعض أبنائها، مضيفين إلى ذلك
م 1 / 10
اتهامها بالصعوبة والتخلف، زاعمين لأنفسهم الحق والقدرة على إجراء ما يرونه من عمليات البتر والترقيع مما يسمّونه تطويرا.
أما العربية فإنى أسمعها تردد بلسان الشاعر القديم:
وكم جاهل بى وهو يجهل جهله ... ويجهل علمى أنّه بى جاهل
عبد الحكيم راضى أغسطس ٢٠٠٤
م 1 / 11
محقق الكتاب
الأستاذ/ ج. هيورث. دن لم نستطع الوصول إلى معلومات تساعدنا على التعريف بمحقق الكتاب، سوى ما ذكره هو عن نفسه فى مقدمته للجزء الأول من أنه درس فى مدرسة العلوم الشرقية بلندن، وأنه قدم إلى مصر منتدبا من وزارة المعارف المصرية لتدريس اللغة الإنجليزية، وواضح من كتابته أنه كان يجيد العربية إجادة كاملة تدعو إلى الإعجاب وأنه كان مشغوفا بكتاب الأوراق للصولى بعد ما سمعه عنه من أساتذته فى أوروبا ومن أصدقائه فى مصر مما جعل تحقيق الكتاب هو هدفه الأول من هذه الرحلة.
م 1 / 13
مقدم هذه الطبعة
الأستاذ الدكتور منير عبد القادر سلطان- تخرج فى كلية الآداب- جامعة الإسكندرية ١٩٦٢- حصل على الدكتوراه فى الآداب من نفس الكلية ١٩٧١- عين مدرسا للنقد والبلاغة بكلية البنات جامعة عين شمس ١٩٧٥- تدرج فى مناصب هيئة التدريس بالكلية- تولى رئاسة قسم اللغة العربية بها من ١٩٩٤- ١٩٩٧- حاليا أستاذ النقد والبلاغة بالكلية.
- أعير إلى أكثر من جامعة عربية بالسعودية وقطر- أشرف على عديد من رسائل الدكتوراه والماجستير كما شارك فى مناقشة العديد منها، وفى تقويم الأعمال العلمية المقدّمة للجان للترقية.
من مؤلفاته:
- إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة- الإيقاع الصوتى فى شعر شوقى الغنائى- بديع التراكيب فى شعر أبى تمام- الكلمة والجملة- الصورة الفنية فى شعر المتنبى- ابن سلّام الجمحى وطبقات الشعراء- المرزبانى والموشح
م 1 / 15
تقديم
د. منير سلطان
أولا: أبوبكر الصّولى (٢٥٥- ٥/٣٣٦ هـ)
يقدّر للرجل أن تكون حياته صورة منتزعة من أحداث عصره، هو نتاج ونتيجة، وهى منبع ومصبّ، وإذا استعرضنا حياة الصولى أيقنّا أنه من العسير على مثله أن ينسب إلى عصر غير عصره، ومن الطبيعى لمثل عصره أن يفرز رجلا كمثله، وإن لم يكن، تكون نواميس الطبيعة قد خرقت، وطبائع الأشياء قد انحرفت.
والصولى هو رجلنا الذى سنجلس إليه (١) والعصر العباسى الثانى فى بغداد هو عصرنا الذى سيكون مرآة نرى فيه الصولى ونراه فى الصولى، مع احتفاظ كل منهما بخصائصه. ذلك العصر (٢٤٧- ٣٣٤ هـ) (٢) الذى بدأ بمقتل خليفة، وانتهى بسمل خليفة، المتوكل قتل بيد ابنه وولى عهده، والمستكفى سمل بيد معزّ الدولة البويهى.
