تعقيب للمؤلف
الباب الأول: في العصر الذي عاش فيه الغزالي
تمهيد
1 - الدولة السلجوقية
2 - الباطنية
3 - الحروب الصليبية
4 - المدارس النظامية
5 - روح ذلك العصر
6 - البلدان التي عرفها الغزالي
7 - أعيان ذلك العصر
الباب الثاني: في حياة الغزالي
تمهيد
1 - أسرته
2 - مولده ونشأته
3 - حياته الروحية
4 - فهمه للحياة
5 - وفاته ورثاؤه
الباب الثالث: في المنابع التي استقى منها الغزالي
تمهيد
1 - المصادر الفلسفية
2 - منبع الصوفية
3 - من عرف الغزالي من الصوفية
4 - منبع الشريعة
5 - أساتذة الغزالي وأصحابه
الباب الرابع: في مؤلفات الغزالي
تمهيد
1 - طريقته في التأليف
2 - الصوت المردد في مؤلفات الغزالي
3 - كتاب الإحياء
4 - أغلاط الإحياء
5 - غفلة الغزالي وعناده
الباب الخامس: في مباحث تمس الأخلاق
تمهيد
1 - الخير والشر
2 - الإرادة
3 - الضمير
4 - الأغراض والنتائج
5 - الوسائل والغايات
الباب السادس: في الأخلاق
تمهيد
1 - تربية الخلق
2 - إمكان تغيير الخلق
3 - الطريق إلى تهذيب الأخلاق
4 - غاية الأخلاق
5 - هل تورث الأخلاق
الباب السابع: في الفضائل
تمهيد
1 - فضيلة الصدق
2 - فضيلة الصبر
3 - فضيلة الخمول
4 - فضيلة التوكل
5 - فضيلة الإخلاص
الباب الثامن: في توقي الرذائل
تمهيد
1 - رذيلة الغضب
2 - رذيلة الحقد
3 - رذيلة الحسد
4 - رذيلة العجب
5 - رذيلة الكبر
6 - آفات اللسان
7 - رذيلة الرياء
الباب التاسع: في العلوم والفنون والتربية
تمهيد
1 - العلوم
2 - الفنون
3 - تربية الأطفال
4 - آداب المعلمين
5 - آداب المتعلمين
الباب العاشر: في الحقوق والواجبات
تمهيد
في الحقوق والواجبات
الباب الحادي عشر: في تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور
تمهيد
في تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور
الباب الثاني عشر: في أنصار الغزالي وخصومه
تمهيد
في أنصار الغزالي وخصومه
الباب الثالث عشر: في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين
تمهيد
في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين
الباب الرابع عشر: في آراء علماء العصر في الغزالي
تمهيد
في آراء علماء العصر في الغزالي
خاتمة الكتاب
المراجع
تعقيب للمؤلف
الباب الأول: في العصر الذي عاش فيه الغزالي
تمهيد
1 - الدولة السلجوقية
2 - الباطنية
3 - الحروب الصليبية
4 - المدارس النظامية
5 - روح ذلك العصر
6 - البلدان التي عرفها الغزالي
7 - أعيان ذلك العصر
الباب الثاني: في حياة الغزالي
تمهيد
1 - أسرته
2 - مولده ونشأته
3 - حياته الروحية
4 - فهمه للحياة
5 - وفاته ورثاؤه
الباب الثالث: في المنابع التي استقى منها الغزالي
تمهيد
1 - المصادر الفلسفية
2 - منبع الصوفية
3 - من عرف الغزالي من الصوفية
4 - منبع الشريعة
5 - أساتذة الغزالي وأصحابه
الباب الرابع: في مؤلفات الغزالي
تمهيد
1 - طريقته في التأليف
2 - الصوت المردد في مؤلفات الغزالي
3 - كتاب الإحياء
4 - أغلاط الإحياء
5 - غفلة الغزالي وعناده
الباب الخامس: في مباحث تمس الأخلاق
تمهيد
1 - الخير والشر
2 - الإرادة
3 - الضمير
4 - الأغراض والنتائج
5 - الوسائل والغايات
الباب السادس: في الأخلاق
تمهيد
1 - تربية الخلق
2 - إمكان تغيير الخلق
3 - الطريق إلى تهذيب الأخلاق
4 - غاية الأخلاق
5 - هل تورث الأخلاق
الباب السابع: في الفضائل
تمهيد
1 - فضيلة الصدق
2 - فضيلة الصبر
3 - فضيلة الخمول
4 - فضيلة التوكل
5 - فضيلة الإخلاص
الباب الثامن: في توقي الرذائل
تمهيد
1 - رذيلة الغضب
2 - رذيلة الحقد
3 - رذيلة الحسد
4 - رذيلة العجب
5 - رذيلة الكبر
6 - آفات اللسان
7 - رذيلة الرياء
الباب التاسع: في العلوم والفنون والتربية
تمهيد
1 - العلوم
2 - الفنون
3 - تربية الأطفال
4 - آداب المعلمين
5 - آداب المتعلمين
الباب العاشر: في الحقوق والواجبات
تمهيد
في الحقوق والواجبات
الباب الحادي عشر: في تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور
تمهيد
في تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور
الباب الثاني عشر: في أنصار الغزالي وخصومه
تمهيد
في أنصار الغزالي وخصومه
الباب الثالث عشر: في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين
تمهيد
في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين
الباب الرابع عشر: في آراء علماء العصر في الغزالي
تمهيد
في آراء علماء العصر في الغزالي
خاتمة الكتاب
المراجع
الأخلاق عند الغزالي
الأخلاق عند الغزالي
تأليف
زكي مبارك
مقدمة
بقلم د. منصور فهمي
لم يكد مؤلف هذا الكتاب يجتاز امتحان الدكتوراه مصحوبا بالتوفيق، حتى قام نفر من أصحاب الأغراض، حتى قام نفر من أصحاب الأغراض: يذيعون عنه المفتريات، ويتقولون عليه الأقاويل، وقد بدا للمؤلف أن يدفع الشر بالشر، ولكن أستاذه الفيلسوف الدكتور منصور فهمي كتب إليه خطابا يوصيه فيه بالرفق، وينصح له بالتثبت، ويدعوه إلى مقابلة الشر بالصفح الجميل.
والمؤلف يثبت هنا هذا الأثر الخالد، ويشكر أستاذه على نصيحته القيمة، ويعاهد ربه وقومه على ألا يعمل غير ما يعتقد أنه حق وصواب.
أخي العزيز:
طالما وجدنا في تاريخ الأفكار عامة حملات للنقد شديدة، وطالما رأينا علماء المسلمين وفلاسفتهم ينال بعضهم بعضا بالنقد والتجريح، وطالما غلوا في النقد حتى انقلب إيذاء وإيلاما.
ولكن هل أخفت شدة النقد يوما فضل المنتقد عليه؟ وهل ضن الزمان على المنتقدين بما هم أهل له من الحرمة والمكانة؟ وكيف ذلك، والنقد ليس إلا أداة لإظهار الحقائق واضحة جلية؟
ولئن كان للناقد فضل في إظهار خطأ المنتقد عليه، فلقد كان لهذا الفضل بسبقه إلى موارد العلم، وخوضه في مسائل كانت سببا في يقظة هذا الباحث الأخير.
إلا أنه يجمل بنا حين ننظر في كتب المتقدمين، الذين يخالفوننا في أساليب البحث، ومناهج التفكير، أن نتمثل أنفسنا في أزمنتهم، وأمكنتهم، وأن نتمثل ما استخدموه للحصول على الحقائق من مختلف الأدوات، لكي نلتمس لهم العذر، إذ رأيناهم لم يصلوا إلى الأغوار البعيدة التي ينبع منها الماء صافيا نقيا.
وما أبعد الفرق بين من يدخل الهيجاء بما سلحته به العصور الخوالي من سهام ونبال، وبين من يدخلها مدرعا بما ابتدعته العصور الحديثة من معدات النزال، وما أكثر الفرق بين الضوء ينبعث من زيت المصباح، وبين النور يتفجر من ثريات الكهرباء، ولكننا مع ذلك أيها الأخر العزيز نعجب بأصحاب القسي والنبال؛ إذ لم تنقصهم الشجاعة، ولم يفتهم الثبات، ونحمد الأضواء الضيئلة التي تنبعث من زيوت المصابيح؛ لأنها على ضآلتها تصدع جوانب الظلام.
فإذا رأينا الغزالي غفل عن حقيقة تنبهنا نحن إليها، أو أغلق عليه موضوع فتحت له أبوابه، أو أدركه وهن في الرأي، أو تناقض في فهم فكرة، فجدير بنا أن نقدر ظروف زمانه ومكانه، وأن نذكر كيف كانت وسائله إلى الفهم والإدراك، قبل أن نصب عليه جام اللوم والتثريب.
إن أهل تلك الأعصر الخالية، كانوا يعتمدون كثيرا على ذاكرتهم، وكانوا في الوقت نفسه يتناولون كثيرا من الموضوعات؛ لأن فكرة الإحصاء وتوزيع الأعمال، لم تكن مألوفة لديهم على نحو ما هي اليوم، وكانوا يرون الجد في طلب العلم طاعة لله، فمن ثم حفظوا كثيرا، وكتبوا كثيرا، ولكن ضاق وقتهم ، ووهنت قوتهم، فلم يستطيعوا ترتيب ما كنزوا من العلوم الكثيرة، فخلطوا الغث بالسمين، وعرض لهم الضعف، والتناقض، والاضطراب.
وكذلك كان من أكبر الخدمات أن يتناول الشباب المثقف كتب المتقدمين، فيدرسها، ويفهمها، ويحللها، ثم يبين ما فيها من الخطأ والصواب.
ومن أولى بذلك من طلبة الجامعة المصرية، التي أنشئت لوصل القديم بالجديد، وحث الخلف، على الانتفاع بميراث السلف، وإنقاذ الجيل الحاضر من غلطات الجيل الغابر؟
لا يخطئ من يتناول كتب المتقدمين بالدرس، والتمحيص، والتهذيب، بل ذلك حق وواجب؛ لأن فيه حياة لما يجب أن يحيا من الأفكار، وموتا لما يجب أن يموت من الأوهام، ولأن في النقد الصحيح تهذيبا للمشاعر، وتنويرا للعقول، وإنما يخطئ من يبالغ في حب المتقدمين، فينسي سيئاتهم، مع أن لهم سيئات، أو يبالغ في بغضهم، فينسى حسناتهم، مع أن لهم كثيرا من الحسنات، والنقد الحق يرتكز على سرد المحاسن والعيوب، بلا جور ولا محاباة، وقد يذهب بصاحبه إلى التوفيق بين الآراء المختلفة، فيجعل من الزوايا المتعددة التي ننظر منها إلى الحقائق شكلا واحدا منسجم الترتيب ننظر من نواحيه إلى تلك الحقائق. فأعداء النقد ليسوا فقط أعداء لحرية الآراء، ولكنهم أعداء لمنازع التوفيق. •••
وأنت يا أخي درست مؤلفات الغزالي، وفهمتها، وحللتها، وبينت ما فيها من الخطأ والصواب، فماذا ينقم الناس منك، وقد ذكرته بالخير، حين رأيت أن يذكر بالخير، وذكرته بالملام، حين رأيت أن يذكر بالملام، وما كان الغزالي بأكبر من أن يخطئ، ولا كنت أنت بأصغر من أن تصيب.
لقد راعهم أن يقسو قلمك على مؤلف له عندهم حرمة وقداسة، وكان عليهم أن يذكروا أنك شاب، وأن قلم الشباب قاس شديد، بل ليتهم عملوا بما طالبوك بهمن الرفق والهدوء، فلم يوجهوا إليك قارس اللوم، ومر التأنيب.
كانت رسالتك مثارا للجدل والمناقشة، ويعلم الله أنا لن نغضب لذلك، لأنا نريد أن نخدم الحقيقة، والحقيقة بنت البحث، وهل علمناك إلا أن تكون خادما للحقيقة ولو شق إليها الطريق؟ فما دمت ترى أنك على حق، وما دمت تعتقد أنك سائر على الصراط السوي، فلك أن تتمسك برأيك، وتدافع عن حقك، ولكن في ر فق ونزاهة، فإن الحق لا يخدم بمثل الرفق والنزاهة، وكما يجب عليك أن تدافع عما تعتقد أنه حق فإن عليك أن تنفض يدلك بسرعة البرق مما تعتقد أنه باطل، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي على الباطل نقيصة، وليس بعد الحق إلا الضلال. •••
لقد علمتنا رسالتك، بجانب ما تناولته من الأبحاث العديدة، إننا قطعنا شوطا بعيدا في سبيل الآراء الحرة، المدعمة بالقوة والنهوض، وإن كنا نأسف على أنه لا تزال هناك صدور ضيقة، يؤذيها الهواء الطلق، وكان الخير في أن تستروح به، وتسكن إليه، ونأسف كذلك على أن عدد هؤلاء كثير، وعدد المفكرين قليل.
لقد زاد اغتباطي برسالتك أنها أول رسالة قيمة تناولت تاريخ الأفكار الإسلامية بالنقد والتحليل، وأرجو أن تكون خطوة تتبعها في هذا المدى خطوات، وإن كان يحزنني أن يتألب عليك رجال المعهد الذي أعدك لدخول الجامعة المصرية، ولكن الإنصاف يقضي علينا بأن نعترف بأن هذه سيئة لم ينفرد بها الأزهريون، فإنا نرى بكل أسف أن الأزهريين يرمون أصحاب الأفكار الحرة بالكفر والمروق، وأنصار الآراء الجديدة يرمون الأزهريين بالجهل والجمود، وهم جميعا من المسرفين.
وإذا كان لي أن أنصحك ومن الواجب أن أنصحك، فإني أدعوك إلى حرب هذه الضلالة، وحذار أن تقاطع أحدا من أساتذتك وزملائك في الأزهر الشريف، فإنكم جميعا طلاب علم، وأنصار حق، والتوفيق بينمكم ليس بالأمر المحال.
لقد فات كثيرا من عشاق الجديد أن يضموا إليهم أنصار القديم بالرفق والمجاملة، وأنت بحمد الله ربيب الأزهر والمعاهد الدينية، فماذا يضرك لو وصلت أساتذتك وزملاءك، وجادلتهم بالتي هي أحسن، لتسيروا أصفياء في التوفيق بين القديم والجديد.
إنني أخشى عليك كثيرا أيها الأخ، فقد رأيت كيف قامت القيامة حتى اطلع الجمهور على جانب واحد من رسالتك، فماذا عسى أن يصنع هذا الجمهور حين يطلع على ما فيها من شتى الجوانب، ومختلف الأرجاء؟
ولكن إياك أن تجزع، وقد بدئت حياتك العلمية، بصدمة من تلك الصدمات الاجتماعية ، فذلك دليل على أنك خادم من خدام الإصلاح، وهو خير لقب تلقى به الله.
ولك خالص الدعوات، والعطف، والسلام.
تعقيب للمؤلف
أكرر الشكر لسيدي الأستاذ الدكتور منصور، وأؤكد له أن بيني وبين علماء الأزهر الشريف عرى لا تقدر على فصمها الليالي. ولن أنسى ما حييت أني مدين على الأقل لحضرات أساتذتي الأماجد الشيخ الدجوي والشيخ اللبان والشيخ الظواهري، والشيخ الزنكلوني والشيخ حسين والي والشيخ سيد المرصفي، فإذا قضت الظروف بأن تنقطع بيني وبين الأزهر جميع الصلات - لا قدر الله ولا سمح - فإني لن أنسى ولن ينسى أحد أني مدين لأساتذتي في الأزهر، وأن خروجي عليهم ضرب من العقوق، ونكران الجميل.
اللهم إن كنت تعلم أني صادق فيما أقول، فاجزني بخير ما يجزى به المؤمن الصادق، وإن كنت تعلم أني أظهر غير ما أضمر، فاغفر لي وتب علي فإنك وحدك التواب الغفور.
فاتحة الكتاب
بقلم محمد زكي عبد السلام مبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين. وبعد فهذا هو الكتاب الذي نلت به إجازة الدكتوراه من الجامعة المصرية، والذي سلقني العلماء من أجله بألسنة حداد.
هذا هو كتاب «الأخلاق عند الغزالي» أقدمه للجمهور، ليكون المرجع لمن يريد أن يتبين مبلغ المغرضين من الصدق، وحظ المرجفين من الصواب.
هذا هو الكتاب الذي رميت من أجله بالكفر والزندقة، والذي فجر لحسادي ينبوعا من اللغو والثرثرة لا ينضب ولا يغيض. وما أنا والله بنادم على رأي رأيته، أو قول جهرت به، فلست ممن يخافون في الحق لومة لائم، أو يقيمون وزنا لكيد الحاسدين، ولغو اللاغين، من مرضى القلوب، وضعاف العقول، وصغار النفوس، وإنما يحزنني ما يلاقي أصدقائي من العنت في دفع ما يفتري الكاذبون، ويختلق المفسدون.
على أن الغزالي رحمه الله عانى من حاسديه مثل ما عانيت، ولاقى ضعف ما لاقيت، حتى لنجده يطمئن أحد أخوانه بقوله: «رأيتك الأخ المشفق موغر الصدر، مقسم الفكر، لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، والمشايخ المتكلمين، وإن العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر، فهون أيها الأخ المشفق على نفسك، لا تضيق به صدرك وفل من غربك قليلا،
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ،
1
واستحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف، فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين
صلى الله عليه وسلم ، وقد قالوا إنه مجنون من المجانين، وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين، وقد قالوا إنه أساطير الأولين، وإياك أن تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير مطمع، وتصوت في غير مسمع، أما سمعت ما قيل:
كل العداوة قد ترجى إزالتها
إلا عداوة من عاداك عن حسد
ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس، لما تلي على أجلهم رتبة آيات اليأس، أوما سمعت قوله تعالى:
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين .
2
وقوله تعالى:
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون *لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .
3
وقوله تعالى:
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين .
4
وقوله تعالى:
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون .
5
وقد صار الغزالي بعد ذلك حجة الإسلام. ونحن لا نريد أن يفتن الناس بنا كما فتنوا به، فهل نرجو أن نظفر فقط بالسلامة من تقول المفترين، وتزيد المعتدين؟ «على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين».
الباب الأول
في العصر الذي عاش فيه الغزالي
تمهيد
أريد أن أذكر شيئا عن العصر الذي عاش فيه الغزالي، وليس ذلك لأن الغزالي صورة لعصره، بل ليعرف القارئ إلى أي حد تأثر الغزالي بعصره وأثر فيه. فمن المجازفة أن ندرس عصرا من العصور، لنعرف من نبغ فيه من الفلاسفة والكتاب والشعراء، وإنما ندرس شخصية الكاتب أو الشاعر أو الفيلسوف، ثم نبحث عن المؤثرات التي كونت تلك الشخصية، فقد تكون هذه المؤثرات قريبة، وقد تكون بعيدة، وفقا لما أحاط بالشخص من الظروف.
ولتوضيح هذا أذكر أن الأستاذ الدكتور طه حسين درس العصر الذي عاش فيه أبو العلاء، ليعرف الأصول التي كونت وجهة نظره في الحياة، ثم فعل مثل هذا حين شرع في درس أبي نواس، ولكن الدكتور طه لا ينكر أن عصر أبي العلاء أنتج رجالا يسيرون غير سيرته، ويرون ما لا يراه، وأن عصر أبي نواس أخرج رجالا يسيغون العبث، ولا يجيزون المجون؛ فمن الواجب أن ندرس أولا ما بين أيدينا من آثار الفلاسفة والكتاب والشعراء، ثم نتبين بعد ذلك ما تألفت منه هذه الآثار فقد تكون نتيجة لمطالعات لا صلة بينها وبين العصر الذي ظهرت فيه، كما يمكن أن تكون نتيجة له بالذات.
وإلا فحدثني كيف يكون الشيخ محمود خطاب السبكي صورة لهذا العصر، وهو يكون من تلامذته جمهرة لا يشعر بها الناس؟ وأمثال الشيخ السبكي عديدون، ولكني خصصته لكثرة مؤلفاته، وقد يعثر عليه باحث يوما في زوايا التاريخ، أفتراه يدرس يومئذ هذا العصر، ليعرف المؤثرات التي كونت عقلية هذا الرجل الذي يدهش حين تحدثه عن أهل هذا الجيل؟!
إنه لا شك في تأثير البيئة والعصر، ولكن ينبغي أن نعرف أن من الناس من يعيش في قومه وعصره، بجسمه لا بروحه، فلا يحس بما يحس به معاصروه، وإنما يشعر بما كان يشعر به من سبقوه بأجيال؛ ففي مصر اليوم أناس من القرن الثالث، وآخرون من القرن السابع، كما في مصر اليوم من يمكن أن تكون آراؤه وأفكاره صورة صادقة لمكانه وزمانه، وأحب أن يعفيني القارئ من ضرب الأمثال.
من أجل هذا أجمل القول عن العصر الذي عاش فيه الغزالي وأكتفي بوضع صورة قريبة من الواقع للحالة العامة في عصره، ليتمثل القارئ زمان الغزالي ومكانه وليعرف ما تمس إليه الحاجة مما أثر بالفعل في حياته العقلية، فإن الغرض من هذا الكتاب إنما هو أن ندرس بالتفصيل آراء الغزالي في الأخلاق.
الفصل الأول
الدولة السلجوقية
1
لا نريد أن نفصل وصول تلك العشيرة التركية إلى الغلبة والاستيلاء على أكثر الأقطار الإسلامية، فإنه لا حاجة إلى ذلك الآن، وإنما نذكر فقط صورة مجملة لتلك المملكة الضخمة، التي تفيأ الغزالي ظلها الظليل.
ذكر الأستاذ محمد الخضري (بك) في محاضراته في الجامعة المصرية أن عشيرة السلاجقة انقسمت إلى خمسة بيوت: الأول السلاجقة العظمى، وهي التي كانت تملك خراسان، والري، والجبال، والعراق، والجزيرة، وفارس، والأهواز. والثاني سلاجقة كرمان. والثالث سلاجقة العراق. والرابع سلاجقة سورية. والخامس سلاجقة الروم.
أما السلاجقة الكبرى فهي الدولة التي أسسها ركن الدين أبو طالب طغرل بك، وحياتها 93 سنة: من 429ه/1039م إلى سنة 522ه/1127م. وقد انقضت دولتهم على أيدي شاهات خوارزم.
وأما سلاجقة كرمان فكانوا من عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وهو أخو ألب أرسلان، ومدة ملكهم 150 سنة، من 432ه/1041م إلى 583ه/1188م. وقد انقضت دولتهم على أيدي الغز التركمان.
وأما سلاجقة العراق وكردستان فقد ابتدأت دولتهم سنة 511ه/1117م. وانتهت سنة 590ه/1194م على أيدي شاهات خوارزم بعد أن مكثت 79 سنة.
وأما سلاجقة سورية فكانوا من بيت تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق. وقد ابتدأت دولتهم سنة 487ه/1094م. وانتهت سنة 511ه/1117م. على أيدي الدولتين: النورية والارتقية، فكانت حياتها 24 سنة.
وأما سلاجقة الروم: ملوك قونية واقصرا، فكانوا من بيت قطامش بن إسرائيل بن سلجوق، وقد ابتدأت دولتهم سنة 470ه/1077م. وانتهت سنة 700ه/1300م، فهي أطول دول السلاجقة حياة، إذ مكثت 230 سنة، وقد انقضت على أيدي الأتراك العثمانيين والمغول.
والذي كان يرتبط تاريخه من هذه البيوتات بتاريخ الدولة العباسية لدخول بغداد في حوزتهم السلاجقة العظمى وسلاجقة العراق، الذين كان لهم السلطان على العباسيين من سنة 447 إلى سنة 590، أي 143 سنة .
واستخلف من آل العباس في عهد الدولة السلجوقية تسعة خلفاء، أولهم القائم بأمر الله الذي انتهى في عهده العصر البويهي ، وآخرهم الناصر لدين الله الذي انتهى في عصره ملك السلاجقة.
2
عاصر الغزالي أكثر ملوك الدولة السلجوقية الكبرى، فقد شهد عضد الدين أبي شجاع ألب أرسلان، وجلال الدين أبي الفتح ملكشاه، وناصر الدين محمود، وركن الدين أبي المظفر بركياروق، وركن الدين ملكشاه الثاني، ومحمد بن ملكشاه.
وقد ولد الغزالي في آخر عهد طغرل بك، الذي ملك بغداد، وتقرب من الخليفة حتى تزوج الخليفة بنت أخيه. والذي تطلع إلى أن يتزوج من البيت العباسي. وهو أمر لم تجر به العادة. فأرسل سنة 543 يخطب بنت الخليفة، ثم ظفر بزواجها في حديث طويل.
أما ألب أرسلان فكان واسطة عقد الدولة السلجوقية، وفي عهده أسست المدارس النظامية، صاحبة الفضل على الغزالي، وسنعود إليها بعد قليل. وأما محمد بن ملكشاه فهو الذي وضع له الغزالي كتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك.
هذا ما يهمنا من دولة آل سلجوق، وما نريد أن نزيد.
الفصل الثاني
الباطنية
في الوقت الذي كان فيه السلاجقة يبسطون سلطانهم على فارس والعراق والجزيرة إلى آخر ما استولت عليه تلك البيوتات التي أجملنا حالها في الفصل الماضي، كان الفاطميون يسيطرون على المغرب، وعلى مصر، ويهمون ببسط سلطاتهم على أقطار المشرق، بعناية الدعاة.
والذي يعنيني الآن هو إجمال دعوة الباطنية، لأن الغزالي شغل بهم، وكتب في الرد عليهم، وإن لم تصلنا كتبه في هذا الباب، وسترى حين نتكلم عن خطته في التأليف كيف اتهم بالميل إليهم، إذ شرح آراءهم عند نقدها بطريقة تقربها من متناول العقول.
وأحب أن يعرف القارئ أن أكثر ما يحتل رءوس المسلمين من الأفكار والعقائد، ليس إلا أثرا للدعوات المتعددة التي قام بها العباسيون في الشرق، والفاطميون في الغرب، و
كل حزب بما لديهم فرحون .
والواقع أن الدعاة كانوا غاية في المكر والدهاء، فقد عرفوا كيف يملئون تلك الرءوس الجوفاء بالخرافات، والوساوس والأضاليل، وهذه القاهرة لا تزال سماء مسكونة بالمعبودات الصغيرة؛ كسيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة فاطمة النبوية، ومن إليهم من الأولياء، فيما زعم الفاطميون ومن لف لفهم من علماء الإسلام!
ولولا خوف الإطالة لشرحت للقارئ طرائق الباطنية في نشر الدعوة
فقد كانوا أمهر من الإنكليز والفرنسيين، والأمريكان في العصر الحديث، وكانت جنايتهم شديدة الخطر في مسخ عقول الأمم الإسلامية المسكينة، التي قيدها الجهل، ثم رماها بين أيدي طلاب الملك من العباسيين والفاطميين، فلم يرحمها أولئك ولا هؤلاء.
كان دعاة الباطنية لمكرهم ينتقلون بالطالب من حال إلى حال، فيفهمونه أولا أن الآفة التي نزلت بالأمة فشتتت شملها، وفرقت جمعها، ليس لها من سبب إلا ذهاب الناس عن أئمتهم الذين يعرفون بواطن الشريعة، لأن دين محمد - فيما يزعمون - ليس هو ما يعرفه العامة، بل هو علم خفي غامض، ستره الله في حجبه، وعظمه عن ابتذال أسراره، فلا يطيق حمله، ولا يقوم بأعبائه إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن امتحن قلبه بالتقوى. ثم يتوغلون مع الطالب مجاهل من ظلمات الآراء والأهواء، بعضها خاص بتقديس أئمتهم، ورفعهم إلى الاختصاص بفهم أسرار التشريع، وبعضها خاص بتنظيم الدعوة ونشرها بين الناس.
وأشهر دعاة الباطنية في الشرق هو الحسن بن الصباح، الذي رحل إلى مصر، فلقي فيها الخليفة المستنصر، وتلقى بها الدعوة الباطنية، ثم عاد إلى مروة لنصرة هذا المذهب بقلمه وسيفه، فكان أول ما فعله أن استولى على قلعة (الموت) وتحصن بها، ثم ثبت قدمه في الأقطار الفارسية، بحيث كان يحسب له ولأتباعه ألف حساب، ونشبت بينه وبين السلاجقة عدة حروب.
ومن شاء الزيادة على هذا القدر من أمر الباطنية فليرجع إلى كتب التاريخ، ثم ليرجع إلى تفصيل آرائهم إن شاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني، فإن في آرائهم غرائب وأعاجيب، وقد ورد ذكرهم في عدة مواطن من كتب الغزالي، وعلى الأخص كتابه «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، فليعد إليه من أراد أن يرى مناقشته لبعض ما يقولون.
الفصل الثالث
الحروب الصليبية
1
قد عرفت أن سلطان السلاجقة امتد على بلاد الروم، في قونية واقصرا، وما إليهما من البلاد، وعرفت كيف كان التنافس بين السلجوقيين والفاطميين، فليس من الصعب أن تعرف كيف دعا ملك الروم حملة الصليب من الإفرنج إلى قتال المسلمين، فقد أمن جانب الفواطم لعداوتهم للسلاجقة، وإنها لفرصة سانحة، لا يصح أن يضيعها طلاب الملك، وعشاق الحياة!
لجأ قيصر الروم إلى البابا رئيس النصرانية، يستصرخه لصد أعدائه السلاجقة، فرآها البابا فرصة لبسط نفوذه على ملوك أوروبا وأمرائها، فدعاهم إلى الدفاع عن النصرانية، وإخراج بيت المقدس من أيدي المسلمين.
وأود أن يعرف القارئ أن الساسة يعتمدون دائما على استغلال العواطف، وإخماد عقول الجماهير، ومن هنا لم يجد دعاة الحروب الصليبية بدا من الكذب على الحقيقة والتاريخ، فزعموا أن المسلمين يضطهدون نصارى الشرق، ويسومونهم سوء العذاب، وقد نجحوا في استنفار أوروبا، عامتها وخاصتها، وساقوهم باسم الدين إلى ميدان القتال.
والدين أداة من أدوات الفتح والاستيلاء، في أيدي الشعوب القوية، وغل في أعناق الأمم الضعيفة، والويل كل الويل للمغلوب! فقد ملك المسلمون الأرض باسم الدين، كما ذلوا بعد ذلك باسم الدين، لأن القوي الرشيد يملك بدينه آخرته ودنياه، أما الضعيف المأفون فلا يزال يرتطم في ضعفه الذي يسميه دينا حتى يحيق به الهلاك!
وكذلك زحف شياطين الغرب على الشرق باسم الدين ففعلوا به الأفاعيل، في حين أن المسلمين كانوا يبكون في مساجدهم يوم الجمعة ليوقظوا الهمم الخوامد، والنفوس الرواكد، فما استمع لهم أحد، ولا استجاب لهم مجيب! ولم ذلك؟ ذلك بأن الدين لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم به كما قلت: طلاب الملك، وعشاق الحياة! وإلا فحدثني لماذا تغاضى الفاطميون أبناء الرسول، ولم يغضبوا لزحف النصارى على أملاك المسلمين؟
الملك، العظمة، الحياة؛ تلك آمال الأمم، وأماني الشعوب، فإن أدى الدين إلى الملك والعظمة والحياة فهو نعمة من الله، لأن الله بالمؤمنين رءوف رحيم، أما إن نزل بهم إلى الحضيض فهو بدعة ابتدعها الأحبار والرهبان، وأمثال الأحبار والرهبان. ومن كان في ريب مما نقول فليسأل التاريخ.
ثم أخذ الصليبيون في فتح بلدان المسلمين، فاستولوا على كثير من مدن آسيا الصغرى والشام، وكونوا لهم فيها إمارات سميت بالإمارات اللاتينية، نسبة إلى الأجناس التي كان يتألف منها حملة الصليب.
وأول ما أسس من هذه الإمارات إمارة الرها بوادي الفرات سنة 490ه/1097م. ثم أنطاكية سنة 491ه/1098م. ثم فتحوا بيت المقدس. وقتلوا من أهله نحو 7000 مسلم، بعد أن سجل التاريخ من سوء رأي الفواطم ما يمنعنا من ذكره الحياء.
2
أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره، في إعداد الخطب وتحبير الرسائل، لحث أهل أوروبا على امتلاك أقطار المسلمين، كان الغزالي (حجة الإسلام) غارقا في خلوته، منكبا على أوراقه. لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة والجهاد! ويكفي أن نذكر أن الإفرنج قبضوا على أبي القاسم الرملي الحافظ يوم فتح بيت المقدس، ونادوا عليه ليفتدى، فلم يفتده أحد، ثم قتلوه، وقتلوا معه من العلماء عددا لا يحصيه إلا الله، كما ذكر السبكي في طبقاته.
وما ذكرنا هذه المأساة إلا لنعد القارئ لفهم حياة الغزالي، ولنقنعه بأنه ليس من الحتم أن يكون الرجل الممتاز بعلمه صورة لعصره، فإن كتب الغزالي لا تنبئنا بشيء على تلك الأزمة التي عاناها المسلمون حين ابتدأت الحروب الصليبية.
ومن الخطأ أن نقصر الأخلاق على سلوك المرء كفرد مستقل عن الحياة الاجتماعية، فلكل ظرف واجباته، ويتعسر وجود حالة لا تقضي فيها الأخلاق.
الفصل الرابع
المدارس النظامية
نسبة إلى «نظام الملك»: وزير السلطان ألب أرسلان، وابنه ملكشاه. مكث في الوزارة ثلاثين سنة: عشر منها في سلطنة ألب أرسلان، وعشرون في سلطنة ملكشاه. وقد مات «نظام الملك» قتيلا، ولكن اختلف المؤرخون في سبب قتله: فمنهم من يروي أنه لما أسرف في النفقة على المدارس النظامية، حتى بلغ ما ينفقه على طلبة العلم 600000 دينار في السنة، وشى به بعضهم إلى السلطان ملكشاه، وقالوا: «إن الأموال التي ينفقها نظام الملك في ذلك تقيم جيشا يركز رايته في سور القسطنطينية.» فعاتبه ملك شاه في ذلك فأجابه: «يا بني، أنا شيخ أعجمي، لو نودي علي في من يزيد لم أحفظ خمسة دنانير، وأنت غلام تركي، لو نودي عليك عساك تحفظ ثلاثين دينارا! وأنت مشتغل بلذاتك منهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله تعالى معاصيك دون طاعاتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب، إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيف طوله ذراعان، وقوس لا ينتهي مدى مرماها إلى ثلاث مئة ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور، وأنا أقمت لك جيشا يسمى جيش الليل، إذا نامت جيوشك ليلا قامت جيوش الليل على أقدامهم، صفوفا بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم، وأطلقوا ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تمطرون وترزقون.» فقبل ملكشاه وسكت!
نقل هذا جورجي زيدان في كتاب «التمدن الإسلامي» عن كتاب سراج الملوك، ولم يعقب عليه، بل اكتفى بأن ذكر أن «نظام الملك» توفي مقتولا سنة 485ه.
ويذكر غير واحد من المؤرخين أن «نظام الملك» ولى حفيده عثمان بن جمال الملك أعمال مرو، وأرسل السلطان إليها شحنة
1
اسمه قودن، وهو من خواصه، فنازع عثمان في شيء. فحملت عثمان حداثة سنه، واعتزازه بجده، على أن قبض على قودن وسجنه، ثم أطلقه، فقصد السلطان ملكشاه مستغيثا شاكيا فاغتاظ السلطان ملكشاه لاستبداد «نظام الملك» وبنيه، وخروجهم على حدود سلطتهم. وأرسل إلى نظام الملك رسالة يقول فيها: «إن كنت شريكي في الملك، فلذلك حكم، وإن كنت نائبي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، فهؤلاء أولادك قد جاوزوا أمر السياسة وطمعوا، حتى فعلوا ...» إلخ.
فقال نظام الملك لحاملي تلك الرسالة:
قولوا للسلطان: إذا كنت لم تعلم بعد أني شريكك في الملك، فاعلم! فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما تذكر حين قتل أبوك، فقمت بتدبير أمرك، وقمعت الخوارج عليك؛ من أهلك وغير أهلك، وأنت في ذلك الوقت تتمسك بي؟ فلما قدمت الأمور إليك، وأطاعك القاصي والداني أقبلت تنتحل لي الذنوب، وتسمع في الوشايات. قولوا للسلطان: إن دواتي مقترنة بتاجك، فمتى رفعتها رفع، ومتى سلبتها سلب!
ويذكرون أن الرسل اتفقوا على كتمان هذه الرسالة، ولكن كان للسلطان عين من بين أولئك، بلغه ما قال نظام الملك بالحرف الوحد، فغضب السلطان ودس لنظام الملك من قتله بعد ذلك.
والأقرب إلى الصواب ما ذكره الأستاذ محمد (بك) الخضري في محاضراته بالجامعة المصرية من أن نظام الملك قتل بيد أحد الباطنية حين بعث عسكره إلى قلعة الموت، وحصر فيها الحسن بن الصباح، وأخذ عليه الطرق.
وهذا لا ينافي ما نقل من النفرة التي وقعت بين نظام الملك وبين ملكشاه، فإن حسد الخلفاء والسلاطين لوزرائهم معروف، وعلى الأخص في تلك الأيام المظلمة، التي طبعت بطابع الاستبداد وكان الأمر فيها للهوى، والحكم للجبروت!
وقد أكثر الشعراء من رثاء نظام الملك، فمن ذلك قول مقاتل بن عطية البكري:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة
يتيمة صاغها الرحمن من شرف
بدت فلم تعرف الأيام قيمتها
فردها غيرة منه إلى الصدف •••
وكما بنى الفاطميون الجامع الأزهر في أواسط القرن الرابع لتأييد مذهب الشيعة، بنى نظام الملك مدارسه في أواسط القرن الخامس لتأييد مذهب أهل السنة. وهكذا كان المسلمون ينشئون المدارس لتثبيت الملك، كما يفعل الأوروبيون والأمريكيون في هذا الجيل، ولا عيب في ذلك: فالعلم من أمضى الأسلحة في استلال السخائم من الصدور، والسياسة أدهى وأمكر من أن تغفل مثل هذا السلاح!
وكذلك عني نظام الملك بإنشاء المدارس والرباطات، ليغمر العلماء والزهاد بفضله، فيكون له منهم جرائد شفوية تنشر دعوته في الشام والعراق وخراسان، وهكذا فهم روح العصر فاستغل أهله، حتى ليذكرون أنه كان إذا دخل عليه الأئمة الأكابر لا يقوم لهم، ويجلس في مسنده، وكان له شيخ فقير، إذا دخل إليه يقوم له، ويجلسه في مكانه ويجلس بين يديه، وإنه سئل عن ذلك فقال: إن أولئك إذا دخلوا يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجبا وتيها، وهذا يذكرني بعيوب نفسي فأرجع عن كثير مما أنا فيه!
وإذا صحت هذه الرواية فإنها تدل على أن علماء ذلك العصر كانوا أضعف من أن يجهروا بالنهي عن المنكر، وإن الخاصة كانوا لا يأبون سماع النصح من الفقراء والمجاذيب، لأن السياسة كانت تقضي إذ ذاك بمجاملة هذا الصنف من الناس.
ومهما تكن نيات نظام الملك - والله عليم بذات الصدور - فإنه مشكور الصنيع، فقد أكثر من المدارس، ووقف عليها الأوقاف، ورتب للطلبة الجرايات، وبنى لهم الأسواق والمساكن والحمامات، وظلت مدارسه بأوقافها زمنا ليس بالقليل، وتخرج منها كثير من العلماء والأدباء. •••
ولهذه المدارس النظامية فضل على الغزالي، فقد تلقى العلم في مدرسة نيسابور. وتولى التدريس في مدرسة بغداد، وسنعود إلى تفصيل ذلك في غير هذا الباب.
الفصل الخامس
روح ذلك العصر
1
من الصعب تحديد الروح السائد في عصر من العصور، وإنما غاية المؤرخ أن يذكر الشواهد والأمثال، ويستخلص منها ما يرجح أن تكون عليه صورة العصر الذي يدرسه.
وأنا أرجح أن تكون السذاجة هي الصفة الغالبة في ذلك العصر مع شيء من المكر في الأمراء والعلماء. ومن الشواهد الدالة على هذه السذاجة ما ذكره الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» من أن الناس كانوا يقولون حين ترك المدرسة النظامية ببغداد: إنها عين أصابت الإسلام! وما نقل السبكي من أن أحد معاصريه سمعه يقول: «قطعت علينا الطريق وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفت إلي مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت! فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلي المخلاة. قال الغزالي: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي.»
والسذاجة ظاهرة في هذا الحديث، فمن الواضح أن حفظ الكتب عن ظهر قلب حتى لا تبقى إلى حفظها حاجة، آفة عظيمة في تكوين العقول، فليست قيمة العالم فيما يحفظ، ولكن قيمته في حسن الفهم، وأصالة الرأي، وصواب الحكم.
ومن شواهد السذاجة ما أورده نظام الملك في وصيته
1
التي تركها لخلفه من الساسة حيث يقول:
كان الإمام الموفق النيسابوري من جلة علماء خراسان، مبجلا مهيبا، وقد نيف على الخمس والثمانين، وكان السائد في عقيدة أهل زمانه أن كل من قرأ عليه العلوم العربية نبغ فيها، وبلغ الغاية، وانساق إليه العز والجاه، والنعمة والثراء، ولذلك وجهني أبي من بلدة طوس إلى نيسابور مع عبد الصمد الفقيه، لأقرأ على ذلك الأستاذ النابغة الجليل. وهنالك حظيت به، فوشجت بيننا أواصر المودة، وتأكدت عرا الصداقة ولحظني بعين عنايته، وأنزلته من نفسي أخص منزلة وألطفها، ولبثنا على ذلك سنين عدة. وكنت أول ما نزلت به، وجلست في حلقته، لقيت تلميذين في مثل سني، حديثي عهد مثلي بالقراءة على الإمام الموفق. وهما عمر الخيام والحسن بن الصباح، وكانا آيتين في الفطنة والذكاء فأنس كل منا بصاحبيه، ونمت بيننا نحن الثلاثة أحسن صحبة وأمتنها. فكان إذا قام الإمام عن الدرس، وانفضت الحلقة، اجتمعنا فتذاكرنا ما تلقيناه عليه من المعارف. وكان الخيام من أهالي نيسابور، أما الحسن بن الصباح فكان أبوه ناسكا ورعا متقشفا، ولكنه كان زنديقا، فأقبل الحسن يوما على عمر الخيام فقال له: لقد صح في أذهان الناس قاطبة أنه ليس من تلميذ يتخرج على الإمام الموفق إلا مصيبا عزا وإقبالا وثروة وجاها، فهب أن ذلك لم يتفق لنا نحن الثلاثة جميعا فإنه لا بد أن يقع لواحد منا، فماذا يكون حق الخائبين على ذلك الفائز الظاهر؟ قلنا له: اقترح ما تشاء، فقال: فلنتعاهد الآن على أنه من أصاب منا الثراء فعليه أن يقسمه فيما بيننا نحن الثلاثة على السواء، لا يؤثر نفسه بشيء دون أخويه فأجبنا: ليكن ذلك كما قلت. ثم تحالفنا على ذلك وتعاهدنا، ومرت الأعوام على ذلك، وغادرت خراسان متجولا في فضاء الله، إلى غزنة، ثم إلى كابل، ولما عدت تقلدت منصب الوزارة في سلطنة السلطان ألب أرسلان، وبعد مدة من الزمن عرف ذلك صاحباي. فآتياني يطلبان إنجاز وعدي القديم وإشراكهما فيما انحاز لي من النعمة والثراء.
