ومهما تكن نيات نظام الملك - والله عليم بذات الصدور - فإنه مشكور الصنيع، فقد أكثر من المدارس، ووقف عليها الأوقاف، ورتب للطلبة الجرايات، وبنى لهم الأسواق والمساكن والحمامات، وظلت مدارسه بأوقافها زمنا ليس بالقليل، وتخرج منها كثير من العلماء والأدباء. •••
ولهذه المدارس النظامية فضل على الغزالي، فقد تلقى العلم في مدرسة نيسابور. وتولى التدريس في مدرسة بغداد، وسنعود إلى تفصيل ذلك في غير هذا الباب.
الفصل الخامس
روح ذلك العصر
1
من الصعب تحديد الروح السائد في عصر من العصور، وإنما غاية المؤرخ أن يذكر الشواهد والأمثال، ويستخلص منها ما يرجح أن تكون عليه صورة العصر الذي يدرسه.
وأنا أرجح أن تكون السذاجة هي الصفة الغالبة في ذلك العصر مع شيء من المكر في الأمراء والعلماء. ومن الشواهد الدالة على هذه السذاجة ما ذكره الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» من أن الناس كانوا يقولون حين ترك المدرسة النظامية ببغداد: إنها عين أصابت الإسلام! وما نقل السبكي من أن أحد معاصريه سمعه يقول: «قطعت علينا الطريق وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفت إلي مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت! فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلي المخلاة. قال الغزالي: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي.»
والسذاجة ظاهرة في هذا الحديث، فمن الواضح أن حفظ الكتب عن ظهر قلب حتى لا تبقى إلى حفظها حاجة، آفة عظيمة في تكوين العقول، فليست قيمة العالم فيما يحفظ، ولكن قيمته في حسن الفهم، وأصالة الرأي، وصواب الحكم.
ومن شواهد السذاجة ما أورده نظام الملك في وصيته
1
Halaman tidak diketahui