وبدخول البويهيّين بغداد انتهى عصر سيطرة الأتراك على بغداد، وبدأ عصر سيطرة الفرس، وقد كانوا مسيطرين فى العصر العباسى الأول، واضطرّ المعتصم أن يكثر من الأتراك ليخفف من ضغط الفرس حتى تحول العنصر التركى إلى كابوس، فجاء معز الدولة البويهى ليعيد النفوذ للفرس، أما عن العرب فكانوا يجلسون فى صالة المسرح يتفرجون، ويدفعون الثمن من قوتهم ودمائهم، وقد كانوا فى الدولة الأموية هم أبطال الملحمة، وكانت هذه العناصر مصنفة تحت قائمة العبيد والموالى ثم تغيرت الأدوار (٣) .
م 1 / 17
العصر هنا بمعنى الحقبة الزمنية ذات الأحداث المتشابهة، والتى وقعت فى مكان محدد، لأسباب محددة، نتائجها متوقعة، وهى أحداث ولد الصولى بعد ثمانى سنوات من بدايتها، وعاش سنة أو سنتين قبل نهايتها.
كان من الممكن أن يكون أبو بكر الصولى شاعرا أو كاتبا (٤) أو نحويا (٥) أو فقيها (٦) أو إخباريا (٧) أو موسيقيا (٨) أو منجّما (٩) أو مهندسا (١٠) أو نديما (١١) ولكنه آثر أن يكون كلّ هؤلاء، أن يكون عدّة رجال فى رجل، محيطا بكل شيء، وليس متخصصا فى شيء، فالمتخصص فى علم ما، أو فن ما هو: الذى يضيف إضافة لتخصصه، وتكون له فيه علامة، ولا يمكن للدارسين أن يتجاوزوه إذا تذاكروا الفائقين فى علم ما، أو فن ما، أما الموسوعى فهو:
الذى يسبح فى فضاء المعارف ولا يغوص، يتعمق ولا يبعد، وإن ابتعد لا يغيب، ويجسب له أنه جمع فأوعى، وسمع وروى وحفظ ودرى، فتحول إلى وعاء امتلأ علما يشفى غلة الصادى، ويروى ظمأ الملهوف، لكن ليس له مجال تخصص يقف فيه، وهكذا كان الصولى، هو نتاج طبيعى للعصر العباسى الثانى فى بغداد.
وأعلم أنه سيتبادر إلى الذهن فورا أعلام كبار فى حضارتنا الإسلامية، فالمدائنى (٢١٥ هـ) ترك حوالى سبعة وثلاثين ومئتى كتاب (١٢)، والجاحظ (٢٥٥ هـ) ترك مكتبة معروفة، وكذا ابن قتيبة (٢٧٦ هـ)، والطبرى (٣١٠ هـ)، وأبو حيان التوحيدى (٤٠٠ هـ) وغيرهم كانوا موسوعيين وكانوا صورة منتزعة من عصورهم، مثل الصولى، ولكنهم تميزوا عنه بأنهم تجاوزوا عصورهم بتراثهم، فصاروا صالحين لكل العصور، وكان لهم من
م 1 / 18
تكوينهم العلمى والاجتماعى والثقافى والنفسى ما ساعدهم على ترك علامة بل علامات فيما تناولوه من علم أو فن، فأضافوا أفكارا، وغيروا مفاهيم، وكان لهم امتداد على يد تلاميذهم، وهنا يختلف الصولى.