والذي يعنيني من هذه الحكاية هو أن يكون «السائد في عقيدة أهل ذلك الزمان أن من قرأ العلوم العربية على الإمام الموفق نبغ فيها وبلغ الغاية وانساق إليه العز والجاه» وتلك خرافة لا يسيغها غير ضعاف العقول، وصغار الأحلام، وقد رأيت كيف كان الناس يتداولون «هذه العقيدة» وكيف كان الطلبة يتغنون بها في حلقات الدروس.
وقد رأينا في الفصل السالف كيف من «نظام الملك» على ملكشاه بأن أقام له جيش الليل من العلماء والفقراء، مع أنه لا يصح الدفاع عن العلم بإظهار الحاجة إلى دعوات أهله ودموعهم، فبئس السلاح سلاح الدمع والدعاء. وإنما تحرس الأمم بالعلم في إقامة ما اعوج من الأخلاق وإيقاظ ما خمد من النفوس، وإحياء ما اندرس من آثار العقول.
ومن الشواهد على سذاجة ذلك العصر التحدث بالمنامات والأحلام وهي شارة الارتياب في الواقع، والإيمان بالخيال.
2
أما ما كان في ذلك العصر من مكر الأمراء والعلماء، فدلائله كثيرة مبعثرة في الكتب هنا وهناك، ومؤلفات الغزالي شهيدة على ذلك، فكثيرا ما نراه يشن الغارة على العلماء الذين يكثرون الجدل، يتظاهرون بالغيرة على العلم والدين، وهم في الواقع طلاب جاه، وطلاب مال!
ويمكن الجزم بأن الغزالي يمثل عصره أصدق تمثيل وهو يتحدث عن الأتقياء المزيفين من المتصوفة الذين يخدعون الناس باسم التقى، وهم في أنفسهم أنصار غي وضلال، وإنما قلنا إنه يمثل عصره، لأنه يتكلم في هذه الشئون بحماسة عظيمة، ليست صدى لمطالعاته في المؤلفات القديمة، وإنما هي أثر لغضبته من قوم عاش بينهم، ولقي من مكرهم وريائهم أنواع الشقاء. وقد سبقه المعري بنقد المتصوفة، ولكن المعري كان غير مسموع الكلمة في نقدهم، أما الغزالي فكانت كلمته في ذمهم شديدة الأثر، لأنه صوفي، ولأن تلامذته كانوا عونا له على نشر ما يريد.
وإليك إنموذجا من كلامه عن أصناف المغرورين: «وفرقة منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ، وهم وعاظ الزمان كافة، إلا من عصمه الله على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه، فاشتغلوا بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلبا للإغراب، وطائفة شغلوا بعبارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها، فأكثر همهم الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق، وغرضهم أن تكثر في مجالسهم الزعقات والتواجد، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.» ص405 ج3 إحياء.
على أن الغزالي كان بنفسه أداة من أدوات الصوفية، وسترى كيف كان ذلك في غير هذا الباب.
أما مكر الأمراء والملوك فقد كاد ينحصر في ختل العامة وجرهم إلى الحروب باسم الدين، فمن المتعسر أن تجد أمة إسلامية حاربت أختها باسم الملك في دعوة صريحة، بل كانت كل أمة تختص نفسها بالهداية، وترمي غيرها بالمروق، وكانت الجماهير وقودا لنار تلك الفتن في مصر والشام والعراق وخراسان، وغيرها من ممالك المسلمين. ولعن الله الساسة أصحاب الأغراض.
الفصل السادس
البلدان التي عرفها الغزالي
نريد أن نذكر في هذا الفصل بعض البلدان التي عرفها الغزالي، لصلة ذلك بحياته، ونستثني بغداد، لأنها أشهر من أن تحتاج إلى تعريف، وقد خصها الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين بكلمة ممتعة في كتابه ذكرى أبي العلاء، فليرجع إليه من أراد.
ونعتمد في وصف تلك البلدان على معجم ياقوت
1
لقرب مؤلفه من ذلك العصر، ولأنه يتصور تلك المواطن على نحو ما كان يعرفها الناس إذ ذاك.
طوس
مدينة بخراسان، تشتمل على بلدتين يقال لإحداهما الطابران (وهي التي دفن بها الغزالي) وللأخرى توفان، ولهما أكثر من ألف قرية، فتحت في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبها قبر علي بن موسى الرضا وبها أيضا قبر هارون الرشيد. وقال مسعر بن المهلهل: وطوس أربع مدن، منها اثنتان كبيرتان واثنتنان صغيرتان، وبها آثار أبنية إسلامية جليلة، وبها دار حميد بن قحطبة، ومساحتها ميل في مثله، وفي بعض بساتينها قبر علي بن موسى الرضا وقبر الرشيد، وبينهما وبين نيسابور قصر هائل محكم البنيان، لم أر مثله علو جدران، وإحكام بنيان، وفي داخله مقاصير تحار في حسنها الأوهام، وأزجاج
2
وأروقة، وخزائن وحجر للخلوة، وسألت عن أمره فوجدت أهل البلد مجمعين على أنه من بناء بعض التابعة، وأنه كان قصد بلاد الصين من اليمن، فلما صار إلى هذا المكان رأى أن يخلف حرمه وكنوزه وذخائره في مكان يسكن إليه، ويسير متخففا، فبنى هذا القصر وأجرى له نهرا عظيما آثاره بينة، وأودعه كنوزه وذخائره وحرمه، ومضى إلى الصين فبلغ ما أراد، وانصرف فحمل بعض ما كان جعله في القصر، وبقيت له فيه بعض أموال وذخائر تخفى أمكنتها. وصفات مواضعها مكتوبة معه. فلم يزل على هذه الحال تجتاز به القوافل، وتنزل السابلة، ولا يعلمون منه شيئا، حتى استبان ذلك واستخرجه أسعد بن أبي يعفر صاحب كحلان
3
لأن الصفة وقعت له.
وقد خرج من طوس عدد كبير من أئمة العلم أشهرهم أبو حامد الغزالي، وخرج منها الوزير «نظام الملك». قال ياقوت: وأهل خراسان يسمون أهل طوس البقر، ولا أدري لم ذلك؟
وقال رجل يهجو نظام الملك:
لقد خرب الطوسي بلدة غزنة
فصب عليه الله مقلوب بلدته
هو الثور قرن الثور في حر أمه
ومقلوب اسم الثور في جوف لحيته
4
وقال دعبل الخزاعي من قصيدة يمدح بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويذكر قبري علي بن موسى والرشيد بطوس:
أربع بطوس على قبر الزكي به
إن كنت تربع من دين على وطر
قبران في طوس: خير الناس كلهم
وقبر شرهم: هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
يداه حقا. فخذ ما شئت أو فذر
وطوس هذه هي موطن الغزالي ومولده، وبها قبره، إلا إن صح ما رواه بعضهم من أنه ولد بقرية تسمى غزالة بالقرب من طوس. وأنا لا أستبعد ذلك، ما دام ياقوت يحدثنا أنه كان لطوس أكثر من ألف قرية. وإذن يكون الغزالي بفتح الزاي لا بتشديدها، على أن في طبقات السبكي ص9 ج4 رجلا آخر يلقب بالغزالي، ولا ضرورة لأن يكون هذا اسما لعائلة قديمة كما ظن الدكتور زويمر، بل يمكن أن يكون كلاهما نسب لتلك القرية الصغيرة: غزالة.
نيسابور
قال ياقوت: هي مدينة عظيمة. ذات فضائل جسيمة. معدن الفضلاء ومنبع العلاء. لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها. ثم قال: ومن الري إلى نيسابور مئة وستون فرسخا. ومنها إلى سرخس أربعون فرسخا، ومن سرخس إلى مرو الشاهجان
5
ثلاثون فرسخا. ثم قال: وأكثر شرب أهل نيسابور من قنى تجري تحت الأرض، ينزل إليها في سراديب مهيأة لذلك، فيوجد الماء تحت الأرض، وليس بصادق الحلاوة، ثم قال: وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات وبها ريباس ليس في الدنيا مثله، تكون الواحدة منه مئا وأكثر، وقد وزنوا واحدة فكانت خمسة أرطال بالعراق، وهي بيضاء صادقة البياض كأنها الطلع، ثم قال: وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه والأمير عبد الله بن كريز في سنة 31 صلحا. وبنى بها جامعا، وقيل إنها فتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يد الأحنف بن قيس، وإنما انتقضت في أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن عامر ففتحها ثانية.
وقد خرج من نيسابور عدد كبير من أئمة العلم أشهرهم الحافظ الإمام أبو علي الحسين علي النيسابوري، الذي رحل في طلب العلم والحديث. وعقد له مجلس الإملاء بنيسابور سنة 337 وهو ابن ستين سنة وقد توفي سنة 349.
وقد أكثر الشعراء من ذم نيسابور. فمن ذلك قول أبي الحسن الإستراباذي:
لا قدس الله نيسابور من بلد
سوق النفاق بمغناها على ساق
يموت فيها الفتى جوعا وبرهم
والفضل ما شئت من خير وأرزاق
والخبر في معدن الغرثي وإن برقت
أنواره في المعاني غير براق
وقال المرادي يذم أهلها:
لا تنزلن بنيسابور مغتربا
إلا وحبلك موصول بسلطان
أولا فلا أدب يجدي، ولا حسب
يغني، ولا حرمة ترعى لإنسان
وقال معن بن زائدة الشيباني يشكو ليله بنيسابور:
تمطى بنيسابور ليلي وربما
يرى بجنوب الري وهو قصير
ليالي إذ كل الأحبة حاضر
وما كحضور من تحب سرور
فاصبحت أما من أحب فنازح
وأما الألى أقليهم فحضور
أراعي نجوم الليل حتى كأنني
بأيدي عداة سائرين أسير
لعل الذي لا يجمع الشمل غيره
يدير رحى جمع الهوى فتدور
فتسكن أشجان ونلقى أحبة
ويورق غصن للشباب نضير
وفي نيسابور تلقى الغزالي عن إمام الحرمين الفقه والمنطق والأصول حتى برع أنداده، وزملاءه. وتولى في أخريات أيامه التدريس بالمدرسة النظامية في نيسابور مدة يسيرة، رجع بعدها إلى طوس، حيث اتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية.
جرجان
مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان، فبعض يعدها من هذه وبعض يعدها من تلك، قيل إن أول من أحدث بناءها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. وقد خرج منها عدد من الأدباء والعلماء والمحدثين. ولها تاريخ ألفه حمزة بن يزيد السهمي. قال الأصطخري: أما جرجان فإنها أكبر مدينة بنواحيها، وهي أقل ندى ومطرا من طبرستان، وأهلها أحسن وقارا وأكثر مروءة ويسارا من كبرائهم، وهي قطعتان إحداهما المدينة والأخرى بكراباذ. وبينهما نهر كبير. ولجرجان مياه كثيرة، وضياع عريضة، وليس بالمشرق بعد أن تجاوز العراق مدينة أجمع ولا أظهر حسنا من جرجان. قال ياقوت: وبها الزيتون والنخيل والجوز والرمان وقصب السكر والأترج وبها إبريسم جيد لا يستحيل صبغه، وبها أحجار كبيرة لها خواص عجيبة، وبها ثعابين تهول الناظر، ولكن لا ضرر لها.
وقد فتحت في سنة 18ه على يد سويد بن مقر، وخرج منها عدد عظيم من العلماء، كانت تشد إليهم الرحال.
وكان بها صنف جيد من الخمر، وفيها يقول ابن خريم:
وصهباء جرجانية لم يطف بها
حنيف ولم يلمم بها ساعة غر
ولم يشهد القس المهيمن نارها
طروقا ولم يحضر على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة
وقد لاحت الشعرى وقد طلع النسر
فقلت اصطبحها أو لغيري فاهدها
فما أنا بعد الشيب ويحك والخمر
تعففت عنها في العصور التي مضت
فكيف التصابي بعد ما كمل العمر
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن
له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى
وإن جر أسباب الحياة له الدهر
ويذكر ياقوت أن أهل الكوفة كانوا يقولون: من لم يرو هذه الأبيات فهو ناقص المروءة ... وذكر أن مسلم بن الوليد صريع الغواني مرض مرض الموت بجرجان، وأنه رأى نخلة لم يكن في جرجان غيرها فقال:
ألا يا نخلة بالسف
ح من أكناف جرجان
ألا إني وإياك
بجرجان غريبان
وإلى جرجان رحل الغزالي ليتلقى العلم عن أبي نصر الإسماعيلي وعلق عنه التعليقة التي حدثتك عما فعل بها العيارون وهو راجع إلى طوس.
دمشق
لو أنك رجعت إلى ياقوت، وقرأت في معجمه أخبار هذه المدينة لرأيت كيف يضل العرب في بيداء الخيال، ولعرفت أن لهم حظا من أساطير الأولين. وهذا الضلال في ذكر من بنى مدينة دمشق يصور لنا منزلتها المقدسة، التي احتلت قبلا رءوس المسلمين: فهم تارة يذكرون أن بانيها هو دماشق بن فاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وتارة أخرى يقولون إنها بنيت على رأس ثلاثة آلاف ومئة وخمس وأربعين سنة من جملة الدهر الذي يقولون إنه سبعة آلاف سنة، وحينا يزعمون أن إبراهيم عليه السلام ولد بعد بنائها بخمس سنين وحينا آخر يتوهمون أن العازر غلام إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى دمشق.
وأغرب من ذلك كله قول ياقوت: وقال أهل الثقة من أهل السير أن آدم عليه السلام كان ينزل في موضع يعرف الآن ببيت أنات، وحواء في بيت لهيا، وهابيل في مقري وكان صاحب غنم، وقابيل في قنينة وكان صاحب زرع، وهذه المواضع حول دمشق.
ووجه الغرابة فيه إخلاده إلى من يسميهم «أهل الثقة» وأين وصل أهل الثقة إلى أخبار آدم ونوح، يا أيها المؤرخ الخطير؟!
وأحب أن أنبه القارئ إلى قيمة الإغراق والغلو في وصف البلاد فإنه نعم الباعث على الرحلة والسياحة، وإن دل على سذاجة الواصفين، وأربعة أخماس الناس يشتاقون إلى رؤية دمشق حين يقرءون أنها كانت مأوى الأنبياء ومصلاهم، وإنه كان بها مسجد إبراهيم وقبر موسى عليهما السلام، وإنه لم توصف الجنة بشيء إلا وفيها مثله!
وكانوا يقولون: «عجائب الدنيا أربع: قنطرة سنجة، ومنارة الإسكندرية، وكنيسة الرها، ومسجد دمشق.» ولهذا المسجد حديث عجيب، فقد ذكروا أن الوليد بن عبد الملك بن مروان لما أراد بناءه جمع نصارى دمشق وقال لهم: إنا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم يعني كنيسة يوحنا، ونعطيكم كنيسة حيث شئتم، وإن شئتم ضاعفنا لكم الثمن. فأبوا، وجاءوا بكتاب خالد بن الوليد والعهد، وقالوا: إنا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلا خنق. فقال لهم الوليد: فأنا أول من يهدمها. فقام وعليه قباء أصفر، فهدم وهدم الناس ثم زاد في المسجد ما أراد. قالوا: ومكث في بنائه تسع سنين يعمل فيها عشرة آلاف رجل! وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورا فيها سورة
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر
6
إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في القاف، التي في قوله تعالى:
حتى زرتم المقابر
فسألت عن ذلك فقيل لي: إنه كانت للوليد بنت وكانت هذه الجوهرة لها، فماتت فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر . ثم حلف لأمها أنه قد أودعها المقابر فسكتت. ونقل الجاحظ في كتاب البلدان عن بعض السلف أنه قال: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرونه من حسن مسجدهم. ويقول ياقوت: ومن عجائبه أنه لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام من حسن صناعاته واختلافها، ثم قال بعد كلام طويل: ولم يزل جامع دمشق على تلك الصورة يبهر بالحسن والتنميق إلى أن وقع فيه حريق في سنة 161 فأذهب بعض حسنه.
وقد أكثر الشعراء من وصف دمشق، فمن ذلك قول أبي المطاع بن حمدان:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها
فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلا استخفني
إلى بردى والنيريين حنين
وقد كان شكي في الفراق يروعني
فكيف أكون اليوم وهو يقين
فوالله ما فارقتكم قاليا لكم
ولكن ما يقضى فسوف يكون
وقال الصنوبري:
صفت دنيا دمشق لقاطنيها
فلست ترى بغير دمشق دنيا
تفيض جداول البلور فيها
خلال حدائق ينبتن وشيا
مكللة فواكههن أبهى ال
مناظر في مناظرنا وأهيا
فمن تفاحة لم تعد خدا
ومن أترجة لم تعد ثديا
وقال البحتري:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها
وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلد
مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقا
ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفا خضلا
أو يانعا خضرا أو طائرا مغردا
كأنما القيظ ولى بعد جيئته
أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
وقد أغرب الأقدمون في وصف دمشق، ومسجد دمشق، والذي ذكرته في ذلك كاف لما أنا بصدده من صلة الغزالي بهذه المدينة، فقد دخلها في سنة 489 وأقام بها أياما قليلة، ثم عاد إليها بعد ذلك. واعتكف بالمنارة الغربية من الجامع، قال السبكي: واتفق أن جلس يوما في صحن الجامع الأموي وجماعة من المفتين يتمشون في الصحن وإذا بقروي أتاهم مستفتيا، ولم يردوا عليه جوابا. والغزالي يتأمل. فلما رأى الغزالي أنه ليس عند أحد جوابه، ويعز عليه عدم إرشاده. دعاه وأجابه. فأخذ القروي يهزأ به ويقول: المفتون ما أجابوني. وهذا فقير عامي كيف يجيبني؟ والمفتون ينظرونه فلما فرغ من كلامه معه، دعوا القروي وسألوه: ما الذي حدثك به هذا العامي؟ وكان الغزالي إذ ذاك في زي فقير مجهول، فشرح لهم الحال فجاءوا إليه وتعرفوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلسا، فوعدهم، ثم سافر من ليلته.
وهناك أحاديث كثيرة عن صلته بدمشق يضيق عن ذكرها المقام. وحسب القارئ هذا المقدار.
بيت المقدس
من المواطن التي قدسها العرب والمسلمون، وتركوا أمرها للخيال يصورها كيف شاء، فهم يزعمون أن الله تعالى قال لسليمان بن داود عليهما السلام حين فرغ من بناء بيت المقدس: سلني أعطك ، قال يا رب: أسألك أن تغفر لي ذنبي. قال: لك ذلك. قال: يا رب، وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد . قال: لك ذلك. قال: وأسألك من جاء فقيرا أن تغنيه. قال: لك ذلك. قال: وأسألك من جاء سقيما أن تشفيه. قال: ولك ذلك! ويروون عن أبي ذر أنه قال: قلت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : أي مسجد وضع على وجه الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: البيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. وينقلون عن كعب أنه قال: معقل المؤمنين أيام الدجال البيت المقدس يحاصرهم فيه حتى يأكلوا أوتار قسيهم من الجوع، فبينما هم كذلك إذ يسمعون صوتا من الصخرة، فيقولون: هذا صوت رجل شبعان، فينظرون، فإذا عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا رآه الدجال هرب منه، فيتلقاه بباب لد فيقتله، ويكاد الرواة يتفقون على أنها «عرصة القيامة» ومنها النشر، وإليها الحشر. ويزعمون أن سليمان كان اتخذ في بيت المقدس أشياء عجيبة: منها القبة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، حتى اضمحلت بحيلة غير معروفة! وكان من عجائب بنائه أنه بنى بيتا وأحكمه وصقله، فإذا دخله الفاجر والورع تبين الفاجر من الورع، لأن الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض، والفاجر يظهر خياله أسود! وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا أبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضره، ومن مسها من غيرهم أحرقت يده! قال ياقوت: «وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ.» فيا ليت شعري ماذا عسى أن تكون تلك الصفات؟
إنه لا شك في أن كل ما وصف به بيت المقدس ليس إلا صورة لمبلغ المتقدمين من فهم حقائق الأشياء، فليست زيارته بمخرجة أحدا من ذنوبه، ولا براحمة فقيرا من فقره، ولا بمنقذة سقيما من سقمه، كما يزعمون أن الله قال في ذلك، وليس هناك سند يثق به التاريخ عن بناء المسجد الحرام وبناء بيت المقدس بعده بأربعين سنة، كما يتوهمون أن النبي قال ذلك! ولن يأكل المؤمنون أوتار قسيهم من الجوع حين يحاصرهم الدجال في بيت المقدس، ولن يعود عيسى إلى هذا العالم كما يتوهم كثير من الناس، وهب ذلك، فمن يدرينا أن المؤمنين لن يملكوا يومئذ غير القسي والنبال؟ ولا تنس السلسلة التي علقها في القبة سيدنا سليمان، والتي كان ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، فتلك بلا ريب وليدة الخيال! وما عسى أن يكون ذلك البيت الذي كان إذا دخله فاجر ظهر خياله أسود، وإذا دخله الورع ظهر خياله أبيض؟
اذكر هذه الصورة العجيبة لبيت المقدس، ثم اذكر قول ابن عباس: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي، أو قام فيه ملك. ثم اذكر ما يزعمون من أن أول شيء حسر عنه الطوفان بيت المقدس، وإن فيه ينفخ في الصور يوم القيامة، وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة!
اذكر هذا كله، ثم دعنا نخبرك بأن الغزالي يتمدح في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه كان يرحل إلى بيت المقدس فيدخل الصخرة كل يوم ويغلق بابها على نفسه ويتعبد فيها طول النهار! وإنه انكشف في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها كما قال.
هذه المواطن التي قدسها الخيال، ووضعت في فضلها الأحاديث، أثرت تأثيرا بينا في حياة الغزالي العقلية، وطبعت نظره إلى العالم بطابع خاص. ولولا خوف الإطالة لوصفنا ما رآه في سياحاته من المشاهد والبقاع، ولكن الرغبة في الإيجاز أرضتنا عن الاكتفاء بأشهر ما عرف من البلاد.
الفصل السابع
أعيان ذلك العصر
الذي يهمنا من أعيان العصر الذي عاش فيه الغزالي إنما هو ذكر أساتذته لتأثيرهم في تكوين عقله، غير أنه من الحسن أن نذكر طائفة من علماء ذلك العصر لأن في ذلك تصويرا لحركة العقول إذ ذاك. ونكرر ما قلناه من أن الغرض إنما هو أن نقرب للقارئ زمان الغزالي ومكانه، نوعا من التقريب. فأما تحديد اتجاهات الفكر في تلك الآونة، فلا يسعه هذا المؤلف، الذي يراد به درس آراء الغزالي في الأخلاق.
الشهرستاني
هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم المولود سنة 479 والمتوفى سنة 548. تلقى العلم في نيسابور على أبي الحسن علي بن أحمد المدايني، وقد ذكر السبكي بقية أساتذته في ص78 ج4 من طبقاته. ومن أشهر تآليفه كتاب (الملل والنحل) وهو كتاب جيد قال في مقدمته: «وبعد فلما وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العلم من أرباب الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها وشواردها، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون، وانتحله المنتحلون، عبرة لمن استبصر، واستبصارا لمن اعتبر.» وقيمة هذا الكتاب ترجع إلى جمعه أكثر الآراء التي عرفها المسلمون لذلك العهد، ومن عيوبه الإيجاز والغموض في أكثر المواطن التي تحتاج إلى البسط والبيان: وقد رماه معاصروه بزيغ العقيدة والمبالغة في نصرة مذهب الفلاسفة. وسترى فيما بعد أن الشك في عقائد أنصار الفلاسفة كان من علامات ذلك الجيل.
الأبيوردي
هو أبو المظفر محمد بن أحمد الأبيوردي، تفقه على إمام الحرمين، وشهد له أهل زمانه بحسن العقيدة - وكذلك كان العلماء دائما في حاجة إلى شهادة عامة لهم بحسن العقيدة كأنما الدين خرافة يسيغها العام وينكرها الخواص - وكان الأبيوردي يرى نفسه أولى بالخلافة وأحق بها من سواه، وقد جرت له هذه النزعة بلايا كثيرة، اضطر بسببها إلى مفارقة بغداد، فرجع إلى همذان واشتغل بالتدريس والتأليف، ثم توفي مسموما بأصبهان في ربيع الأول سنة 507.
وكان الأبيوردي بارع الشعر، وله في الصبر على أحداث الدهر آيات بينات، ويندر أن نجد أديبا لا يحفظ قوله:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني
أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون
ومن بديع الشعر أبياته التي يتشوق فيها إلى أحبابه، وقد خلاهم ببغداد:
ألا ليت شعري هل أراني بغيضة
أبيت على أرجائها وأقيل
هواء كأيام الهوى لا يغبه
نسيم كلحظ الغانيات عليل
وعصر رقيق الطرتين تدرجت
على صفحتيه نضرة وقبول
وأرض حصاها لؤلؤ وترابها
تضوع مسكا والمياه شمول
بها العيش غض والحياة شهية
وليلي قصير والهجير أصيل
فقل لأخلائي ببغداد هل بكم
سلو فعندي رنة وعويل
ترنحني ذكراكم فكأنما
تميل بي الصهباء حيث أميل
لئن قصرت أيام أنسي بقربكم
فليلي على ناي المزار طويل
الأرجاني
هو أبو بكر أحمد بن الحسين الأرجاني، ولد حوالي سنة 460ه أصله من شيراز وتولى القضاء بمدينة تستر. وهو من فحول الشعراء وله هذه الآبيات:
سفرت كي نزود الحب منها
نظرة حين آذنت بالتنائي
وأرت أنها من الوجد مثلي
ولها للفراق مثل بكائي
فتباكت ودمعها كسقيط ال
طل في الجلنارة الحمراء
فترى الدمعتين في حمرة اللو
ن سواء وما هما بسواء
خدها يصبغ الدموع ودمعي
يصبغ الخد قانيا بالدماء
خضب الدمع خدها باحمرار
كاختضاب الزجاج بالصهباء
وفي مقدور القارئ أن يرجع إلى كتب الأدب والتاريخ ليعرف من نبغوا في القرن الخامس، فإن الوقوف على آراء أولئك النوابع من أقرب السبل إلى فهم روح ذلك العصر، أما نحن فلا نريد أن نطيل.
الباب الثاني
في حياة الغزالي
تمهيد
نريد أن نتكلم بإيجاز عن حياة الغزالي، لأنه لا يعنينا منها غير جانب واحد: وهو حاله حين وضع مؤلفاته في الأخلاق.
ونحب أن ننبه القارئ إلى أن المصدر الموثوق به إنما هو كتابه «المنقذ من الضلال» فأما الكتب التي ترجتمه فهي في أكثرها موصومة بالمغالاة، لأن الغزالي كما سترى نزل من أهل عصره ومن بعدهم منزلة حملت أكثر مترجميه على تصوره كرجل لا ينبغي لأحد أن يناله بنقد أو تجريح، وإنهم لواهمون.
ولم نستشير التراجم، والمترجم نفسه يتكلم بسذاجة وإخلاص عن تطور حالته العقلية؟ وهي التي تهمنا في هذا الباب.
الفصل الأول
أسرته
ولد الغزالي من أسرة فارسية، لم يهتم بها التاريخ. وإنه ليكفي أن نعرف شيئا عن أبيه وأخيه، لنعرف الروح السائد في أسرته.
أما أبوه فقد نقل السبكي في طبقات الشافعية: «إنه كان فقيرا صالحا لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غزل الصوف ويطوف على المتفقهة ويجالسهم، ويتوفر على خدمتهم، ويجد في الإحسان اليهم، والنفقة بما يمنكه عليهم، وإنه كان إذا سمع كلامهم بكى وتضرع، وسأل الله أن يرزقه ابنا ويجعله فقيها، وإنه كان يحضر مجالس الوعظ، فإذا طاب وقته بكى. وسأل الله أن يرزقه ابنا واعظا.» ص102 ج4.
وقد صار ابنا هذا الفقير فقيهين واعظين، فإن شئت قلت إنها دعوة أجيبت، وإن شئت قلت إن حب هذا الرجل للفقه والوعظ نقل إلى ولديه بطريق الوراثة.
وأما أخوه فقد ذكر غير واحد أنه طاف البلاد وخدم الصوفية في عنفوان شبابه، وصحب المشايخ، واختار الخلوة والعزلة، حتى انفتح له الكلام على طريقة القوم، وإنه خرج إلى العراق، ومالت إليه القلوب، ودخل بغداد وعقد مجلس الوعظ، فظهر له القبول، وازدحم الناس على حضور مجلسه، وأن صاعد بن فارس دون مجالسه ببغداد فبلغت ثلاثا وثمانين. وذكر ابن خلكان أنه كان صاحب كرامات وإشارات، وإنه كان من الفقهاء غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه. وينقلون أن قارئا قرأ يوما بين يديه
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
1
فقال شرفهم بياء الإضافة إلى نفسه بقوله يا عبادي ثم أنشد:
وهان علي اللوم في جنب حبها
وقول الأعادي إنه لخليع
أصم إذا نوديت باسمي وإنني
إذا قيل لي يا عبدها لسميع
ويرون أنه حكى يوما في مجلس وعظه أن بعض العشاق كان مشغولا بحسن صورة معشوقه، وكان هذا موافقا له، فجاءه يوما بكرة وقال له: انظر إلى وجهي فأنا اليوم أحسن من كل يوم. فقال: وكيف ذلك؟ قال: نظرت إلى المرآة فاستحسنت وجهي، فأردت أن تنظر إلي، فقال: بعد أن نظرت إلى وجهك قبلي لا تصلح لي. وهذه الحكاية تمثل اتجاه خاطره نحو الفناء.
ومن كلامه: «من كان في الله تلفه، كان على الله خلفه.» وكان ينصح أخاه أبا حامد الغزالي بقوله:
إذا صحبت الملوك فالبس
من التوقي أعز ملبس
وادخل إذا ما دخلت أعمى
واخرج إذا ما خرجت أخرس
وكان أساتذتنا في الأزهر يقصون علينا أحسن القصص في تأثير هذا الرجل على أخيه، ويضربون لنا بورعه الأمثال، وقد حاولت أن أجد سندا لما يتحدثون به فلم أجد، فعرفت أن أكثر ما عرف عنه إنما هو من صنع الخيال.
ولو أننا أضفنا إلى ما سلف أن الغزالي كان صغيرا حين مات أبوه، وأن الذي كفله مع أخيه هو رجل متصوف من أهل الخير بوصية والده، لعرفنا كيف تعاونت الظروف على أن تصبغ روحه بصبغة صوفية، وكيف أثرت هذه الصبغة على آرائه في الأخلاق.
الفصل الثاني
مولده ونشأته
ولد الغزالي في طوس سنة 450ه وفيها تلقى ما تفقه به في صباه على أحمد بن محمد الراذكاني، ثم سافر إلى جرجان حيث تلقى طرفا من العلم على الإمام أبي نصر الإسماعيلي وعلق عنه التعليقة - كما كانوا يقولون - ثم رجع إلى طوس وأقام بها ثلاث سنين يراجع ما تلقاه في جرجان، ثم قدم نيسابور حيث يدرس إمام الحرمين في المدرسة النظامية علوم الفقه والمنطق والأصول، فلازمه إلى أن توفي سنة 478ه. ثم خرج إلى المعسكر وهي محلة بالقرب من نيسابور يقيم فيها نظام الملك - وكان إذ ذاك في الثامنة والعشرين من عمره - وكان نظام الملك قد سمع الثناء على عقله وعلمه وأدبه. فأحضره مجلسه، وكانت منتدى العلماء، فوجدت الفرصة لينشر الغزالي أثمن ما في خزانته من نفائس العلم، وكان من نتيجة ذلك أن برع من كانوا يغشون مجلس نظام الملك وظهر عليهم، فولاه ذلك الوزير رتبة التدريس في مدرسة بغداد سنة 484ه.
ولننظر ماذا يقول عن طلبه للعلم من أوائل حياته العلمية إلى أن نيف على الخمسين: «ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين. أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمراته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل طهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته. وقد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله تعالى وضعها في جبلتي، لا باختياري وحيلتي. حتى انحلت عني رابطة التقليد. وانحسرت عني العقائد الموروثة على قرب عهد بسن الصبا.»
وهذه الفقرة تدلنا على أمرين؛ الأول: أن المذاهب الفلسفية كانت كثيرة الانتشار لذلك العهد، وأن أصحابها كانوا يجتهدون في الدفاع عنها، ويجدون في إذاعتها بين الناس، والثاني: أن الغزالي لم يكن من أولئك الطلبة الأغبياء الذين لا يعرفون غير رأي واحد: يعيشون عليه، ويموتون عليه! بل كان طالب علم بمعنى الكلمة، يعرف أن واجبه يقضي عليه بأن يعلم حقيقة كل نحلة، وكنه كل مذهب، ومقصد كل فرقة، ومرمى كل عقيدة.
وكان أول ما أثار فيه هذه الرغبة ما رآه من أن صبيان النصارى ينشئون على التنصر، وصبيان اليهود على التهود، وأطفال المسلمين على الإسلام. وكانت هذه الملاحظة الوجيهة باعثا له على أن يشك في دينه حتى يتبين حقيقته - وإن لم يحدثنا عن ذلك - لأنه ما الدليل على أن النصرانية خير من اليهودية، أو أن الإسلام خير من النصرانية، أو أن اليهودية خير من الإسلام، كما يتحدث النصارى والمسلمون واليهود: كل على ما هو بسبيله من تفضيل دينه على غيره من الديانات.
وهنا يصرح الغزالي بأنه انتهى إلى أنه لا قيمة للتقليد، لأنه موجود في كل أمة وفي كل ملة، وإنما القيمة كلها لليقين الذي لو تحدى لإظهار بطلانه من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم يورث ذلك فيه شكا، كما أنك لو علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، وقال قائل لا، بل الثلاثة أكبر، بدليل أني أقلب العصا ثعبانا، ثم قلبها وشاهدت ذلك منه، لم تشك بسببه في معرفة أن العشرة أكثر من الثلاثة.
الفصل الثالث
حياته الروحية
ولكن الغزالي لم يستمر على تلك النزعة الجريئة التي أقنعته بأن لا قيمة لغير اليقين، بل اندفع يحدثنا عن شكوك نرجح أنه لم يكن فيها غير صادق، وأخذ يبين أنه اقتنع أولا بأن اليقين ينحصر في الحسيات والضروريات، ثم رأى أن الحس ليس أهلا للثقة به، لأنك تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة، ثم تعرف بعد ساعة بالتجربة والمشاهدة أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة، بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم تكن حالة وقوف، ثم يذكر الغزالي أنه بعد أن بطلت ثقته بالمحسوسات ولى وجهه شطر العقليات التي هي من جنس الأوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما، موجودا معدوما، واجبا محالا. ثم يزعم أن المحسوسات قالت له: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا أن جاء حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك حاكم العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته؟
وهنا يدخل الغزالي في مضايق من شعاب الحدس والتخمين فيتوهم أنه لا يبعد أن يكون هناك حالة فوق اليقظة التي هي بلا شك أثبت من حالة النوم، وتكون نسبة اليقظة إليها كنسبة النوم إلى اليقظة، ثم يتردد في تعيين هذه الحالة فلا يدري أهي الموت الذي تنكشف به حقائق الأشياء لقوله تعالى:
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد
1
أم هي حالة الصوفية: إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي هي لهم أنهم إذا غاصوا في أنفسهم، وغابوا عن أحوالهم وحواسهم، رأوا أحوالا لا توافق المعقولات؟
ثم يذكر الغزالي أنه عاد إلى قبول الضروريات العقلية، ولكن عودته لم تكن بنظم دليل وترتيب كلام، بل كانت بنور قذفه الله في صدره كما قال.
ونحن لا ننازع الغزالي في أن لله نورا يقذفه في صدور عباده ولكن نسأله: لم لا تكون الأحكام العقلية قبسا من ذلك النور؟ ونسأله كذلك: ما هي حالة المرء الذي ينتظر هذا النور الذي تراه فوق البرهان والدليل؟
على أن الذي يعنينا قبل كل شيء: هو أن نسجل أن الغزالي وضع مؤلفاته في الأخلاق وهو على هذه الحال. ونرجح أن حياته الروحية ابتدأت بعد توليه التدريس في مدرسة بغداد، ثم لازمته إلى النهاية، كما ستراه.
الفصل الرابع
فهمه للحياة
ولأجل أن نبين وجهة نظره في أحكامه الأخلاقية، ينبغي أن نعرف كيف كانت صحته وكيف كان مزاجه، وكيف كان فهمه للحياة، حين عني بالتأليف في الأخلاق، فإن معرفة مزاج المؤلف وصحته وفهمه للحياة الاجتماعية، من أهم ما ينبغي تقديمه قبل الشروع في درس ما ترك المؤلفون.
والسند الصحيح لحياة الغزالي هو كتابه «المنقذ من الضلال» فلندعه يصف لنا حياته في عزلته التي دامت نحو عشر سنين، والتي وضع في أثنائها كتاب الإحياء وهو أهم ما كتب في الأخلاق.
قال بعد كلام طويل: «ثم إنني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقهم إنما يتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم، من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص خواصهم لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات. فكم من الفرق بين أن يعلم المرء حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان. وبين أن يعرف حد السكر، وإنه عبارة عن حال تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معان الفكر، وبين أن يكون سكران، بل السكران لا يعرف حد السكر وهو سكران ما معه من علمه شيء، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر، والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها وهو فاقد للصحة، فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا.
فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأن ما يمس تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها، والمسالك التي سلكتها، في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر: فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي، لا بدليل معين محرر، بل بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها. وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وإن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وإن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب من الشواغل والعوائق، ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم: فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشرفت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل. وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد، وإن لم تقطع الآن هذي العلائق فمتى تقطع؟!
فبعد ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما لا تتيسر لك المعاودة. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر. أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ قفل الله على لساني حتى أعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما تطبيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا أستطيعها ألبتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم وقضم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي شربة، ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى ذلك إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إلى العلاج.»
وإنما نقلت هذه القطعة الطويلة من كتابه «المنقذ من الضلال» لأن الغزالي عندي صادق فيما يحدث عن نفسه، وكلامه خير للباحث من استشارة التراجم المختلفة، ولم نستشير التراجم، والمترجم نفسه يحدثنا عن تطور حالته العقلية؟
وهل أدل على لون نفسه في ذلك الحين من قوله بعد ما سلف: «ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب»؟
ويجب أن نتنبه لهذه الكلمة، فهي كافية في تصوير نفسه، وينبغي أن نعرف أنه نص فيما بعد على أنه دام على هذه الحال عشر سنين، وقد كتب كتبه الأخلاقية وهو في هذه الحال، ولا تسأل كيف ترك بغداد، ولا كيف عاد إلى أهله، فقد رأيت كيف اعتلت صحته، وتغير مزاجه، وكيف سهل على قلبه ترك أولاده، وهو الذي تمدح بأنه كان يصعد منارة مسجد دمشق طوال النهار ويغلق بابها على نفسه، وكان يرحل إلى بيت المقدس فيدخل الصخرة كل يوم ويغلق بابها على نفسه!
على أنه بعد أن عاد إلى أهله (آثر العزلة أيضا حرصا على الخلوة، وتصفية القلب للذكر) كما قال.
وأنا لا أهتم بما ذكر من أنه انكشف له (في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمن إحصاؤها، واستقصاؤها) وإنما يهمني أن أثبت أنه كتب ما كتب في الأخلاق وهو على هذه الحال.
ويتلخص ما سلف في ثلاثة أمور:
الأول:
ما ورثه عن أبيه من نزعته الصوفية.
الثاني:
ما استفاده من وصيته تأييدا لتلك النزعة.
الثالث:
عشر سنين قضاها في العزلة، لها ما لها من الأثر في تكوين نفسه، وتكييف مزاجه، والتأثير في كتبه.
إذن ليعلم القارئ منذ الآن أن النزعة الغالبة على فهمه للأخلاق إنما هي نزعة الصوفية، وسيرى ذلك مفصلا في عدة مواطن من هذا الكتاب.
الفصل الخامس
وفاته ورثاؤه
ترك الغزالي بغداد، وقصد البيت الحرام، وأدى فريضة الحج في سنة 489ه ومكث فيها أياما، ثم توجه إلى بيت المقدس فجاور به سنة 488ه بعد أن أناب أخاه عنه في المدرسة النظامية، ثم دخل دمشق مدة، ثم عاد إلى دمشق واعتكف في المنارة الغربية من الجامع، ثم ذهب إلى الإسكندرية وأقام بها مدة، ويقال إنه كان ينوي الرحلة إلى السلطان يوسف بن تاشفين، لما بلغه من عدله، ولكنه لما سمع بموته عاد إلى التجول في الآفاق لزيارة المشاهد والترب والمساجد، كما يقول مترجموه، ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجلس الوعظ، وتكلم بلسان أهل الحقيقة وحدث بكتاب الإحياء. ثم عاد إلى خراسان ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور، ثم رجع إلى طوس واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف من ختم القرآن ومجالسة أرباب القلوب، والتدريس لطلبة العلم، وإدامة الصلاة والصيام، إلى أن توفي رحمه الله بطوس يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة 505ه قال السبكي: ومشهده يزار بمقبرة الطابران.
قال الزبيدي: ووجدت في كتاب بهجة الناظرين وأنس العارفين للعارف بالله محمد بن عبد العظيم الزموري ما نصه: ومما حدثنا به من أدركنا من المشيخة أن الإمام أبو حامد الغزالي لما حضرته الوفاة أوصى رجلا من أهل الفضل والدين - كان يخدمه - أن يحفر قبره في موضع بيته، ويستوصي أهل القرى التي كانت قريبة إلى موضعه ذلك بحضور جنازته، وأن لا يباشر أحد حتى يصلي ثلاثة نفر من الفلاة لا يعرفون ببلاد العراق، يغسله اثنان منهما ويتقدم الثالث للصلاة عليه بغير أمر ولا مشورة ... فلما توفي فعل الخادم كل ما أمر به، وحضر الناس، فلما اجتمعوا لحضور جنازته رأوا ثلاثة رجال خرجوا من الفلاة، فعمد اثنان منهم إلى غسله، واختفى الثالث ولم يظهر، فلما غسل وأدرج في أكفانه، وحملت جنازته، ووضعت على شفير قبره، ظهر الثالث ملتفا في كسائه، وفي جانبه علم أسود، معمما بعمامة صوف، وصلى عليه وصلى الناس بصلاته، ثم سلم وانصرف، وتوارى عن الناس، وكان بعض الفضلاء من أهل العراق ممن حضر الجنازة ميزه بصفاته ولم يعرفه، إلى أن سمع بعضهم بالليل هاتفا يقول لهم: إن ذلك الرجل الذي صلى بالناس هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن إسحاق الشريف جاء من المغرب الأقصى من عين النظر، وإن اللذين غسلاه هما صاحباه ... إلخ».
وهذه بالطبع خرافة لفقهاء المتصوفة بعد موت الغزالي، وهي في ذاتها على أن الغزالي لم يمت إلا بعد أن اتفق العامة على صلاحه، فقد رمي بالزندقة في جزء من حياته، ثم عاد في نظر العامة من المكاشفين، حتى ليذكرون أنه أنشأ عند موته هذه القصيدة:
قل لإخوان رأوني ميتا
فبكوني ورثوني حزنا
أعلى الغائب منا حزنكم
أم على الحاضر معكم ههنا
أتخالوني بأني ميتكم
ليس ذاك الميت والله أنا
أنا في الصدر وهذا بدني
كان جسمي وقميصي زمنا
وهي طويلة تجدها ضمن مجموعة مخطوطة نمرة 121 تصوف بدار الكتب المصرية. وهي كذلك مما لفقه أصحابه بعد موته، وما أكثر ما زور باسمه من الآثار!!
ونقل ابن الجوزي في «كتاب الثبات عند الممات» عن أحمد أخي الغزالي أنه قال: «ولما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلى، وقال علي بالكفن، فأخذه وقبله ووضعه على عينيه، وقال: سمعا وطاعة للدخول على الملك، ثم مد رجليه واستقبل القبلة، ومات قبل الإسفار.»
وسبحان من تفرد بالبقاء.
وقد رثاه الأبيوردي بقوله:
بكى على حجة الإسلام حين ثوى
من كل حي عظيم القدر أشرفه
فما لمن يمتري في الله عبرته
على أبي حامد لاح يعنفه
تلك الرذيلة تستوهي قوى جلدي
فالطرف تسهره والدمع تنزفه
فما له خلة في الزهد منكرة
وما له شبهة في العلم تعرفه
مضى، وأعظم مفقود فجعت به
من لا نظير له في الناس يخلفه
وقال في رثائه القاضي عبد الملك المعافى:
بكيت بعيني ثاكل القلب واله
فتى لم يوال الحق من لم يواله
وسيبت دمعا طالما قد حبسته
وقلت لجفني واله ثم واله
ونحن - في جملة من انتفع بمؤلفات الغزالي - نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يجزيه أحسن الجزاء على ما قدم في سبيل العلم والدين من صادق الجهود، وأن يتجاوز عن سيئاته بمنه وكرمه إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.
الباب الثالث
في المنابع التي استقى منها الغزالي
تمهيد
يذكر مؤرخو الفلسفة أن سقراط هو أول من بدأ بالتفكير في الإنسان وما يتعلق به، وأنه أول من قال: اعرف نفسك بنفسك. ولعلهم يريدون أنه أول من بحث في الإنسان بحثا منظما من حيث واجبه نحو نفسه، ونحو شركائه في الاجتماع، على أن يكون ذلك علما ذا قواعد وأصول.
أما البحث في أن بعض الأعمال شر، وبعضها خير، وشيء منها نافع، وشيء منها ضار، فهو قديم سبق سقراط بأجيال.
فالأمة العربية التي ورث الغزالي وورث أساتذته آدابها القديمة، كانت تقول الشعر والنثر في تهذيب الأخلاق، فمن الواضح أن قول بعض الأعراب في وصية ابنه «المنية ولا الدنية» فيه ضرب من التهذيب الفردي، وقول أحدهم في حض الجيش على صدق اللقاء «الطعن في النحور أكرم من الطعن في الظهور» فيه نوع من تقديم المحاربين، لأن الأخلاق لا تعرف موطنا بعينه، وإنما تتبع الرجل في كل حال.
وكذلك قول أكثم بن صيفي: «العقل راقد، والهوى يقظان، والشهوات مطلقة، والحزم معقول. والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل. أصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح عند ذنبه. لم يهلك من مالك ما وعظك. نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب. التقدم قبل التندم. ويل لعالم أمر من جاهله. يتشابه الأمر إذا أقبل، فإذا أدبر عرفه الكيس والأحمق.» في هذه الكلمات كثير من الآداب الاجتماعية، وهي جزء من علم الأخلاق.
ونجد شعراء الجاهلية والإسلام ضربوا بسهم في معرفة الطبائع البشرية، فنرى في شعرهم شيئا عن أثر الوراثة، وأثر الرفقة، وأثر الجوار، إلى غير ذلك من المعاني التي بسطها الفلاسفة حين تكملوا في الأخلاق. فقول ذي الأصبع العدواني:
كل امرئ صائر يوما لشيمته
وإن تخلق أخلاقا إلى حين
يماثل بعض المذاهب الأخلاقية.
وقول مسكين الدارمي:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم
على سر بعض غير أني جماعها
لكل امرئ شعب من القلب فارغ
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
يطلون شتى في البلاد وسرهم
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
يماثل ما يضعه الفلاسفة في الآداب الفردية.
ويمكننا أن نعد المدح والهجاء من علم الأخلاق، لأن المدح في الغالب تصوير للفضائل، والذم تمثيل للرذائل، ووصف الفضائل والرذائل مما يعنى به علم الأخلاق.
فقول قعنب بن ضمرة:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
عني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
جهلا علينا وجبنا عن عدوهم
لبئست الخلتان الجهل والجبن
هذا هجاء، ولكن فيه تصويرا لبعض الصفات الذميمة التي يعنى بحربها علم الأخلاق.
وقول حسان بن ثابت:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأجمعه
ولست للعرض إن أودى بمحتال
هذا فخر، ولكن فيه تصوير لفضيلة من كرائم الفضائل الإنسانية.
ولا تنس الحكم التي فاضت بها النفوس العربية، فأي كلام أكرم وأمتع من قول وابصة الأسدي:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه
كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطا أذى
ولا مانعا خيرا ولا قاتلا هجرا
إذا شئت أن تدعي كريما مكرما
أديبا ظريفا عاقلا ماجدا حرا
إذا ما أتت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالا لزلته عذرا
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة
فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
والقرآن؟
في القرآن تحليل دقيق لنزعات النفوس، وخلجات القلوب، وفيه حل لأكثر المشاكل الأخلاقية التي شقي في حلها الحكماء؛ ففيه أدب الرجل مع ربه، ومع نفسه، ومع زوجه، ومع آبائه، ومع أبنائه، ومع إخوانه، ومع أصدقائه، ومع أعدائه، ويندر أن تجد مشكلة خلقية لم يعن بحلها القرآن. وفي الحديث توضيح وتتميم لما في الكتاب العزيز، ويكفي أن تنظر فيما يخص الأدب من كتب السنة لتعرف صدق ما نقول.
وبعدما جاء في خطب العرب وشعرها، وما جاء في القرآن والحديث، وضعت كتب خاصة للسير والسلوك، من أقدمها كليلة ودمنة، الذي ترجمه ابن المقفع عن الفارسية، وقفاه بكتابيه الأدب الكبير والأدب الصغير، ووضعت أبواب مطولة في كتب الفقه عن آداب الزواج، ومعاملة الرقيق، ومعاملة المحاربين، وما إلى ذلك مما يهتم به الناس في الحرب والسلم، ويبنى عليه الاجتماع.
لم كانت المقامات والخطب المنبرية، التي أودعها الأدباء والمصلحون آراءهم في تهذيب النفوس، وتلطيف الطبائع.
كل ما قدمته كان ينبوعا صافيا ينهل منه الغزالي ويعمل وهو يضع مؤلفاته في الأخلاق، وقد تبينت أحكامه ، فرأيته لا يضع حكما إلا وقد اقتبسه من حكمة، أو مثل، أو بيت من الشعر، أو آية، أو حديث، أو أثر، إلى غير ذلك مما قرأه بنفسه أو سمعه من أساتذته، ولقد حاولت أن أرجح كل حكم لأصله، ولكني رأيت في ذلك منافاة للإيجاز، وهو شرط هذا الكتاب.
على أن الغزالي مع ترسمه لما سبقه من الآثار الأدبية لم يخل من حرية الفكر، والميل إلى التجديد، فقد خرج على الأشعري في بعض آرائه، وخالف الشافعية في بعض ما يقولون به، ولكنه على كل حال يساير المتقدمين، ولا يخالفهم - حين يخالفهم - إلا برفق واحتياط، كما يفعل الحذر الهيوب.
الفصل الأول
المصادر الفلسفية
درس الغزالي الفلسفة، ولكنه درسها بنية سيئة، درسها ليسبر غورها، ثم ينشر مساوئها في العالمين!
وقد درسها بنفسه، ولم يتتلمذ لأستاذ، فكان ذلك داعية لهذا البغض العميق، الذي جعله ينسى الفلاسفة، ولم يذكرهم إلا بسوء في كتبه الأخلاقية، ولو أنه تلقاها على أستاذ تلقي الفقه والتصوف والتوحيد، لرجونا أن تخف حدته كلما وجد الفرصة سانحة ليسلق الفلاسفة بلسان حديد.
1
ذلك بأن الأساتذة ينتصرون لعلومهم، ويؤثرون في تلامذتهم أثرا غير قليل، وأثر المتصوفة من أساتذة الغزالي واضح كل الوضوح فيما صبغت به آراؤه الدينية والأخلاقية.
ولكن هل نجا الغزالي من محاكاة الفلاسفة حين كتب في الأخلاق؟ وإن نظرة في تقسيم الفضائل، وطرائق كسبها، وتنويع الرذائل، ووسائل الخلاص منها، لترينا مبلغ محاكاته للفلاسفة الذين كتبوا في الأخلاق، والآداب الاجتماعية.
وإنك لتضحك بملء فيك حين تراه يقول في كتابه «المنقذ من الضلال»: «وأما السياسات فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية السلطانية، وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأولياء، وأما الخلقية فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها، وذكر أجناسها وأنواعها، وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية، وهم المتألهون المثابرون على ذكر الله، وعلى مخالفة الأهواء، وسلوك الطريق إلى الله بالإعراض عن ملاذ الدنيا، وقد انكشف لهم في مجاهداتهم من أخلاق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ما صرحوا به، فأخذه الفلاسفة ومزجوه بكلامهم، توسلا بالتجمل به إلى ترويج باطلهم.» ص16.
وقد لحظ الغزالي أن هذه الدعوى العريضة قد تقبل إذا وجهت إلى فلاسفة الإسلام، فقد قرأوا القرآن، وعرفوا منه أشياء من حكم الأنبياء والمرسلين، وقرأوا للصوفية كثيرا من الحكم والأمثال، ولكن هذه الدعوى قد تظهر باطلة إذا وجهت إلى فلاسفة اليونان، فانظر ماذا يقول في ذلك: «ولقد كان في عصرهم، بل في كل عصر، جماعة من المتألهين لا يخلي الله تعالى العالم منهم، فإنهم أوتاد الأرض، ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل الأرض.» ص17.
فعلى هذا لا فضل لسقراط، ولا أفلاطون، ولا أرسططاليس فيما وفقوا إليه، حين كتبوا في الأخلاق، وإنما الفضل لأولئك «الأوتاد» الذين شرفت بهم بلاد اليونان منذ آلاف السنين ولا أدري ماذا يفعل الغزالي إذا أقسم الأغارقة بالله جهد أيمانهم أنه لم يكن لهم إله واحد وإنما كان لهم ألف إله وإله، بل كان من آلهتهم من يحض على اللذة، ويمهد للفسق السبيل!
إنه لا شك في أن الغزالي استقى من المنابع الفلسفية، في كل ما كتب عن الأخلاق، وغاية الأمر أن وجهة الدين، ووجهة التصوف، غلبتا عليه، وصورتا آراءه بصورة دينية، تبدو للنظرة الأولى وكأنها لا تمت للفلسفة بسبب، ولا تأخذ منها بنصيب، وهي في الواقع متأثرة بما للفلسفة من أصول.
وإنه لا حرج علينا في أن نقرر أن الغزالي أصلى الفلسفة نار العقوق فقد كانت سبب حصافته، وذيوع صيته، ثم أطمع فيها العامة، ومكن الجهال من تصغير الحكماء، وليس تكفيره لابن سينا والفارابي بالأمر الهين، وإن فعلته تلك لتحسب بذرة هذه التقاليد الممقوتة التي يعانيها المفكرون الأحرار، في جميع الأقطار الإسلامية، منذ حين!
إخوان الصفا
جمعية شبه سرية. اجتمعت في البصرة في منتصف القرن الرابع. وإنما كانت سرية لكره عامة الناس الفلسفة إذ ذاك. وكان غرض هذه الجمعية نشر المعارف التي يرونها صحيحة في جميع الأقطار الإسلامية، فقد كانوا يرون: «إن الشريعة قد دنست بالجهالات ، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية.» وقد ألفوا إحدى وخمسين رسالة ضمنوها خلاصة العلوم المعروفة لعهدهم، وقالوا في أول هذه الرسائل: «إن الحكماء الفلاسفة الذين كانوا قبل الإسلام تكلموا في علم النفس، ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلوها من لغة إلى لغة، من لم يكن قد فهم معانيها حرفها وغيرها، حتى انغلق فيها فهم معانيها. ونحن قد أخذنا لب معانيها، وأقصى أغراضهم فيها، وأوردناها بأوجز ما يمكن من الألفاظ في إحدى وخمسين رسالة».
وقد نقل الأستاذ أحمد أمين عن مكدونالد أن بعض الباحثين ظن أن هذه الجمعية جمعية باطنية، لما بين ما يجيء فيها أحيانا وبين تعاليم الباطنية من التطابق، وقد عثر المغول عند فتحهم قلعة الموت على كثير من نسخ رسائل إخوان الصفا.
2
وذكر الأستاذ الكونت دي جلارزا في محاضراته بالجامعة المصرية أن أحد إخوان الصفا وهو أبو حيان التوحيدي المتوفى نحو سنة 389ه كان يقول: «إن الشريعة لم تكن كاملة، بل فيها غلطات وجب إصلاحها بواسطة الفلسفة».
ورسائل إخوان الصفا تحتاج إلى درس طويل لمعرفة ما فيها من الأغراض الفلسفية، والدينية، والسياسية، ويكفي أن يعرف القارئ أن الغزالي اطلع على هذه الرسائل، واستفاد منها، وإن صب على أصحابها جام سخطه وغضبه، لأن استفادة المرء من كتاب لا تتوقف على حبه لصاحبه، بل صرح الغزالي بأنه أقبل في أول حياته العلمية على درس ما عرف لعهده من المذاهب والآراء.
الفارابي
هو أبو نصر محمد بن طرخان. وهو فارسي من بلدة تسمى فاراب من بلاد خراسان، جاء إلى بغداد. وأخذ علم المنطق عن أبي بشر متى بن يونان النصراني الذي توفي سنة 328ه، ثم انتقل إلى مدينة حران وتعلم بها الفلسفة، وعاد بعد ذلك إلى بغداد، ثم رحل إلى دمشق وأقام بها أيام سيف الدولة بن حمدان.
قال سلطان (بك) محمد في محاضراته بالجامعة المصرية: «وهو في مقدمة الفلاسفة الإسلاميين الذين طالعوا كتب أفلاطون وأرسطو ووقفوا على أغراضها، وأحسنوا فهمها، يدل لذلك ما حكاه الشيخ الرئيس من أنه عرف غوامض الفلسفة، ووقف على مقاصدها، واستظهر القسم الإلهي منها ولم يقف على حقيقة أغراضه ومباحثه، فسئمته نفسه. وكان ذات يوم لدى الوراقين ومر عليه دلال كتب، وبيده مجلد، وقال له: اشتر هذا. فلما علم أنه في الفلسفة الإلهية، قال لا حاجة لي به. فقال له الدلال: إن صاحبه محتاج إلى بيعه، ويطلب به ثمنا قليلا. وأبيعكه بثلاثة دراهم. قال فأخذته ووجدته تأليف أبي نصر الفارابي، فلما قرأته وقفت منه على أغراض ذلك العلم وفهمته بعد أن مللت الاشتغال به ويئست من فهم أغراضه».
وكان معشوق الفارابي من فلاسفة اليونان أرسطو، حتى قيل إنه وجد كتاب النفس لأرسطو وعليه بخط الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة» ولكثرة شرحه لآراء الفلاسفة لقب بالمعلم الثاني كما لقب أرسطو بالمعلم الأول. وسئل: أنت أعلم أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه. وتوفي الفارابي رحمه الله سنة 339ه وهو يناهز الثمانين.
وللفارابي آثار كثيرة عدا عليها الفناء، ومن مؤلفاته الباقية «آراء أهل المدينة الفاضلة» وهو يحاكي فيه جمهورية أفلاطون.
وقد انتفع الغزالي بمؤلفاته، وإن حكم بكفره مجازفة وبلا دليل.
ابن سينا
هو الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا أشهر فلاسفة المسلمين، توفي سنة 428ه وسنه 58 سنة. وكان من أمهر الأطباء وكتابه «القانون» كان العمدة في الطلب في القرون الوسطى عند الشرقيين والغربيين. وقد عني العرب ببسط آرائه الفلسفية، وبشرح ما دون في الأخلاق، وطبائع النفوس.
ولا ريب في أن الغزالي انتفع بمصنفاته، وإن جازاه جزاء سنمار حيث حكم بكفره، مجاراة للعامة، وطاعة للهوى؛
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ابن مسكويه
ومن الفلاسفة الذين انتفع الغزالي بآرائهم في الأخلاق ابن مسكويه: أبو علي أحمد بن محمد المتوفى سنة 421ه. وهو من فلاسفة المسلمين وله عدة كتب في الأخلاق، أشهرها كتابه المسمى: «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، وهو يقع في 185 صفحة، ويقول في مقدمته: «غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وترتيب تعليمي، والطريق في ذلك أن نعرف أولا نفوسنا ما هي وأي شيء هي، ولأي شيء أوجدت فينا، وما قواها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية ... إلخ».
وابن مسكويه هذا ينقل عن الفلسفة اليونانية بطريقة صريحة، لا لف فيها ولا مداراة، فهو من مجددي فلسفة اليونان مع الحرص بقدر ما يمكن على موافقة الشريعة الإسلامية، وكتابه الذي نوهنا عنه له أثر كبير في تكوين الغزالي من الوجهة العقلية، وقد هممت بوضع مقارنة بين كتابه ذاك وبين كتاب الإحياء، ثم رأيت أن هذا باب إذا أطلته طال، واستنفد وقتا أنا محتاج إليه في غيره من الأبواب، فلأكتف ببعض فقرات نقلها الغزالي عن ابن مسكويه نقلا يشبه أن يكون حرفيا، من غير أن ينوه بالكتاب الذي نقل عنه، وما أدري أكان ذلك مقصودا أو غير مقصود، ولكنه على كل حال دليل على تأثر الغزالي بمؤلفات ابن مسكويه، وإلى القارئ البيان: (1)
يقول ابن مسكويه: «ومن انخدع عن هذه الموهبة السرمدية الشريفة بتلك الخساسات التي لا ثبات لها فهو حقيق بالمقت من خالقه عز وجل، خليق بتعجيل العقوبة، وراحة العباد والبلاد منه».
ويقول الغزالي: «من انفك عن هذه الجملة كلها، واتصف بأضدادها، استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد». (2)
يقول ابن مسكويه: «إن أول ما ينبغي أن يتفرس في الطفل ويستدل به على عقله: الحياء، فإنه يدل على أنه قد أحس بالقبيح، ومع إحساسه به يحذره ويتجنبه، فإذا نظرت إلى الصبي فوجدته مستحييا مطرقا بطرفه إلى الأض، غير وقاح الوجه، ولا محدق إليك، فهو أول دليل نجابته، والشاهد لك على أن نفسه قد أحست بالجميل والقبيح، وهذه النفس مستعدة للتأديب، صالحة للعناية، لا يجب أن تهمل ولا تترك».
ويقول الغزالي: «ومهما رأى مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهورا أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحيي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض، فصار يستحيي من شيء دون شيء والصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه». (3)
يقول ابن مسكويه: «إن نفس الصبي ساذجة، لم تنتقش بعد بصورة، وليس لها رأي ولا عزيمة تميلها من شيء إلى شيء».
ويقول الغزالي: «والطفل أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة». (4)
يقول ابن مسكويه: «ويعلم أن أولى الناس بالملابس الملونة والمنقوشة النساء اللواتي يتزين للرجال، ثم العبيد والخول، وإن الأحسن بأهل النبل والشرف من اللباس البياض وما أشبهه حتى يتربى على ذلك. ويسمعه من كل من يقرب منه، ويكرر ذلك عليه».
ويقول الغزالي: «ويحبب إليه من الثياب البيض دون الملون ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين، وإن الرجال يستنكفون منه، ويكرر ذلك عليه». (5)
يقول ابن مسكويه: «ولا يترك لمخالطة من يسمع منه ضد ما ذكرته، لا سيما من أترابه. ومن كان في مثل سنه ممن يعاشره أو يلاعبه. وذلك أن الصبي في ابتداء نشأته يكون على الأكثر قبيح الأفعال. إما كلها وإما أكثرها. فإنه يكون كذوبا. ويخبر ويحكي ما لم يسمعه ولم يره. ويكون حسودا سروقا نماما لجوجا ذا فضول».
ويقول الغزالي: «ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا الرفاهية، فإن الصبي مهما أهمل خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابا حسودا سروقا نموما لجوجا ذا فضول».
وبين العبارتين فرق صغير، وعبارة الغزالي أدق، لأنها تعلق فساد الطفل على إهمال تربيته وتأديبه. (6)
يقول ابن مسكويه: «ثم يطالب بحفظ محاسن الأخيار والأشعار التي تجري مجرى ما تعوده بالأدب، ويحذر النظر في الأشعار السخيفة وما فيها ذكر العشق وأهله، وما يوهم أصحابها أنه ضرب من الظرف ورقة الطبع، فإن هذا الباب مفسدة للأخلاق».
ويقول الغزالي: «ثم يشتغل في الكتب: فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار، ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظروف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذور الفساد».
ولئن قال قائل إن هذه آراء فطرية، لا تصلح مثالا للنقل والمحاكاة، فإني أجيبه بأن موافقة الغزالي لابن مسكويه في بعض الأبواب موافقة تكاد تكون تامة، تدل على الأقل على أنه صدى لمن قبله، وأن نصيبه من الإبداع قليل .
الفصل الثاني
منبع الصوفية
وما زال الغزالي يكرع من مناهل الصوفية حتى روي، ثم اندفع يحدث الناس بما يفهمون وما لا يفهمون من أصول السلوك وقد صرح في كتاب الميزان، والأربعين، والإحياء، بحدبه على الصوفية، ورفقه بهم، وإشفاقه عليهم. بل أظهر تبعيته لهم، ونسبته إليهم، ثم أخذ يحن إليهم حنين الغريب إلى دياره!
وانظر قوله في منهاج العابدين:
وإن اللمعة التي تظهر منا الآن ليست إلا ممن بقي على منهاج أسلافنا وشيوخنا المتقدمين كالحارث المحاسبي، ومحمد بن إدريس الشافعي، والمزني، وحرملة، وغيرهم من أئمة الدين، رحمهم الله أجمعين. فهم كما قال القائل:
وما صحبوا الأيام إلا تعففا
وما وجدوا من حب سيدهم بدا
أفاضل صديقون أهل ولاية
إلى سيد السادات قد جعلوا القصدا
تحلل عقد الصبر من كل صابر
وما حلت الأيام من عقدهم عقدا
وكنا في الصدر الأول ملوكا فصرنا سوقة، وكنا فرسانا فصرنا رجالا، وليتنا لا ننقطع عن الطريق. والله المستعان على المصائب، وهو المسؤول أن لا يسلبنا هذا الرمق، إنه جواد كريم، منان رحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ص96 و97.
فهل رأيت تحرقا أمر من هذا وألذع؟
أصل التصوف
وهذا التصوف الذي يترسم الغزالي آثار أصحابه ليس في جملته مما تدعو إليه الشريعة الإسلامية، وإنما هو مزيج من عدة مذاهب هندية وفارسية ويونانية، نقلت إلى المسلمين، وصادفت هوى في نفوس الزاهدين منهم، فوسموها اسم الدين، ووضعوا لها على حسابه القواعد والأصول.
ويمكن الحكم بأن ما في التصوف من الدعوة إلى طهارة الباطن، وحب الخير، وبغض الشر، وما إلى ذلك مما يتعلق بخلوص النفس البشرية من خبيث الصفات، يرجع في جوهره إلى روح الإسلام، أما ما يختص بقطع العلائق مع الناس، والتزهيد في الحياة، فهو بعيد عن روح الدين، لأن الإسلام دين فتح وسيطرة، وهو يعد معتنقيه لأن يكونوا سادة، بخلاف التصوف فإنه يلبس أصحابه أرواح العبيد.
أنفاس الصوفية
وإنك لترى الغزالي يحاكي الصوفية في أنفاسهم وخطرات قلوبهم ويسايرهم خطوة خطوة في ذم الناس، وشكوى الزمان ، وأظهر ما يكون هذا في ذم الأتقياء المزيفين، وسترى أنه في كتبه الأخلاقية قد أشرب حب من يسميهم علماء الآخرة، حتى ليصف حاله بهذه الأبيات:
ظفر الطالبون واتصل الوص
ل وفاز الأحباب بالأحباب
وبقينا مذبذبين حيارى
بين الوصال والاجتناب
نرتجي القرب بالبعاد وهذا
نفس حال المحال للألباب
فاسقنا منك شربة تذهب الغم
وتهدي إلى طريق الصواب
يا طبيب السقام يا مرهم الجر
ح ويا منقذي من الأوصاب
لست أدري بما أداوي سقامي
وبماذا أفوز يوم الحساب
ومن هنا نراه ينقل كلمات تحتاج إلى قيد من الشريعة، ويسكت عنها لا يقيدها بشيء. وأكثر ما أنكره عليه معاصروه لم يأته إلا من جهة استسلامه للخطرات الوجدانية، التي علقت بنفسه من قراءة كتب التصوف، حين اعتزل الناس في دمشق وبغداد.
على أن النقاد لم يتركوا له هذا الأديم صحيحا، بل رموه بجهل التصوف، وسلوكه منه في بيداء يضل فيها النسيم، حتى اضطر الزبيدي وغيره إلى أن يثبتوا أنه لم يزد على أن حاكى ما في قوت القلوب والرسالة القشيرية من مختلف الآراء في طرائق السلوك.
قوت القلوب
وأهم الكتب التي تأثر بها الغزالي من بين كتب الصوفية كتاب «قوت القلوب، في معاملة المحبوب» تأليف أبي طالب المكي المتوفى سنة ست وثمانين وثلاثمائة ببغداد ولا يوجد الآن في الأسواق، ومنه نسخة مطبوعة بدار الكتب المصرية نمرة 26772 وهو في مجلدين، يقع الأول منهما في 270 صفحة والثاني في 297.
ويعد هذا الكتاب بحق مصدرا لكتاب الإحياء، ويكفي أن تقرأ باب التوكل مثلا في الكتابين لتعرف أنهما يسيران في طريق واحد، إلى غاية واحدة، حتى لتجدهما يتفقان غالبا في الشواهد من الآيات والأحاديث والأخبار. ويمكن الجزم بأن الغزالي أودع كتاب الإحياء كل ما صح لديه، وحسن عنده، من كتاب قوت القلوب، وإن لم يشر إلى ذلك، وربما ستر هذا بتغيير العناوين. فإذا قال أبو طالب المكي: (ذكر حكم المتوكل إذا كان ذا بيت) قال هو: (بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم). وربما وضع عنوانا لمسألة لم تعنون في قوت القلوب، وقد يضع صاحب القوت مسألة تحت عنوان، فيأتي الغزالي ويدمجها في كلامه، فيخيل إلى القارئ أنها له، ولولا خشية الإطالة لضربنا لذلك الأمثال.
وقد كان قوت القلوب وإحياء علوم الدين موضع رعاية الصوفية على السواء فيما سلف من الأيام. وينقلون عن أبي الحسن الشاذلي أنه قال: كتاب الإحياء يورثك العلم، وكتاب القوت يورثك النور. ولهذا القول وجه من الصواب، فإنك تجد الإسهاب والتفصيل في الإحياء، وتجد الدقة وروعة الإخلاص في القوت، ويمتاز كتاب القوت فيما نرى بحرص مؤلفه واحتياطه فيما يتعلق بمذاهب الصوفية، وبجمال لغته، بخلاف الإحياء، فإنه يغرب في التصوف، وحظ أسلوبه من الدقة قليل.
الرسالة القشيرية
هي رسالة في التصوف لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري المتوفى في 16 ربيع الآخر سنة 465ه. وهي تقع في 186 صفحة. ولها شرح مخطوط بدار الكتب المصرية تأليف شيخ الإسلام زكريا الأنصاري ويسمى هذا الشرح: «أحكام الدلالة في شرح الرسالة».
وقد كتب القشيري رسالته هذه: «إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة» كما قال في المقدمة فهي إذن منشور عام لإصلاح المتصوفة في ذاك الحين، وقد ابتدأها بصرخة تشبه التي نقلناها للغزالي من منهاج العابدين، فهو يقول: «اعلموا رحمكم الله أن المحقين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة في هذه الطريقة، بل اندرست بالحقيقة ... إلخ».
وقد شرح القشيري في بداية هذه الرسالة اعتقاد طائفة الصوفية في مسائل الأصول في التوحيد، ثم ذكر تراجم اثنين وثمانين من مشايخ الصوفية بإيجاز، ثم فسر الألفاظ التي تدور بين هذه الطائفة، وبين ما يشكل فيها على المريدين، كالوقت، والمقام، والحال، والقبض، والبسط، والتواجد، والوجد، والوجود، إلى آخر ما قال.
ثم وضع عدة أبواب في المجاهدة، والخلوة، والعزلة، والمراقبة، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، وما إلى ذلك مما يهم السالكين.
وتمتاز هذه الرسالة بكثرة النقل عن المتقدمين من شيوخ الطريق، وقد صدق الزبيدي فيما رآه من أن الغزالي اعتمد عليها عند تأليف الإحياء، وإن كانت النسبة بين الكتابين بعيدة من جهة المادة، ومن السهل أن يثبت الإنسان أثر هذه الرسالة في أكثر أبواب الإحياء، وما أدري لم لم يشهد الغزالي بذكر مؤلفها ومؤلف قوت القلوب، مع أن فضلهما عليه كبير!
الفصل الثالث
من عرف الغزالي من الصوفية
ويجمل بنا أن نذكر طائفة من الصوفية الذين عرفهم الغزالي ونريد بذلك من قرأ لهم، واستشهد بكلامهم في مؤلفاته، لأن تأثيرهم غير قليل في تكييف أحكامه الأخلاقية، وطبعها بذلك الطابع الصوفي المعروف.
الإمام الشافعي
ولد رضي الله عنه بغزة، ومات بمصر سنة 204ه بعد أن أقام بها أربع سنينن. وكان سنه حين مات 54 سنة. وليس غرضنا أن نتكلم عنه من الوجهة التشريعية، فإن لذلك مجالا غير هذا المجال، غير أنه لا يفوتنا بهذه المناسبة أن نقرر أن كتاب «الأم» الذي ينسب إليه ليس له، وإنما هو من تأليف البويطي كما نص الغزالي في الإحياء.
والذي يهمنا الآن: هو أن نصور الشافعي كما تصوره الغزالي، أي من الوجهة الصوفية، فقد كان رضي الله عنه معروفا بالتقوى، ونسيان الذات، حتى ليقول: «وددت لو أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي منه حرف».
نماذج من كلامه
وإلى القارئ نماذج من كلماته التي جرت مجرى الأمثال. قال رضي الله عنه: «أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه. المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن، من لم تعزه التقوى فلا عز له. سياسة الناس أشد من سياسة الدواب. لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته. ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته. من علامة الصادق في أخوة أخيه أن يقبل علله، ويسد خلله، ويغفر زلله. لا تشاور من ليس في بيته دقيق. لا تقصر في حق أخيك اعتمادا على مروءته، ولا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ودك. من نم لك نم عليك. من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله».
المزني
هو الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني. ولد سنة 175ه وتوفي سنة 264ه تلقى العلم عن الشافعي وصار من ناشري مذهبه. وكان الشافعي يقول فيه: «لو ناظر الشيطان لغلبه!» ونقل السبكي عن عمرو بن عثمان المكي: «ما رأيت أحدا من المتعبدين في كثرة من لقيت منهم أشد اجتهادا من المزني، ولا أدوم على العبادة منه، وما رأيت أحدا أشد تعظيما للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقا على نفسه في الورع، وأوسعهم في ذلك على الناس».
حرملة
هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة ولد سنة 166ه، وتوفي سنة 243ه، وهو من تلامذة الشافعي ورواة حكمه. قال السبكي: «وقد ينفرد حرملة في بعض المسائل ويخرج عن المذهب تأصيلا وتفريعا، كما قد يفعل ذلك المزني وغيره في بعض الأحايين».
المحاسبي
هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى ببغداد سنة 243ه، وهو شيخ الجنيد، ويقول إنه سمي المحاسبي لكثرة محاسبته لنفسه، وقد ألف في الفقه والتصوف والحديث والكلام نحو مائتي كتاب. وكان الجنيد يقول: «كنت كثيرا ما أقول للحارث: «عزلتي أنسي» فيقول: كما تقول أنسي وعزلتي؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا، ولو أن نصف الخلق الآخر نأوا عني ما استوحشت لبعدهم. وأنشد منشد بين يدي الحارث هذه الأبيات:
أنا في الغرب أبكي
ما بكت عين غريب
لم أكن يوم خروجي
من بلادي بمصيب
عجبا لي ولتركي
وطنا فيه حبيبي
فقام وتواجد وبكى حتى رحمه كل من حضره.
ومن كلامه: «خيار هذه الأمة هم الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم. حسن الخلق احتمال الأذى وقلة الغضب، وبسط الرحمة، وطيب الكلام. الظالم نادم وإن مدحه الناس والمظلوم سالم وإن دفعه الناس. القانع غني وإن جاع، والحريص فقير وإن ملك».
الجنيد
هو في نظر الصوفية سيد علماء الآخرة على الإطلاق، توفي سنة 298ه، وكانت له أحوال لا يقرها شرع ولا عقل.
ومن كلامه: «إن الله يخلص إلى القلوب من بره، على حسب ما تخلص إليه القلوب من ذكره. فانظر ماذا خالط قلبك. الغفلة عن الله تعالى أشد من دخول النار. إذا رأيت الفقير فلا تبدأه بالعلم، وابدأه بالرفق، فإن العلم يوحشه، والرفق يؤنسه». •••
وفي كتب الغزالي عدد عظيم من الصوفية، يؤكد بكلامهم رأيه، وكان لأولئك الصوفية مصنفات معروفة، وكلمات مأثورة يتداولها الناس لعهده، وإنه لا شك في انتفاعه بتلك الآثار. والرغبة في الإيجاز هي التي أرضتنا عن الاكتفاء بترجمة هذا العدد القليل.
الفصل الرابع
منبع الشريعة
وأهم المنابع التي استقى منها الغزالي هو منبع الشريعة، ممثلة في الآيات والأحاديث والأخبار. ويرى غير واحد من علماء هذا العصر أن الأخلاق عند الغزالي هي عين الأخلاق الإسلامية، وهذا رأي غير صواب، ولكنهم حملوا عليه بما يرون من إكثاره في مؤلفاته من الآيات والأحاديث، وسترى كيف أخطئوا حين تقرأ ما فصلنا من آرائه في الأخلاق.
ويشمل هذا المنبع فقهاء المسلمين الذين تأثر الغزالي بآرائهم في المعاملات. مع أنه احتاط في النقل عنهم، ولكن هذه الحيطة لا تزيد عن مطالبتهم بمسايرة أصول الشرع الحنيف.
الإنجيل
اطلع الغزالي على الإنجيل، واستفاد منه، واعتمد عليه ما شاء في مؤلفاته. وهذا طبيعي من رجل مسلم أوصاه دينه أن لا يفرق بين أحد من الأنبياء.
ولا عبرة بما كتبه الدكتور زويمر في هذا الموضوع. لأن الدكتور زويمر يريد أن ينسب هداية الغزالي إلى مطالعته للإنجيل مع أن الغزالي لم يضل إلا حين تعلق بأهداب الآداب السلبية التي دعا إليها الإنجيل!
ولتوضيح هذا نذكر أن الآداب التي وضعها الإنجيل غير طبيعية، على معنى أنه لا يمكن أن يسكن إليها بطبيعة أحد من الناس، فالحكمة الإنجيلية التي تقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر؛ حكمة غير معقولة، لا يقرها عرف، ولا يدعو إليها قانون. والحكمة المسيحية التي تقول: من سخرك ميلا فامش معه ميلين؛ حكمة غير ممكنة القبول. ومن المستحيل أن تجد مسيحيا يدير لك خده الأيمن حين تضربه على خده الأيسر، أما المسيحي الذي يتبعك ميلين حين تسخره ميلا فهو نادر الوجود!
ومن المستطرف ما لاحظه الدكتور زويمر على ما رواه الغزالي عن المسيح من أنه مكث يناجي ربه ستين صباحا لم يأكل، فقد قال: الحقيقة أنها أربعون. ولم تتعب نفسك يا سيدي الدكتور في هذا التصحيح؟ المسألة برمتها خيال في خيال، لأن الذي يمكث ستين يوما أو أربعين يوما بلا طعام لا يصلح لشيء في هذا الوجود الزاخر بالجهد والجلاد. وهل يستطيع القسيسون والرهبان أن يحيوا هذه الحياة! وهبهم استطاعوا فما عسى أن تكون منزلتهم بين الأحياء؟
وأي خطأ أفدح من قول الغزالي في الدرة الفاخرة: «اعتبروا بعيسى عيه السلام، فقد قيل إنه لم يملك إلا ثوبا واحدا لبسه عشرين سنة، ولم يأخذ معه في كل سياحاته إلا كوزا وسبحة ومشطا. ورأى ذات يوم رجلا يشرب من نهر بحفنتيه فطرح الكوز ولم يستعمله ثانيا، ثم رأى رجلا يمشط لحيته بأصبعه، فطرح المشط ولم يستعمله ثانيا، وكان يقول دائما: حصاني قدماي، وبيوتي مغائر الأرض، وطعامي خضرتها، وشرابي من ماء أنهارها، ومقري بين بني آدم».
وهذه من الغزالي دعوة مردودة، لأن الإسلام لا يعرف هذا النوع من الحياة، وكيف يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بما روي عن عيسى أنه لم يملك إلا ثوبا واحدا لبسه عشرين سنة، مع أنه من المستحيل أن يبقى الثوب الواحد على جسم المرء عشرين سنة، إلا أن تكون هذه أيضا معجزة، وعفا الله عمن لا يفهم هذه المعجزات!
إن عيسى الذي يصورونه بهذه الصورة شخص خرافي لم يعرفه التاريخ. وإلا فأي أرض يسمح جوها بأن يظل الثوب على صاحبه عشرين عاما لا يبلى، ولا يعرض لابسه لنفرة تلامذته وأصدقائه؟ وكيف يقابل هذا بما روى الغزالي عن المسيح من أنه قال: «إذا كان صوم يوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته، وليمسح شفتيه، لئلا يرى الناس أنه صائم.» فإن في هذا الحديث دعوة إلى كتمان الصوم، والظهور بمظهر الترف، تجنبا للتمدح بمظهر الصيام.
أليس من العجيب أن يصدق الغزالي أن عيسى يقول : من أخذ رداءك فأعطه إزارك، ومن ذا الذي يرضى من المسلمين أو النصارى أن يتأدب بهذا الأدب الغريب؟!
ويستشهد الغزالي بقول عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد، مع أن هذا مناقض للآية الكريمة:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
1
ويستشهد بقول عيسى: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر، والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الخلق للرزق. وهذا يناقض الآية الكريمة:
ولا تنس نصيبك من الدنيا .
2
ومن الواضح أن الذي لا ينسى نصيبه من دنياه يسعى له، ويجد في طلبه.
ونحن بهذه الكلمات لا ننكر نبوة عيسى عليه السلام، وإنما نرجح أن أتباعه جنوا على شريعته، بما زوروا باسمه من الأحاديث وهذه جناية كثيرة الأمثال في الشرائع، فإن الإسلام مع تواتر سنده الأول وهو القرآن، لم يعدم من أصحاب الغفلة وأصحاب الغرض من زوروا الأحاديث باسم النبي حتى كادوا يقضون على ما للدين من قوة الحق، وروعة الجمال.
ونحن كذلك لا ننكر أن المسيحية تدعو إلى الزهد، فإن الدعوة إلى الزهد أصل من أصولها الأولى. ولكنا نرجح أنها كانت تدعو إلى الزهد بقدر ما تفل من حدة الناس وتقلل من جشعهم وطمعهم، فأما الدعوة إلى الفرار من طيبات ما أحل الله فهي دعوة بعيدة الوقوع من الأنبياء والمرسلين.
وكنا نحب أن لا يصدق الغزالي كل ما نقل عن المسيح، ولكن الغزالي كان طيب القلب أكثر مما يجب، وما أحوج العلماء إلى الاعتصام بحبل الشك، فإن الشك وحده سبيل اليقين.
الفصل الخامس
أساتذة الغزالي وأصحابه
وبعد الذي قدمناه من ورود الغزالي للمناهل الفلسفية والشرعية والصوفية: لا نجد بدا من التنبيه إلى أنه اغترف كذلك من المنهل الذي ورده أساتذته وأصحابه. وقد لاحظنا أن الذين تتلمذ الغزالي لهم كانوا في الأغلب صوفية، كما أن أكثر من صحبهم كانوا صوفية .
فمن أساتذته الإمام أحمد بن محمد الرذاكاني، وكان من فقهاء الصالحين، وقد تلقى عنه دروسه الأولى في طوس.
ومن أساتذته الإمام أبو نصر الإسماعيلي، وكان من الأمثلة النادرة في الورع والتقوى، وقد تلقى عنه الغزالي في جرجان، وعلق عنه التعليقة، كما كانوا يقولون.
ومن أساتذته إمام الحرمين، وكان من أتقى أهل زمانه، وقد تلقى عنه الغزالي في نيسابور، ويقال إنه كان يحسد الغزالي، بالرغم من شهادته له بالتفوق والنبوغ.
ومن أساتذته الإمام الزاهد أبو علي الفارمذي من أعيان تلامذة أبي القاسم القشيري وكان أستاذه في التصوف وقد عده السبكي من أصحابه.
هؤلاء وغيرهم من أساتذة الغزالي وأصحابه أثروا في حياته العقلية تأثيرا غير قليل، وطبعوا نظره إلى الحياة بطابع خاص، وفي مقدور القارئ أن يرجع إلى تفصيل حياة هؤلاء الذين اختصرنا أخبارهم في طبقات الشافعية. أما تلامذة الغزالي فسنعود إليهم في غير هذا الباب.