كان الصولى على أهميته البالغة نتاجا لعصر هو نفسه نتيجة لأحداث وقعت فى عصر بل عصور سابقة عليه، أحداث كان لها أثرها الدامى فى جسد الأمة الإسلامية منذ أن قتل عثمان بن عفان إلى أن جاءت الدولة الأموية التى تعصبت للعرب، والدولة العباسية الأولى التى تعصبت للفرس، ثم الدولة العباسية الثانية التى قامت على أكتاف الأتراك، فأخذوا يجرون عربة الدولة العباسية فى المنحدر إلى أن وصلت بهم إلى القاع، ليجدوا رءوسهم تحت أقدام معز الدولة البويهى، وتفتّتت الإمبراطورية إلى دويلات وإمارات، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
الصولى غير المدائنى، غير الجاحظ وابن قتيبة، والعصر الذى ظهر فيه الصولى ما كان بحاجة إلى أعلام أفذاذ مثلهم يتجاوزون العصور، ويقفزون فوق أسوار الزمن، كان بحاجة إلى من يرصد أحداثه، ويصور فساده، ويحكى تناقضاته، وينظر بالبصر والبصيرة إلى أحوال العلم والعلماء، والدين والفقهاء، والأدب والأدباء والسياسة والساسة، والتقلبات المذهلة، والأوضاع الغريبة، ولم لا؟ والمجتمع- فى ظل هذه الفتن والاضطرابات والقلاقل- تحول إلى مجتمعات داخل مجتمع، الخليفة والقصر والأمراء والوزراء مجتمع، والقادة والجيش مجتمع، والعلماء والفقهاء والأدباء مجتمع، والتجار والصّناع مجتمع، وعامة الشعب مجتمع، والعبيد مجتمع وهكذا، دوائر تحكمها الطبقية
م 1 / 19
الغليظة، تتعامل مع بعضها حسب قوانين معلومة، وتتعامل مع غيرها وفق قوانين متفق عليها، وعادة ما تحدث الاضطرابات حين يختل النظام وتتداخل القوانين، وتنتهك الحدود، وهذا هو- فى رأيى- سر ظهور أسماء لامعة فى العصر العباسى الثانى فى كل فن وعلم بالرغم من الفوضى التى نراها بالعين المجردة من الخارج، ومن ثمّ لا تدهش لكثرة العلماء والفقهاء والفنانين بالرغم من الخلل الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والأخلاقى الصارخ الذى كانوا يعيشون فيه.
إن اطلاعا سريعا على كتاب العصر العباسى الثانى لأستاذنا الدكتور شوقى ضيف يرينا كيف كانت الحركة العلمية تأليفا وترجمة فى كل العلوم العربية والدينية والفلسفية والطبيعية، وكيف كان زحام العلماء وطلاب العلم فى المساجد والمجالس الأدبية، وكيف كان تشجيع الخلفاء والوزراء والأسر الموسرة للعلم والعلماء، حتى ليخيل إلينا أننا فى أوج العصر العباسى الأول (١٣) والحقيقة أن العصر العباسى الثانى أضاف إضافاته، واجتهد اجتهاداته، وترك علاماته، إنها سر عظمة الحضارة الإسلامية، أن تستمر شعلتها مضيئة حتى فى الظلام الدامس.
ثانيا: كتاب الأوراق
بين أيدينا تحفة أدبية تاريخية نقدية لها أثرها البالغ، وقيمتها الفريدة، قطعة من تاريخنا وشخصيتنا وحضارتنا جديرة بالتوقير، والفخر، والتقدير، تلك هى كتاب (الأوراق) للصولى.
هذا نحن ...، وهذا تراثنا ...
م 1 / 20
وقد قام بتحقيقه المستشرق الجليل ج. هيورث. دن، تلميذ المستشرق الكبير هـ. أ. جب، وقد صدرت الأجزاء الثلاثة المتاحة منه على مدى سنوات ١٩٣٤، ١٩٣٥، ١٩٣٦.
ويشير المحقق إلى أن المظنون أن هذا الكتاب يقع فى خمسة أجزاء أو ستة، وأن الموجود منه أربع مجلدات متفرقة فى عدة مكاتب (١٤) ثم يعلن عن عزمه على طبع القسم الخاص بأخبار المكتفى بالله والمقتدر بالله. (١٥)
فالكتاب لم يتم بعد بالنسبة لنا، والنديم- المعروف خطأ باسم ابن النديم- فى الفهرست يقول: إن الصولى لم يتمه (١٥)، أى أنّ نقصين قد اجتمعا على الكتاب: نقص من الصولى، ونقص من إهمالنا لتراثنا.