الباب الرابع
في مؤلفات الغزالي
تمهيد
تكلم ابن السبكي في طبقاته عن مؤلفات الغزالي، وتبعه الزبيدي في شرح الإحياء، ثم كتب جرجي زيدان في صدر الجزء السادس من السنة الخامسة عشرة للهلال كلمة مفصلة عن مصنفات الغزالي، وتمتاز هذه الكلمة بشيئين: الأول ترتيب تلك الكتب بحسب موضوعاتها، والثاني الإشارة إلى أماكن وجود النسخ النادرة، مخطوطة كانت أو مطبوعة، إلا أنه لحسن حظ العلم نجد أكثر ما نوه جرجي زيدان بندرته أصبح اليوم في المكاتب والأسواق.
وأهم كتب الغزالي فيما نحن بصدده من درس الأخلاق، «كتاب الإحياء»، وسنكتب عنه كلمة مفصلة وكتاب «ميزان العمل» وهو يقع في 215 صفحة، ونحسبه يفضل في دقته كتاب الإحياء، بل يشبه أن يكون خلاصة له، وميزان العمل هذا مقابل لكتابه «معيار العلم». وقد قال في مقدمته: «لما كانت السعادة التي هي مطلوب الأولين والآخرين لا تنال إلا بالعلم والعمل، وافتقر كل واحد منهما إلى الإحاطة بحقيقته ومقداره، ووجب معرفة العلم والتمييز بينه وبين غيره بمعيار، وفرغتنا منه، وجب معرفة العلم المسعد، والتمييز بينه وبين العمل المشقي، فافتقر ذلك أيضا إلى ميزان، فأردنا أن نخوض فيه ... إلخ» وقد نص على أنه وضع أكثر هذا الكتاب على طريقة التصوف.
ويلي هذين الكتابين في الأهمية كتاب «الأربعين». وهو جزء من كتاب «جواهر القرآن»، كما ذكر صاحب كشف الظنون، وقد وضع بعد الإحياء، وهو قريب منه في الموضوعات وفي التبويب.
ومن مؤلفاته الهامة في الأخلاق كتاب «منهاج العابدين» وهو آخر مصنفاته، ولعل هذا السر فيما احتواه هذا الكتاب من مظاهر الضعف والاضطراب، وقد رأيت كيف اعتلت صحته بسبب العزلة. ونقل الزبيدي عن المسامرة لابن عربي أنه ليس له، وإنما هو لأبي الحسن علي بن عليل السبتي، وسترى بعد قليل ما زور باسم الغزالي من التآليف.
وهناك «التبر المسبوك في نصيحة الملوك»، كتبه للسلطان محمد بن ملكشاه، وعن هذا الكتاب أخذنا رأي الغزالي في آداب الكتابات وواجبات الملوك، وحقوق الوزراء. وسترى بعد كلمة في نسبة هذا الكتاب إلى الغزالي، وهو يقع في 124 صفحة وتجده مشحونا بالأقاصيص، وهي فكرة حسنة في الترغيب والترهيب، ولم يختص بها كتابه هذا، ولكنها فيه أظهر من سواه.
ولا تنس كتاب «المنقذ من الضلال» ففيه صورة صادقة لحياته العقلية، وهو يمثل وجهة نظره فيما شهده من الحركة العلمية في عصره ذاك، وقد كتبه بسذاجة ظاهرة تكشف لنا عن قلب أبيض، ونفس تجيش بالإخلاص.
وكتابه «المستصفى في الأصول» كان المرجع فيما كتبنا عن الحسن والقبيح، وهو كتاب قيم يدل على مبلغه من دقة الفهم، وحسن الأداء.
ورسالته «مشكاة الأنوار» تمثل لنا رأيه في منازل الناس بحسب قربهم أو بعدهم من فهم ما بني عليه العالم من دقائق الجمال، وقد توسع في شرح قوله تعالى:
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
1
إلى آخر الآية.
ويعد الغزالي من أكبر المؤلفين حتى زعموا أن مؤلفاته قسمت على أيام حياته فخص كل يوم أربعة كراريس (!) وأهمها جميعا كما قدمنا هو كتاب الإحياء وهو سبب ما رزق من الخلود.
الفصل الأول
طريقته في التأليف
وللغزالي في التأليف منهج جميل، فهو يشرح أولا المذهب الذي يريد نقده ، وقد بلغ من حرصه على هذا المنهج أن ألف كتابا في مقاصد الفلاسفة، حين هم بتأليف كتاب في تهافتهم، ويقول في كتابه ذاك: «ولنفهم الآن ما نورده على سبيل الحكاية مهملا مرسلا، من غير بحث عن الصحيح والفاسد، حتى إذا فرغنا منه استأنفنا له جدا وتشميرا في كتاب مفرد نسميه تهافت الفلاسفة».
وصنع مثل هذا الصنيع حين رد على الباطنية، وقد ذكر في «المنقذ من الضلال» ص20، 21 أن بعض أهل الحق أنكر عليه مبالغته في تقرير حجتهم، وقالوا: هذا سعي لهم، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات، لولا تحقيقه لها، وترتيبه إياها، وأجاب بأنه استحسن أن يقرر شبهتهم إلى حد الإمكان ثم يظهر فسادها، وهذا منهج لا نسرف إن كررنا أنه جميل.
ومما تمتاز به خطة الغزالي في التأليف، الاعتماد على الخطابيات في إصلاح القلوب، فهو حين يتكلم عن فضيلة من الفضائل، يبدأ بذكر ما ورد في حمدها من الآيات، يعقب بسرد ما جاء عنها من الأحاديث، ثم الأخبار، ثم الآثار، وينطلق بعد ذلك في ذكر القصص والحكايات التي تستولي على قلب القارئ وترسم في نفسه أثر تلك الفضيلة، وما لها من مقام محمود، والأمر كذلك إذا تكلم عن رذيلة من الرذائل، وهو في هذا الباب لا يعتبر مبتكرا، فقد سبقه القصاص، ولكنه آخر عفى على الآولين، وقد رأيت من الأدباء من يستنكر هذه الخطة، وهو استنكار على غير أساس. ويكفي أن نقرأ كتب سميلز الإنكليزي المتوفى في 16 أبريل سنة 1904 تعرف حسن هذا المنهج في رأي المعاصرين، فإني لم أر أحدا يستنكر منهج سميلز في الإكثار من الأقاصيص للترغيب في مكارم الأخلاق.
وتمتاز كتب الغزالي الأخلاقية بأنها صالحة لكل قارئ، فلم يقصد المؤلف وضعها لطائفة معينة، أو فريق خاص، وإنما وضعها لجمهور المسلمين.
وهناك ميزة خطيرة لمؤلفات الغزالي: وهي إقباله على الخيال فهو يحسن ويقبح بطريقة فنية بديعة، تخلب العقول، وتمتع القلوب. وانظر كيف يشبه من يحسب المحسن إنما يحسن باختياره أنه يشبهه بالنملة ترى سواد الخط على البياض يحصل من حركة القلم فتضيف ذلك إلى القلم: إذ حدقتها الصغيرة الضعيفة لا تمتد إلى الأصبع، ومنها إلى اليد، ومنها إلى القدرة المحركة لليد، ومنها إلى الإرادة التي القدرة مسخرة لها، ومنها إلى المعرفة التي يتوقف انبعاث الإرادة عليها، ومنها إلى صاحب القدرة والعلم والإرادة.
1
ويشبه الضعيف القلب بالحمار في معلفه، والدجاج في قفصه يرمق ما تعود من صاحبه، لا يكاد ينفك عن ذلك، وتقاعدت نفسه عن معالي الأمور، وانقطعت همته، فلا يكاد يقصد أمرا شريفا.
2
والذي يعبر بنظره كتاب الإحياء وكتاب الأربعين وكتاب المنهاج، يرى البدائع الفنية، وألوان البيان، في طرق الترغيب والترهيب، وهو يجيد في التخييل حتى يغلب القارئ على أمره، ويشككه في نفسه، ويحمله قهرا على أن يدرس نفسه من جديد، وهذا وجه الخطر في مؤلفات الغزالي، إذ كانت في الأغلب وساوس صوفية غشيت بألوان السحر والفتون، فلا يسلم منها إلا العالمون والأقوياء.
الفصل الثاني
الصوت المردد في مؤلفات الغزالي
ومع محاكاة الغزالي لمن تقدمه من المؤلفين، فإنا نراه يكرر كثيرا الأفكار والعبارات والأمثلة، حتى لنظن بضاعته واحدة، في جميع مؤلفاته، ويمكن الحكم بأن الإحياء، والأربعين، والميزان، والمنهاج، والتبر المسبوك، والأدب في الدين، وبداية الهداية، وجزءا كبيرا من مؤلفاته في الفقه والتوحيد، أقول يمكن الحكم بأن جميع هذه المؤلفات يندر أن تكون بينها فروق جوهرية. ولو أننا وازنا بين كتبه في باب كتاب الإخلاص لوجدنا الأمثلة واحدة، والعبارات واحدة، وإنما تختلف بالإطناب والإيجاز.
وإذ كان الرجل مفتونا بآراء الصوفية فإنا نجد تأثره بهم يختلف اختلافا قليلا بحسب الظروف، فهو في المنهاج، أقرب إليهم منه في الإحياء، فما يحترز منه هنا قد لا يحترز منه هناك.
ونلاحظ أنه ليست هناك غاية موحدة يسعى لنصرتها الغزالي بمصنفاته العديدة. فهو تارة يلوذ بأكناف الشريعة، فيمنع ما تمنع ويبيح ما تبيح. وتارة يساير الصوفية، فينصرهم فيما يسعون اليه من الانفراد بفهم أسرار الوجود، وهو مع ذلك يصرح بأن علم المكاشفة لا يودع الكتب، ولا يصح أن يلقى لغير الخواص!
وينتج مما سلف أن الغزالي ليس من المبتكرين المبدعين، وإنما يمتاز بصبره على قرع ذلك الناقوس الذي أراد أن يوقظ به الناس من سباتهم، وإن لم يكن ذلك الناقوس من صنع يديه، وقد أفاق الناس ولم يروا غير الغزالي، ثم هرعوا إليه، فوجدوا كتاب الإحياء في يمناه، وما زالوا به يحلمون.
الفصل الثالث
كتاب الإحياء
هو أهم ما كتب الغزالي في الأخلاق، ألفه في أخريات حياته حين جنح إلى اعتزال الناس، ثم قرأه في دمشق وبغداد، ووضع له مختصرات عديدة، منها الوجيز، ومنها المبسوط.
وقد أسسه على أربعة أرباع: ربع العبادات، ويشتمل على كتاب العلم، وكتاب قواعد العقائد، وكتاب أسرار الطهارة، وكتاب أسرار الصلاة، وكتاب أسرار الزكاة، وكتاب أسرار الصيام، وكتاب أسرار الحج، وكتاب آداب تلاوة القرآن، وكتاب الأذكار والدعوات، وكتاب ترتيب الأوراد في الأوقات.
وربع العادات، ويشتمل على كتاب الأكل، وكتاب آداب النكاح، وكتاب أحكام الكسب، وكتاب الحلال والحرام، وكتاب آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق، وكتاب العزلة، وكتاب آداب السفر، وكتاب السماع والوجد، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة.
وربع المهلكات: ويشتمل على كتاب شرح عجائب القلب، وكتاب رياضة النفس، وكتاب آفات الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، وكتاب آفات اللسان، وكتاب آفات الغضب والحقد والحسد، وكتاب ذم الدنيا، وكتاب ذم المال والبخل، وكتاب ذم الجاه والرياء، وكتاب ذم الكبر والعجب، وكتاب ذم الغرور.
وربع المنجيات: ويشتمل على كتاب التوبة، وكتاب الصبر والشكر، وكتاب الخوف والرجاء، وكتاب الفقر والزهد، وكتاب التوحيد والتوكل، وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، وكتاب النية والصدق والإخلاص، وكتاب المراقبة والمحاسبة، وكتاب التفكر ، وكتاب ذكر الموت.
ونظرة إلى هذا البرنامج تريك مبلغ عناية الغزالي بكتاب الإحياء، وليس كثيرا أن ذكرنا هذا البرنامج، فإن الإحياء عمدتنا فيما قصدنا إليه من تحرير ما وضع الغزالي في الأخلاق، ومن الخير أن نذكر رأي الغزالي نفسه في ذلك الكتاب الممتع الجامع فقد قال بعد أن بين ما اختطه في شرح العبادات، والعادات، والمهلكات، والمنهجيات: «ولقد صنف الناس في بعض هذه المعاني كتبا، ولكن يتميز هذا الكتاب عنها بخمسة أمور:
الأول:
حل ما عقدوه، وكشف ما أجملوه.
الثاني:
ترتيب ما بددوه، ونظم ما فرقوه.
الثالث:
إيجاز ما طولوه، وضبط ما قرروه.
الرابع:
حذف ما كرروه، وإثبات ما حرروه.
الخامس:
تحقيق أمور غامضة اعتاصت على الأفهام لم يتعرض لها في الكتب أصلا، إذ الكل وإن تواردوا على منهج واحد فلا يستنكر أن ينفرد كل واحد من السالكين بالتنبيه لأمر يخصه ويغفل عنه رفقاؤه».
الفصل الرابع
أغلاط الإحياء
نذكر هنا شيئا من المآخذ التي أخذها المتقدمون على الغزالي فيما يخص كتاب الإحياء، لأن في ذلك بيانا لقيمة هذا الكتاب في نظر المتقدمين، ولأن فيه تمهيدا لما نحن بسبيله من نقد آراء الغزالي في الأخلاق: (1)
نقل السبكي في طبقات الشافعية أن أبا عبد الله المأزري قال وقد سئل عن الإحياء: «إن الغزالي يستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له، مثل قوله في قص الأظفار: تبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة!» (2)
وأنكروا عليه كما نقل الزبيدي، قوله في الإحياء: ليس في الإمكان أبدع مما كان، واستندوا في إنكارهم على أن هذا يوهم عجز الجناب الإلهي، وهو كفر صريح، وإنما انحصر إنكارهم في هذه الوجهة لإغراقها في المباحث الدينية، ولو كان لهم نصيب من العلم والفن لعدوا هذا عقبة في سبيل الاختراع. (3)
ونقل الزبيدي عن الأجوبة المرضية للشعراني أن مما أنكر على الغزالي قوله: يباح للصوفية تمزيق ثيابهم عند غلبة الحال، إن قطعت قطعا مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات، كما يجوز تمزيق الثوب ليرقع به ثوب آخر! وقد أجاب الزبيدي على هذا بجواب مضحك جاء فيه: «وبالجملة فلو كان جميع أموال الدنيا وأمتعتها بيد الفقير ورأى حضور قلبه مع الله تعالى لحظة بإتلافها كلها، بحرقها أو رميها في بحر لكان ذلك بطريق الاجتهاد، ولا لوم إلا على من يمزق ثيابه ويتلف ماله إسرافا وسفها.» وقد فات الزبيدي أن غرض المنكر ليس منصبا على التبديد والإسراف، وإنما هو موجه إلى الخروج من الوقار، فإنه لا مرية في أن غرض الشرع من التجمل إنما يرجع إلى الرغبة في أن يسبغ على المؤمن رداء الجلال. (4)
ومما أنكروا عليه قوله في الإحياء: المقصود بالرياضة تفريغ القلب، وليس ذلك إلا بالخلوة، والجلوس في مكان مظلم، فإن لم يكن مظلما لف رأسه في جيبه، أو تدثر بكساء أو رداء فإنه في مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق تعالى ويشاهد جلال الربوبية (!؟).
وقد تنبه ناقدوه إلى أن التقلل من الطعام قد يورث الجنون! فمن يدرينا أن ما يسمعه المتريض هو نداء الحق، أو أن الذي يشاهدوه هو جلال الربوبية، ومن يضمن أن لا يكون ما يجده هو من الوساوس والخيالات الفاسدة! (5)
وأنكروا عليه كذلك تقريره قول الجنيد: إذا كان الأولاد عقوبة شهوة الحلال، فما ظنكم بعقوبة شهوة الحرام (!). (6)
وأنكروا عليه كذلك تقريره ما حكاه عن بعضهم أنه بات عند السباع في برية ليمتحن توكله على الله هل صح أم لا (!؟) قالوا وكيف جاز له أن يسكت على ما فعله هذا الرجل مع تعرضه لأسباب الهلاك؟ (7)
ومما أنكروا عليه قوله: كان بعض الشيوخ في بدايته يكسل عن قيام الليل، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتصير نفسه بحيث تجيبه إلى قيام الليل اختيارا، وكذلك عالج بعضهم حب المال: فباع جميع أمتعته ورمى ثمنها في البحر خوفا من أن يقع في حب تزكية الناس له، ووصفه بالجود، أو الرياء في فعلها، ولذلك كان بعضهم يستأجر من يشتمه على رؤوس الأشهاد ليعود نفسه الحلم، وكان آخر يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج ليعود نفسه الشجاعة، وكان بعضهم إذا خاف النوم يقف على رأس حائط عال حتى لا يأخذه النوم (!) قال ابن القيم: وإني لأتعجب من أبي حامد هذا كيف يأمر بهذه الأمور التي تخالف ظاهر الشريعة، وكيف يحل لأحد أن يقوم على رأسه طول الليل، وكيف يحل رمي المال في البحر، وكيف يحل سب المسلم بلا سبب، وهل يجوز لمسلم أن يستأجر من يشتمه، وهل يجوز لأحد أن يقوم على رأس جدار عال ويعرض نفسه للوقوع بالنوم فتنكسر رقبته فيموت؟؟ (8)
ومما أنكروا عليه حكايته عن ابن التكريتي شيخ الجنيد أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فشت قلبي، ونفر منه، فدخلت الحمام، وسرقت ثيابا فاخرة ولبستها، ثم لبست مرفعتي فوقها، وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا، فلحقوني وأخذوا مني الثياب، وصفعوني وسموني لص الحمام، فسكنت نفسي (!؟) قال الغزالي: فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله تعالى من فتنة النظر إلى الخلق ومراعاتهم لهم، وأهل النظر إلى النفس وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه، إذا رأوا صلاح قلوبهم في ذلك، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمام (!!) قال ابن القيم: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء؟ فليته لم يحك فيه مثل هذه الأمور التي لا يحل لأحد السكوت عليها، ثم نقل نص الإمام أحمد والشافعي في أن من سرق من الحمام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده. ثم قال: وتعجبي من هذا الفقيه الذي استلب التصوف علمه وعقله، أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب من الحمام! فيا ليت أبا حامد بقي مع قواعد الفقه واستغنى عن هذه الهذيانات. (9)
وأنكروا عليه تقرير ما حكاه عن أبي الحسن الدينوري أنه حج اثنتي عشرة حجة، وهو حاف مكشوف الرأس! قال ابن القيم: وهذا من أعظم الجهل لما في ذلك من الأذى للرأس والرجلين، ولا تسلم الأرض من الشوك والوعر، وكان هؤلاء الصوفية ابتكروا من عند أنفسهم شريعة سموها بالتصوف، وتركوا شريعة محمد
صلى الله عليه وسلم ، فنعوذ بالله من تلبيس إبليس. فإن مثل هذه الحكايات تفسد عقائد العوام، إذ يظنون أن فعل مثل هذا من الصواب. (10)
وأنكروا عليه تقريره عن أبي الخير الأقطع التيتاني قوله: إني عقدت مع الله عهدا أن لا آكل شيئا من الشهوات، فمددت يدي إلى ثمرة في شجرة فقطعتها، فبينما أنا أمضغها إذ ذكرت العهد فرميت بها من فمي ، فدار بي فرسان وقالوا قم! وأخرجوني إلى ساحل بحر إسكندرية، وإذا أمير وحوله خيل وجند، فقالوا أنت من اللصوص، وإذا معهم جماعة من لصوص السودان، فسألوهم عني، فقالوا لا نعرفه، فكذبهم الأمير وشرع يقدم يدا ويقطعها إلى أن وصل إلي وقال لي: تقدم ومد يدك، فمددتها فقطعت إلى آخرها!! قالوا: فانظروا ما يفعل الجهل العظيم بصاحبه، فلو أن عند التيتاني رائحة علم، لعلم أن ما فعله حرام عليه، وليس لإبليس عون على الزهاد والعباد أكثر من الجهل، وما أظن غالب ما يقع لهؤلاء إلا من الجنون. (11)
وأنكروا عليه قوله: إن الاشتغال بعلم الظاهر بطالة (!) قال ابن القيم: هذا جهل مفرط منه. وأصل ذم الصوفية للعلم أنهم رأوا طريق الاشتغال به لا يوصلهم إلى الرياسة إلا بعد طول زمان، بخلاف طريقتهم المبتدعة من لبسهم الزي، وصلاتهم بالليل، وصيامهم بالنهار، وتقصير الثياب والأكمام. (12)
وأنكروا عليه حكايته عن أبي تراب النخشبي أنه قال لمريد له: لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله عز وجل سبعين مرة (!؟) قال ابن القيم: وهذا الكلام فوق الجنون بدرجات. (13)
وأنكروا عليه تقريره لرمي الشبلي ما كان معه من الدنانير في دجلة، وقوله: ما أعزك عبد إلا أذله الله تعالى. قال ابن القيم: وأنا أتعجب من أبي حامد أكثر من تعجبي من هؤلاء الجهلة بالشريعة، كيف يحكي ذلك عنهم على وجه المدح لهم، لا على وجه الانكار، وأي رائحة بقيت من الفقه عند أبي حامد حتى يكتب عنه شيء من العلم؟ فإن الفقهاء كلهم يقولون إن رمي المال في البحر لا يجوز. (14)
وأنكروا عليه تقريره قول أبي سليمان الداراني: إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج، فقد ركن إلى الدنيا (!؟) قالوا: هذه الأشياء الثلاثة مخالفة لقواعد الشريعة. وكيف لا يطلب الحديث وقد ورد: «إن الملائكة لتضع أجنحتها على طلب العلم»؟ وكيف لا يطلب المعاش وقد قال عمر رضي الله عنه: «لأن أموت من سعي رجلي أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا في سبيل الله»؟ وكيف لا يطلب التزويج، وصاحب الشرع
صلى الله عليه وسلم
يقول: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»؟ (15)
وأنكروا عليه تقريره قول أبي حمزة البغدادي: إني لأستحيي من الله أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل، لئلا يكون شبعي زادا تزودت به (!) قالوا: ومن العجب اعتذاره عن أبي حمزة بقوله: كلام أبي حمزة صحيح، ولكن يحتاج إلى شرطين؛ أحدهما: أن تكون للإنسان قدرة من نفسه بحيث يمكنه الصبر عن الطعام أسبوعا ونحوه. الثاني: أن يمكنه التقوت بالحشيش، ولا تخلو البادية من أن يلقاه الذي معه طعام بعد أسبوع، أو ينتهي إلى محلة أو حشيش يجد به ما يقوته. قال ابن القيم: أقبح ما في هذا القول صدوره في فقيه فإنه قد لا يلقى أحدا، وقد يضل، وقد يمرض فلا يصلح له الحشيش، وقد يلقاه من لا يطعمه، وقد يموت فلا يدفنه أحد. (16)
وأنكروا عليه ما أجاب به من سأله عن رجل يدخل البادية بلا زاد حيث قال: هذا من فعل رجال الله، قيل له فإن مات؟ قال: الدية على العاقلة (!) قالوا: هذه فتوى جاهل بقواعد الشريعة، إذ لا خلاف بين فقهاء الإسلام أنه لا يجوز لأحد دخول البادية بغير زاد، وإن فعل ذلك ومات بالجوع فهو عاص مستحق للعقوبة في الآخرة. (17)
وأنكروا عليه أيضا ما حكاه عن شقيق البلخي أنه رأى مع شخص رغيفا ليفطر عليه من صومه فهجره، وقال: تمسك رغيفا إلى الليل! (18)
وكذلك أنكروا عليه قوله: اعلم أن ميل قلوب أهل التصوف إنما هو إلى تحصيل العلوم اللدنية، دون العلوم النقلية، ولذلك لم يحضوا على دراسة العلم، ولا تحصيل ما صنفه المصنفون، وإنما حضوا على الاشتغال بالله تعالى وحده، والاشتغال بذكر الله فقط(!؟) (19)
وأنكروا عليه تفسير قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام .
1
فقد قال: الأصنام الذهب والفضة. وعبادتهما حبهما والاغترار بهما. وواضح أن هذا التفسير بعيد عن المعنى المراد. (20)
وأنكروا عليه أيضا تقريره قول سهل التستري: أن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت النبوة، وأن للنبوة سرا لو ظهر لبطل العلم، وأن للعلماء بالله سرا لو ظهر لبطلت الأحكام والشرائع (!؟).
وأنا أكتفي بهذا القدر من أغلاط الإحياء، ففيه صورة واضحة لآراء العلماء في ذلك الكتاب، وسترى في باب غير هذا أن هذه الحركة العنيفة لم تخمد بموت الغزالي، بل ظلت ثائرة عدة أجيال. وما عجبت لشيء عجبي للزبيدي، فقد تولى تفنيد هذه المآخذ، واحدا واحدا، وهو تعسف ممقوت، يكفي أن تعلم أنه لا يرتكز على قاعدة مسلمة، من عرف أو تشريع، وإنما يستند على قواعد من التصوف بنيت على الماء. ومن أراد التحقق من صحة هذا الحكم فليرجع إلى الجزء الأول من شرح الإحياء، من ص27 إلى ص40.
ومن الأجوبة السخيفة ما أجاب به السبكي عن الغزالي في قص الأظفار فقد قال: وأما ما ذكروه في قص الأظافر فالأمر المشار إليه يروى عن علي كرم الله وجهه غير أنه لم يثبت وليس في ذلك كبير أمر ولا مخالفة شرع، وقد سمعت جماعة من الفقراء يذكرون أنهم جربوه فوجدوه لا يخطئ. ومن داوم عليه أمن من وجع العين. ويرون من شعر علي كرم الله وجهه هذا:
ابدأ بيمناك وبالخنصر
في قص أظفارك واستبصر
واختم بسبابتها هكذا
فافعله في الرجل ولا تمتر
وابدأ بيسراك بإبهامها
والأصبع الوسطى وبالخنصر
ويتبع الخنصر سبابة
بنصرها خاتمة الأيسر
هذا أمان لك قد حزته
من رمد العين كما قد ترى
والسخف ظاهر كل الظهور في هذا الجواب، وإلا فما هي الصلة بين قص الأظافر بهذه الكيفية، وبين الأمن من وجع العين؟ وكيف قال علي بن أبي طالب هذا الشعر السخيف وقد كان من أفصح الناس؟
الواقع أن الغزالي كان فتنة من فتن العصور القديمة، وقد نسي العلماء في الدفاع عنه أن هناك عقلا يجب أن يحكم، وأنه لن يخلو العالم من أصحاب العقول، ولو كره الجامدون!
الفصل الخامس
غفلة الغزالي وعناده
1
أما غفلته فدليلها ما في كتبه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهي تقرب من ستمائة حديث.
وأنا لا أشك في نزاهة الغزالي وبعده من الكذب على رسول الله، فمحال على مثله في ورعه وتقواه أن يزور على النبي حديثا، أو يضع في كتبه أحاديث يعلم أنها من الموضوعات. وحقيقة الأمر أن الرجل كان «يمتاز» بقسط كبير من الغفلة والبساطة، وإلا فكيف صدق أن النبي يقول: «إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ.» وأقل الناس علما بالبلاغة يدرك أن رسول الله لا ينطق بمثل هذا الحديث وكيف يصدق ما روى من أن جبريل نزل فقال: «إن الله يقرئك السلام. ويقول: أتحب أن أجعل هذه الجبال من ذهب فتكون معك اينما كنت؟»
وما لي أطيل في نقد ما جاء في الإحياء مما لا إسناد له من الأحاديث وهي مسطورة في طبقات الشافعية، في ثمان وثلاثين صفحة من الجزء الرابع. والضعف فيها ظاهر لا يحتاج إلى دليل.
2
وأما عناده فدليله إصراره على إبقاء ما جاء في كتبه من الأغلاط ورميه ناقديه بالغباوة، والحسد، والكذب، مع أنه كان يجمل به أن يتأمل نقدهم برفق، ويميز بين الغث منه وبين السمين، ولكنه اندفع كالصخر حطه السيل من شاهق، وأخذ برميهم بالزيغ والفسوق.
وبيان ذلك أنه ما زال يغرب معاصروه في الإنكار عليه حتى ضاق تلامذته ذرعا بذلك، فكتب إليه أحدهم يرجوه دحض تلك المزاعم فصنف كتابا سماه: «الإملاء في إشكالات الإحياء». وما نريد الآن تلخيص هذا الكتاب، فهو في أيدي الناس، وإنما نذكر مقدمته لنرى كيف ابتأس بما فعل أولئك المنكرون، فإن في هذا صورة لجانب من جوانبه الأخلاقية، وهو يدلنا على الأقل على مبلغ ثقته بنفسه، وإيمانه بصحة ما جاء في الإحياء، وعدم اكتراثه بآراء الناس.
قال: «سألت يسرك الله لمراتب العلم تصعد مراقيها، وقرب لك مقامات الولاية تحل مغانيها، عن بعض ما وقع في الإملاء الملقب بإحياء مما أشكل على من حجب فهمه. وقصر علمه، ولم يفز بشيء من الحظوظ الملكية قدحه وسهمه، وأظهرت التحزن لما شوش به شركاء الطغام، وأمثال الأنعام، وأجماع العوام، وسفهاء الأحلام، وعار أهل الإسلام: حتى طعنوا عليه. ونهوا عن قراءته، وأفتوا بمجرد الهوى على غير بصيرة باطراحه ومنابذته، ونسبوا ممليه إلى ضلال وإضلال ونبذوا قراءه ومنتحليه بزيغ في الشريعة واختلال، فإلى الله انصرافهم ومآبهم. وعليه في العرض الأكبر إيقافهم وحسابهم، فستكتب شهادتهم ويسألون،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
1
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا أفك قديم، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. ولكن الظالمين في شقاق بعيد. ولا عجب فقد ثوى
2
دلاء الطريق وذهب أرباب التحقيق، فلم يبق في الغالب إلا أهل الزور والفسوق متشبثين بدعاوى كاذبة، متصفين بحكايات موضوعة، متزينين بصفات منمقة، متظاهرين بظواهر من العلم فاسدة، ومتقاطعين بحجج غير صادقة، كل ذلك لطلب دنيا أو محبة ثناء، أو مغالبة نظراء. قد ذهبت المواصلة بينهم بالبر. وتآلفوا جميعا على الفعل المنكر. وعدمت النصائح منهم في الأمر، وتصافوا بأسرهم على الخديعة والمكر، إن نصحهم العلماء أغروا بهم، وإن صمت عنهم العقلاء أزروا عليهم، أولئك الجهال في علمهم، الفقراء في طولهم، البخلاء عن الله عز وجل بأنفسهم، لا يفلحون ولا ينجح تابعهم، ولذلك لا تظهر عليهم موارثة الصدق، ولا تسطع حولهم أنوار الولاية، ولا تتحقق لديهم أعلام المعرفة، ولا يستر عوراتهم لباس الخشية، لأنهم لا ينالون أحوال النقباء، ومراتب النجباء وخصوصية البدلاء، وكرامات الأوتاد، ولو عرفوا أنفسهم لظهر لهم الحق. وعلموا علم أهل الباطن» ... إلى آخر ما قال.
وبقليل من التأمل نعرف من هذه المقدمة أن الغزالي يصر بعد أن نقده معاصروه على التشبث بأذيال الصوفية. ويمكننا أن نتوقع ما سيجيب به في كل ما أخذ عليه من الوجهة الشرعية، ويجب أن نفهم ذلك منذ الآن، لنخرج كل ما نقلناه في آرائه الأخلاقية من الشذوذ هذا التخريج ولنرجع إسرافه في بعض المواطن إلى هذا الأصل الذي اختاره وارتضاه وهو التصوف وإلا فمن هم النقباء، والنجباء، والبدلاء، والأوتاد، إن لم يكونوا جماعة من المتصوفة الذين يستبيحون ما لا يباح ؟!
ومن أظرف ما أجاب به الغزالي فيما أخذ عليه من الأغلاط النحوية، أنه قليل الخبرة بالنحو، ثم ما أجمل نصحه لتلامذته بأن يصلحوا ما يعثرون عليه من أشباه هذه الأغلاط! ويا ليته نصح بمثل هذا في إصلاح ما ضل فيه من الأحكام!
الكذب على الغزالي
ومما يجب التنبه له أن الغزالي لم يسلم من الكذب عليه فقد وضعت المؤلفات باسمه، واتجر به المضللون. ويذكر الزبيدي من هذه الكتب: «السر المكتوم في أسرار النجوم» وينص على أن هذا الكتاب نسب أيضا إلى الفخر الرازي، وأنه سئل عنه فأنكره. ومما دس على الغزالي كتاب: تحسين الظنون، وكتاب النفخ والتسوية، وكتاب المضنون به على غير أهله. قال السبكي: ذكر ابن الصلاح أنه منسوب إليه، ثم قال: معاذ الله أن يكون له، وبين سبب كونه مختلقا موضوعا عليه. قال الزبيدي: والأمر كما قال، فقد اشتمل على التصريح بقدم العالم، ونفي القديم بالجزئيات، وكل واحد من هذه يكفر الغزالي قائلها هو وأهل السنة أجمعون، فكيف يتصور أنه يقولها؟
وقد ذكر الأستاذ الدكتور علي العناني في محاضراته بالجامعة المصرية أنه يبعد أن يكون «المضنون به على غير أهله» هو ما بأيدي الناس، لأن هذا الكتيب الضعيف لا يدل على المعنى الذي قصده الغزالي من «المضنون به على غير أهله» ويرجح الدكتور العناني أن يكون «المضنون به على غير أهله» كتابا ضخما يشمل آراء الغزالي الفلسفية التي يضن بنشرها على الجمهور.
وعندي أن رأي الدكتور العناني صواب لأمرين: الأول أن الغزالي كان ينصح دائما بأن لا يلقى للعامة غير الكلام البسيط، فمن المعقول أن تكون له آراء خاصة تخالف ما في كتاب الإحياء، وأمثال كتاب الإحياء الثاني ما ذكره الزبيدي من أن كتاب «المضنون به على غير أهله» يشتمل على التصريح بقدم العالم ونفي علم القديم بالجزئيات، فإن هذه المسائل لا توجد في النسخة التي يتداولها الناس. وقد رجح جورجي زيدان في فهرس تاريخ «الآداب العربية» أن كتاب: «التبر المسبوك» مدسوس على الغزالي، وقد حاولت تحقيق ذلك ، فوجدت ما يقرب رأي جورجي زيدان وما يبعده. أما ما يقربه فهو إسقاط اسم من ترجمه من الفارسية. وظهور الكتاب بمظهر الضعف في كثير من الموضوعات، وأما ما يبعده فهو تقارب مادته من مؤلفات الغزالي الأخلاقية، وإحالته على الإحياء في كلامه عن رذيلة الغضب إلا أن يكون من دسه عليه غشى فعلته تلك بهذه القرائن الصناعية، التي توهم القارئ أن لا وضع ولا اختلاق. ومما لا مرية فيه أن مصنفات وضعت باسم الغزالي، فأما عددها فلا يزال مظنة الارتياب.
ولا يفوتنا في ختام هذا الباب أن نذكر القارئ بما لاحظناه فيما سلف من اختلاف آراء الغزالي في كتبه، باختلاف سنه وصحته. فقد وضع مؤلفاته في ظروف مختلفة، كان في بعضها يحكم العقل والشرع، وكان في بعضها يساير الصوفية في أوهامهم ووساوسهم. والرجل في الواقع معذور، فقد كان يؤلف في أوقات لا تصلح مطلقا للتأليف، لأنه يشترط في المؤلف ما يشترط في القاضي من الصحة وهدوء البال.
الباب الخامس
في مباحث تمس الأخلاق
تمهيد
نبين في هذا الباب قيمة العمل في ذاته، شر هو أم خير، حسن أم قبيح، ضار أم نافع. ثم نتكلم عن الإرادة، وعن الضمير، وعن الأغراض والنتائج، والوسائل والغايات. وسبيلنا في هذا الباب أن نجمل الآراء الفلسفية إجمالا لنبين بإزائها آراء الغزالي نوعا من البيان.
الفصل الأول
الخير والشر
العمل الذي يجب أن يعمل، أو يحسن أن يعمل، هو الخير والعمل الذي يجب أن لا يعمل، أو ينبغي أن لا يعمل، هو الشر؛ فللخير درجات، وللشر درجات.
هذه لغة اليوم. أما الغزالي فكان تارة يسمي ما يجب أن يعمل واجبا، وما يحسن أن يعمل مستحبا، وما يجب أن لا يعمل حراما وما ينبغي أن لا يعمل مكروها وما عدا أولئك فهو مباح.
وكان تارة أخرى يقسم الأفعال إلى: حرام، وواجب، ومباح. أما الحرام فهو المقول فيه: اتركوه ولا تفعلوه. وأما الواجب فهو المقول فيه: افعلوه ولا تتركوه. وأما المباح فهو المقول فيه: إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه.
الحسن والقبيح
وربما قسم العمل إلى: حسن، وقبيح، ومباح، وإليك إجمال ما فصله في كتابه «المستصفى في الأصول».
هناك اصطلاحات ثلاثة مختلفة في إطلاق لفظ الحسن والقبيح:
الأول:
إن الأفعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل، وإلى ما يخالفه، فالموافق يسمى حسنا، والمخالف يسمى قبيحا، والثالث يسمى عبثا.
الثاني:
الحسن ما حسنه الشرع بالثناء على فاعله. ويقول الغزالي: يكون المأمور به شرعا، ندبا كان أو إيجابا، حسنا، والمباح لا يكون حسنا.
الثالث:
الحسن ما لفاعله أن يفعله، فيكون المباح حسنا مع المأمورات.
والمقصود من هذه الاصطلاحات الثلاثة هو ما حسنه الشرع أو قبحه. وهنا يجزم الغزالي بأن العمل لا يكون حسنا لذاته، ولا قبيحا لذاته، فيخالف المعتزلة الذين يقولون بأن من الأعمال ما يدرك حسنه بضرورة العقل، كإنقاذ الغرقى والهلكى. ومعرفة حسن الصدق، ومنها ما يدرك قبحه بضرورة العقل: كالكفران وإيلام البريء، والكذب الذي لا غرض فيه.
ويحتج المعتزلة لذلك: بأننا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق والكذب آثر الصدق، ومال إليه إن كان عاقلا، وليس ذلك إلا لحسنه. وإن القوي إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى إنقاذه، وإن كان لا يعتقد أصل الدين فينتظر ثوابا، ولا يوافق ذلك غرضه، فقد يتعب به، بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره المرء إفشاء السر أو نقض العهد.
ويجيب الغزالي: بأنه لا ينكر اشتهار هذه القضايا بين الخلق وكونها محمودة، ولكنه يصر على أن مستندها: إما التدين بالشرائع وإما الأغراض.
مثارات الغلط
ولكن الأغراض قد تدق، فلا يتنبه لها إلا المحققون، من أجل ذلك نبه على مثارات الغلط، وهي ثلاثة:
الأول:
إن الإنسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه، وإن كان يوافق غرض غيره. فإن كل طبع مشغوف بنفسه، فيقضي بالقبح مطلقا، وربما يضيف القبح إلى ذات الشيء، فيكون قد قضى بأمور ثلاثة، هو مصيب في واحد منها، وهو أصل الاستقباح، ومخطئ في أمرين؛ أحدهما: إضافة القبح إلى ذاته، إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفته غرضه، والثاني: حكمه بالقبح مطلقا، ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره بل عدم الالتفات إلى أحوال نفسه، فإنه قد يستحسن في بعض الأحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض.
الثاني:
ما هو مخالف للغرض في جميع الأحوال، إلا في حالة واحدة نادرة، قد لا يلتفت إليها الوهم، بل لا تخطر بالبال، فيراه مخالفا في جميع الأحوال، فيقضي بالقبح مطلقا، لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه، وذهاب الحالة النادرة عن ذكره.
الثالث:
سبق الوهم إلى العكس، فإن ما يرى مقرونا بالشيء يظن أن الشيء أيضا مقرون به مطلقا لا محالة، ومثاله نفرة من نهشته الحية من الحبل المبرقش اللون، لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس، ولذلك ينفر طبع الإنسان من المبيت في بيت فيه ميت، مع قطعه بأنه لا يتحرك، ولكنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه.
نقض حجة المعتزلة
وبعد أن بين الغزالي هذه المثارات أخذ يناقش ما احتج به المعتزلة وهو يرى أن الإنقاذ إنما يترجح على الإهمال في حق من لا يعتقد الشرائع، لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه، وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه، فيستقبحه منه بمخالفة غرضه ويعود فيقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم، فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه، فهو بعيد تصوره. ويبقى أمر آخر: هو طلب الثناء على إحسانه، فإن فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ، فقد يتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا. فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم، فقد يبقى في النفس ميل يضاهي نفرة طبع الملدوغ من الحبل المبرقش، وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون لها على كل حال، والمقرون باللذيذ لذيذ، كما أن المقرون بالمكروه مكروه.
بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان، فإنه يحس من نفسه بتفرقة بين ذلك المكان وغيره، إذا انتهى إليه. ولذلك قال الشاعر:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وقال ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرت لهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وكذلك إخفاء السر، وحفظ العهد. إنما تواصى بهما الناس لما فيهما من المصالح. فمن يحتمل في سبيلهما الضرر فإنما يحتمله لأجل الثناء، فإن فرض حيث لا ثناء، فقد وجد مقرونا بالثناء، فيميل الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليا عنه.
تحرير هذا البحث
هذه خلاصة ما يراه الغزالي في تأييد أهل السنة، وتخطئة المعتزلة. وتكون النتيجة على رأي أهل السنة أنه لا حسن ولا قبح قبل ورود الشرع، وأنه لا ثواب ولا عقاب قبل ورود الشرع، وهذا الرأي خطأ من وجهين:
الأول:
مخالفته لجوهر الشريعة، فإن الشريعة إنما جاءت لهداية الناس، ولا معنى للهداية غير إرشادهم إلى ما حسن أو قبح من الأفعال ليفعلوا الحسن، ويجتنبوا القبيح. ولو كانت الأعمال خالصة في ذاتها من صفة الحسن والقبح، لما كانت هناك حاجة إلى الشرائع، ولكان خيرا للناس أن لا يحملوا أعباء التكاليف.
الثاني:
استهانته بالشخصية الإنسانية، فإنه إذا صح أن لا حكم للعقل قبل ورود الشرع، فإن معنى ذلك أن الشخصية الإنسانية لا تصلح لفهم حقائق الأشياء، وما أدري كيف صلحت بعد ذلك لحمل أمانة الدين الحنيف؟
والواقع أن الأشاعرة يجنون على العقل حين يحكمون بأن التحسين والتقبيح لا يكونان إلا بالشرع، فالزنا عندهم قبيح ، لا لضرره كما يحكم بذلك العقل، بل لأن الشرع حكم بقبحه، وعلى ذلك لو حكم الشرع بحسن الزنا لكان حسنا، ولوجد الأشاعرة من أوجه المغالطة ما يثبتون به أنه حسن، ولهذا الرأي نتيجة من أسوأ النتئاج، وهي الركون إلى ما وقع في الشرائع من الأغلاط، فقد يندر أن تجد شريعة لم تمتد إليها يد التحريف، فإذا شئت أن تتحاكم إلى العقل لتنقي الشرائع من أوشاب المسخ والتشويه، وقف في وجهك الجهال باسم الدين، وقالوا ما لنا وللعقل؟
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون !
1
الضار والنافع
لا يفرق الغزالي بين كلمة شر وكلمة ضار، كما يفعل علماء الأخلاق، فمن الواضح أني قد أعمل عملا ضارا ولكنه غير شر، إذا حسنت النية، وخفي وجه الصواب.
لكن العمل الضار شر مطلقا عند الغزالي، لأن القاعدة عنده أن العمل ليس شرا إلا لأنه ضار، وليس خيرا إلا لأنه نافع نعرف هذا من قوله في ص139 ج3 إحياء: «إن الكذب ليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره.» ونعرفه كذلك من تقسيمه الحرام إلى ما حرم لصفة في عينه، وما حرم لخلل في إثبات اليد عليه: فلا يحرم من المعادن إلا ما يضر بالآكل، ولا يحرم من النبات إلا ما يزيل العقل، أو يضعف الصحة، أو يزيل الحياة، ولا يحرم السم إذا خرج عن كونه مضرا، لقلته، أو لعجنه بغيره. وحرمة المال المغصوب ظاهرة لأن الغصب إيذاء للغير، والإيذاء ضرر.
وإنما كان الضار شرا على كل حال، لأن الحاكم بالخير أو الشر هو الشرع. وعلم الشريعة فرض على كل مسلم، والجاهل لا عذر له إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام، وهو عذر ضيق محدود، لا يوجد إلا في بعض الأحوال.»
العمل والاعتقاد
ولكن إذا غلب المرء على أمره، فاعتقد أن الشر خير، ثم عمل بمقتضى اعتقاده، فماذا عسى أن يكون في رأي الغزالي؟
يظهر لمن تأمل مؤلفاته: أنه يفرق بين الخير في العمل، والخير في الاعتقاد، إذ يراه في ص47 من الجزء الثالث من الإحياء:
إذا حكم قلب المفتي بإيجاب شيء، وكان مخطئا فيه، صار مثابا عليه. بل من ظن أنه تطهر فعليه أن يصلي. فإن صلى ثم تذكر أنه لم يتوضأ كان له ثواب بفعله، فإن تذكر ثم تركه كان معاقبا عليه، ومن وجد في فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها، وإن كانت أجنبية فإن ظن أنها أجنبية ، ثم وطئها، عصى بوطئها وإن كانت زوجته.
ويراه يقول في ص11 من كتابه «المنقذ من الضلال»: «والطبيعيون قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات. وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوان فرأوا فيها من عجائب صنع الله وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم مطلع على غايات الأمور، ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع، ألا ويحصل له هذا العلم الضرروي بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان، ولا سيما الإنسان. إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم لاعتدال المزاج تأثير عظيم في قوى الحيوان، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا، وأنها تبطل ببطلان مزاجه، فتنعدم. ثم إذا انعدمت فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود، فجحدوا بالآخرة. وهؤلاء أيضا زنادقة. لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله وبالرسول واليوم الآخر، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر وإن آمنوا بالله وبصفاته».
وتهافت الغزالي في هذا الحكم واضح، فقد قرر أن من يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء يحصل له العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان والإنسان، فهو إذن أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة ممن لم يطالع التشريح. ولكن الباحث في منافع الأعضاء مضطر إلى أن يؤمن بأثر المزاج فيما يعتري النفس من قوة وضعف، وهو بالتالي مضطر إلى الإيمان بأن النفس تموت. وإذن فهو زنديق فيما يرى الغزالي! وكيف ذلك والغزالي يرى أن من وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها وإن كانت أجنبية!؟
لقد صرح الغزالي في عدة مواطن من كتبه، بأن من حمل على شرب الخمر لا يحد، وصرح في ميزان العمل بأن الأمزجة تشكل الأخلاق؛ فهو يرى الاختيار شرطا للمؤاخذة، كما أوضح ذلك حين تكلم عن حديث النفس في الجزء الثالث من الإحياء، فكيف يحكم بكفر الرجل العالم الذي أقنعه العلم مثلا بأن النفس تموت؟ أيرى الغزالي أن من المحرم شرعا أن يدرس التشريح؟ وإذا كانت الشريعة تدعو إلى تحكيم العقل كما نطق بذلك القرآن ، أفليس معنى ذلك أنه ليس للشريعة أن تضع بنفسها نتيجة ذلك التحكيم، وإلا كان إيمانا بقوة الحديد؟
الحق أن الغزالي مال كثيرا إلى ترضية العامة حين بحث صحة الإيمان، حتى رأيناه يذكر أن المرء قد يتكلم بما هو كفر وهو لا يدري!
وما أغرب قوله في كتابه المنقذ من الضلال: «ثم رد أرسططاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم، إلا أنه استقى أيضا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفق للنزوع منها. فوجب تكفيره، وتكفير متبعيه، من المتفلسفة الإسلاميين: كابن سينا والفارابي، وأمثالهم».
والغزالي الذي أسرف هذا الإسراف في الحكم على الإيمان وفق كل التوفيق حين دعا إلى حسن الظن بالناس. وانظر ما قاله في تحريم الغيبة بالقلب «ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل ... حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر لا يجوز أن يحد، إذ يقال يمكن أن يكون قد تمضمض بها ومجها وما شربها، أو حمل على الشرب قهرا. فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة فلا يجوز تصديقها بالقلب، وإساءة الظن بالمسلم بها».
وعندي أن الرجل لا يكفر إلا إذا عرف الحق وعاند، فأي فليسوف رأى رأيا شاذا عن حسن قصد فهو ناج، ولو كان رأيه يخالف الدين مخالفة صريحة. فكان من الحق على الغزالي أن يقيم الأدلة على ما عند ابن سينا والفارابي من العناد، وسنعود إلى تفصيل هذا الرأي في غير هذا الباب.
مقياس الخير والشر
ومع أن الغزالي قرر أن لا دخل للعقل في حسن العلم وقبحه وإنما الأمر في ذلك للشرع، فقد رأيناه يقيس العمل بمقياس العقل والشرع معا، حين يريد أن يحكم: أخير هو أم شر. فالعمل خير إذا وافق العقل والشرع، وشر إذا خالف العقل والشرع.
ولم يفرد الغزالي بابا لهذا البحث، ولكنه نوه بمدلوله في مواطن كثيرة، فقد جاء في ص81 من ميزان العمل في تعريف السخاء ما نصه: «هو أن يتيسر عليك بذل ما يقتضي الشرع والعقل بذله عن طوع ورغبة ويتيسر عليك إمساك ما يقتضي الشرع والعقل إمساكه عن طوع ورغبة.» وجاء في ص136 من هذا الكتاب ما نصه: «وعماد عفة الجوارح كلها أن لا يطلقها في شيء مما يختص بها إلا فيما يسوغه العقل والشرع وعلى الحد الذي يسوغه.» وقال في ص57 من الجزء الثالث من الإحياء: «وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.» وقال في وصف العمل الصالح: «وذلك بأن يكون موزونا بميزان العقل والشرع» ص22 ج3 إحياء.
إغفال الغزالي لهذا المقياس
هكذا يقاس الخير والشر بمقياس العقل والشرع فيما يرى الغزالي. ولكن ما هو الشرع؟ وما هو العقل؟
إن الغزالي نفسه وضع في الأخلاق أحكاما لا نظنها تستند على عقل أو دين! ولنضرب مثلا بما وضعه لنظام الطعام. جاء في الميزان ص184 ما نصه: «وأما المطعم هو الأصل العظيم. إذ المعدة مفتاح الخيرات والشرور، ولهذا أيضا ثلاث مراتب: أدناها قدر الضرورة وهو ما يسد الرمق ويبقى معه البدن، وقوة العبادة وذلك يمكن تقليله بالعادة تارة بتقليل الطعام شيئا فشيئا حتى يتعود الصبر عنه عشرة أيام وعشرين. وقد انتهى الزهاد في القدر كل يوم إلى حمصة وبعضهم في الوقت إلى عشرين يوما وقيل أربعين. وهذه رتبة عظيمة يقل من يستقل بها.» وقد أطال القول في فضائل الجوع في الربع الثالث من الإحياء حتى قال: «روي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحا لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة، فإذا رغيف موضوع بين يديه فجلس يبكي على فقد المناجاة، وإذا شيخ قد أظله، فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله، ادع الله تعالى لي، فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني! فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي! بل كان إذا خطر لي شيء أكلته من غير فكر ولا خاطر!».
وقال أيضا: «الفائدة السابعة من فوائد الجوع: تيسير المواظبة على العبادة، فإن الأكل يمنع كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل البدن والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه».
ففي الكلمة الأولى نراه يدعو إلى تقليل كمية الطعام حتى تصل إلى حمصة، وتطويل المدة حتى تصل إلى عشرين يوما أو أربعين، ثم يعد هذه الرياضة رتبة عظيمة. فيا ليت شعري، أيرضى بذلك العقل، وهو لا يرضى بأقل من أن يكون المرء حيا، فيه فضائل الحياة من قوة ونشاط؟ أم يرضى بذلك الشرع، وهو لا يرضى بأقل من أن يكون الرجل جنديا يضرب في الأرض، ويحرس الثغور، ويرعب القوم الكافرين؟
وفي الكلمة الثانية يصف عيسى بما لا ينبغي أن يوصف به الأنبياء، وإلا فكيف ينبغي لنبي أن يناجي ربه ستين صباحا بلا طعام وهو مسؤول عن الدعوة إلى دينه، وقلما ينجح في الدعوة ضعيف؟ هذه جرأة في وصف الأنبياء والمرسلين، فما أحسبهم إلا رجالا أشداء تمت لهم صفات الفتوة والرجولة، أما هذه الرهبنة التي تصورها الغزالي فلا تنتج غير الضعف والخمول، وما كان الأنبياء كسالى ولا واهنين.
وفي الكلمة الثالثة يستكثر على المريد أن يضيع وقتا في شراء الطعام وطبخه، ثم غسل يده، وتخليل أسنانه، وما أدري كيف يسير الناس، إذا قاسوا الخير والشر بهذا المقياس!
الواقع أن الغزالي وضع مؤلفاته في الأخلاق مشربة بنزعة صوفية بل صرح بأن مدار أكثر كتابه الميزان على مذهب التصوف . والتصوف ليس مذهب الأحياء، ولكنه مذهب الأموات. وما ظنك بمذهب يجيز للغزالي أن يصور للنظر للمستقبل بهذه الصورة المنكرة حين يقول: «وأرفع الدرجات درجة من لا يلتفت إلى غده ويقصر همته على يومه ويومه على ساعته، وساعته على نفسه، وقدر نفسه كل لحظة مرتحلا من الدنيا أو مستعدا للارتحال».
وما أظن أمة تفهم الأخلاق هذا الفهم، ثم تقدر على الجلاد في عالم الأحياء. ولم يبعد من وصف الأخلاق في رأي الغزالي بأنها أخلاق العبيد!
الفصل الثاني
الإرادة
1
وردت كلمة الإرادة في كتب الغزالي لأغراض متعددة: فتارة يريد بها السلوك في طريق الله، ومنها المريد الذي يرد كثيرا في كلامه ويريد به السالك في ذاك الطريق، طريق الصوفية.
وللإرادة بهذا المعنى شرط يتقدمها: وهو رفع السد الذي بين المريد وبين الحق، وهذا السد فيما يرى الغزالي أربعة أشياء: المال، والجاه، والمعصية، والتقليد.
ويرفع حجاب المال بخروج المريد عن ملكه، حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة. ويرفع حجاب الجاه بالبعد عن مواطنه مع إيثار الخمول. ويرفع حجاب التقليد بترك التعصب للمذاهب. أما المعصية فلا يرفعها إلا التوبة، والندم، والعزم على عدم العود والخروج من المظالم.
والتجرد من هذه الحجب فيما يرى الغزالي كالتطهر للصلاة ولا بد للمصلي من إمام. فكذلك لا بد للمريد من أستاذ، وقد وضع عدة آداب للمريد مع أستاذه، وليس ذلك مما يعنينا الآن. ويكفي أن يعرف القارئ ما يقصد من كلمة مريد التي يكثر دورانها في «الميزان» و«المنهاج» و«الإحياء».
2
وتارة يذكر الإرادة ويريد بها ما ينبعث عن المعرفة ويسخر القدرة، والإرادة بهذا المعنى هي المقصودة عند علماء الأخلاق. ولها عند الغزالي أسماء مختلفة: فنراه حينا يسميها القوة العاملة إذ يقسم قوى النفس الإنسانية إلى قوة عالمة، وقوة عاملة، ويذكر أن الثانية «هي قوة ومعنى للنفس هو مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفعال المعينة الجزئية المختصة بالفكر والروية على ما تقتضيه القوة العالمة النظرية» الميزان ص26.
ونراه حينا آخر يسميها النية. ويعنونها كذلك في الأربعين والإحياء . فلو أنك نظرت في الفهرست لتعرف في أي موضع تكلم عن الإرادة، ثم نظرت في الفصل الذي شرحها فيه، لما رأيتها الإرادة التي يتكلم عنها الأخلاقيون، وإنما رأيتها الإرادة التي عناها الصوفية، واشتقوا منها كلمة مريد. فأما الإرادة التي هي من موضوعات الأخلاق، فاسمها عند الغزالي النية، وله في شرحها كلام طويل.
3
يقول الغزالي: «إن النية والإرادة والقصد، عبارات متواردة على معنى واحد وهو حالة وصفة القلب، ويكتنفها أمران: علم وعمل. والعلم يتقدم لأنه أصل وشرط. والعمل يتبع لأنه ثمرة وفرع. وذلك لأن كل عمل، أعني كل حركة وسكون اختياري لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة. لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من إرادة، ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقا للغرض، إما في الحال، وإما في المآل.» ص381 ج4 إحياء.
ويقول: «النية هي الإرادة الباعثة للقدرة، المنبعثة عن المعرفة. وبيانه أن جميع أعمالك لا تصح إلا بقدرة وإرادة وعلم، والعلم يهيج الإرادة، والإرادة باعثة للقدرة، والمقدرة خادمة الإرادة.» ص162 من الأربعين.
وواضح أن الإرادة كما يراها الغزالي لا تختلف عما نراه الآن فإنك لا تجد فرقا بين كلامه هذا وبين قول جول سيمون: «والواقع أننا لأجل أن نعمل يجب أن نريد، ولأجل أن نريد يجب أن نعرف ماذا نريد، ولماذا نريده.» الواجب ص19.
4
ويقرر الغزالي فوق ما تقدم أنه لا يكفي أن يعلم الإنسان صواب العمل ليريده وينفذه، بل لا بد من أن يقوي في نفسه كون الشيء موافقا له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد أن يفعل، وسلمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه، انبعثت الإرادة، ونهضت القدرة لتنفيذ المراد.
ويقرر كذلك أن نهوض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد، وقد يكون بباعثين اجتمعا في فعل واحد. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد من القوة بحيث لو انفرد لكان كافيا لإنهاض القدرة، وقد يكون كل واحد قاصرا عنه إلا بالاجتماع ! وقد يكون أحدهما كافيا لولا الآخر، ولكن قام الآخر بمعاونته. فالباعث الثاني إما شريك أو رفيق أو معين. ولهذا التقسيم مزية في تقدير ما في العمل من خير أو شر بتقدير البواعث؛ فإن العمل تابع للباعث عليه، فيكتسب الحكم منه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. بل ربما كانت النيات أقوى في التقدير من الأعمال، ومن هنا كانت نية المرء خيرا من عمله، كما جاء في الحديث الشريف، وكما ذكر الغزالي من أن أعمال الجوارح ليست مرادة إلا لتأثيرها في القلب، ليميل إلى الخير، وينفر من الشر.
1
تربية الإرادة
تربى الإرادة فيما يرى الغزالي بتكرار طاعة الميل المحمود وتكرار مجاهدة الميل المذموم. وفي ذلك يقول: «وإذا حصل الميل بالمعرفة فإنه يقوى بالعمل بمقتضى الميل، والمواظبة على مقتضى صفات القلب تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفات، فالمائل إلى طلب العلم أو طلب الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفا، فإن اتبع مقتضى الميل، واشتغل بالعلم، وتربية الرياسة، والأعمال المطلوبة لذلك، تأكد ميله ورسخ، وعسر عليه النزوع. وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر، وربما زال. بل الذي ينظر الى وجه حسن مثلا فيميل إليه طبعه ميلا ضعيفا، ولو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر، والمجالسة، والمخالطة، والمحاورة، تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه. ولو فطم نفسه ابتداء، وخالف مقتضى ميله، لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل، ويكون ذلك دفعا في وجهه حتى لا يضعف ... لأن بين الجوارح والقلب علاقة، حتى إنه ليتأثر كل واحد منهما بالآخر. إلا أن القلب هو الأصل المتبوع، فكأنه الأمير والراعي. والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع».
والغزالي لا يرى للعمل قيمة بغير النية، وإن شئت الإرادة. وإذا كانت النية هي التي تقوم بالعمل، فمن الخير أن تكون قوية، لأنه كما تكون الرغبة في عمل طيب، أو النفرة من عمل خبيث، يكون جزاء العامل: فيكثر أجره إن قوي حبه للخير، وبغضه للشر، ويقل فيما عدا ذلك. وقد نص في عدة مواطن من كتبه بأن المعول على القلوب، حتى لنجده يذكر أن الصغيرة تنقلب كبيرة بالإصرار والمواظبة، أو بالاستهانة بما لها من الخطر. وأن الكبيرة إذا وقعت بغتة، ولم يتفق إليها عود، واستعظمها المرء، كانت مرجوة العفو، وفي ذلك يقول: «فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه، وكراهيته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به. واستصغاره يصدر عن الألف له، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات.» ص33 ج3.
أهمية الارادة
الإرادة شرط للمسئولية، وشرط للجزاء. فالذي يعمل وهو ناس أو غافل لا يجازى ولا يؤاخذ. وإنما كان الأمر كذلك فيما يرى الغزالي: لأن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة، والقلب عند الغزالي هو كل شيء، فليست الحسنة حسنة إلا لأنها تصلحه، أو تزيد في صلاحه، ولسيت السيئة سيئة إلا لأنها تفسده أو تزيد في فساده. والجريمة الهائلة إذا اقترفها المرء وهو مضطرب متردد لا خطر لها عنده، لأن القلب لا يتأثر بما يفعل المرء وهو كاره، والهفوة التافهة عظيمة الخطر إذا أتاها المرء وهو راض مسرور، لأنه بقدر ما تحلو السيئة يعظم أثرها في تسويد القلب وإفساده. والذنب الواحد تختلف قيمته حين يأتيه رجلان: أحدهما عارف به، وثانيهما جاهل له، فهو بالنسبة للأول كبيرة، وبالنسبة للثاني صغيرة، لأن الإرادة تختلف قوة وضعفا باختلاف درجة العلم، إذ كانت ثمرة له.
ويقول الغزالي بعد كلام طويل: «فهكذا يجب أن تفهم تأثير الطاعات كلها، إذ المطلوب منها تغيير القلوب، وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح، فلا تظنن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب. ومن وجد في قلبه رقة على يتيم، فإنه إذا مسح رأسه وقلبه تأكدت الرقة في قلبه.» ص284 ج4.
الجبر والاختيار
وقد اختلف العلماء، ولا يزالون مختلفين، في حرية الإرادة ، فمنهم من يقول إنها مجبورة، ومنهم من يقول إنها مختارة، ومنهم من يحكم بأنها دائرة بين الجبر والاختيار.
وأنا أرجح الرأي الأخير، لأن الواقع أن هناك مؤثرات تحمل الإرادة على الاتجاه إلى جهة معينة، كالوراثة، والصحة، والبيئة، والظروف الخاصة. والإرادة فيما عدا ذلك حرة مختارة، فالذي ورث عن أبيه خلقا من الأخلاق يسير مضطرا إلى ما يوافق ذلك الخلق. والذي يحمله ضعف صحته على اللدد في الخصومة لا يستطيع اجتناب هذه الخصلة. والذي تقضي عليه البيئة التي يعيش فيها باحترام زي خاص، يشعر بالاضطرار إلى التربي بهذا الزي. فأنا أستطيع نزع العمامة لألبس الطربوش، ولكني لا أستطيع لبس القبعة، لأني مقهور على مسايرة الوسط الذي أعيش فيه، وإن زعمت أنني مختار. والذي يقهره ظرف من الظروف على إتيان جريمة من الجرائم غير مختار. وسيرقى القضاء يوما فيحلل الظروف التي وقعت فيها الجريمة ليتبين صحة المسئولية، فكثيرا ما يعاقب المجرم وهو غير مسئول.
فإذا انتفت مواقع الاختيار فالإرادة حرة في الإقبال على الفعل، أو الانصراف عنه. وفي هذه الحالة تصبح للخير قيمته، وللشر قيمته، ويصير الخير جديرا بالمثوبة لأنه أحسن وهو مختار، والشرير خليقا بالعقوبة لأنه أساء وهو مختار. أما المضطر إلى فعل الخير أو الشر لسبب من الأسباب فهو فيما أرى غير أهل للثواب والعقاب.
والغزالي لا يقول بحرية الإرادة حرية مطلقة، ولا يعجزها العجز المطلق. ويقول: «بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا. وخلق الاختيار والمختار جميعا، فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب، وأما الحركة فخلق للرب، ووصف للعبد وكسب له، فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي كسب وصفة. وكانت الحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة فتسمى باعتبار تلك النسبة كسبا. وكيف تكون جبرا محضا وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية؟ أو كيف يكون خلقا للعبد وهو لا يحيط علما بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وإعدادها؟ وإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد في الاعتقاد، وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب.» ص120 ج1 إحياء.
والواقع أن رأي الغزالي هذا لا يفصح عن قيمة ما في أعمال المرء من الاختيار، فهي في رأيه ليست جبرا لأنها تفترق عن الرعدة وهي ليست اختيارا لأن المرء لا يحيط بتفاصيل ما لحركاته من الأجزاء. مع أن الاختيار لا يتوقف إثباته على معرفة الأجزاء والأعداد، لأن العمل الاختياري قد تكون له لوازم ضرورية، لا يتنبه لها المرء، ولا تكون غفلته عنها قادحة في اختياره.
ويقرر الغزالي مع هذا «أن فعل العبد وإن كان كسبا له، لا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه، فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين، ولا لفتة خاطر، ولا فلتة ناظر، إلا بقضاء الله وقدرته، وبإرادته ومشيئته، ومنه الشر والخير، والنفع والضر، والإسلام والكفر، والعرف والنكر، والفوز والخسر، والغواية والرشد، والطاعة، والعصيان، والشرك والإيمان.» ص120 ج1.
2
وأنا لا أفهم ما هو هذا الكسب الذي يقره أهل السنة، ويتبعهم الغزالي في إقراره. فهم لا يقولون بأن العبد مضطر، وإلا كانوا جبرية، والجبرية في رأيهم خاطئون. ولا يقولون بأنه مختار، وإلا كانوا معتزلة، وهم قد سلقوا المعتزلة بألسنة حداد. فلم يبق إلا أن العبد لا هو حر ولا هو مختار، وإنما هو مكتسب، وهذا الكسب أيضا مراد الله. إذن فما الذي بقي للعبد المسكين!
الحق أن هذه وسوسة أوقعهم فيها الخلاف!
وأساس هذه الوسوسة أنهم يحسبون حرية الإرادة خروجا عن الله من ملكوته، والغزالي يضرب المثل بزعيم الضيعة يستنكف أن يكون لأحد العمال رأي معه، وما كان أغناه عن ضرب هذه الأمثال!
إن حرية الإرادة الإنسانية لا تضر الله شيئا، فما بال أهل السنة يأبون إلا أن تكون طرفة عين، وهي حركة طبيعية، أثرا لإرادة الله؟
ولا قيمة لما يجيب به المتعسفون من أن اختراع الله للقدرة كاف في إقرار الكسب للمرء، فإنه لا خلاف في أن الله واهب القدرة، ولكن ليس معنى ذلك أنه يسيرها أنى شاء، ومتى شاء، وإلا كان التكليف ضربا من العبث، ولو كره المتكلفون . فلم يبق إلا أن الإرادة حرة، وذلك هو ما وضع الله من قانون، فلا يبتئسوا بما نقول!
على أن العهد قريب بما قال الغزالي في تربية الإرادة، فإذا كان ما أريده هو ما يريد الله، فأي الإرادتين تربو؟ إن هذا إلا تناقض.
ونعود فنكرر أنه قرر في مكان آخر من الإحياء «أن النية غير داخلة تحت الاختيار»، وقد عرفت أنه يريد بالنية الإرادة، وأن رأيه وسط بين الجبر والاختيار، أفلا يكون متناقضا في حكمه: تارة بأن النية حرة، وتارة بأنها مجبورة؟
الحقيقة أن الإرادة التي يقرر الغزالي أنها غير مختارة ليست هي الإرادة بمعنى القصد، وإنما ذلك ما يسمى إرادة صادقة، وهي التي يعقبها التنفيذ، فمن الجائز أن أقصد إلى أي عمل في أي وقت، ولكن ليس في مقدوري أن أرغب رغبة صادقة في كل ما يعن لي من الأعمال، في جميع الأحيان. وفي ذلك يقول الغزالي: «فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر في بعضها. نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات، فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالبا، ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك. بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد، وغايته أن يتذكر عذاب النار أو نعيم الجنة، فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته».
وخلاصة رأي الغزالي أن المرء حر في الإقبال على ما شاء من الأعمال. وإن كان في إقباله إنما ينفذ إرادة الله، ولكنه ليس صادق النية في كل حين، وإنما تصدق النية بالترغيب في الجنة والتخويف من النار.
ولا يفوتنا أن ننبه على ما دعا إليه في تربية الخلق من مخالطة الأخيار، فإن في ذلك اعترافا ضمنيا بتأثير الوسط في الإرادة الإنسانية، ونقله إياها من حال إلى حال. وهذا نوع من الجبر، ولكنه جبر معقول.
الفصل الثالث
الضمير
هو صوت ينبعث من أعماق الصدور، آمرا بالخير، أو ناهيا عن الشر ، وإن لم ترج مثوبة، أو تخش عقوبة.
والغزالي كما رأيت لا يرى شيئا حسنا لذاته، أو قبيحا لذاته، فالشرع هو المكيف للأعمال حسنا وقبحا، فلا مجال بالطبع لأن يفرد بابا للضمير، إذ كان التكليف إنما ينزل من السماء. والضمائر لا ترد في كلامه إنما يريد بها مكنونات الصدور، وهي والسرائر من باب واحد. والإنسان فيما يرى ليس مسئولا عن مراقبة ضميره، إذ هو لا يعرف الضمير. وإنما يسأل عن مراقبة ربه، وخشيته، في السر والعلانية، فليس هناك جارحة باطنية تدرك بالخير والشر، وإن لم تتعرض لهما الشرائع، وإنما هناك رب يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمرء من خشيته مسئول.
غير أنه لا يصح لنا أن ننسى أن هناك أسبابا لنشوء الضمير، فالفلسفة توجد لدارسها نوعا من الشعور بالمسئولية إزاء بعض الجوانب، والأخلاق توجد للباحث فيها نوعا من إدراك الواجب، والشريعة كذلك تورث المتدين بها نوعا من الوجدان.
ولا نبعد عن الصواب إذا قررنا أن الغزالي يؤمن بالنوع الأخير من الضمير، وإن لم ينوه به، ولم يختصه بالبيان. وإليك قوله في ص85 ج1 من الإحياء: «ومنها أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته، وإدراكه بصفاء قلبه، لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره.» وقد ردد في كتبه هذا الحديث «الإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتوك وأفتوك» وليس ذلك إلا إشادة بهذه الحاسة الباطنية التي يفزع المرء إليها عندما يلتبس عليه وجه الصواب. إلا أنه يجب أن نعرف أن نص الشريعة من كتاب أو سنة هو عنده فوق الفتوى وفوق الضمير.
والحق أن الضمير لا وجود له في ذاته، حتى نؤاخذ الغزالي بإغفاله، وإنما ينشأ من الشرائع الوضعية والسماوية. حتى إنك لتجد لكل شعب ضمائر تخصه بالذات، حسبما توحي التقاليد. فمثلا جريمة السرقة كانت فضيلة عند بعض الشعوب، وكان من تنقصه فيها المهارة عرضة لاحتقار الرأي العام، ولذع الضمير! ونهب مال الغريب لا حرج فيه عند فريق من القبائل البربرية، فمن الواضح أنهم لا يقاسون عند نهبه تأنيب الضمير. بل الشخص الواحد يختلف ضميره باختلاف سنه، فيكون ضميره في سن العشرين، أضعف أو أقوى منه في سن الثلاثين، حسبما توجب الظروف. ومن هنا صح لشاعر أن يقول:
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب
فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب؟
كما صح لغيره أن يقول:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
فلما علاه قال للباطل أبعد
وعندي أن فكرة الضمير إذا صح أن تكون عامة، فيجب أن تقصر على المنافع البشرية. على معنى أن الضمير هو الحاسة التي تتألم لما يتوجع له الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن دينه ووطنه ومذهبه. فإن للإنسانية وشائج لا ينال منها اختلاف المذاهب، ولا تباين اللغات، ولا تباعد الأقطار.
الفصل الرابع
الأغراض والنتائج
هل يكون العمل خيرا باعتبار نتيجته، أو باعتبار المقصود منه؟ وبعبارة أوضح: هل يكون خيرا لأني أردت به الخير، أو لأنه أنتج الخير، وإن لم أرد ذلك؟
ويظهر أنه لاستخلاص رأي الغزالي في الجواب على هذا السؤال، ينبغي أن نسايره في الأعمال المختلفة، لنعرف رأيه في كل نوع منها على انفراد.
وقد رأيناه يقسم أعمال الإنسان إلى طاعات ومعاص ومباحات. أما الطاعات فلا تكون خيرا إلا بالنية، وهي الغرض في التعبير الحديث. ويقول في ذلك: «إن العمل تابع للباعث عليه فيكتسب الحكم منه. ولذلك قيل: «إنما الأعمال بالنيات» لأنها تابعة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم للمتبوع.» وهو يستنتج بناء على هذا الأساس أنه لا قيمة للصوم إذا أراد الصائم الانتفاع بالحمية، ولا للعتق إذا أراد السيد أن يتخلص من مؤونة عبده، ولا للحج إذا أراد المرء أن يصح مزاجه بالحركة والانتقال، ولا للغزو إذا أحب الشخص أن يتعلم أسباب الحروب؛ لأن النية لا تصح عند الغزالي إلا إذا خلصت من الشوائب، وتقرب العبد بها إلى الله. ولا مانع عنده من وجود باعث آخر، ويسميه الباعث النفسي، على شرط أن يكون أضعف من الباعث الأصلي، فإن كان مساويا له صار العمل لا له ولا عليه كما يقول. وإن كان أقوى منه فهو مضر ومفض للعقاب.
والغزالي ينصح بالتدبير قبل الشروع في الطاعة ليعرف المرء أي الباعثين أقوى: باعث النفس أو باعث القربة، وأي النصيبين أوفى: نصيب الله أم نصيب الشيطان. ولكنه يقول: «ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عن خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه، إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص. ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعا».
ويلاحظ أن في هذا تناقضا مع حكمه على العمل الذي غلب فيه الباعث النفسي بأنه مضر ومفض للعقاب، والعمل الذي يضر ويفضي للعقاب، لا يكون تركه منتهى بغية الشيطان، فكان على الغزالي أن يفرق بين العمل في ذاته وبين غرض العامل منه، لأن العمل الطيب غير ضار في ذاته، وإن ساء الغرض منه، والمفروض أننا نتكلم عن أعمال هي في نظر الشرع طاعات، وهي في ذاتها خير ونافعة، فكيف تنقلب بسبب النية ضارة؟
ولم يفرق الغزالي بين الأعمال الاجتماعية والأعمال الفردية، فمن الواضح أن بعض الأعمال يرجع إلى فائدة المرء وحده كالعبادات وبعضها يرجع نفعه إلى جمهور الناس. وما أحسب الغزالي ينهي عن الأعمال الاجتماعية، مهما ساء القصد، إذ لا أقل من أن تكون تمرينا للنفس على عمل الخير. وقد صرح في غير موطن بأن التخلق مفض إلى الخلق، ومتى كان العمل نافعا للناس فالدعوة إليه واجبة، والعامل حر في الاستفادة من حسن نيته إن شاء.
وأما المعاصي فهي شر على كل حال. والغزالي هنا يقدر النتائج، فمن عمل شرا عن جهل فهو آثم، ولا عذر له من جهله لأن الجاهل غير معذور إلا إذا كان قريب عهد بالإسلام، وهذا عدو محدود. وقد علمت أنه يرى أن المعصية شر لأنها ضارة ورأيت كذلك أن فاعل المعصية آثم وإن لم يعلم وجه إثمه، فتحتم أن تكون العبرة هنا بالنتائج لا الأغراض بخلاف الطاعات فقد تنقلب معاصي صرفة إذا خبثت النية، كمن يتعلم العلم ليستميل الناس.
الفصل الخامس
الوسائل والغايات
إذا كانت الغاية شريفة، فلا يجب فيما يرى الغزالي أن تكون الوسيلة دائما شريفة، فالغاية عنده تبرر الوسيلة. وقد أوضح هذا حين تكلم عن المواطن التي يجوز فيها الكذب فقال: «الكلام وسيلة إلى المقصود، فكل مقصود محمود يمكن الوصول إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام إن أمكن التوصل إليه بالصدق، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح، إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا. وكما أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب. ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو صلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بالكذب فالكذب مباح.»
1
وبعد أن بين الحالات الثلاث التي يجوز فيها الكذب كما نص الحديث، وهي الصلح والحرب ومحادثة المرأة، قال: «فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به غرض مقصود صحيح له أو لغيره.»
2
ثم ضرب لذلك الأمثال الآتية: (1)
أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره. (2)
أن يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة ارتكبها بينه وبين الله فله أن ينكر ذلك، إذ للرجل أن يحفظ دمه وماله وعرضه بلسانه، وإن كان كاذبا. (3)
أن يسأل عن سر أخيه فله أن ينكره. (4)
أن يصلح بين الضرائر من نسائه، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه.
وقد تنبه الغزالي إلى خطر هذا الباب، فبين أن الكذب لا ينبغي أن يقترف كلما كانت له فائدة، بل يجب أن تكون فائدته أقوى وأظهر من فائدة الصدق، وإلا وجب أن يكون الرجل من الصادقين. وانظر قوله: «ولكن الحد فيه أن الكذب محظور، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محظور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحظور الذي يحصل بالصدق أشد وقفا في الشرع من الكذب فله الكذب. وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الشرع فيجب الصدق. وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى . لأن الكذب يباح بالضرورة، ولحاجة مهمة. فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم.» ص141 ج3.
غير أن هذه الحيطة لا تلزم الرجل فيما يرى الغزالي إلا إذا كان يترك الكذب لغرض من أغراضه. أما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة بحق الغير، والإضرار به. وهذا من الغزالي نظر بعيد.
وقد استثنى من الكذب للمصلحة، الكذب على رسول الله بوضع الأحاديث في فضائل الأعمال، وفي التشديد في المعاصي، فليس هذا من الأغراض التي تقاوم محظور الكذب على رسول الله، فإن الكذب عليه من الكبائر التي لا يقاومها شيء.
وضع القصص
وبهذه المناسبة، نذكر أن الغزالي صرح في الجزء الأول من الإحياء ص37 «من الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات، ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق» وهو يرى أن «هذه نزعات الشيطان، فإن في الصدق مندوحة عن الكذب» وهذا منه إسراف. بل هو نفسه أول من يؤاخذ على وضع القصص إن كان في وضعها مؤاخذة. ويكفي أن نعرف أنه يذكر في كتبه من قصص الأنبياء والصالحين، ما لم يقم على صحته أي دليل. والرواية الكاذبة ليست أقل خطرا من التأليف!
وكما جاز الكذب في سبيل الغاية، كذلك تجوز في سبيلها الغيبة. وقد صرح الغزالي بجواز الغيبة في المواطن الآتية: (1)
التظلم، فإن من ذكر قاضيا بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة، كان مغتابا عاصيا. أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم، إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به. ولا أدري لم لا تستباح أعراض الظالمين؟ (2)
الاستعانة على تغيير المكروه، ورد المعاصي إلى منهج الطاعة. (3)
الاستفتاء، كما يقول للمفتي: ظلمني أبي أو زوجي أو أخي، وكيف طريقي إلى الخلاص. والأسلم التعريض، ولكن التعيين مباح بهذا العذر. (4)
تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيها يتردد إلى مبتدع أو فاسق، وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه. فلك أن تكشف له بدعته وفسقه. متى كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة لا غير. واحذر أن يكون الحسد هو الباعث! (5)
أن يكون المغتاب مجاهرا بالفسق، بحيث لا يستنكف من أن يذكر له، ولا يكره أن يذكر به.
وهنا يحتاط الغزالي: فيبين أنه ليس لك أن تغتاب المجاهر بفسقه إلا بما يتجاهر به. فمن كان يشرب الخمر فليس لك أن تذكر زناه، إذا كان يستره، وهذا منه نظر دقيق. والغاية الشريفة تبيح النميمة، كما أباحت الكذب والغيبة. فللإنسان أن ينم، إذا كان في النميمة فائدة لمسلم، أو دفع لمعصية. كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به، دفعا للجاني عن المعصية، وردا لحق المأخوذ ماله. والنميمة في هذا المثال إذا كانت ضرا في جانب الظالم، فهي نفع في جانب المظلوم، وهو أولى بالإسعاف. بل دفع الظالم عن الظلم خير له في حاضره، وإبعاد له عن الضر في مستقبله، إذا كان مستعدا للإقلاع عن الفساد.
الباب السادس
في الأخلاق
تمهيد
كلمة أخلاق وجدت قبل الغزالي، ففي الحديث «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقد عرف العرب فيما عرفوا عن اليونان كتابا لأرسطو في الأخلاق، ووضع ابن مسكويه كتابا في صناعة تهذيب الأخلاق، ويوشك كتابه ذاك أن يكون كتابا في علم الأخلاق، على نحو ما كان يفهم اليونان، ومن اقتفى أثرهم من فلاسفة المسلمين.
والذي يعنيني الآن هو علم الأخلاق كما فهمه الغزالي. وأقرر أني بعد مراجعة كتبه لم أجده يساير من تقدمه من مجددي الفلسفة اليونانية، وإنما يفهم من علم الأخلاق شرح طرائق السلوك، وفقا لما سنته الشريعة السمحة، ورسمه الصوفية، ومن نحا نحوهم من الفقهاء. ولعلم الأخلاق فيما يريد أسماء متعددة: فهو تارة يسميه علم طريق الآخرة، وأخرى يسميه علم صفات القلب، وحينا يسميه أسرار معاملات الدين، وربما سماه أخلاق الأبرار، وهو اسم لبعض مؤلفاته. وأهم كتبه في الأخلاق نجده سماه إحياء علوم الدين. فعلم الأخلاق عنده هو تكييف النفس وردها إلى ما رسمته الشريعة وخطه رجال المكاشفة من علماء الإسلام، ومن سبقهم من الأنبياء والصديقين والشهداء.
وإذا كنا نجد ابن مسكويه مثلا يستشهد كثيرا بكلام أرسططاليس وجالينوس، ويتحدث عن الرواقيين، ومن إليهم من الحكماء، فإنا نجد الغزالي يؤيد أبحاثه بكلام ابن أدهم والتستري، والمحاسبي، ومن إليهم من الصوفية، وربما نقل ما روي عن عيسى موسى، ومن إليهم من الأنبياء.
تعريف الخلق
نرى الغزالي في ص56 من «الميزان» يعرف الخلق الحسن بأنه إصلاح القوى الثلاث: قوة التفكير، وقوة الشهوة، وقوة الغضب، ونراه في ص64 منه يعرف الخلق الحسن بفعل ما يكره المرء. ويستشهد بالحديث: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.» وبالآية
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
1
ونراه يقول في ص47: «وأما حسن الخلق فبأن يزيل جميع العادات السيئة التي عرف الشرع تفاصيلها ويجعلها بحيث يبغضها فيتجنبها كما يتجنب المستقذرات، وأن يتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها فيؤثرها ويتنعم بها».
وإنما ذكرنا هذه التعاريف المبهمة، التي لا تغني شيئا في التحديد، لندل على ميل الغزالي إلى الخطابيات، فقد لا تخلو منها صفحة من كتبه في الأخلاق.
ولكنه في ص56 ج3 إحياء عرف الخلق تعريفا دقيقا فقال: «الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا.» ثم ذكر أن الخلق ليس هو فعل الجميل أو القبيح، ولا القدرة على الجميل أو القبيح، ولا التمييز بين الجميل والقبيح. وإنما هو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر عنها الإمساك والبذل. ثم قال: فالخلق إذن هو عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة.
الفصل الأول
تربية الخلق
ليس للغزالي رأي محدود في الفطرة البشرية: فهو تارة يراها خالصة تصلح لكل شيء، وتقبل كل صورة، وتارة يراها أميل إلى الخير منها إلى الشر. يدل على ذلك قوله: «وإذا كانت النفس بالعبادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى القبائح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه، والتزمت المواظبة عليه ؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى، ومعرفته، وعبادته، فهو كالميل إلى الطعام والشراب: فإنه مقتضى طبع القلب، لأنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب عن ذاته، وعارض على طبعه.» ص63 ج3.
وما نريد أن نناقش هذا الرأي بأكثر من أن نلفت النظر إلى أن الميل إلى مقتضيات الشهوة لا يبعد كثيرا عن الميل إلى الطعام والشراب، فهو جزء من الفطرة البشرية، كما أن الميل إلى الخير جزء من الفطرة البشرية، وإنما توجه النفس بمقتضى الظروف. فكما أن المرء لا يشتهي في كل لحظة أن يكون خيرا أو شريرا، وإنما يظهر ميله إلى الخير حين يوجد موجب الخير، ويظهر ميله إلى الشر حين يوجد موجب الشر. بل قد تقوى الموجبات حتى ترد الرشيد غويا أو ترد الغوي رشيدا. ولولا صلاح الفطرة للخير والشر لما احتجنا الى تربية الأخلاق.
كيف يربى الخلق
يرى الغزالي أن من الناس من ولد حسن الخلق بفطرته، بحيث لا يحتاج إلى تعليم، ولا إلى تأديب كعيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، عليهما السلام، وكذا سائر الأنبياء. ولا يبعد فيما يرى أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب، فرب صبي خلق صادق اللهجة سخيا جريئا.
وما أريد أن أناقش الغزالي في حكمه بأن الأنبياء لا يحتاجون إلى التعليم والتأديب، ويكفي أن أذكر أن عصمة الأنبياء - في غير تبليغ الرسالة - كانت مما اختلف فيه العلماء، وأن في القرآن شواهد كثيرة على غفران ما تقدم وما تأخر للنبي
صلى الله عليه وسلم
من الذنوب.