أ- وعنوان الكتاب الأوراق يحدثنا عنه النديم بعد تقديمه للصولى قائلا: الصولى: محمد بن يحيى بن العباس الصولى، من الأدباء الظرفاء، والجمّاعين للكتب، نادم الراضى، وكان أولا يعلّمه، ونادم المكتفى ثم المقتدر دفعة واحدة، وأمره أظهر وأشهر، وعهده أقرب من أن نستقصيه، وكان من ألعب أهل زمانه بالشطرنج. (١٦)
حسن المروءة، مات سنة ثلاثين وثلاثمئة. (١٧)، وتوفى مستترا بالبصرة لأنه؛ روى خبرا فى علىّ ﵇، فطلبته الخاصة والعامة لقتله، وله من الكتب: (الأوراق فى أخبار الخلفاء والشعراء) ولم يتمه، والذى خرج منه، أخبار الخلفاء بأسرهم وأشعار أولاد الخلفاء وأيامهم، من السفاح (١٨) إلى أيام ابن المعتز وأشعار من بقى من بنى العباس ممن ليس بخليفة، ولا ابن خليفة لصلبه، وأول ذلك شعر عبد الله بن على، وآخره شعر أبى أحمد
م 1 / 21
محمد بن إبراهيم بن عيسى المنصور، ويتلو ذلك أشعار الطالبييّن، ولد الحسن والحسين، وولد العباس بن على، وولد عمر بن على، وولد جعفر بن أبى طالب، ثم تلا ذلك أشعار ولد الحارث بن عبد المطلب، وبعده أخبار ابن هرمة ومختار شعره، أخبار السيد الحميرى ومختار شعره، أخبار أحمد بن يوسف ومختار شعره، أخبار سديف ومختار شعره، وهذا الكتاب عوّل عند تأليفه على كتاب المرثدى فى الشعر والشعراء. (١٩)، بل نقله نقلا وانتحله انتحالا، وقد رأيت دستور الرجل (٢٠) فى خزانة الصولى، فافتضح به بعد ذلك ... (٢١)
ولو وصل إلينا كتاب المرثدى المسمى ب أشعار قريش لاستطعنا أن نحدد مدى إفادة الصولى منه وساعتئذ سأوافق النديم على ما ذهب إليه، مع ملاحظة ذكرها عنه ياقوت الحموى وابن حجر العسقلانى وهى أنه: كان شيعيا معتزليا، يسمّى أهل السنة (الحشويّة) ويسمّى الأشاعرة (المجبرة) ويسمى كل من لم يكن شيعيا (عاميا) (٢٢)، فالصولى بالنسبة للنديم ضمن الفئة الثالثة: عامّى.
أقول سأوافقه على أن الصولى قد نقل كتاب أشعار قريش للمرثدى، فهل نقل عنه أشعار أولاد الخلفاء؟ وأشعار الراضى والمتقى وأخبارهما؟
وهب أنه فعل، فأين ذوق الصولى فى اختيار الأشعار؟، وثقافته فى المفاضلة؟
وخبرته فى النقد؟ يبدو أن النديم لم يكن على وفاق مع الصولى، ودليلى فى الفهرست. (٢٣)
وقد قرأت كتاب الفهرست كله باحثا عن سابق للصولى أو لا حق، قد
م 1 / 22
ألّف كتابا سمّاه الأوراق فلم أجد سوى أبى عبد الله محمد بن داود بن الجراح (٢٩٦ هـ)، قد ألّف كتابا سماه الورقة (٢٤) ويقول د. عبد الوهاب عزام محقق الكتاب ومعه الأستاذ عبد الستار فراج (٢٥): قيل إن ابن الجراح سمّى كتابه الورقة لأنه؛ التزم فيه أن يترجم لكل شاعر ورقة واحدة، وليس معنى هذا أن التراجم سواء فى طولها، فالكتاب يشهد بغير هذا، بعض التراجم فى النسخة بين أيدينا أربع صفحات وبعضها ثلاث، وبعضها صفحة، وبعضها أقل، وأكثر التراجم نحو صفحتين ...، لعله أراد أنه: كتاب مختصر، معظم تراجمه لا تزيد على ورقة، وإن كان بعضها أكثر وبعضها أقل، ويؤيد هذا أنه بعث بالكتاب رسالة إلى ابن المنجم. (٢٦)
ولماذا لا يكون ابن الجراح قد رسم أن تكون كل ترجمة فى ورقة لا تتجاوزها وحين استمر فى الكتاب أجبرته المادة التى جمعها أن يتجاوز الورقة؟ الأمر الذى تجنبه الصولى وسمى كتابه الأوراق، الأوراق فى الترجمة الواحدة، الأوراق فى التراجم جميعا؟ احتمال.
ب- وتأتى قيمة كتاب الأوراق فى:
١- أن الصولى شاهد عيان على أحداث وقعت فى القصر، ومواقف حدثت بينه وبين الخليفة الراضى والمتقى والمكتفى والمقتدر، بل بينه وبين أشهر شعراء العصر كالبحترى وابن المعتز.. إلخ، مما يرقى بالكتاب إلى أن يكون وثيقة معتمدة لا ينال الشك منها بسهولة.
٢- أن الصولى يلزم نفسه بأن يقول ما لا يعرف، وأن يدّون فى كتابه من الأخبار غير المتداول عن الخليفة والخلافة، أو عن الشعر
م 1 / 23
والشعراء، أو عن اللهو والمجالس، أو عن القرارات الحاسمة التى تصدر من قصر الخلافة تمس الدولة وحياة الناس، مما زاد من قيمة الكتاب وجعله مصدرا أساسيا فى موضوعه.
٣- أن الصولى يلتزم الصدق فى الرواية، فليس الصولى الذى يكذب وهو من هو؛ ذو المكانة والأهمية، والاعتداد بالنفس والعلم والأصل لدرجة الغرور، وكسب الأعداء والحساد.
٤- أن الصولى يمثل نبض العصر العباسى بتقلباته السريعة، واستقراره المؤقت، وتعايش المتناقضات فيه، فى حياة الدولة وحياة الفرد.
٥- أن أسلوب الصولى يعتمد على القص والحوار، وتصوير الأبطال، وكشف خفايا النفوس، وتعرية المسئولين من خلفاء إلى أمراء إلى وزراء إلى قوّاد إلى سائر رجال البطانة والقصر، ومعهم النساء والعبيد والجوارى، فالكتاب تصوير عن قرب لما يحدث وراء الكواليس، ورصد للقيم والمبادئ، عاليها وسافلها.
٦- أن منهج الكتاب امتداد للاتجاه الذى بدأه ابن المعتز فى الاحتفاء بصناع الحياة، فى الرئاسة والعلم والفن، فطالما نظر المؤلفون إلى الخلف من امرئ القيس إلى ابن هرمة، وتحدثوا كثيرا عن عمالقة الماضى، فأين الذين يشكلونها الآن، إنه اتجاه مقابل للاتجاه المحافظ:
اتجاه اللغويين والنقاد الذين يتعصبون للقديم، ويزورّون عن الجديد لأسباب أقنعوا بها أنفسهم.
م 1 / 24
٧- لو فرّغنا كتاب الأغانى من نصوص الصولى، وكذا كتاب الموشح والمعجم للمرزبانى لما بقى لهم فى كتبهم الكثير. وليس هما فقط فغير الأصفهانى والمرزبانى توجد قائمة من ياقوت الحموى والشريفين: (الرضىّ والمرتضى)، والقالى وابن عبد ربه وابن رشيق..
إلخ.