والطريق إلى تربية الخلق فيما يرى الغزالي هو التخلق: أي حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فعليه أن يتكلف فعل الجود: وهو بذل المال، حتى يصير ذلك طبعا له.
والغزالي يهتم كثيرا برياضة النفس على ما يرغب المرء فيه من مكارم الأخلاق، ويرى كسب الخلق بسبب التخلق من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح، ويقول في ذلك:
كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة. وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب. ويعرف ذلك بمثال: وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة صفة نفسية له حتى يصير كاتبا بالطبع، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة، يحاكي الخط الحسن، فيتشبه بالكاتب تكلفا. ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعا، كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفا. فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسنا. ولكن الأول بتكلف، إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب. ثم انخفض من القلب إلى الجارحة، فصار يكتب الخط الحسن بالطبع. وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس، فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه. حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه، فيصير فقيه النفس.
ومن هنا كان الغزالي يرى أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد، لأنها بدون التكرار لا تصبح صفة للنفس. ولا معنى للشقاء المؤبد إلا أن تصير إحدى الرذائل صفة نفسية لأحد الناس.
الفصل الثاني
إمكان تغيير الخلق
لهذا الفصل علاقة ظاهرة بالفصل الذي قبله، فإن تربية الخلق معلقة على إزالة الخلق السيئ. ويرى الغزالي أن تغيير الخلق ممكن ويقول في ذلك تعليقا على قوله عليه السلام: «حسنوا أخلاقكم» لو لم يكن ممكنا لما أمر به، ولو امتنع ذلك لبطلت الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب، فإن الأفعال نتائج الأخلاق، كما أن الهوى إلى أسفل نتيجة الثقل الطبيعي، بل كيف ينكر تهذيب الإنسان مع استيلاء العقل، وتغيير خلق البهائم ممكن إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى التأنس، والفرس من الجماح إلى السلاسة».
ويظهر أن الغزالي شهد من يرى أن الخلق كالخلق لا يمكن تغييره، وإلا كان طمعا في تغيير خلق الله، وقد ذكر في ذلك أن خلق الله قسمان: قسم لا فعل لنا فيه، كالسماء والكواكب، وقسم فيه قوة لقبول كمال بعده، إذ وجد شرط التربية. وتربيته قد تتعلق بالاختيار، فإن النواة ليست بتفاح ولا نخل، ولكنها قابلة بالقوة لأن تصير نخلا بالتربية، وغير قابلة لأن تصير تفاحا، وإنما تصير نخلا إذا تعلق بها اختيار الآدمي في تربيتها ويقول: «فلذلك لو أردنا أن نقلع بالكلية الغضب والشهوة من أنفسنا ونحن في هذا العالم عجزنا عنه، ولكن لوأردنا قهرهما وإسلاسهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه».
أقسام الطبائع
وهو بعد ذلك يقسم الجبلات إلى سريعة القبول، وبطيئة القبول، باعتبار التقدم في الوجود، ويقسم الناس في تغيير الخلق إلى أربع مراتب؛ الأولى: الإنسان الغفل الذي لا يعرف الحق من الباطل والجميل من القبيح. وهو أقل الأقسام للعلاج، فلا يحتاج إلا إلى مرشد وإلى بعث يحمله على الاتباع. الثانية: أن يكون قد عرف القبيح، ولكنه لم يتعود العمل الصالح. بل زين له سوء عمله، يتعاطاه انقيادا لشهواته، وإعراضا عن صواب رأيه، فأمره صعب من الأول، إذ تضاعف علته. فيلزم (أ) قلع ما رسخ فيه من تعود الفساد (ب) وصرف النفس إلى ضده. الثالثة: أن يعتقد أن القبيح حق وجميل. ويرى الغزالي أن هذا لا يرجى صلاحه إلا على الندرة، إذ تضاعفت عليه أسباب الضلال. الرابعة: أن يكون مع وقوع نشوئه على الاعتقاد الفاسد، وتربيته على العمل به، يرى فضله في كثرة الشر، واستهلاك النفوس، ويتباهى بفساده، ويراه مما يرفع قدره. قال الغزالي: وهذا أصعب المراتب وفي مثله قيل: من التعذيب تهذيب الذئب ليتأدب وغسل الأسود ليبيض. ثم قال: فالأول: من هؤلاء يقال له جاهل والثاني: جاهل وضال، والثالث: جاهل وضال وفاسق، والرابع: جاهل وضال وفاسق وشرير.
ولا يفوتنا أن نقرر أن الغزالي لا يريد من تغيير الخلق إلا قهره وإسلاسه، وقد صرح بذلك في قوله:
وظنت طائفة أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها، وهيهات! فإن الشهوة خلقت لفائدة. وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه. ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على إمساك المال. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية، بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط.
كيف يعرف المرء عيوب نفسه
يرى الغزالي أن من كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج.
وإذا كان أكثر الخلق جاهلين لعيوب أنفسهم، حتى إن أحدهم ليرى القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه، فقد وضع الغزالي أربعة طرق لمعرفة عيوب النفس:
الأول:
أن يجلس المرء بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات، ويحكمه في نفسه، ويتبع إشارته في مجاهدته.
الثاني:
أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا فينصبه رقيبا على نفسه، ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما ذكره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة نبهه إليه.
الثالث:
أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدي المساوئ. ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفي عنه عيوبه.
الرابع:
أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما عند الخلق اتهم نفسه به. فإن الطباع متقاربة في اتباع الهوى، وما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله، أو عن أعظم منه، أو عن شيء منه. فليتفقد نفسه ويطهرها عن كل ما يذمه من غيره.
علامات حسن الخلق
يتحاكم الغزالي في هذا الباب إلى القرآن، إذ إن الله تعالى ذكر في كتابه صفات المؤمنين والمنافقين، وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق، وسوء الخلق. وبعد أن سرد جملة الآيات قال: «فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض، فليشتغل بتحصيل ما فقده، وحفظ ما وجده.» ص74 ج3.
والظاهر أنه لا يكفي دائما أن يتحاكم المرء إلى القرآن، فقد تكون هناك خلة واحدة تحتاج إلى تحرير، إذ لا يدري المرء أهو مخطئ في التخلق بها أم مصيب. وقد تنبه الغزالي إلى هذه النقطة في غير هذا الباب، وهو يرى أن المطلوب في علاج البخل مثلا هو «الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية البعد عن الطرفين.» ويقول: «فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحظور، فإن كان أسهل عليه وألذ من الذي يضاده، فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل، فزد في المواظبة على البذل. فإن صار البذل على غير مستحق ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الإمساك. فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك من الالتفات إلى المال، فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء، فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج، أو بذله لحاجة محتاج. ولا يترجح عندك البذل على الإمساك».
1
وفي هذا مغالبة للطبيعة البشرية، وما أحسب خلق الكرم يتطلب أن يتساوى البذل والإمساك، وإنما يحاول الغزالي أن يجعل الفضائل حركات فطرية للنفوس، وهو أمل بعيد.
الفصل الثالث
الطريق إلى تهذيب الأخلاق
يتخذ الغزالي البدن مثالا للنفس: فكما أن البدن إن كان صحيحا فشأن الطبيب تمهيد القانون لحفظ الصحة، وإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه، فكذلك النفس: إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها. واكتساب زيادة صفائها. وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن، الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها؛ فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب، علاجها بضدها؛ فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفا. وكما أنه لا بد من احتمال مرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب، بل أولى، لأن مرض البدن يخلص المرء منه بالموت بخلاف مرض القلب فإنه يدوم بعد الموت أبد الآباد (؟) وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص، ويختلف ذلك بالشدة والغضب، والدوام وعدمه، وبالكثرة وبالقلة، ولا بد من معيار يعرف به مقدار النافع منه، فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد، فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار الدواء مأخوذ من معيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها، أهي ضعيفة أم قوية، فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن، وأحوال الزمان، وصناعة المريض، وسنه، وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها، فكذلك الذي يطيب نفوس المريدين ينبغي أن لا يهجم عليه بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وطريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك المرشد لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد، وفي حاله، وسنه، ومزاجه، وما تحتمله نفسه من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته.
وهذه الطريقة تدل على بصر الغزالي بعلاج الأخلاق، وتدل من جانب آخر على تقدم الطب في ذاك الزمان.
1
وقد فصل طرائق التهذيب باختلاف الطباع، ووضع بجانب كل رذيلة علاجها الخاص. وقد علمنا من ذلك أنهم كانوا يعالجون الكبر إذ ذاك بالسؤال. وهذا فيما أرى استشفاء من داء بداء، فقد يولد السؤال أمراضا في النفس تحتاج في اقتلاعها إلى مجاهدة وعناء، ولكن الصوفية يبيحون ما لا يباح!
الفصل الرابع
غاية الأخلاق
الخير هو ما تعتقد أنه خير، والشر هو ما تعتقد أنه شر، والسبيل إلى هذه العقيدة هو وزن العمل بميزان العقل والشرع ولكن ما هي الغاية من عمل الخير؟ وما هو الغرض من تجنب الشر؟
غاية الأخلاق - فيما يرى الغزالي - هي السعادة الأخروية وقد فصل هذا في الفصل الأول من «الميزان» ويقول في ص117 من هذا الكتاب: «إن السعادة الحقيقية هي الأخروية، وما عداها سميت سعادة، إما مجازا وإما غلطا، كالسعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة. وإما صدقا، ولكن الاسم على الأخروية أصدق، وذلك كل ما يوصل إلى السعادة الأخروية ويعين عليها. فإن الموصل إلى الخير والسعادة قد يسمى خيرا وسعادة.» (؟!).
وهذا يدل على أن الغزالي ليست له غاية اجتماعية: فالذي يسعف مريضا، أو يغيث ملهوفا، أو يأسو جريحا، أو يواسي فقيرا، لا يهمه شفاء المريض، ولا إغاثة الملهوف، ولا برء الجريح، ولا سد حاجة الفقير، ما دامت نيته قد خلصت في عمله، ووثق بجزاء الآخرة! وكل سعادة ينتجها العمل الطيب في هذه الدنيا إنما هي سعادة مجازية، وواجب المرء أن يفهمها كذلك. وله أن يعدها سعادة نسبية، على معنى أن ما يوصل إلى السعادة الأخروية قد يسمى خيرا وسعادة! وقد نص في ص136 من الميزان على أن من يتجنب الفحشاء محافظة على كرامته لا يسمى عفيفا، لأنه لم يقصد بعفته وجه الله، فكل عمله تجارة، وترك حظ لحظ يماثله!
ونسأل الغزالي سؤالين اثنين:
أولا:
إذا أسعفت مريضا وكان لا يهمك برؤه، لأن سعادتك ليست نتيجة لمسعاك في هذه الدنيا، وإنما يهمك أن تصح نيتك فتثاب في أخراك، ألا تكون تاجرا في غايتك الأخلاقية؟
ثانيا:
إذا تركت الزنا توفيرا لكرامتك أو لصحتك، كيف لا تكون عفيفا، ولماذا طلبت العفة، ودعا إليها الشرع؟ أليس ذلك لأن فيها حفظا للصحة، وتوفيرا للكرامة؟ وإذا كنت تتخذ العقل مقياسا للخير والشر، فخبرني أيجد العقل ما يحكم به على ضرر الزنا وأنه شر أكثر من أنه مود بالصحة، ذاهب بالكرامة؟
ونعود فنذكر أن الغزالي سخر ممن يرون السعادة الأخروية في نعيم الجنة، وما فيها من الحور والولدان، وإن نطق بذلك الكتاب، ورأى أن سعادة الآخرة هي رضاء الله. أفلا يصح لنا قياسا على هذا أن نعد الطمع في السعادة الأخروية عند إغاثة الملهوف، وإسعاف الجريح، ينافي ما تسمو إليه الأخلاق، وأن واجب الرجل الخير أن يرى سعادته في سعادة من أغاثه وواساه، لا أن يلقى جزاءه على ذلك في الآخرة، وإن لم تثمر أعماله في الأولى؟
ولا يفوتنا أن نقرر أن فهم الغزالي للغاية الأخلاقية على هذا النحو جعله يخطئ في فهم كثير من أسرار الشريعة، ففريضة الحج مثلا يحسبها الغزالي نوعا من الرياضة الروحية، فتراه يملأ باب الحج من كتاب الإحياء بالأدعية والأوراد، حتى لتجد لكل خطوة يخطوها الحاج دعاء خاصا بها، وحتى لتحسبه غفل عن قوله تعالى:
ليشهدوا منافع لهم
1
إذ تراه يستكثر أن يحج المرء لينتفع بموسم التجارة!
ونظرة صغيرة إلى حرص الشريعة على وحدة المسلمين، ترينا السر في فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا؛ فالتجارة التي تنبه إليها الغزالي ثم استنكرها، ليست شيئا بجانب ما يستفيده المسلمون حين يتلاقى حجاجهم، وينفض كل منهم أخبار قومه ليعرفوا ما يحيط بهم من المشاكل الدولية، وليستعدوا لدرء ما قد يحيط ببعض ثغورهم من خطر. ولكن الغزالي يرى العمل كله في العبادة المجردة، ويرى الجزاء أيضا عبادة مجردة، وكثيرا ما نص الصوفية على أن لذائذ الجنة ليست مادية، ولكنها تسبيح وتقديس وتهليل؟!
الفصل الخامس
هل تورث الأخلاق
قرر الغزالي حين تكلم في التربية أن قلب الطفل «جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة. وهو قابل لكل ما ينقش عليه، ومائل إلى كل ما يمال به إليه. فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك.» ص77 ج3.
وهذا يدل على أن الغزالي يرى أن الفطرة الإنسانية قابلة لكل شيء، وأنه ليس لها قبل التربية أي لون؛ فالخير إذن يكسب بالتربية، والشر يكسب بالتربية. وليس للإنسان بفطرته ميل خاص: لا إلى الشر، ولا إلى الخير، وإنما يسعد أو يشقى بما يقدم إليه أبواه ومعلموه.
ويؤيد هذا قوله في تهذيب الأخلاق: «وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وإنما تعتري المعدة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلا صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل. وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا، وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم.» ص64 ج3.
ولكنا نجد الغزالي يقرر في ص127 من «الميزان» أن النسب الديني أمارة الديانة وحسن الخلق، لأن العرق نزاع. ونجده كذلك يحض في تربية الطفل على أن تكون المرضع امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال «فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، إذا وقع عليه نشوء الصبي انعجنت طينته من الخبث، فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث» ص77 ج3.
وهذا صريح في الحكم بوراثة الأخلاق، إذ لا يمكن أن تعتبر الرضاعة نوعا من الأدب والتدريب، إذ كانت تسبق الإدراك والتمييز. يضاف إلى هذا أنه يقرر أن الطفل قد يشاهد عليه الميل إلى الحياء، وإنه يجب استغلال هذه الغريزة فيه. ومن الواضح أنه لو كانت الفطرة جميعا خالصة من كل الميول، لكان واجبا أن يغرس الحياء في الطفل بالتربية والرياضة. لا أن ينمى، إذ لا ينمى غير الموجود.
ومما تقدم نرى للغزالي رأيين مختلفين في وراثة الأخلاق؛ فهو حين يقرر أن قلب الطفل جوهرة ساذجة خالية من كل نقش، وقابلة لكل صورة، يحكم بأن الأخلاق لا تورث. وحين يدعو إلى أن ترضع الطفل امرأة متدينة يحكم بأنها تورث؛ فهل يمكن رفع ما بين هذين الأمرين من ظاهر الخلاف؟
تحرير هذا البحث
الواقع أن الغزالي لم يعن بهذا البحث، لذلك كان كلامه فيه متناقضا، غير محدود. ولو أنه عني به عناية خاصة لبين لنا أن الأخلاق تورث، وأن هذه الوراثة لا تمنع من قبول الطفل لكل صورة. فالفطرة البشرية صالحة لكل غرس ، لأن الأخلاق التي يرثها الطفل من أبويه تولد معه ضعيفة ميسورة الاقتلاع، بل الكهول يقدرون على استئصال رذائلهم بالرياضة والمجاهدة، والطباع التي يرثها المرء من أبويه لا تعاوده إلا عند خمود مزاياه التي كسبها بنصح أساتذته، أو تأثير بيئة صالحة ساقته إليها الأقدار.
إذن لا تناقض في كلام الغزالي إلا من حيث الظاهر، فهو يقول بوراثة الأخلاق في ثنايا آرائه المبعثرة هنا وهناك، وإن كان يجعل للتربية السلطان الأكبر في تكوين النفوس.
الباب السابع
في الفضائل
تمهيد
نتكلم في هذا الباب عن تحديد الفضيلة، وبيان أمهات الفضائل وما لها من الفروع، ثم نذكر طائفة من الفضائل التي عني بدرسها الغزالي: كالصدق، والصبر، والتوكل، والخمول، وما إلى ذلك مما تدور عليه حياة الأفراد، وينبني عليه الاجتماع، ليرى القارئ ما يسمو إليه في تصور المثل الأعلى للحياة.
تحديد الفضيلة
لا يفرق الغزالي بين كلمة فضيلة، وكلمة خلق، فهما عنده عبارة عن هيئة النفس، وصورتها الباطنة.
وأساس الفضيلة فيما يرى يرجع بعضه إلى ما أخذ عن أرسطو وبعضه إلى ما أخذ عن أفلاطون. فهو يأخذ عن أرسطو نظرية (التوسط) التي يسميها الاعتدال، فقوة الغضب مثلا إن مالت عن الاعتدال، إلى طرف الزيادة سميت تهورا، وإن مالت إلى الضعف سميت جبنا، فأما إن ظلت وسطا بين الزيادة والنقصان فهي الشجاعة. فالمحمود هو الوسط، وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان، كما يقول.
ولا يجمد الغزالي على هذه النظرية حتى يعترض عليه بأن من الفضائل ما لا وسط له، بل يقرر أن العدل ليس له طرفان: زيادة ونقص، بل له ضد واحد، ومقابل واحد: هو الجور.
ويأخذ عن أفلاطون نظرية المماثلة، أي مشابهة الله، فإن الله فيما يرى أفلاطون: هو الوحدة التي تجتمع فيها وتتصالح جميع كمالات المخلوقات. والرجل الفاضل عند أفلاطون هو الذي ينظر إلى الله بلا انقطاع كما ينظر الفنان إلى الأنموذج. والغزالي يقرر أن المرء يقرب من الله بقدر ما يقرب من رسول الله، ومعنى ذلك أن الرسول جمع مكارم الأخلاق، وقد حضنا على أن نتخلق بأخلاق الله، ما عدا الكبرياء. فمشابهة الرسول واحتذاؤه عند الغزالي تماثل تماما مشابهة الله عند أفلاطون.
وأخذ أيضا عن أفلاطون نظرية التوافق
Ľharmonie
ويسميها العدل. والتوافق عند أفلاطون هو تناسب القوى والملكات لتكمل في المرء جوانبه الخلقية. وإليك ما يقول الغزالي فيما يشابه هذا المعنى: «وكما أن حسن الصورة الظاهرة لا يتم مطلقا بحسن العينين دون الأنف والفم والخد، بل لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق، فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق، وهي: قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة. وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث. أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الجميل والقبح في الأفعال. فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة، والحكمة رأس الأخلاق الحسنة. وأما قوة الغضب فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها في حد ما تقتضيه الحكمة. وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة، أعني إشارة العقل والشرع».
ويجب أن نتنبه إلى هذه الكلمة الأخيرة، وهي «إشارة العقل والشرع» فإن الغزالي يدمج فيها التوافق والمماثلة معا؛ أما المماثلة فهي في لفظ الشرع، وقد وضع لهذا أخلاق الرسول ممثلة في القرآن. وأما التوافق فهو لفظ العقل، إذ يرجع كل الملكات إلى طاعته. وانظر قوله «فالعقل مثاله الناصح المشير وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي. والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة، ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإرشاد».
والأمر كذلك في قوة العلم وقوة الشهوة. وقد نص في «الميزان» على أن العدل عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب واستشهد بالقول المأثور: بالعدل قامت الأرض والسموات، وهذا الترتيب الواجب خاضع للعقل بالطبع، وهذا ما يراد بنظرية التوافق.
أمهات الفضائل
أصول الفضائل فيما يرى الغزالي أربعة: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. وقد نص على أنه يعني بالحكمة حالة للنفس بها يدري الصواب من الخطأ في جميع الأحوال الاختيارية. ويعني بالعدل حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة. ويعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها. ويعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
ولهذه الأصول فروع، كما يرى الغزالي، فمن اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير، وجودة الذهن، وثقاب الرأي، وإصابة الظن، والتفطن لدقائق الأعمال، وخفايا آفات النفوس.
وأما خلق الشجاعة فيصدر عنه: الكرم، والنجدة والشهامة، وكسر النفس، والاحتمال، والحلم، والثبات، وكظم الغيظ، والتودد.
وأما خلق العفة فيصدر عنه: السخاء، والحياء، والصبر، والمسامحة، والقناعة، والورع، واللطافة، والمساعدة، والظرف، وقلة الطمع.
وقد نص في «الميزان» على أن الحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، والعدل عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب «فليس جزءا من الفضائل، بل هو عبارة عن جملة الفضائل».
1
وقد لحظ الغزالي أن في هذه الفروع شيئا من الغموض، فكتب في شرحها ثلاثة فصول مطولة في الميزان، وبين معها كذلك ما ينشأ من الإفراط والتفريط، من أنواع الرذائل، وسنرجع إليها في غير هذا الباب.
الفضائل السلبية
في مقدورنا أن نقسم الفضائل إلى إيجابية وسلبية: فالأمل فضيلة إيجابية، لأنه يحمل صاحبه على العمل في سبيل الحياة. والزهد فضيلة سلبية، لأنه يرضي صاحبه بما قد يكون عليه من سوء الحال.
وبعد أن نفهم هذا ننظر في الفضائل التي عني بدرسها الغزالي، فنجدها في الأغلب فضائل سلبية: من ذلك فضيلة الفقر، وفضيلة الزهد، وفضيلة التوكل، وفضيلة الخوف، وفضيلة الخمول، وفضيلة التواضع، وفضيلة الجوع.
ولم يعن الغزالي بشرح الفضائل الإيجابية: كالشجاعة، والإقدام، والحرص، وما إلى ذلك مما يحمل المرء على حفظ ما يملك، والسعي لنيل ما لا يجد. فإنه لا يكفي أن يسلم الرجل من الآفات النفسية، بل يجب أن يزود بكل مقومات الحياة. وخير للمرء أن يوصم برذائل القوة من أن يتخلى بفضائل الضعف. فإن الضعف شر كله، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
الفضائل الفردية
ويمكننا أن نقسم الفضائل إلى فردية واجتماعية، فالقناعة فضيلة فردية، لأنها تخص صاحبها بالذات. والأمانة فضيلة اجتماعية لأن المرء يحتاج إليها حين يعامل الناس.
والغزالي يعنى في الأغلب بالفضائل الفردية، حتى لتحسبه يكتب مؤلفاته لأفراد يعيشون في عزلة وانفراد. فلو أنك أردت أن تدخل في عالم السكون لوجدت لدى الغزالي من آداب الوحدة والعزلة ما يقنعك ويرضيك. ولكنك لو أردت أن تدخل في عالم السياسة لما وجدت لديه فكرة واحدة يمكن أن تكون نبراسا يهتدي به الساسة من الوزراء والسفراء.
درجات الأخلاق
وبعد معرفة أمهات الفضائل وما لها من الفروع، يخطر بالبال هذا السؤال: هل يرى الغزالي أن في مقدور المرء أن يصل إلى أعلى درجات الأخلاق؟
ونجيب بأنه يرى ذلك في مقدور المرء، وانظر قوله:
وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكا مطاعا يرجع الخلق كلهم إليهم، ويقتدون به في جميع الأفعال. ومن انفك عن هذه الجملة كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد.
والدرجة العليا عنده هي درجة النبوة، والصوفية فيما يرى يقربون من هذه الدرجة، وإليك ما يقول عنهم في كتابه «المنقذ من الضلال»:
ولو جمعوا عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرتهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
وأظن أننا هدمنا هذا الحكم من أساسه بما أسلفنا من نقد أحوال الصوفية، فإن ما استحسن الغزالي من أحوالهم لا يمكن أن يكون مقتبسا من نور مشكاة النبوة، وهل كانت النبوة يا هذا وساوس وأضاليل؟ تعالت النبوة عما تصفون!
أين مقياس العقل والشرع؟ هاته، هاته: فهو وحده فصل الخطاب!
الفصل الأول
فضيلة الصدق
ابتدأ الغزالي الكلام على هذه الفضيلة بقوله تعالى:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
1
وبقوله عليه السلام: «إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا.» ثم قال: ويكفي في فضيلة الصدق أن الله تعالى وصف الأنبياء به في معرض المدح والثناء فقال:
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا . وقال:
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا . وقال:
واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا .
مراتب الصدق
للصدق فيما يرى الغزالي ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين. فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق ، ومن صدق في شيء فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه.
الأول:
صدق القول. وهو أشهر أنواع الصدق ولا يجوز العدول عنه إلا لمصلحة. كتأديب الصبيان والنساء ومن يجري مجراهم. وفي الحذر من الظلمة، وفي قتال الأعداء، والاحتراز من اطلاعهم على أسرار الملك. قال الغزالي: «فمن اضطر إلى شيء من ذلك فصدقه فيه أن يكون نطقه لله فيما يأمره الحق به، ويقتضيه الدين. فإذا نطق به فهو صادق، وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه. لأن الصدق ما أريد لذاته، بل للدلالة على الحق والدعاء إليه. فلا ينظر إلى صورته، بل إلى معناه. نعم في مثل هذا الموضع ينبغي أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليها سبيلا. فقد كان رسول الله إذا توجه إلى سفر ورى بغيره كيلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصد. وليس هذا من الكذب في شيء. قال رسول الله: «ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا ونمى خيرا.» ورخص في النطق على وفق المصلحة في ثلاثة مواضع: «من أصلح بين اثنين. ومن كان له زوجتان. ومن كان في مصالح الحرب. والصدق ههنا يتحول إلى النية، فلا يراعى فيه إلا صدق النية وإرادة الخير».
الثاني:
صدق النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله.
الثالث:
صدق العزم. فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل، فيقول: إن رزقني الله مالا تصدقت بجميعه، أو شطره، فهذه العزيمة قد يصادفها في نفسه وهي جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فالصدق هنا عبارة عن التمام والقوة.
الرابع:
صدق الوفاء بالعزم، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد والعزم، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت الشهوات، انحلت العزيمة، ولم يحصل الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه.
الخامس:
صدق الأعمال، وهو أن تكون أعمال المرء الظاهرة صورة لحالته الباطنة. بخلاف أعمال الرياء.
السادس:
الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف والرجاء والزهد والرضا والتوكل والحب، لأن أمثال هذه الأمور مبادئ يطلق بظهورها الاسم، ثم لها حقائق، والصادق من نال الحقائق ... وفي هذا المعنى شيء من الغموض.
الفصل الثاني
فضيلة الصبر
يرى سقراط أن الفضيلة أساسها العلم، فمتى علم الإنسان الخير فعله، ومتى عرف الشر تركه. ويقرب رأي الغزالي من هذا في أساس الصبر، إلا أنه يشترط أن تصل المعرفة إلى اليقين حتى تثمر الصبر وإليك قوله في هذا المعنى: «ترك الأعمال المشتهاة عمل يثمره حال يسمى الصبر، وهو ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة. وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضادتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة. فإذا قوي يقينه، أعني المعرفة التي تسمى إيمانا، وهو اليقين بكون الشهوة عدوا قاطعا لطريق الله تعالى قوي باعث الدين، وإذا قوي ثباته تمت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة.
1
وقال في موطن آخر: «والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين أن المعصية ضارة، والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية، والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى.»
2
ويذكر أميل بوراك في كتابه:
Cours Elémentaires de philosophie
ص343 أن العلم لا يكفي أساسا للفضيلة، فمعرفة الواجب لا تكفي للقيام به. بل لا بد من حبه وإرادته إرادة حرة ثابتة. وهذا التقييد يساوي ما اشترط الغزالي من اليقين، لأن المرء متى تيقن نفع شيء أحبه أو كاد يحبه. ويرى الدكتور منصور فهمي والأستاذ عبده خير الدين أن المعرفة التي يراها سقراط أساس الفضيلة لا بد أن تكون المعرفة الجازمة التي تورث الإرادة ثم التنفيذ. وإذن فلا اعتراض على سقراط.
أسماء الصبر
ويقرر الغزالي أن الصبر تختلف أسماؤه باختلاف ما يصبر المرء عنه، فهو جماع كثير من الفضائل، أو هو نصف الايمان. فإن كان صبرا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة. وإن كان في احتمال مكروه سمي صبرا، وضده الجزع. وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس، وضده البطر. وإن كان في الحرب سمي شجاعة، وضده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلما، وضده التذمر. وإن كان في نائبة مضجرة سمي سعة الصدر وضده الضجر. وإن كان في إخفاء كلام سمي كتمان السر. وإن كان عن فضول سمي زهدا، وضده الحرص. وإن كان صبرا على يسير من الحظوظ سمي قناعة، وضده الشره.
درجات الصابرين
وللإنسان بالنسبة للصبر ثلاثة أحوال:
الأولى:
أن يقهر داعي الهوى، فلا تبقى له قوة المنازعة، ويتوصل إلى هذه الحال بدوام الصبر.
الثانية:
أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين، وهي أسوأ الأحوال.
الثالثة:
أن تكون الحرب سجالا بين الهدى والضلال.
حكم الصبر
ويقسم الصبر باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم؛ فالصبر عن المحظورات فرض، وعن المكروهات نفل، والصبر على الأذى المحظور محظور، كمن تقطع يده أو يد ولده فيسكت ويصبر، وكمن يقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته، فيصبر عن إظهار الغيرة، ويسكت على ما يجري على أهله. فهذا الصبر محرم. والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع، كنظر الأجنبي الى امرأته.
ضرورة الصبر
ويرى الغزالي أن المرء محتاج إلى الصبر في كل حال: فهو يحتاج إليه في السراء، كما يحتاج إليه في الضراء. بل هو إليه في السراء أحوج، فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية. والصبر هنا يكون بأن يراعي المرء حقوق الله في ماله بالإنفاق، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق، وفي لسانه ببذل الصدق.
والطاعة تحتاج إلى صبر، لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية. وللصبر على الطاعة ثلاث أحوال: الأولى قبل الطاعة، وذلك تصحيح النية والإخلاص، والصبر على شوائب الرياء، والعزم على الإخلاص والوفاء. والثانية حالة العمل، كي لا يفتر قبل الفراغ منه. والثالثة بعد انتهائه إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به، والنظر إليه بعين العجب.
ويحتاج المرء إلى الصبر عن المعاصي، وعلى الأخص التي صارت مألوفة بالعادة، إذن تنضاف العادة إلى الشهوة. ثم إن كانت المعصية مما يسهل فعله كان الصبر عنها أثقل على النفس، كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء، والثناء على النفس تعريضا وتصريحا، والمزح المؤذي للقلوب.
والصبر على أذى الناس فضيلة، وأعظم منه الصبر على أنواع البلاء: كموت الأعزة، وهلاك الأموال، وزوال الصحة.
ويرى الغزالي أن توجع القلب، وبكاء العين لا ينافي الصبر، لأن ذلك مقتضى البشرية، ولا يفارق الإنسان إلى الموت.
والذي كفى جميع الشهوات واعتزل الناس لا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد. ويريد الغزالي بهذا أن يؤكد احتياج المرء إلى الصبر في جميع الأحوال والأفعال.
تحصيل الصبر
ويمكن تحصيل الصبر بإضعاف باعث الشهوة، وتقوية باعث الدين. ويضعف باعث الشهوة بتقليل مادته من حيث النوع والكثرة، أو قطع أسبابه، أو تسلية النفس بمباح من جنس ما يشتهيه. ويقوى باعث الدين بأمرين؛ الأول: إطماعه في فوائد المجاهدة بالتفكر في الأخبار الوارددة عن الصبر وعواقبه. والثاني: أن يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى حتى يمرن على جهاده ومقاومته.
الفصل الثالث
فضيلة الخمول
الغزالي يسمي الخمول فضيلة، ويخيل إلي أنه لا فضل فيه!! ولكن تسمية الغزالي هذه تدلنا عن شيء خاص يوضح رأيه في الأخلاق: ذلك أنه حين دعا إلى الخمول لم يدع إلى التجرد من الخصائص الذاتية التي توجب ذيوع الشهرة وبعد الصيت، وقد خص الشهرة المذمومة بما يأتي من طريق التكلف. وهو لا ينكر أن يشتهر المرء بعمله في غير جلبة ولا ضوضاء.
وقد نبه بلطف إلى أن حسن السمعة قد يفسد المعلمين بنوع خاص، فقد يعود المعلم على كثرة الطلبة، فيفتر نشاطه حين يقلون. وفي هذا المعنى يذكر عن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام. ولم ينس الغزالي أن التجمهر حول الأمراء فتنة لهم، وذلة لتابعيهم، فذكر في هذا المعنى كلمة جامعة لعمر بن الخطاب.
ويقول الغزالي: «فإن قلت فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء، فكيف فاتتهم فضيلة الخمول؟ فاعلم أن المذموم طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم. نعم فيه فتنة على الضعفاء، دون الأقوياء، وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم، فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم، فيهلك معهم. وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فيحييهم ويثاب على ذلك».
فالرجل الخير فيما يرى الغزالي هو الذي لا يعرف غير الواجب ولا يهمه أقبل الناس عليه، أم أعرضوا عنه، لأنه بالواجب مشغول.
الفصل الرابع
فضيلة التوكل
كتب الغزالي عن التوكل أربعا وخمسين صفحة في الإحياء وثلاث عشرة صفحة في كتاب الأربعين، وسبعا وعشرين صفحة في منهاج العابدين. وهو يبالغ في المنهاج أكثر مما يفعل في الأربعين والإحياء، فإن كلامه في الكتابين الأخيرين واحد، وإن اختلف في الإيجاز والإطناب، وكثيرا ما يحيل في الأربعين على الإحياء.
وأول ما نلاحظه أن الغزالي اهتم بهذه الفضيلة، حتى احتاج إلى أن يعتذر عن تطويله في كتاب المنهاج، إذ كان التطويل يخالف شرط ذلك الكتاب. وهذا الاهتمام نفسه يوضح لنا جانبا من أهم الجوانب في فهمه للحياة.
ونقرر منذ الآن أن ما كتبه عن التوكل صريح في الدعوة إلى الرهبنة، وقطع العلائق مع الناس، والتدرج على احتمال الظمأ والجوع، والاقتناع بأن الموت من جملة الأرزاق!
ونحن نعلم أن العلماء يجب أن يضربوا الأمثال بأنفسهم للناس كما فعل عمر حين خرج بعد الخلافة يتجر في الأسواق، ولكن الغزالي يقول: «فالاهتمام
1
بالرزق قبيح بذوي الدين، وهو بالعلماء أقبح، لأن شرطهم القناعة. والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل من كسبه، فذلك له وجه لائق العالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل، ولم يكن له سير بالباطن، فإن الكسب يمنع عن السير بالفكر الباطن، فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى، فإنه تفرغ لله عز وجل، وإعانة للمعطي على نيل الثواب.» ص286 ج4.
ولو أنه دعا الحكومات إلى الأخذ بيد العلماء، وإغنائهم عن السعي إلى الرزق لتنحصر جهودهم في نشر العلم، لكان له قسط من الصواب. أما زعمه أن الكسب يمنع من السير بالفكر الباطن، وأن الأولى للعالم أن يكتفي بما يعطيه الناس ليعينهم على نيل الثواب، فهو رأي يهوي بصاحبه إلى الحضيض، ولا يتناسب مع مكانة العلماء.
كراهة السؤال
مع أن الغزالي يبيح للعالم السؤال ليعين المعطي على نيل الثواب، فإنا نجده في مكان آخر يقرر أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح لضرورة، أو حاجة قريبة من الضرورة، لأن في السؤال إظهار الشكوى من الله بإظهار الفقر، ولأن السائل يذل نفسه بسؤاله، وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله، ولأنه يؤذي المسئول: فقد لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب. فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ.
ويمكن الحكم بأن الغزالي يحتاط أبلغ احتياط في إباحة السؤال، ولكن يبقى أنه من إهانة العلم والدين أن يقبل المرء بكليته على العبادة أملا في أن يطعمه سواه، فإنه لا يعقل أن تكون نوافل العبادات مما يترك في سبيله طلب المعاش، حتى يباح لأجلها السؤال.
2
حكم الكسب
والغزالي مع هذا لا يرى الكسب منافيا للتوكل في كل حال، فمن الخطأ فيما يرى أن «يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، وكاللحم على الوضم، وهذا ظن الجهال ، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف يقال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين؟» وقد بين أن الإنسان في سعيه إلى مقاصده إما أن يكون لجلب نافع هو مفقود عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادخار، أو لدفع ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق، أو لإزالة ضار قد نزل به. كالتداوي من المرض.
والنافع باعتبار الأسباب التي يجلب بها ثلاث درجات: مقطوع به، ومظنون ظنا يوثق به، وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه.
والأولى:
كالأسباب التي ارتبطت لها المسببات بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف، كمن يرى الطعام موضوعا بين يديه وهو جائع. ثم لا يمد إليه يده، لأنه يرى السعي إلى تناوله ومضغه تفويتا للتوكل، وهذا فيما يرى الغزالي جنون «إنك إن انتظرت أن يخلق الله فيك شبعا دون الخبز، أو يخلق في الخبز حركة إليك، أو يسخر ملكا ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله. وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتا من غير بذر، أو تلد زوجتك من غير وقاع، فكل ذلك جنون».
والتوكل في هذا المقام - كما نص الغزالي - لا يكون بالعمل، بل بالعلم، ومعنى ذلك أنه لا يجوز لك ترك الأسباب، وإنما تعلم أن الله هو مسبب الأسباب.
والثانية:
الأسباب التي ليست متيقنة، ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها، وكان احتمال حصولها دونها بعيدا، كمن يترك الأمصار والقوافل، ويسافر في البوادي التي يندر أن يطرقها الناس، ويكون سفره من غير زاد، فهو ليس شرطا في التوكل، بل استصحاب الزاد سنة الأولين، ولا يزول التوكل به.
وقد أسرف الغزالي حين تحدث عن هذا الموقف في المنهاج، وانظر ماذا يقول: «فإن قلت: فهل تدخل البادية بلا زاد؟ فأقول: إن كان لك قوة قلب بالله تعالى واثقة بالغة بوعد الله سبحانه وتعالى، فادخل، وإلا كن كالعوام بعلائقهم.» ص82.
ولو أننا رجعنا إلى ما وضعه من آداب المسافر لعلمنا أنه احتاط هناك، فحث المسافر على أن يأخذ حاجته من الزاد، ثم أوصاه بأن يأخذ حاجته من الزاد، ثم أوصاه بأن يأخذ قدرا يوسع به على رفقائه، فكيف يصبح المسافر بزاده في البادية من العوام؟ ومن عسى أن يكون هؤلاء العوام المؤدبون؟
وقد توقع الغزالي أن يسأل عن حمل رسول الله وأصحابه للزاد، ولكنه تفضل فأجاب بأن ذلك مباح غير حرام! ثم توقع أن يسأل: هل ترك الزاد أولى أم أخذه لمن قوي يقينه؟ وأجاب في المنهاج بأن الترك أفضل، وأنا لا أعلم لهذا الفضل أساسا غير التنسك الذي ينكره العقل، ويأباه الدين!
ولم يفت الغزالي أن يذكر أن هذه المجازفة قد تكون إلقاء بالأيدي إلى التهلكة، فأجاب بأن شرطها أولا رياضة النفس حتى تحتمل الجوع أسبوعا أو ما يقاربه، وثانيا أن يكون المتوكل بحيث يقوى على التقوت بالحشيش، وما يتفق من الأشياء الخسيسة، إذ لا يخلو الأمر من أن يجد آدميا في بحر الأسبوع أو ينتهي إلى محلة، أو قرية، أو إلى حشيش يجتزئ به!
وأحب أن يذكر القارئ هذه الصورة الغريبة، فإن الغزالي يدعو إليها جمهور المسلمين!
وانظر كيف يقول: «فإن قلت فما قولك في القعود في البلد بغير كسب. أهو حرام أو مباح أو مندوب؟ فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأن صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكا نفسه، فهذا كيف كان لم يكن مهلكا لنفسه حتى يكون فعله حراما. بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، ولكن قد يتأخر عنه، والصبر ممكن إلى أن يتفق. ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه، ففعله ذلك حرام. وإن فتح باب البيت وهو غير مشغول بعبادة، فالكسب والخروج أولى له. ولكن ليس فعله حراما إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب. وإن كان مشغول القلب بالله غير مشرف إلى الناس، ولا متطلع إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزقه، بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل».
وما أدري كيف يتفق هذا مع قوله في نفس الصفحة: فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة، وجهل بسنة الله تعالى؟ إلا أن يكون السؤال من الأسباب، وهو سبب مهين!
وأحب أيضا أن يذكر القارئ هذا التناقض في الجمع بين التوكل وبين السؤال! وكيف تقوم لأمة قائمة وهي تربى على هذه الأخلاق!
ثم ما هو الفرق بين من يترك الطعام عند وجوده، وبين من يدخل البادية بلا زاد؟ لا فرق إلا أن الثاني قد يجد من يتصدق عليه، أو يجد حشيشا يقتات به! ولو ذكر الغزالي أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن الله كرم بني آدم وحملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات، لما اختار لامرئ هذا الحظ الخسيس، ولما وضع هؤلاء المشردين في طبقة المتوكلين.
والدرجة الثالثة:
ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه. يقول الغزالي: «وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها، وهو الذي فيه الناس كلهم، أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح».
3
وإذا كان الاحتيال لكسب المباح مما ينافي التوكل، فقد انهدم أعظم ركن في بناء الممالك والشعوب. والغزالي يردد النفرة من الحيلة لكسب الرزق، وقد لاحظنا ذلك عليه حين تكلم عما يجمل بالتاجر من أن لا يكون أول داخل في السوق ولا آخر خارج منه.
ونرى الحاجة ماسة إلى أن ننبه إلى أن فهم التوكل بهذه الصورة خطأ صراح، وليس علينا من حرج إذا رأينا الغزالي من الخاطئين، وما نريد أن نزيد!
مقامات المتوكلين
وللمتوكل مقامات ثلاثة:
الأول:
مقام من يترك الزاد وهو يدور في الوادي، وإنما كان هذا أفضل فيما يرى الغزالي لأن فيه تثبيتا على الرضا بالموت!