ج- أجزاء كتاب الأوراق:
أريد أن استعرض مع القارئ الكريم أجزاء كتاب الأوراق، ولكن ليس إلا بعد أن أناقش مسألة شكلية. فالكتاب فى طبعته البيروتية قد وضع العنوان فيه هكذا: أخبار الشعراء المحدثين من كتاب الأوراق لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المتوفى سنة ٣٣٥ هـ وتحت هذا العنوان وصف المجلد الأول، أمّا المجلد الثانى فكان: أخبار الراضى بالله والمتقى لله، أو تاريخ الدولة العباسية من سنة ٣٢٢ هـ إلى سنة ٣٣٢ هـ من كتاب الأوراق لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المتوفى سنة ٣٣٥ هـ، والمجلد الثالث كان: أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم من كتاب الأوراق لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المتوفى سنة ٣٣٥ هـ، وأقول:
١- إن الذى بين أيدينا أجزاء وليست مجلدات مستقلة.
٢- إن عنوان الكتاب- طبقا لرواية النديم- الأوراق يقول: الأوراق فى أخبار الخلفاء والشعراء، ولم يتمه، والذى خرج منه.. فتكون كلمة الأوراق أولا، ثم يكتب تحتها أخبار كذا..، وأشعار كذا..
الجزء الأول، أو القسم الأول، وهكذا.
م 1 / 25
٣- إن المنطقى أن يخرج الصولى للناس- وهذا ما قاله النديم- أخبار الخلفاء، وهى الأخبار التى يجيدها الصولى، والتى فيها طرافة، وإليها تشوّق، ولها إغراء، لما فيها من غرائب كانت خافية عن الجمهور، أما أن يقدّم أول ما يقدّم الجزء الخاص بأخبار الشعراء المحدثين، وقد احتلوا مكانتهم فى قلوب الجمهور وعلى رفوف المكتبات، منذ ابن المعتز (٢٩٦ هـ) إلى وقت الصولى، فأمر غير منطقى.
٤- الجزء الذى وعد المحقق أن يعده للطبع، وهو القسم الخاص بأخبار المكتفى بالله (٢٨٩- ٢٩٥ هـ)، والمقتدر بالله (٢٩٥- ٣٢٠ هـ)، كان يجب أن يقدّم فى التحقيق على الجزءالذى قدّمه فى أخبار الراضى والمتقى، ليكون الترتيب هكذا:
كتاب الأوراق أخبار المكتفى بالله والمقتدر بالله لأبى بكر الصولى (٣٣٦ هـ) الجزء الأول كتاب الأوراق أخبار الراضى بالله والمتقى لله.
لأبى بكر الصولى (٣٣٦ هـ) الجزء الثانى
م 1 / 26
كتاب الأوراق أشعار أولاد الخلفاء لأبى بكر الصولى (٣٣٦ هـ) الجزء الثالث كتاب الأوراق أخبار الشعراء المحدثين لأبى بكر الصولى (٣٣٦ هـ) الجزء الرابع هذا، وسوف أتناول الأجزاء الثلاثة المتبقية من الكتاب وفقا للترتيب الذى ذكرته، وهو- كما نرى- الترتيب الفعلى للكتاب، بصرف النظر عن ترتيب صدورها فى الطبعة التى يعاد تصويرها فى سلسلة (الذخائر) أولا: أخبار الراضى بالله والمتقى لله يقع هذا الجزء فى خمس وثمانين ومئتى صفحة، وبه مقدمة للمحقق، بها وصف للمخطوطة، وكلمة شكر وثناء، ومكان وتاريخ كتابتها لندن فى العاشر من يونيو من عام ١٩٣٥ م ثم صورة ورقة من نسخة المخطوطة المحفوظة بمكتبة شهيد على بالآستانة.
وبدأ الكتاب هكذا بسم الله الرحمن الرحيم تحتها: أخبار الراضى بالله وبعدها مباشرة يقول الصولى: قال أبوبكر محمد بن يحيى، قد فرغنا
م 1 / 27