الثاني:
مقام من يقعد في بيته أو في مسجد، ولكنه في القرى والأمصار. وهذا أضعف من الأول كما يقول.
والثالث:
من يخرج للكسب على الوجه الذي ارتضاه حين تكلم عن آداب الكسب، وهو أن لا يقصد به الاستثكار، ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته، وعجيب والله أن يكون الكسب أدنى درجات المتوكلين.
توكل المعيل
غير أن الغزالي يخص تلك الحالة الشديدة بالمنفرد، وقد قدمنا أن يرضى له الاقتناع بأن الموت من جملة الأرزاق.
أما المعيل صاحب الأولاد فإنه لا يجوز له المقام الثالث، وهو توكل المكتسب، كتوكل أبي بكر رضي الله عنه إذ خرج للكسب «فأما دخول البراري وترك العيال توكلا في حقهم، أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلا في حقهم، فهذا حرام. وقد يقضي إلى هلاكهم، ويكون هو مؤاخذا بهم. بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله. فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقا وغنيمة في الآخرة فله أن يتوكل في حقهم. وهذه مجازفة من الغزالي: إذ يرضى أن يعود الرجل أبناءه على الجوع، وأن يمرنهم على الاعتداد بالموت جوعا في سبيل الآخرة، وقد يكونون لم يبلغوا سن التكليف.
يقول الغزالي: «وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعا عن الأسباب، بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة، والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادرا، وملازمة البلاد والأمصار وملازمة البوادي التي لا تخلو عن الحشيش وما يجري مجراه. فهذه كلها أسباب البقاء ولكن مع نوع من الأذى ... إلخ»؟
ونكرر ما لاحظناه من أن فهم التوكل بهذه الصورة خطأ مبين، فإنه يجر القادر على الطلب إلى الرضا بالسؤال، وانتظار المصادفات، والترحيب بالموت، مع أن قطع أسبابه من أول ما يعنى به بناة الأخلاق.
الادخار
ورأي الغزالي في الادخار عجيب، إذ أفضل الحالات عنده لمن حصل على مال بإرث أو كسب أو أي سبب من الأسباب أن يأخذ قدر حاجته في الوقت: فيأكل إن كان جائعا، ويلبس إن كان عاريا، ويشتري سكنا مختصرا إن كان محتاجا، ويفرق الباقي في الحال. ولا يأخذ، ولا يدخر، إلا بالقدر الذي يدرك به من يستحقه ويحتاج إليه، فيدخره على هذه النية!
والذي يدخر لسنة ليس من المتوكلين أصلا كما يقول!
والذي يدخر لأربعين يوما فما دونها يحرم من المقام المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين.
ونحب أن يتأمل القارئ هذا الرأي في الاقتصاد، فقد أكثر المؤرخون من لوم العرب على إهمال هذا العلم، وعدوا الجهل به سببا لسقوط المملكة العربية، مع أنها كانت تسيطر على أخصب بلاد العالم كمصر والعراق. ولكن كيف يحترم هذا العلم في أمة يقول إمام الأئمة فيها: إن ادخار المال لأربعين يوما يحرم المرء من المقام المحمود؟
وقد تفضل الغزالي فأباح للمعيل أن يدخر قوت عياله لسنة؟!
وتفضل كذلك فأجاز للرجل أن يدخر الكوز وأثاث البيت؟!
والفرق عنده بين الكوز وغيره، أن سنة الله لم تجر بتكرر الأواني مع الحاجة إليها في كل وقت، ولكن جرت سنته بتكرار الأرزاق في كل سنة. وكان عليه أن يعرف أن الرزق إنما يتجدد في كل سنة، لمن يملك من المزارع والمتاجر ما يتجدد ريعه في كل سنة. فيا عجبا كيف يجيز التوكل إتلاف رأس المال!
آداب المتوكلين
وضع الغزالي الآداب الآتية للمتوكل حين يخرج من بيته: (1)
أن يغلق الباب، ولا يستقصي في أسباب الحفظ، كالتماسه من الجيران الحفظ مع الغلق، وكجمعه أغلاقا كثيرة! (2)
أن لا يترك في البيت متاعا يحرص عليه السراق! (3)
ما يضطر إلى تركه في البيت، ينبغي أن ينوي عند خروجه الرضا بما يقضي الله فيه من تسليط سارق عليه! (4)
إذا عاد فوجد المال مسروقا فينبغي أن لا يحزن، بل يفرح إذا أمكنه! (5)
أن لا يدعو على السارق الذي ظلمه بالأخذ. فإن فعل بطل توكله، ودل على تأسفه على ما فات! (6)
أن يغتم لأجل السارق وعصيانه وتعرضه لعذاب الله، ويشكر الله إذ جعله مظلوما ولم يجعله ظالما!
وما أدري ما الذي أنسى الغزالي أن يحض المتوكل على أن يترك باب البيت مفتوحا، وأن يعلق عليه لوحة مكتوبا فيها بخط واضح جميل: من أراد أن يأخذ شيئا من هذا البيت فهو مغفور الذنوب، بل مجزي بما مكن صاحبه من صنع المعروف!!
وليس من التوكل بالطبع أن يتعقب المرء الجناة، لينالوا على يد الوالي جزاء ما قدمت أيديهم. بل التوكل هو أن لا يبالغ المرء في أسباب الحفظ، وأن يوطن النفس على ما يسرق من متاعه، وأن لا يحزن بل يفرح حين يسرق، وأن يغتم لأن هذا السارق المسكين عصى الله وتعرض لعذابه، وأن يشكر الله على أن جعله من المظلومين، ولم يجعله من الظالمين.
وأظرف ما في هذا الباب دعوة الغزالي إلى أن يجعل الرجل ما سرق منه ذخيرة له في الآخرة، وإن أعيد إليه فالأولى أن لا يقبله!
توكل الخائف
يقرر الغزالي أن الضرر قد يعرض للخوف في النفس والمال. أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة، أو في مجاري السيل من الوادي، أو تحت الجدار المائل، أو السقف المنكسر، وكل ذلك فيما يرى منهي عنه، لأنه تعريض للهلاك بلا فائدة.
وجملة القول أن أسباب الخوف إما مقطوع بها أو مظنونة أو موهومة، وترك الموهوم هو شرط التوكل، فالمبالغة في الاحتياط تبعد المرء عن مقام المتوكلين؟
وهنا لا نرى بأسا من تحقيق مسألة أخطأ فيها الغزالي، فقد عد من الأسباب الموهمة الكي، وذكر أن رسول الله لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة. ولو صح رأيه فيما استشهد به لكان للرقية والطيرة فائدة موهومة، مع أنه يستحيل أن يرى رسول الله قيمة لهذه الأسباب، وإنما يريد أن يضيف المكتوين والمتطيرين والراقين إلى جملة الموسوسين.
ولو كان الكي فائدة موهومة لما عد تركه من التوكل، وهو يتعلق مباشرة بالصحة. وإنما نهى عنه الرسول لأن ضره كثير ومحقق ونفعه قليل بل موهوم. وفوق هذا يجب أن نلاحظ أن الأسباب الموهومة لم يكن تركها شرطا في التوكل إلا لأن في تركها تعويدا على المخاطرة، وهي من صفات الأحياء، فإذا اختلفت الظروف، وكانت رعاية الأسباب الموهومة نوعا من الحيطة، فإني لا أفهم كيف تحرم المرء من المقام المحمود!
وإذا خاف الإنسان على ماله فله أن يغلق بيته، وأن يعقل بعيره، لأن هذه أسباب عرفت بسنة الله إما قطعا وإما ظنا، فلا ينقض بها التوكل ، كما لا ينقض بدفع العقارب والحيات والسباع، لأن الصبر على هذه جنون.
توكل المريض
يقسم الغزالي الأسباب المزيلة للمرض إلى مقطوع به، ومظنون، وموهوم، ويقرر أن ترك المقطوع به ليس من التوكل بل تركه حرام عند خوف الموت. وكان عليه أن يتنبه إلى أن المرض متى وجد فالموت مخوف في كل حال، لأن للمرض طفولة وحداثة وفتوة، فإن ترك وهو ناشئ أمسى وهو قوي متين، بل يجب حرب جراثيم المرض، لأنها تبيض وتفرخ، ثم تصبح أعداء الداء. فأما الموهوم فشرط التوكل تركه. وقد بينا ما تختلف عليه هذه الحال. وأما المظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء المسهل، وما إلى ذلك من الأسباب الظاهرة عند الأطباء، فليس تركه من التوكل، كما أن تركه ليس محظورا كالمقطوع به، بل قد يكون أفضل من فعله في بعض الأحوال وفي بعض الأشخاص. وهذا ما لا نوافق عليه الغزالي، لأنا لا نفهم كيف يكون الحرص على الصحة مما يفضل إغفاله في بعض الأحيان.
وإلى القارئ الأحوال التي يحمد فيها عنده ترك التداوي: (1)
أن يكون المريض من المكاشفين، وقد كوشف بأن أجله انتهى، وأن الدواء لا ينفعه! (2)
أن يكون المريض مشغولا بحاله وبخوف عاقبته. (3)
أن تكون العلة مزمنة، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع بالنسبة لعلته. (4)
أن يقصد بترك التداوي استبقاء المرض لينال أجر الصابرين، أو ليمرن نفسه على الصبر الجميل! (5)
أن يكون قد سبق له كثير من الذنوب، ويرى المرض تكفيرا إذا طال، وكان قد عجز عن التكفير! (6)
أن يستشعر في نفسه مبادئ البطر والطغيان بطول مدة الصحة، فيترك التداوي خوفا من أن يعاجله زوال المرض، فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان.
ويحسن أن نلفت النظر إلى أن هذه أسباب ضعيفة، لا تقتضي ترك الدواء، وهي في الوقت نفسه تدل على مبلغ حرص الغزالي على نزعته الصوفية، فمن الواضح أن إيثار المرض في سبيل الفرار من آفات العافية، إنما هو عمل سلبي قليل الغناء. وماذا يضرنا لو حاربنا المرض، ثم رجعنا بعد ذلك إلى حرب ما للصحة من الآفات، لنخرج رجالا صحاح الجوارح والقلوب؟
والغزالي فوق ما سلف يفضل كتمان المرض، ولا يجيز إظهاره إلا في الأحوال الآتية: (1)
أن يكون الغرض التداوي، فيذكر المرض للطبيب، لا في معرض الشكاية، بل في معرض الحكاية. (2)
أن يوصف المرض لمن يرجى من الدعوة إلى الصبر. (3)
أن يقصد بإظهار المرض إظهار العجز والافتقار إلى الله.
قال الغزالي: «فبهذه النيات يرخص في ذكر المرض، وإنما يشترط ذلك لأن ذكره شكاية والشكوى من الله حرام. ويصير الإظهار شكاية بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله. فإن خلا عن قرينة السخط وعن النيات التي ذكرناها فلا يوصف بالتحريم ولكن يحكم فيه بأن الأولى تركه. لأنه ربما يوهم الشكاية، ولأنه ربما يكون فيه تصنع ومزيد في الوصف على الموجود من العلة. ومن ترك التداوي توكلا فلا وجه في حقه للإظهار، لأن الاستراحة إلى الدواء أفضل من الاستراحة إلى الإفشاء».
وهذه الكلمة الأخيرة غاية في الحكمة والسداد.
ملاحظات ثلاث
الأولى
جاء في ص292 ج4 إحياء ما نصه: «فإن قلت فكيف يكون للمتوكل مال حتى يؤخذ؟ فأقول: المتوكل لا يخلو بيته عن متاع كقصعة يأكل منها وكوز يشرب منه وإناء يتوضأ منه وجراب يحفظ به زاده، وعصا يدفع بها عدوه، وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت. وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه ليجد محتاجا فيصرفه إليه فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلا لتوكله. وليس من شرط التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه والجراب الذي فيه زاده، وإنما ذلك في المأكول وفي كل مال زائد على قدر الضرورة. لأن سنة الله جارية بوصول الخير إلى الفقراء والمتوكلين في زوايا المسجد. وما جرت السنة بتفريق الكيزان والأمتعة في كل يوم وفي كل أسبوع».
وهذه الفقرة تدل واضح الدلالة على أن التوكل هذا نزعة صوفية، وقد وضع الغزالي مقياسا لتقدير الأعمال هو العقل والشرع، وما أحسبه يستطيع أن يثبت أن آية
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
4
خاصة بهذا الصنف من الناس، بل التوكل المأمور به في القرآن هو الاعتماد على الله مع مباشرة الأسباب، والإيمان بأنه لا يضيع أجر العاملين.
الثانية
جاء في المنهاج ص80 ما نصه: «فإن قيل هل يلزم العبد طلب الرزق بحال ما؟ فاعلم أن الرزق المضمون الذي هو الغذاء والقوام لا يمكننا طلبه إذ هو شيء من فعل الله سبحانه للعبد كالحياة والموت لا يقدر العبد على تحصيله ولا على دفعه (؟!) فإن قيل: لكن لهذا الرزق المضمون أسباب، فهل يلزمنا طلب الأسباب؟ قيل له لا يلزمك، إذ لا حاجة للعبد إليه إذ الله سبحانه يفعل بسبب وبغير سبب. فمن أين يلزمنا طلب السبب، ثم إن الله تعالى ضمن لك ضمانا مطلقا من غير شرط الطلب والكسب، قال الله تعالى:
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها
ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه، والواحد منا لا يعرف سبب الرزق يتناوله من أين يحصل له، فلا يصح تكليفه. فتأمل».
وقد تأملنا كثيرا، فلم نر هذه الحجج إلا خيالا في خيال!
الثالثة
أراد الغزالي أن يحض على التوكل فأمر بملاحظة الجنين كيف وصلت سرته بسرة الأم لينتهي إليه الغذاء لما كان عاجزا عن الحركة والاضطراب، فلما انفصل سلط الله على الأم الحب لترضعه وهي راغمة، وأدر له اللبن اللطيف، إذ كان مزاجه لا يحتمل الغذاء الكثيف. وانتقل الغزالي من هذا إلى بيان أن الكبير قد كثرت أسباب الرفق به، فبعد أن كان المشفق واحدا هو الأم أو الأب، أصبح أهل البلدة كافة يشفقون عليه. ثم أخذ يبين كيف ينتفع اليتيم بشفقة المسلمين، إلى آخر ما قال.
وهذه الحجة على الغزالي لا له، فإنه إذا كان الله وصل سرة الجنين بسرة أمه لضعفه عن الحركة، وأدر عليه اللبن لعجزه عن المضغ، وسلط على أمه الحب لعجزه عن السعي، فلماذا منحه القوة إذن، إذا كان لم يشأ أن يستغني بها عن الناس؟
فأما ما قاله من أن كل واحد من أهل البلد إذا أحس بمحتاج تألم قلبه، ورق عليه، وانبعثت له داعية إلى إزالة حاجته، فهي أمنية شعرية، وليته ذكر أن العرب هموا بترك دينهم ليخلصوا من الزكاة!
الفصل الخامس
فضيلة الإخلاص
ابتدأ الغزالي كلامه عن هذه الفضيلة بقوله تعالى:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
1
ثم ذكر جملة من الأحاديث والأخبار. ثم قرر بعد ذلك أن كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قل أم كثر، إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه، وزال به إخلاصه. ثم بين أنه قلما يخلو فعل من أفعال المرء وعبادة من عباداته، عن حظوظ وأغراض عاجلة. وإن العمل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله.
ومقياس الإخلاص فيما يرى الغزالي هو أن يشعر المرء بارتياح حين يجد غيره يعمل عملا كان يريد أن يقوم به. نعرف هذا من قوله:
وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة هم العلماء. فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء، والفرح بالأتباع. والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول: غرضكم نشر دين الله، والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله. وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظه للسلاطين. ويفرح بقبول الناس قوله، وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين. ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظا وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه هذا المهم بغيره. ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لانصراف وجوه الناس إلى غيرك. إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب واغتمامك لفوات الثواب محمود. ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابا وأعود إليه في الآخرة.
وقد انحصر الإخلاص عنده في الأمور الدينية، لغلبة هذه الأمور عليه، ولو كان الغزالي من الذين باشروا الحركات العامة، ووقفوا على الشئون الاجتماعية. لذكر لنا ضروبا من الإخلاص في نهوض الأفراد بأممهم. وبين لنا كيف يتطرق الغرض إلى الأعمال الاجتماعية، وكيف تشقى الشعوب بأصحاب الأغراض، فليس الإخلاص وقفا على الصلاة والزكاة والحج والصيام، بل الإخلاص فيما بين الرجل وبين أمته، أوجب من الإخلاص فيما بينه وبين ربه، لأنه حين يحرم الإخلاص في العبادة لا يضر الله شيئا فإن الله غني عن العالمين. ولكنه حين يحرم الإخلاص فيما يعمل لأمته يشقى بسوء غرضه ملايين من النفوس، ثم يصبح وهو منبوذ مهين. ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
الباب الثامن
في توقي الرذائل
تمهيد
لم يضع الغزالي للرذيلة تعريفا يخصها بالذات، وإنما هي عنده إفراط من الفضيلة أو تفريط. وهو يرى أن الإفراط في قوة العلم ينشأ عنه المكر والحقد والخداع والدهاء، وأن التفريط فيها يصدر عنه البله، والغمارة، والحمق، والجنون، وينشأ من الإفراط في الشجاعة والتهور وما إليه من الجسارة، والتبجح، والاستشاطة والتكبر والعجب والبذخ. ويصدر من التفريط فيها الجبن، والهلع، والمهانة، وصغر النفس، والنكول. وأما الرذائل الصادرة من الإفراط أو التفريط في العفة فهي: الشره، وكلال الشهوة، والوقاحة، والتخنث، والتبذير، والتقتير، والرياء، والتهتك والمجانة، والعبث والشكاسة، والملق والحسد والشماتة ... إلخ.
وألاحظ أن كلامه في هذا الباب غير واضح، وقد لاحظ هو ذلك، فأخذ يشرح أمثال الرذائل الآتية: الاستشاطة، الانفراك، التخاسس، البذالة، الشكاسة، الكزازة، التحاشي، النكول، الغمارة ... إلخ.
والأمر ينبغي كذلك في الفضائل المتفرعة من أمهات الأخلاق.
وينبغي أن لا ننسى أن الغزالي يوصي دائما بقلع الخلال الرديئة وغرس مكارم الأخلاق، ويسمي هذا بالتخلية، والتحلية، أي إخلاء القلب من الشهوات، ثم تحليته بكرائم النزعات.
وإذ كنا بينا رأيه في جملة من الفضائل الضرورية للأفراد، فإنا ذاكرون كذلك رأيه في طائفة من العيوب والرذائل الكثيرة الوجود، ليتضح ما يتصوره من المثل الأعلى للحياة.
الفصل الأول
رذيلة الغضب
الغضب قوة تتوجه عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. وهو فيما يرى الغزالي ثلاث درجات: التفريط، والإفراط، والاعتدال.
أما التفريط ففقد هذه القوة، أو ضعفها. وهو مذموم إذ من ثمراته قلة الأنفة مما يؤنف منه، كالتعرض للحرم والزوجة، والأمة، واحتمال الذل من الأخساء ، وصغر النفس.
وأما الإفراط فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن العقل والدين، فلا تبقى للمرء بصيرة، ولا نظر، ولا فكرة، ولا اختيار.
وأما الاعتدال فهو المحمود، وهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين؛ فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم.
قال الغزالي: «فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه ليغض من سورة الغضب ويقف على الوسط بين الطرفين».
1
أسبابه
وأسباب الغضب فيما يرى الغزالي ترجع إلى ثلاثة أقسام:
الأول:
ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت، والملبس والمسكن، وصحة البدن وهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها، ومن الغيظ على من يتعرض لها.
والثاني:
ما ليس ضروريا لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير، والغلمان، والدواب وقد صارت هذه الأشياء محبوبة بالعادة، والجهل بمقاصد الأمور.
الثالث:
ما يكون ضروريا في حق بعض الناس دون البعض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص.
علاجه
وقد وضع الغزالي طريقة لاستئصال رذيلة الغضب، كما وضع طريقة لتسكينه حين يثور.
أما الطريقة الأولى فهي استئصال الغضب باستئصال أسبابه وإذ كانت الأسباب المهيجة له هي الزهو، والعجب، والمزاح، والهزل، والهزء والتعبير، والمماراة، والمضادة، والغدر، وشدة الحرص على حصول المال، والجاه، فينبغي للخلوص من الغضب إزالة هذه الأسباب، وهي في نفسها رذائل تحتاج إلى رياضة، ورياضتها الرجوع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها، وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس. فإذا انمحت عن النفس فقد ذكت وتطهرت من هذه الرذائل، وتخلصت أيضا من الغضب الذي يصدر منها.
أما علاج الغضب بعد هيجانه فيرجع إلى العلم والعمل. والعلم ستة أمور: (1)
أن يتفكر في الأخبار الواردة في كظم الغيظ، والعفو، والحلم، والاحتمال. (2)
أن يخوف نفسه بعقاب الله، فيذكر أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته على من يريد أن يمضي فيه غضبه. (3)
أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو لمقابلته، والسعي في هدم أغراضه، والشماتة بمصائبه. (4)
أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، ومشابهة الغضبان للكلب الضاري، ومشابهة الحليم للأنبياء. (5)
أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، ويمنعه من كظم الغيظ. (6)
أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده.
أما علاج الغضب بالعمل فهو أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فإن لم ينفع بك، فاجلس إن كنت قائما، واضطجع إن كنت جالسا، واقرب من الأرض التي منها خلقت؛ لتعرف ذل نفسك، فإن لم ينفع ذلك فتوضأ، أو اغتسل بالماء البارد.
درء الشر بالشر
بعد أن بين الغزالي علاج الغضب، وفضيلة الحلم، وكظم الغيظ، أخذ في بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام. وهو على الجملة لا يجيز مقابلة الغيبة بالغيبة، ولا مقابلة التجسس بالتجسس، ولا السب بالسب، وكذا سائر المعاصي. ويجيز أن ينتصر المظلوم لنفسه بالكلام في غير تلك المنكرات، ولكن الأفضل تركه، فإنه يجر إلى ما وراءه، ولا يمنعه الاقتصار على قدر الحق فيه. والسكوت عن الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه.
ثم قسم الناس باعتبار الغضب إلى أربعة أقسام: قسم سريع الوقود سريع الخمود، وقسم بطيء الوقود بطيء الخمود، وقسم سريع الوقود بطيء الخمود، وهو شرهم، وقسم بطيء الوقود سريع الخمود. قال الغزالي وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة.
وقد أوجب على صاحب السلطان أن لا يعاقب أحدا في حال غضبه لأنه ربما يتعدى الواجب، ولأنه ربما يكون متغيظا على المعاقب فيكون متشفيا لغيظه ومريحا نفسه من ألم الغيظ، فيكون صاحب حظ، مع أن الواجب أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الغزالي كرر النصح بتجنب من يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعة ورجولة. فإن الفضل في الصفح الجميل.
الفصل الثاني
رذيلة الحقد
هو فيما يرى الغزالي وليد الغضب، فإن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال، رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقدا، ومعنى الحقد - كما نص على ذلك - أن يلزم المرء قلبه استثقال المغضوب عليه، والبغضة له، والنفور منه، وأن يدوم ذلك ويبقى.
وللحقد ما يأتي من النتائج: (1)
الحسد، وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عن عدوك، فتغتم للنعمة تصيبه، وتسر للمصيبة تنزل به. (2)
أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن فتظهر الشماتة بما أصابه من البلاء. (3)
أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك. (4)
أن تعرض عنه استصغارا له. (5)
أن تتكلم فيه بما لا يحل: من كذب، وغيبة، وإفشاء سر، وهتك ستر. (6)
أن تحاكيه استهزاء به، وسخرية منه. (7)
أن تؤذيه بضرب أو شبهة مما يؤلم بدنه. (8)
أن تمنعه حقه: من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة.
قال الغزالي: «وكل ذلك حرام. وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما يعصى به الله، ولكن تستثقله في الباطن. ولا ينتهي قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تتطوع به عن البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته، أو الدعاء له، والثناء عليه، والتحريض على بره ومواساته. فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين، وإن كان لا يعرضك لعقاب».
1
وللحقود عند القدرة ثلاثة أحوال؛ الأولى: استيفاء الحق من غير زيادة ولا نقصان وهو العدل، والثانية: الإحسان بالعفو والصلة وهو الفضل، والثالثة: الظلم، وهو المنهي عنه.
الفصل الثالث
رذيلة الحسد
هو إحدى نتائج الحقد، وله فيما يرى الغزالي أربع مراتب:
الأولى:
أن يحب المرء زوال النعمة عن غيره، وإن كانت لا تنتقل إليه وهذا غاية الخبث.
الثانية:
أن يحب زوالها إليه؛ لرغبته في مثل تلك النعمة، كأن يرى عند غيره امرأة جميلة ويحب أن تكون له، فمطلوبه تلك النعمة لا زوالها، ومكروهه فقدها لا تنعم غيره بها.
الثالثة:
أن لا يشتهي عينها لنفسه، بل يشتهي مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها، كي لا يظهر التفاوت بينهما.
الرابعة:
أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم تحصل لا يحب زوالها عنه، وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين.
والرتبة الأولى مذمومة، وتسمية الثانية حسدا تجوز، فإنما هي تمني ما للغير، وهو أيضا مذموم لقوله تعالى:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض
1
والثالثة أخف من الأولى.
أسبابه وعلاجه
ويرى الغزالي أن أسباب الحسد ترجع إلى العداوة، والتعزز، والكبر، والعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس. وأكثر ما يكون الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب، لأن كثرة الروابط تولد أسباب الحسد والبغضاء.
وعلاج الحسد فيما يرى الغزالي ينحصر في تأديب النفس وتبصيرها بخطر هذه الرذيلة، فإن الحاسد إنما ينكر في غيره نعمة أنعم الله بها عليه، ومن واجب الرجل أن يشغل بنفسه، وأن يحفظ وقته فلا يضيعه فيما لا يغني ولا يفيد، فليس أضيع من وقت يصرف في بغض نعمة لا يملك المرء زوالها عن سواه.
وقد قرر الغزالي أن الحسد يكاد يكون طبيعة في النفوس، وأن الأمل في السلامة منه بالكلية بعيد.
الفصل الرابع
رذيلة العجب
للعالم بكمال نفسه في علم، أو عمل، أو مال، ثلاث حالات:
الأولى:
أن يكون خائفا على زواله، ومشفقا على تكدره، أو سلبه من أصله، وهذا ليس بمعجب.
الثانية:
أن لا يكون خائفا من زواله، ولكن يكون فرحا به، من حيث هو نعمة من الله، لا من حيث إضافته إلى نفسه، وهذا أيضا ليس بمعجب.
الثالثة:
أن يكون غير خائف عليه، بل يكون فرحا به، مطمئنا إليه، ويكون فرحه من حيث إنه كمال ونعمة، وخير ورفعة، لا من حيث إنه عطية من الله ونعمة منه، وهذا هو التعجب، فهو إذن استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم. قال الغزالي: «فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا، وأنه منه بمكان، حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا، واستبعد أن يجري عليه مكروها يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل ... والإدلال وراء العجب، فلا مدل إلا وهو معجب، ورب معجب لا يدل، إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء، والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، والعجب والإدلال من مقدمات الكبر وأسبابه».
1
أسبابه وعلاجه
وإليك ما يعجب به الناس مع وصف العلاج:
الأول:
أن يعجب المرء ببدنه؛ في هيئته وصحته، وقوته، وتناسب أشكاله، وحسن صورته، وجمال صوته.
وعلاجه أن ينظر في مصير الوجوه الجميلة، والأبدان الناعمة، وكيف يعبث بها التراب.
الثاني:
البطش والقوة، وعلاجه أن ينظر ما حل بقوم عاد.
الثالث:
العجب بالعقل، والكياسة، والتفطن لدقائق الأمور، من مصالح الدنيا والدين. وآفة هذا الاستبداد بالرأي وترك المشورة.
وعلاجه أن ينظر في مصير عقله لو أصيب بمرض في دماغه.
الرابع:
العجب بالنسب الشريف.
وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم، وظن أنه يلحق بهم، فقد جهل.
الخامس:
العجب بنسب السلاطين الظلمة، وأعوانهم، دون نسب العلم والدين.
وعلاجه أن يفكر في مخازيهم، وفي مصيرهم يوم الحساب.
السادس:
العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع.
وعلاجه أن يتفكر في ضعفه وضعفهم، وأنهم كلهم عبيد عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.
السابع:
العجب بالمال.
وعلاجه أن يتفكر في آفات المال، وكثرة حقوقه، وغوائله.
الثامن:
العجب بالرأي الخطأ كما قال تعالى:
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا .
2
قال الغزالي: «وعلاج هذا العجب أشد من غيره، لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يعرف، فتعسرت مداواته جدا ... وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهما لرأيه أبدا لا يغتر به إلا أن يشهد قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة».
3
وقد بين الغزالي فوق ما سلف أن العجب مع الله يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، فبعض ذنوب المرء لا يدركها ولا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها. وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه، فلا يجتهد في تداركه وتلافيه، بل يظن أنه يغفر له؛ ومتى أعجب المرء بأعماله عمي عن آفاتها. ومن لم يتفقد آفات أعماله كان أكثر سعيه ضائعا، فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع. وإنما يتفقد عمله من يغلب عليه الخوف والإشفاق دون المعجب، فإنه يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، إذ يظن أنه قد استغنى وفاز، وهذا هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه. كما قال الغزالي.
الفصل الخامس
رذيلة الكبر
يقسم الغزالي الكبر: إلى باطن وظاهر. فالباطن هو خلق في النفس. والظاهر هو أعمال تصدر من الجوارح. ويسمي الباطن الكبر، والظاهر التكبر. والكبر فيما يرى ثمرة العجب. وينفصل عنه بأنه يتطلب متكبرا عليه، بخلاف العجب، فقد يعجب المرء بنفسه، وماله، وعمله، ولو خلق وحده.
والتكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام:
الأول:
التكبر على الله وهو أفحش أنواع الكبر، ومثاله ما كان من فرعون.
الثاني:
التكبر على الرسل، ومثاله ما كان من قريش وبني إسرائيل.
الثالث:
التكبر على العباد، بأن يستعظم المرء نفسه، ويستحقر غيره.
أسباب التكبر
وللتكبر سبعة أسباب:
الأول:
العلم، وما أسرع الكبر إلى العلماء!
الثاني:
العمل والعبادة. ولكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات؛ الأولى: أن يكون الكبر مستقرا في قلب المرء فيرى نفسه خيرا من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع ويفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه، وهذا قد غرست في نفسه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها. الثانية: أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه، بتصعير خده وتقليب جبينه. قال الغزالي: «وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب، ولا في الوجه حتى يعبس، ولا في الخد حتى يصعر، ولا في الرقبة حتى تطأطأ، ولا في الذيل حتى يضم، وإنما الورع في القلوب».
1
الثالثة: أن يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس وحكاية الأحوال والمقامات.
الثالث:
التكبر بالحسب والنسب.
الرابع:
التفاخر بالجمال، وأكثر ما يجري هذا بين النساء.
الخامس:
التكبر بالمال، ويجري هذا بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم، وبين الدهاقين في أراضيهم، وبين المتجملين في ملابسهم، وخيولهم، ومراكبهم.
السادس:
التكبر بالقوة وشدة البطش.
السابع:
التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة وبالأقارب، ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين.
قال الغزالي: «وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن يتكبر به».
2
وعلامات التكبر - كما ذكر الغزالي - تظهر في شمائل الرجل: كصعر خده، ونظره شزرا، وإطراقه برأسه، وفي جلوسه متكئا. وتظهر في مشيته، وتبختره، وقيامه وقعوده، وحركاته وسكناته، وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله.
وإزالة الكبر - فيما يرى الغزالي - فرض عين، وهو لا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له.
علاجه
ولعلاجه طريقتان:
الأولى:
قلع شجرته من مغرسها في القلب، وذلك بمعرفة المرء نفسه بالذلة، وربه بالعزة، إلى آخر ما قال الغزالي.
الثانية:
دفع عارض الكبر، بدفع الأسباب الخاصة التي يتكبر بها الإنسان على غيره، وأنت لا تزال قريبا من تلك الأسباب السبعة التي توجب التكبر فيما يراه، وقد وضع لكل سبب علاجا خاصا، غير أنه لا يفترق كثيرا عما لخصناه له من علاج العجب، فلنكتف به، فإن أسباب هاتين الرذيلتين تكاد تكون واحدة، وإن كانت الثانية نتيجة الأولى.
الفصل السادس
آفات اللسان
وقد رأى الغزالي أن اللسان كثير العثرات، ولا بد للمرء من ضبطه، فبسط القول في آفاته، وكتب في ذلك نحو خمسين صفحة، بين فيها حدود تلك الآفات، وأسبابها، وغوائلها، وطريق الاحتراز عنها.
وقد مهد لآفات اللسان بكلمة مطولة حض فيها على الصمت، ثم قال في تبرير ما دعا إليه من الإخلاد إلى السكوت: «فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ، والكذب، والغيبة، والنميمة، والرياء، والنفاق، والفحش، والمراء، وتزكية النفس والخوض في الباطل، والخصومة، والفضول، والتحريف، والزيادة، والنقصان، وإيذاء الخلق، وهتك العورات.
فهذه آفات كثيرة، وهي سباقة إلى اللسان لا تثقل عليه، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع، ومن الشيطان. والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب، ويمسكه ويكف عما لا يحب، فإن ذلك من غوامض الكلم».
ثم خشي أن يرميه القارئ بالإسراف فقال: «ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر: وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة. أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه وكذلك ما فيه من ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر. وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران.
فلم يبق إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام. وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء، والتصنع، والغيبة، وتزكية النفس، وفضول الكلام، امتزاجا يخفي دركه، فيكون الإنسان به مخاطرا».
1
وهذا من الغزالي إغراق في حب السلامة. ونحن ذاكرون خلاصة هذه الآفات، لنعرف رأيه في طبائع الأفراد.
الكلام فيما لا يعني
أما الآفة الأولى: فهي الكلام فيما لا يعني، وحده - كما قال الغزالي- أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال أو مآل، ومن أمثلته فيما يرى أن يذكر المرء أسفاره وما رأى فيها من جبال وأنهار، وما وقع له فيها من الوقائع وما استحسنه من الأطعمة والثياب، وما تعجب منه من مشايخ البلاد وحوادثهم.
ولم ينتبه الغزالي لخطر هذا المثال. فإن الكلام عن الأسفار والرحلات من الأمور ذوات البال، والتحدث عن طبائع البلاد وأخلاق الناس من المستحسنات. ونحن مدينون بما نعلم من عادات الأمم وأخلاقها إلى هؤلاء الذين يتحدثون بما لا يعنيهم فيقصون علينا ما رأوا في أسفارهم من الجبال، والأنهار، والأطعمة والثياب، وإن عد الغزالي حديثهم ولو احترزوا تضييعا للزمان.
ومما أصاب في عده مما لا يعني أن ترى إنسانا في الطريق فتقول من أين؟ فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكر تأذى به واستحيا، وإن لم يصدق وقع في الكذب وكنت السبب فيه. وكذلك سؤالك أمرءا عن المعاصي، وعن كل ما يخفيه ويستحي منه، وسؤالك عما حدث به غيرك.
والباعث على هذه الآفة - فيما يرى - هو الحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد، أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها.
وأما علاج ذلك فهو أن يعلم أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر على أن يقتنص بها الحور العين، فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين.
يقول الغزالي : «هذا علاجه من حيث العلم، وأما من حيث العمل فالعزلة، وأن يضع حصاة في فيه، وأن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه، حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه»
2 (؟!).
فضول الكلام
أما الآفة الثانية: فهي فضول الكلام. وهو يتناول الخوض فيما لا يعني، والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة. فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره. قال الغزالي: «ومما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين، فالثانية فضول وهو مذموم وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر».
3
وسبب هذه الآفة وعلاجها مماثلان لسبب وعلاج الكلام فيما لا يعني.
الخوض في الباطل
وأما الآفة الثالثة: فهي الخوض في الباطل. وعد الغزالي منه حكاية أحوال النساء ومجالس الخمر، ومقامات الفساق، وتنعم الأغنياء، وتجبر الملوك، ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، وقرر أن مثل هذا لا يحل الخوض فيه وهو حرام، بخلاف الكلام فيما لا يعني أو أكثر مما يعني فهو ترك الأولى. ويدخل الغزالي في هذا الباب الخوض في حكاية البدع والمذاهب الفاسدة، وحكاية ما جرى من قتال الصحابة على وجه يوهم الطعن في بعضهم. ثم قال: «وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها لذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا».
4
المراء والجدال
أما الآفة الرابعة فهي المراء والجدال. والمراء كما حدده الغزالي «هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه. إما في اللفظ، وإما في المعنى، وإما في قصد المتكلم».
وترك المراء فيما يرى يكون بترك الإنكار والاعتراض، فكل كلام سمعه المرء صدق به إن كان حقا، وسكت عنه إن كان باطلا أو كذبا. ولم يكن متعلقا بأمور الدين. وليس له أن يطعن في كلام غيره بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة، أو من جهة النظم والترتيب، أو من جهة المعنى، أو من جهة القصد: كأن يقول هذا كلام حق، ولكن ليس قصدك منه الحق، وإنما أنت فيه صاحب غرض. يقول الغزالي: «وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل. وهو أيضا مذموم، بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد. أو التلطف في التعريف لا في معرض الطعن». «وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير، وتعجيزه، وتنقيصه بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه».
والباعث على المراء والجدال فيما يرى الغزالي هو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار نقصه، وهما شهوتان باطنتان للنفس يرجعان إلى السبعية والكبرياء.
وأما العلاج فيكون بكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله، والسبعية الباعثة له على تنقيص غيره (والسبعية في عبارات المتقدمين هي القوة الوجدانية المشتركة بين الإنسان وبين كبار الحيوانات: فالانتقام قوة سبعية لأنه من صفات الجمل، والعفة من أكل ما يكسب الغير قوة سبعية لأنه من صفات الأسد، إذ لا يأكل الأسد فريسته).
الخصومة
أما الآفة الخامسة فهي الخصومة. وهي لجاج في الكلام ليستوفى به مال أو مقصود. قال الغزالي: «فإن قلت: فإذا كان للإحسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه أو في حفظه، مهما ظلمه ظالم، فكيف يكون حكمه، وكيف تذم خصومته؟ فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل والذي يخاصم بغير علم، ويتناول الذي يمزج بالخصومة كلمات مؤذية لا يحتاج إليها في نصرة الحجة وإظهار الحق. ويتناول الذي يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره ... فاما الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا».
وقد بين الغزالي كيف توغر الخصومة الصدر، وتهيج الغضب حتى ينسى المتنازع فيه، ويبقى الحقد بين المتخاصمين: فيفرح كل واحد بمساءة صاحبه، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه. فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات.
التقعر في الكلام
الآفة السادسة هي التقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع فيها بالتشبيهات والمقدمات، وما جرت به عادة المتفاصحين.
والغزالي يفرق بين من يلقي خطبة، وبين من يتكلم كلاما عاديا، ولا حرج على الخطيب فيما يرى الغزالي أن يلجأ إلى المحسنات اللفظية، في غير إفراط أو إغراب، فإن المقصود من الخطبة تحريك القلوب، وتشويقها، وقبضها، وبسطها، ولرشاقة اللفظ في ذلك كله تأثير.
أما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات، فالغزالي ينكر أن يكون فيها أي مظهر من مظاهر التكلف كالسجع أو غيره «بل ينبغي أن يقتصر المرء في كل شيء على مقصوده، ومقصود الكلام التفهيم للغرض، وما وراء ذلك تصنع مذموم».
والآفة الخلقية للتصنع فيما يرى الغزالي ترجع إلى الباعث عليه: وهو الرياء، وحب الظهور بالفصاحة، والتميز بالبراعة.
الفحش
والآفة السابعة هي الفحش، وهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة. وهذه العبارات متفاوتة في الفحش، وبعضها أفحش من بعض، وربما اختلف ذلك بعادة البلاد. وقد ذكر الغزالي من ذلك ما يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، والعيوب التي يستحيا منها كالبرص والقراع والبواسير، ثم حض على استعمال الكتابة في مثل تلك المواطن.
والباعث على الفحش فيما يرى: إما قصد الإيذاء، وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق، وأهل الخبث واللؤم.
وقد عد الغزالي الفحش والسب والبذاء آفة واحدة، وأضاف إليها «البيان» الوارد في حديث (البذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق) وفسر هذا البيان بكشف ما لا يجوز كشفه، أو المبالغة في الإيضاح حتى ينتهي إلى حد التكلف. أو البيان في أمور الدين، وفي صفات الله أمام العوام، إذ قد يثور من غاية البيان فيها شكوك ووسواس.
اللعن
أما الآفة الثامنة فهي اللعن، لحيوان أو إنسان أو جماد، وكل ذلك مذموم.
وللغزالي في هذا الباب نظر دقيق: فهو لا يجيز أن تقول في رجل حي من اليهود مثلا لعنه الله، كما تقول لعن الله أبا جهل وفرعون، فإنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله، ولا يجيز أن يلعن المبتدع لأن معرفة البدعة غامضة «ومن بان لنا موته على الكفر جاز لعنه وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى لمسلم، فإن كان لم يجز ولا يجوز لعن يزيد، لأنه يجوز أن يقال إنه قتل الحسين، أو أمر بقتله ما لم يثبت ذلك. فضلا عن اللعنة: إذ لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق، ولا يجوز أن يرمى مسلم بفسق وكفر من غير تحقيق».
قال الغزالي: «والمؤمن ليس بلعان، فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين».
المزاح
الآفة التاسعة هي المزاح، والمذموم منه فيما يرى الغزالي هو الإفراط فيه، أو المداومة عليه. فلك أن تمزح كما كان يمزح رسول الله: فلا تقول إلا حقا، ولا تؤذي قلبا، ولا تفرط فيسقط وقارك.
الاستهزاء
أما الآفة العاشرة فهي الاستهزاء، وحده كما قال الغزالي: «الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء».
وقد نص الغزالي على أن هذا إنما يحرم في حق من يتأذى به، فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، كانت السخرية في حقه من جملة المزاح فله حكمه، لأن المحرم هو استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير.
إفشاء السر
الآفة الحادية عشرة هي إفشاء السر، وهو مذموم لما فيه من الإيذاء والتهاون في حق المعارف والأصدقاء، يقول الغزالي: «وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن فيه إضرار».
وقد عد من حقوق الأخ على أخيه في كتاب الصحبة: «أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه، وله أن ينكره وإن كان كاذبا، فليس الصدق واجبا في كل مقام، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب، فله أن يفعل ذلك في حق أخيه. فإن أخاه نازل منزلته، وهما كشخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن».
الوعد الكاذب
الآفة الثانية عشرة هي الوعد الكاذب، وقد بين الغزالي أن ذلك يكون بالوعد على نية الحلف، أو ترك الوفاء من غير عذر، ولا جناح على من عزم على الوفاء فمن له عذر فمنعه.
الكذب في القول واليمين
الآفة الثالثة عشر هي الكذب في القول واليمين. وقد نص الغزالي على «أن الكذب ليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا، وقد يتعلق به ضرر غيره ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب المحصل لذلك الجهل يكون مأذونا فيه وربما كان واجبا.» وقد بينا المواطن التي أباح الغزالي فيها الكذب حين تكلمنا عن رأيه في الوسائل والغايات.
الغيبة
الآفة الرابعة عشرة هي الغيبة. وحدها «أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه، أو نسبه، أو في خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته».
وقد نص على أن التصريح ليس شرطا في تحقيق الغيبة، بل تكفي الإشارة، والإيماء، والغمز، والهمز، والكتابة، والحركة، وكل ما يفهم منه المقصود.
وللغيبة أسباب نذكر منها الأربعة الآتية: (1)
موافقة الأقران، ومجاملة الرفقاء، ومساعدتهم على الكلام. (2)
إرادة التصنع، والمباهاة، كأن يرفع المرء نفسه بتنقيص غيره. (3)
اللعب، والهزل، والمطايبة، وتزجية الوقت بذكر عيوب الناس. (4)
البراءة مما ينسب المرء إليه بتنقيص من يفعله.
وقد تنبه الغزالي إلى ما يقع فيه علماء الدين، فقد ينكرون المنكر، ويقعون في صاحبه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، مع أنهم يكفيهم أن يشخصوا المنكرات بلا تعرض للأشخاص، وقد يغضبون لله حين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكنهم يذكرون أشخاصا بالسوء، فيحبطون ما يعملون.
والغزالي يصف لعلاج الغيبة قراءة الآثار والأحاديث الواردة في هذه الآفة. وقد عد سوء الظن غيبة القلب ونهى عنه ثم ذكر المواطن التي تجوز فيها الغيبة، وقد فصلناها أيضا في الوسائل والغايات، كما بينا رأيه في كفارة الغيبة في الخروج من المظالم.
النميمة
الآفة الخامسة عشرة هي النميمة. وهي كما يقول الغزالي «كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث. وسواء كان الكشف بالقول، أو بالكتابة، أو بالرمز، أو بالإيماء . وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان ذلك عيبا ونقصا في المنقول عنه أو لم يكن».
5
ولم يقتصر الغزالي على تقبيح النميمة، وعدها من آفات اللسان، بل وضع للرجل آدابا خاصة إزاء النمام. وهي: (1)
أن لا يصدقه، لأن النمام فاسق، وهو مردود الشهادة. (2)
أن ينهاه عن ذلك، وينصح له، ويقبح عليه فعله. (3)
أن يبغضه في الله، فإنه بغيض عند الله. (4)
أن لا يظن بأخيه الغائب السوء، فإن بعض الظن إثم. (5)
أن لا يحمله ما حكي له على التجسس، والبحث لأجل التحقق. (6)
وأن لا يحكي النميمة، وإلا رضي لنفسه ما نهى النمام عنه.
قال الغزالي: «والسعاية هي النميمة، إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية» ثم نقل قول مصعب بن الزبير: «نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان صادقا في قوله لكان لئيما في صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة».
6
ولا شك في أن الغزالي يرتضي حكم مصعب في قبول السعاية، لأنه لم يعقب عليه، ولم يذكر من أقوال السلف ما ينقضه. والسعاية والنميمة شيء واحد، أو كأنهما شيء واحد، فمن الواجب أن تكون آداب المرء واحدة إزاء النمامين والسعاة، وهو ما نحسبه رأي الغزالي وإن لم يصرح به.
وفي الوسائل والغايات تجد ما يجوز من النميمة فيما يرى الغزالي.
كلام ذي اللسانين
الآفة السادسة عشرة هي كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه، وهو فيما يرى الغزالي نفاق «ولو دخل رجل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا لم يكن ذا لسانين ولم يكن منافقا، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء، نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة، إذ يصير نماما بأن ينقل من أحد الجانبين فقط، فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام. وإن لم ينقل كلاما، ولكن حسن لكن واحد منهما ما هو عليه من المعاداة لصاحبه فهذا ذو لسانين، وكذلك إذا أثنى على أحدهما وإذا خرج من عنده ذمه فهو ذو لسانين. بل ينبغي أن يسكت، أو يثني على المحق من المتعاديين في غيبته وفي حضوره، وبين يدي عدوه ... ولا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه».
7
المدح
الآفة السابعة عشرة هي المدح، وهو منهي عنه في بعض المواضع، وفي بعضها لا بأس به، بل ربما كان مندوبا إليه، وقد بين الغزالي أن لهذه الرذيلة أربع آفات في حق المادح، واثنتين في حق الممدوح، أما آفاتها في حق المادح فهي: (1)
أنه قد يفرط فينتهي به الإفراط إلى الكذب. (2)
وقد يدخله الرياء، فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مضمرا له، ولا معتقدا لجميع ما يقوله، فيصير به مرائيا منافقا. (3)
وقد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه، ويرى الغزالي أن هذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة: كقولك إنه متق، وورع وزاهد، وخير، وما يجري مجراه. (4)
وقد يفرح الممدوح، وهو ظالم أو فاسق، وذلك غير جائز. أما آفاتها في حق الممدوح فهي: (1)
إن المدح قد يحدث فيه كبرا وإعجابا، وهما مهلكان. (2)
وإنه إذا أثنى عليه بالخير فرح وفتر، ورضي عن نفسه، فقل جده.
وبعد أن بين الغزالي آفات المدح، دعا الممدوح إلى أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر، والعجب، وآفة الفتور، بأن يتأمل ما في خطر الخاتمة، ودقائق الرياء، وآفات الأعمال، فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح، ولو انكشفت له جميع أسراره وما يجري على خواطره، لكف المادح عن مدحه، وحضه كذلك على أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح.
الغفلة
الآفة الثامنة عشرة هي الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته، ويرتبط بأمور الدين.
ومن الأمثلة التي ذكرها الغزالي أنه لا يصح أن تقول عبدي وأمتي، لأننا جميعا عبيد الله، ونساؤنا جميعا إماء الله، بل تقول غلامي وجاريتي ... إلخ.
السؤال عن صفات الله
الآفة التاسعة عشرة هي سؤال العوام عن صفات الله تعالى وعن كلامه، وعن الحروف، وإنها قديمة أو محدثة. يقول الغزالي: «وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم، لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته، وإنما شأن العوام الاشتغال بالعبادات، والإيمان بما ورد به القرآن، والتسليم لما جاء به الرسل من غير بحث. وسؤالهم عن غير ما يتعلق بالعبادات سوء أدب منهم يستحقون به المقت من الله عز وجل، ويتعرضون لخطر الكفر. وهو كسؤال ساسة الدواب عن أسرار الملوك وهو موجب للعقوبة».
الغناء
الآفة العشرون هي الغناء، وتجد تفصيلها في البحث عن رأيه في الفنون.
وإنه ليخيل إلى المرء أن الغزالي بالغ في آفات اللسان، ولكن هذه المبالغة ليست إلا نوعا من الاحتياط، وهي ليست كبيرة على من يطمع في مكارم الأخلاق.
الفصل السابع
رذيلة الرياء
إنك لترحم الغزالي حين تقرأ ما كتبه عن الرياء، فإنك تتصوره رجلا كاد يجن من غلبة الجهال في عصره. ويكفي أن نلخص آراءه في هذا الباب لترى كيف كان الرجل يمقت الرياء، ويبغض من أعماق صدره أعمال المرائين.
فما يمقته الغزالي أن يظهر المسلم النحول والصفار، ليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليالي. يقول الغزالي: «ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، وأن وقار الشرع هو الذي خفض صوته، وضعف الجوع هو الذي أضعف من قوته».
ومن الرياء تشعيث الشعر، وحلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، وتشميرها إلى قريب من الساق، وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب، والتطويل في الركوع والسجود ... إلخ.
ولم يغفل الغزالي عن الشؤون الاجتماعية وهو يتكلم في الرياء، فقد بين أن من الناس من يظهر التقوى والورع والامتناع عن أكل الشبهات، ليعرف بالأمانة فيولى القضاء، أو الأوقاف أو الوصايا، أو مال الأيتام فيأخذها. أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها. أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها. أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها ... إلخ.
وللغزالي في هذا الباب نظر بعيد: فهو يعين العيوب الاجتماعية، ويشرح عيوب العلماء والزهاد. ويظهر أن الناس لعهده كانوا يتخذون دين الله سلما لأغراضهم الخبيثة: من الفسق والفجور، ونهب الأموال.
وأكرر ما قلته من أن الغزالي لا يغضب إلا حين يحارب رذيلة يراها بعينه فكلامه في تلك صورة لعصره، وليس أثرا لمطالعاته في الكتب القديمة التي تصف عيوب الناس. وفي مقدور الباحث أن يستخرج من كتاب الإحياء صورة واضحة للعلماء والزهاد في عهد الغزالي. ولا أقول الحكام والأمراء، لأنه تكلم عن الحكومة لعهده بضعف وفتور، ولم يقاس السلاطين شيئا من لسانه الحديد!!
الباب التاسع
في العلوم والفنون والتربية
تمهيد
نذكر في هذا الباب خلاصة لآراء الغزالي في العلم والعمل والفرق بين علم الدنيا وعلم الآخرة، وكيف يفهم علم الفقه، وعلم التوحيد، ثم نذكر بالإيجاز فهمه للفنون الجميلة ، ثم نبين المنهج الذي وضعه لتربية الأطفال، وما يراه من آداب المعلمين والمتعلمين، وكيف أهمل تربية البنات.
الفصل الأول
العلوم
تكلم الغزالي عن العلم والعمل، وأيهما أفضل للمريد، في مواطن كثيرة من مؤلفاته في الأخلاق.
وقد لاحظت أنه لم يكن موحد الرأي في هذا البحث، فتارة يقدم العلم على العمل، وأخرى يقدم العمل على العلم. ويخيل إلي أن نزعته الصوفية كانت سبب هذا التردد، بل وأحسب أيضا أنه كان يداري أهل عصره، ويسايرهم في كثير من الشؤون. فقد أراه يهم بالكشف عن المقصود من العلم ثم يتراجع. ولو جرؤ قليلا لبين لنا أن العلم النافع لا يقتصر على معرفة العبادات، وما إليها من دقائق التصوف والتوحيد، بل هنالك البحث في طبائع الأشياء، والتنقيب عن السر في أن الله سخر لنا ما في الأرض جميعا.
غير أنه لم يكد يذكر قوله عليه السلام: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر»، حتى اندفع يقول «ذلك العلم المقدم على العمل لا يخلو: إما أن يكون هو العلم بكيفية العمل، وهو الفقه وعلم العبادات، وإما أن يكون علما سواه. وباطل أن يكون الأول لوجهين: أحدهما أنه فضل العالم على العابد، والعابد هو الذي له العلم بالعبادة، وإلا فهو عابث فاسق، والثاني أن العلم بالعمل لا يكون أشرف من العمل، لأن العلم بالعمل لا يراد لنفسه، وإنما يراد للعمل، وما يراد لغيره يستحيل أن يكون أشرف منه».
وكان المظنون بعد هذه المقدمة أن يعطي العلوم ما تستحق من التفضيل. ولكنه قسمها إلى قسمين: عملي ونظري. أما العملي فقد قدم أنه ليس بأفضل من العمل، وأما النظري فقد زيفه جميعه، ولم يستبق منه إلا ما يرجع «إلى العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله، وملكوت السموات والأرض وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية من حيث إنها مرتبطة بقدرة الله عز وجل لا من حيث ذواتها».
مناقشة قصيرة
من هنا يتبين أن واجب العابد لا يخرج عن العبادة والتفكر في المعبود، وما إلى ذلك من معرفة الملائكة والكتب والرسل وملكوت السموات والأرض إلى آخر ما قال.
ونسأل الغزالي: ما رأيه إذا توقف فهم الكتب السماوية على إدراك روح التشريع، بفهم أصول القوانين؟
وما رأيه إذا توقف فهم «عجائب النفوس الإنسانية والحيوانية» على علم النفس، وعلم وظائف الأعضاء؟
وما رأيه إذا اقتضت معرفة الرسل درس التاريخ القديم والحديث، لفهم ما قد يضطر إليه المشرعون من الرسل والأنبياء في مختلف العصور؟
وما رأيه إذا توقف إدراك ما في الكتب السماوية من سياسة الناس على علم الاجتماع؟
لم ينكر الغزالي أهمية العلوم العقلية والنقلية، ولكنه جعل بعضها وسيلة للعلوم النظرية، والوسيلة بالطبع دون الغاية في الرتبة. وجعل بعضها علوما عملية، وهي أيضا وسيلة للعمل، فلا يعقل أن تكون أشرف منه!
فلم يبق من العلم المقدم على العمل إلا العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في ذاته علم شريف.
ولكني أحب أن أضع هذا السؤال: أيكون من يشغل نفسه بهذا النوع من المعرفة أفضل أمام العقل والشرع ممن أفنى عمره في درس الطب حتى استطاع أن يعرف كيف تغذى الديدان التي تحدث البول الدموي، والتي تهلك في كل عام ما يعد بالملايين؟ وهل يقدم محيي الدين بن عربي يوم القيامة، على من يقضي حياته لا في التفكر في ملكوت الله، بل في غزو السل والسرطان؟
الشك عن طريق اليقين
وبمناسبة العلم نثبت قول الغزالي في نهاية الميزان: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعا. إذ الشكوك هي الموصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».
غير أن الغزالي لم يبين لنا مصير المرء إذا بقي في شكه، ولم يهتد إلى اليقين. وما نحسب عصر الغزالي كان يسمح له بتحرير هذه المسألة، وإن كانت غاية في الوضوح فمتى كان المرء حرا في أن لا يثق بعقيدة قديمة مهما أجمع عليها الناس لاحتمال أن تكون باطلة، فهو بالضرورة غير مسؤول عن الوصول إلى نتيجة معينة، وإنما يسأل عن اعتقاد ما أداه إليه الدليل.
ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن الغزالي نبه في عدة مواطن من كتبه إلى أنه يجب على المعلم أن يتجنب كل ما يثير الشك في نفوس الضعفاء، وحض المرشد على الاقتصار مع العامة على المتداول المألوف. ومعنى هذا أن الشك وإن كان سبيل اليقين، إلا أنه لا يستعمل إلا بمقدار. وهذا المنهج يبين لنا أن الغزالي يحرص على وحدة الهيئة الاجتماعية، وينفر من كل ما يقربها من الانحلال. فللعلماء أن يشكوا وأن يختلفوا، ولكن عليهم أن يجنبوا العامة مواطن الشك والخلاف، ومن هنا نفهم كيف يرى أن الإجابة على بعض الأسئلة حرام. وسنعود إلى هذا البحث عند الموازنة بينه وبين الفلاسفة المحدثين .
علم الفقه
ولقد بلغ من إغراب الغزالي في التصوف أن جعل الفقه من علوم الدنيا وألحق الفقهاء بعلماء الدنيا. وأنت تعلم قيمة الدنيا عنده!
ولكن أليس الفقه هو معرفة القوانين التي يساس بها الناس؟ ليكن كذلك! إذ ما قيمة هؤلاء الناس؟ أليس الله أخرج آدم من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين، ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر، ثم إلى العرض، ثم إلى الجنة أو النار؟ وإذا كان هذا مبدأهم، وهذه غايتهم، وكانت الدنيا زادهم، فما قيمة الفقه، وما هي أقدار الفقهاء؟ أليسوا يفصلون في خصومات لو عدلنا ما احتجنا إلى أن يفصلوا فيها، ولما كان لهم قيمة في هذا الوجود؟
هذا هو منطق الغزالي.
والحمد لله الذي رحم الشرق وأهله من علم الفقه، ومن عليهم بالقوانين الأجنبية التي يقدم إليها أصحابها آيات التقديس، عند الشروق وعند الغروب!
الفقه لا قيمة له في نظر الغزالي، لأنه يتعلق بسياسة هؤلاء الناس المناكيد الذين اضطرونا بشرهم إلى الفقه والفقهاء، والذين لو عدلوا لما حتجنا إلى قاض ولا إلى فقيه!
صدقت يا مولانا الأستاذ! ولكن اسمح لنا بأن نذكرك بأن النبي كان فقيها، وكانت شريعته فقها، وهل الفقه شيء آخر غير قواعد الفصل في الخصومات؟
وهل بلغ من هوان الدنيا عندك أن تحتقر لأجلها الفقه والتشريع؟
اتركوا الدنيا لأصحابها يا جماعة الصوفية! اتركوا الدنيا للمسلمين فإن الله لم يبعث محمدا إلا ليمكن للمؤمنين في الأرض، ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين.
علم التوحيد
وأما التوحيد فهو عند الغزالي وقف في جوهره على علماء المكاشفة.
وما هو علم المكاشفة؟
هو علم لا نعرفه، ولكن يقال إن سوء الخاتمة معد لمن ليس له منه نصيب!!
ويقال إن أدنى نصيب من هذا العلم هو التصديق به، وتسليمه لأهله! ويقال كذلك إن أقل عقوبة من ينكره ألا يذوق منه شيئا!
وما هي غاية هذا العلم؟
غايته أن تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله وبصفاته الباقيات التامات!
وأنا لا أدري سبب هذه الشهوة الغريبة التي تحمل علماء الدين على البحث عن ذات الله وصفاته، ولا أعلم كيف عميت قلوبهم حتى اندفعوا يذكرون عن ذات الله وصفاته ما يجب أن يتورع عنه المؤمنون!
يطمع الغزالي في معرفة ذات الله معرفة حقيقية، وهذا والله عين الجهل، ونفس الضلال! ويطمع كذلك في معرفة صفاته التامات، وهو الذي بلغ به الأدب مع الأشاعرة والمعتزلة إلى الاختلاف في صفات الله، وفي كلامه، وفي أفعاله، وفي رؤيته بالأبصار يوم القيامة إلى غير ذلك من المباحث التي لا يقدم عليها غير عمي القلوب!
والظاهر أن الغزالي ومن على شاكلته لم يشهدوا المعركة القائمة بين الهدى والضلال، ولم يروا يوما واحدا كيف تتصاول العقول؛ فإن البحث عن ذات الله وصفاته حمق وسفه، وإنما سبيل المؤمنين أن يتأملوا ما يحيط بهم من جلال الوجود، وأن يبحثوا في المراد من أن الله سخر لهم ما في الأرض جميعا، فإنه ليس للعاقل أن يترك الانتفاع بما تلمس يده، وترى عينه، ليغيب في مجاهل من الظنون، يسميها سفها علم التوحيد.
وما أسفت لشيء أسفي لانحصار الأفكار الإسلامية في «معرفة معنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم الملائكة والشياطين ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى لقاء الله والنظر إلى وجهه، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدري في جوف السماء».
فإن هذه في الأصل أكثرها رموز ظنها المسلمون حقائق، فوضعوا لها ضروبا من التفسير والتأويل.
والذي يطالع الكتب القديمة يرى جمهور الفقهاء أعلم بخريطة الآخرة منهم بخريطة الدنيا: فهم يعرفون من أنهار الجنة ما لا يعرفون من أنهار هذا العالم، ويعلمون من أبواب جهنم ما لا يعلمون من أسباب انحطاط الأمم وضعف الشعوب، ويدركون من نعيم الآخرة ما لا يدركون من معنى الملك والقوة في هذا الوجود، وفي مقدور المرء أن يجد مئات الكتب في وصف الحشر والنشر، ولا يجد كتابا واحدا في تحديد المراد من الخلافة الإسلامية، التي قامت بسببها آلاف الفتن، ومئات الحروب.
والغزالي من الذين ساعدوا على بقاء هذه العماية، فقد وضع الكتب المطولة في كيفية العزلة، ولما أراد أن ينقد الشؤون الاجتماعية وضع كتابه «التبر المسبوك في نصيحة الملوك»، فكان آية في السخف والاضطراب.
وإلى من نقاضي هؤلاء العلماء؟
نقاضيهم إلى القرآن: ففيه الدعوة إلى الملك، وإلى أن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وهل الأخلاق شيء آخر غير حرب الذلة والقلة: في الأفراد، والجماعات، والشعوب؟
نقول هذا ونطالب كل مسلم بالحذر البالغ عند مطالعة كتب المتقدمين، فإن أكثرهم لم يعرف السياسة، ولا شؤون الاجتماع، وإلا فأين غرر المؤلفات في الأمور السياسية والاجتماعية؟ وأين البصر النافذ إلى أعماق الحياة الدولية؟ بل وأين الخبرة بالسريرة الإنسانية، التي حسبوها لا تعدو طلاب الجنة من الزهاد، والعباد، من كل راض بالفقر، قانع بالسؤال؟
الفصل الثاني
الفنون
أباح الغزالي أن يحب المرء لجماله، فكان ذلك منه اعترافا بالحاسة الفنية، التي يدرك بها الأديب، والفنان، والفيلسوف، ما في العالم من دقائق الجمال.
وتجد في حقوق الآخرة من هذا الكتاب أن الغزالي ضرب المثل بالنظر إلى الفواكه، والأنوار، والأزهار، والتفاح المشرب بالحمرة، وإلى الماء الجاري والخضرة. ومعنى هذا أن الإنسان متى جاز له، وبعبارة أدق، متى أمكن له أن يحب هذه الأشياء بلا نية سيئة، فقد يمكن له أن يحب الرجل الجميل بلا غرض خبيث.
وشاهدنا في هذه الفكرة، هو أن الغزالي يؤمن بأن للروح شيئا من السلطان، وله بعض الحقوق. فإنه متى جاز أن يحب الرجل لجماله، والجمال في الرجال كثير، فقد أصبح للروح الحق في أن يتمتع بكل جميل، متى استطاع أن يتحلى بالعفاف. وهذا فيما أرى اعتراف من الغزالي بضرورة وجود الفنون الجميلة لتتمتع بها الأرواح، كما يجب أن تملأ الخزائن والأسواق ، لتجد الأجسام ما تحتاجه من الغذاء.
ويحسن أن نذكر ما لاحظناه على الغزالي حين تكلم عن التشريح: فقد قرر أنه يسير بفريق من العلماء إلى أن النفس تموت؛ فإنا سألناه: هل يقضي ذلك بتحريم التشريح؟ وبالطبع ليس عند الغزالي جواب على هذا السؤال!
وكذلك نسأله الآن: يجوز أن يحب الشخص الجميل، ولكنا لاحظنا أن مثل هذا الحب قد يجر إلى الفسوق. فهل يحرم لذلك حب كل شخص جميل؟ وليس للغزالي أيضا على هذا السؤال جواب!
وإنما قدمنا هذه الكلمة أمام رأيه عن الفنون الجميلة، ليعرف القارئ: أنه لم يذكر أصلا من أصول الأخلاق يبرر رأيه في الفنون فقد أتى عليها جميعا بالنقد والتجريح، وإن لم ينكر «أن لله سرا في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح» وأحسب أنه لو تروى قليلا لعرف أن لله سرا فيما تحدث الفنون، من أنواع الفنون.
الشعر
رأي الغزالي في الشعر رأي عجيب، فهو يرى أن مقصوده المدح والذم والتشبيب. وعلى فرض أن الشعر لا يقصد منه غير ذلك فهو مقصود حميد، وإن قبح في بعض الأحوال.
وقد رأى الغزالي نفسه أمام أمر واقع: وهو أن الشعر أنشد بين يدي رسول الله، ولكنه اعتذر عن هذا بأن المبالغات التي وردت في ذلك الشعر لم يقصد بها الكذب، وإنما هي من صنعة الشعر. فلا يقصد بها اعتقاد الصورة التي وضعها الشعراء.
ولا أدل على هوان الشعر في نظر الغزالي من قوله: «وأما الشعر فكلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، إلا أن التجرد له مذموم.» ص131 ج3.
والتجرد للشعر هو صنعة الشاعر للفنان، الذي يريد أن يمثل عصره وقطره، في صحيفة التاريخ. ومتى كان من المذموم أن يتجرد المرء للشعر، فمعنى ذلك أن الشعر لا يصح أن تخصص له حياة فرد من الأفراد. وإن جاز للناس أن ينشدوا أو ينشؤوا ما حسن منه، لأنه ككل كلام: حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن الأحاديث التي رواها الغزالي في ذم الشعر اقتضتها ظروف خاصة، بدليل ما روى الغزالي نفسه ، مما يناقضها كل المناقضة، فكان عليه أن يراعي تلك الظروف.
الموسيقى
تكلم الغزالي في الموسيقى باحتياط يدل على مبلغ رأيه في هذا الفن الجميل، وهو يقسم الأصوات الموزونة باعتبار مخارجها إلى ثلاثة: ما يخرج من جماد: كصوت المزامير، والأوتار، وضرب القضيب، والطبل وغيره. وما يخرج من حنجرة حيوان، وذلك الحيوان إما إنسان، أو غيره: كصوت العنادل، والقمارى، وذوات السجع من الطيور. ثم يحكم بأن سماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة، إذ لا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب، وسائر الطيور، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة، ولا بين جماد وحيوان، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي كالذي يخرج من حلقه، أو من القضيب والطبل والدف.
إلى هنا لا تجد شيئا يغض من الموسيقى باعتبار أنها فن جميل، ولكنك تجده يقول بعد ذلك: «ولا يستثنى من هذا إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها، لا للذتها، إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان، وإنما حرمت لعلل ثلاث: إحداها أنها تدعو إلى شرب الخمر، فإن اللذة الحاصلة بها إنما تتم بالخمر، ولمثل هذه العلة حرم قليل الخمر. الثانية: أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر بمجالس الأنس بالشرب، فهي سبب الذكر، والذكر سبب انبعاث الشوق، وانبعاث الشوق إذا قوي فهو سبب الإقدام. والثالثة: الاجتماع عليها، وهو من عادة أهل الفسق.» ونجده بعد هذه الفقرة ينص على تحريم المزمار العراقي، والأوتار كلها، كالعود والصنج والرباب والبربط
1
وكل ما يذكر الخمر، ومجالس الخمر، فأما ما عدا ذلك فهو على الإباحة، قياسا على أصوات الطيور.
وما نريد أن نناقش هذا الرأي، ولا أن نبحث في الأساس الذي وضع عليه، ولكن ننبه على أن فيه دلالة على دقته في وقاية الجبهة الخلقية، وحرصه على أن يظل المرء بعيدا عن مثار الشهوات.
ونضيف إلى ما سلف من رأيه في الموسيقى، أنه عد بيع الملاهي من المنكرات التي يجب كسرها، حين تكلم عن منكرات الأسواق، وعد من منكرات الضيافة سماع الأوتار وسماع القيان، وعد إعطاء المال للمطرب إسرافا يجب على المحتسب إنكاره، ولم يعين مهنة المطرب، فصلح لأن يطلق على المغني والموسيقار. ونص في ص327 ج3 إحياء على أن أصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت في دار بحيث جاوزت الحيطان، فلمن سمعها دخول الدار وكسر الملاهي، ونص كذلك على أن للمرء الحق في أن يكسر العود إذا رأى شخصا يحمله.
ومما سلف نعلم أنه لا يحرم الموسيقى مرة واحدة، ولكننا نعرف أنه لا يقيم لها وزنا باعتبار أنها فن جميل، فمن الواضح أن لكل فن سيئات وحسنات، وأن السيئات لا تقل قيمة في نظر الفنان عن الحسنات، إذ كان جمال الفنون يرجع أكثره إلى ما تحدث في عشاقها من الجرأة على المألوف، وهو ما يخافه الغزالي ويتوقاه.
وهذا الذي يوجب كسر العود لا يبيح فيما نظن أن تبنى دار للموسيقى، وأن يختار للتعلم فيها حسان الأصوات، وصباح الوجوه!
ولا ننسى أنه لم يحرم الأوتار والمزامير إلا لأنها تذكر بمجالس الخمر، فلنذكر أنه يحرم من أجل الخمر هذه اللذة الروحية البديعة، فهي عنده «أم الخبائث»، وأصل المنكرات.
الغناء
لم يفرد الغزالي بابا للموسيقى ولا للغناء، وإنما نأخذ رأيه في هذين الفنين مما جاء في كتاب السماع والوجد، وهو الكتاب الثامن من ربع العادات من كتاب الإحياء.
وأول ما يلفت النظر إلى رأيه في الغناء، موافقته للشافعي في أن الرجل الذي يتخذ الغناء صناعة لا تجوز شهادته، لأن الغناء فيما يرون من اللهو المكروه، الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صناعة كان منسوبا إلى السفاهة، وسقوط المروءة!
ومتى كان الغزالي يرى أن محترف الغناء مردود الشهادة، فإنه لا يرى للغناء قيمة، وما ظنك بفن يهبط بصاحبه إلى الحضيض، ويسقط عدالته بين الناس.
ونحن متى ذكرنا كلمة فن، فإنا نذكر بجانبها ما يجب على الأفراد والحكومات من تشجيعه، لأن الفن ليس ضربا من اللهو المكروه، وإنما هو لهو مفروض، تحتاجه الأروح والأجسام، فيما تحتاجه من صنوف الغذاء، وليس محترف الغناء هو المردود الشهادة فقط فيما يرى الغزالي. بل المغرم بالسماع والمفرط فيه هو أيضا سفيه، ترد شهادته، لأن المواظبة على اللهو جناية!
والفن - كما تعلم - لا حياة له إلا بوجود الهواة، فلن يحسن الغناء إلا إذا وجد هواة الإنشاد والسماع، ومتى كان الإكثار من الإنشاد، والإفراط في السماع جناية، وكان من واجب كل فرد أن يحارب هذه الجناية ما استطاع، فقد أصبح ما نسميه فن الغناء عرضة للانقراض، ولا عبرة بما يقوله الغزالي من إباحته إذا لم يوجد موجب التحريم، فحسب الفن ضياعا أن تقول إنه مباح.
غناء المرأة والأمرد الجميل
ولا يجيز الغزالي أن يسمع الغناء من امرأة لا يحل النظر إليها، وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته.
وقد توقع الغزالي أن يسأل سائل: هل ذلك حرام في كل حال، حسما للباب، أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة في حق من يخاف العنت؟ وأجاب بأن هذه المسألة يتجاذبها أصلان أحدهما أن الخلوة بالأجنبية، والنظر إلى وجهها حرام، سواء خيفت الفتنة أو لم تخف، لأنها مظنة الفتنة على الجملة. والثاني أن النظر إلى الصبيان مباح ما لم تخف الفتنة، فلا يلحق الصبيان بالنساء في عموم الحسم، بل يتبع فيه الحال، وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين، فإن قسمناه على النظر إليها وجب حسم الباب، وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق، إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أول هيجانها، ولا تدعو إلى سماع الصوت، وليس تحريك النظر لشهوة الممارسة كتحريك السماع، بل هو أشد، وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة، ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة، فقياس هذا على النظر إلى الصبيان أولى لأنهم لم يؤمروا بالاحتجاب، كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات، فينبغي أن يتبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه.
2
موضوع الغناء
ولا مانع فيما يرى الغزالي من أن يكون في الغناء تشبيه بوصف الخدود، والأصداغ، وحسن القد، والقامة، وسائر أوصاف الناس، بشرط أن لا يكون في امرأة معينة، فإنه لا يجوز وصف المرأة بين يدي الرجال، وعلى المستمع أن لا ينزل على امرأة معينة إلا أن تكون زوجته أو جاريته، فإن نزله على أجنبية فهو من العصاة. ويحرم على من كان في غرة الشباب أن يستمع، إذا كانت الشهوة غالبة عليه، سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب (؟).
ما يباح من الغناء
وإليك جملة ما يباح فيه الغناء كما يرى الغزالي: (1)
غناء الحجيج، إذ يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء. (2)
ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو. (3)
الزجريات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء. وهذا مباح في كل قتال مباح، ومندوب في كل قتال مندوب، ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة. (4)
أصوات النياحة في البكاء على الخطايا والذنوب. (5)
السماع في أوقات السرور المباح، كالغناء في أيام العيد، وفي العرس، وفي وقت الوليمة والعقيقة، وعند ولادة المولود، وعند ختانه، وعند حفظه القرآن، وعند قدوم الغائب. (6)
سماع العشاق، تحريكا للشوق، وتهييجا للعشق، وتسلية للنفس. وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله، كمن يعشق زوجته، أو سريته، فيصغي إلى غنائها لتضاعف لذته، وكذلك إن غضبت منه جاريته، أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب، فله أن يحرك بالسماع شوقه، وأن يستثير به رجاء للذة الوصال، فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعد، إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصال واللقاء. (7)
سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه، فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه. وقد أطال الغزالي في هذه النقطة، ثم قرر إن إطلاق العشق على حب غير الله مجاز لا حقيقة، لأن كل محبوب سواه يتصور له نظير، إما في الوجود وإما في الإمكان، وأما جمال الله فلا ثاني له، لا في الإمكان، ولا في الوجود (؟).
آداب السماع
لا يعتد الغزالي بسماع من يطرب للغناء بمجرد الطبع، ولا حظ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات، إذا كان هذا الذوق لا يتطلب لوجود غير الحياة، فلكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة. ويسخر الغزالي ممن ينزلون المسموع على حسب شهواتهم، ومقتضى أحوالهم، ويرى حالتهم هذه أخس من أن تفرد بالبيان.
ويعتد فقط بمن ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله، أو من عزب عن فهم، ما سوى الله حتى عزب عن نفسه وأحوالها، ومعاملاتها، وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود، الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف عليه السلام (!؟).
وإذا سمع أحد هؤلاء «الموفقين» ذكر عتاب أو خطاب، أو قبول أو رد، أو وصل أو هجر، أو قرب أو بعد، أو تلهف على فائت، أو تعطش إلى منتظر، أو شوق إلى ورد، أو طمع أو يأس، أو وحشة أو أنس أو وفاء بالوعد، أو نقض للعهد، أو خوف من فراق، أو فرح بوصال، أو ذكر ملاحظة الحبيب، ومدافعة الرقيب، إلى غير ذلك مما تشتمل عليه الأشعار، فلا بد أن يوافق بعضها حالا في نفسه، فيوري زناد قلبه.
ولهؤلاء وضع الغزالي الآداب الآتية: (1)
مراعاة الزمان، والمكان، والإخوان: فليس له أن يسمع وقت شغل القلب ولا في شارع مطروق، أو موضع كريه، أو مع قوم من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبتهم، ومراعاتهم. (2)
أن يكون مصغيا إلى ما يقول القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرزا عن النظر إلى وجوه المستمعين، وما يظهر عليهم من أحوال الوجد مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه. (3)
أن لا يقوم، ولا يرفع صوته بالبكاء، وهو يقدر على ضبط نفسه. ولكن إن رقص أو تباكى بغير قصد الرياء فهو مباح. (4)
موافقة القيام في القيام، إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختياره من غير وجد، وقامت له الجماعة، فلا بد من الموافقة، رعاية لأدب الصحبة.
وهناك أدب خامس وضعه الغزالي خاصا بالشيخ المرشد، وهو ملاحظة المريدين، فينبغي أن لا يسمع في حضورهم، إذا كان فيهم من لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة، ولم يكن له ذوق السماع، أو رزق ذوق السماع، ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات، والصفات البشرية، أو كسرت شهوته، وأمنت غائلته، وانفتحت بصيرته، واستولى على قلبه حب الله، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم، ولم يعرف أسماء الله وصفاته، وما يجوز عليه وما يستحيل.
الرقص
وقد رأينا الغزالي يبيح الرقص، ولكن أي رقص؟ هو ما يجري في مجالس الغناء الذي قصد به الحث على العمل للآخرة، وما نحسبه يمنع أن يرقص الرجل في مجلس تغنيه فيه امرأته أو جاريته. وعلى كل حال فلنسجل هنا أن الرقص والغناء يجب فيما يرى الغزالي أن يكونا بعيدين كل البعد عن مثار الشهوات. وما نريد أن نفصل أثر هذا التحرج في حياة الأمم، وإنما ننبه فقط أن الغزالي يضع حول الشهوة أسوارا من حديد، ولا تخرج الأخلاق عنده إلا رجالا مملوئين بالحيطة، قد بغضت إليهم بسمات الحياة، وقلما ينجح هؤلاء في ميدان الحياة لأن التنسك باب الخمود.
النقش والتصوير
أراد الغزالي أن يذم (الطب، والحساب، واللغة، والشعر، والنحو، وفصل الخصومات، وطرق المجادلات) بسبب ما تورث من الكبر، فلم يزد على أن قال: «وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما».
3
إذن الصناعات دون العلوم، وإنما كان الطب والحساب إلخ من الصناعات، لأن العلم فيما يرى الغزالي هو ما يوصل إلى الآخرة، وما يخص الدنيا فهو صناعة. وقد نص على أن من الصناعات ما هي مهمة، ومنها ما يستغنى عنها لرجوعها إلى طلب التنعم والتزين في الدنيا. من أجل ذلك حض المسلم على أن يشتغل بصناعة مهمة، ليكون بقيامه بها كافيا عن المسلمين مهما في الدين. ثم قال:
وليجتنب صناعة النقش والصياغة، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما تزخرف به الدنيا، فكل ذلك كرهه ذوو الدين.
4 «وقد عد بيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الأطفال منكرا تجب إزالته، والصور التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام تجب إزالتها على كل من يدخله إن قدر، فإن كان الموضع مرتفعا لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة، وليعدل إلى حمام آخر، فإن مشاهدة المنكر غير جائزة. ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها».
5 «ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان. وأما الصور التي على النمارق، والزرابي المفروشة، فليس منكرا. وكذا على الأطباق والقصاع، لا الأواني المتخذة على شكل الصور، فقد تكون رؤوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه(؟)».
على أن كلمة الغزالي لم تكن واحدة فيما يخص البناء والزخرفة، فقد رأيت كيف بين أن تشييد البنيان، وكل ما تزخرف به الدنيا كرهه ذوو الدين، ومع هذا قال بعد: «وفعل ذلك ممن له كثير ليس بحرام، لأن التزيين من الأغراض الصحيحة. ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة فكذا الدور».
وإذا كان التزين من الأغراض الصحيحة، فكيف تكون صناعته غير مهمة؟
6
خلاصة هذا البحث
نرى مما سبق أن النقش مكروه وأنه لا يجوز تصوير الحيوان، ولا حرج في استعمال النمارق والزرابي المصورة، بصورة الحيوانات طبعا، لأنها موضوع الاستثناء. ويظهر أنها استثنيت لأن الصور فيها ستصير ممتهنة بالاستعمال، وعلى الأخص الأطباق والقصاع. وهو يتبع في هذا الرأي جمهور الفقهاء، إذ يرون التصوير داعيا إلى الوثنية. وقد نهوا عما يذكر بعبادة الأوثان.
ولا يفوتنا في ختام هذا الباب أن ننبه إجمالا على أن الغزالي لم يعن بتربية الأذواق وهذه الآراء التي قدمناها له في الفنون الجميلة تدل على إهماله هذا الجانب من بناء الأخلاق.
ومما يلاحظ أنه يغشي النظرات الدقيقة في كتبه بأخبار وأقاصيص تحمل القارئ حملا على ازدراء الزهادة، والإخلاد إلى الخمود. وأكرر ما قلته غير مرة من أن في هذا الشطط شيئا من الحق، وهو الحرص البالغ على السلامة، والنفرة المطلقة من مواطن الشبهات. ولهذا القصد محاسن، وفيه كذلك كثير من العيوب.
الفصل الثالث
تربية الأطفال
يسميها الغزالي رياضة الصبيان، وكانت كلمة صبي في التعابير القديمة تقابل كلمة طفل في التعبير الحديث، وكذلك كلمة صبية تقابل كلمة طفلة أو فتاة، فكانوا يقولون دخلت عليه صبية حسناء كما نقول فتاة حسناء.
وقد سبقت كلمتنا في وراثة الأخلاق عن فطرة الأطفال، فلا نعود إليها الآن، وإنما نذكر المنهج الذي وضعه الغزالي لتربية الطفل، وهو تفصيل ما أجملناه في واجبات الآباء.
فيجب على الوالد فيما يرى: (1)
أن يؤدب ابنه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء. (2)
وأن لا يحبب إليه الزينة، وأسباب الرفاهية، لئلا يتعود التنعم، فيعسر تقويمه بعد ذلك. (3)
وإذا رأى فيه مخايل التمييز، وبوادر الحياء، فليعلم أن عقله مشرق، وأن تنمية هذه الباكورة من عزم الأمور، وأحسن ما تنمى به أن تستعان في تأديبه وتهذيبه. (4)
وليعلم أن أول ما يغلب على الطفل من شره الطعام، فينبغي أن يؤدب في ذلك، وأن يعود أخذ الطعام بيمينه، والبدء باسم الله، والأخذ مما يليه، وعدم السبق في الطعام، وعدم تحديق النظر إليه، وإلى من يأكل معه، والتمهل في الأكل وإجادة المضغ، وعدم الموالاة بين اللقم، والحذر من تلطخ اليد والثوب، وتعود الخبز القفار في بعض الأحيان حتى لا يرى الأدم حتما.
1 (5)
وينبغي أن يقبح عنده كثرة الأكل، بذم الطفل الشره ومدح المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به، والقناعة بأي طعام كان. (6)
وأن يحبب إليه الأبيض من الثياب، دون الملون، وأن يفهمه أن تلوين الثياب ليس عادة الرجال، وإنما هو عادة النساء والمخنثين، وأن يحفظه من مخالطة الأطفال الذين عودوا التنعم ولبس الثياب الفاخرة، ومن مخالطة كل من يسمع منه ما يرغب في ذلك. (7)
وإذا ظهر من الطفل فعل محمود فينبغي أن يجازى عليه بما يفرح به، وأن يمدح أمام الناس، فإن أساء مرة فيجمل بالوالد أن يتغافل عنه, ولا يكاشفه، ولا سيما إذا تستر الطفل واجتهد في الإخفاء، فإن مكاشفته قد تزيده جسارة وعدم مبالاة. فإن عاد فليعاتب سرا وليحذر عواقب الافتضاح، وليكن العتب قليلا يهون على الطفل وقع الملام، وسماع التأنيب، وركوب القبيح. (8)
وينبغي أن يمنع من النوم نهارا، فإن ذلك يورث الكسل ولا يمنع منه ليلا، ولكن يمنع الفراش الوثير، لتصلب أعضاؤه ويعود خشونة الفراش. (9)
ويجب أن يمنع من كل ما يفعله خفية، فإنه لا يخفي إلا ما يعتقد أنه قبيح. (10)
وليعود المشي في بعض النهار، لتحبب إليه الحركة والرياضة. (11)
وليمنع من كشف أطرافه. (12)
وينبغي أن يمنع من الافتخار على أقرانه بشيء مما يملكه والده، أو بشيء من مطاعمه وملابسه، أو لوحه ودواته، بل يعود التواضع، وطيب الحديث. (13)
ويجب أن يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ وأن الأخذ لؤم، وخسة، ودناءة، إن كان غنيا، وذلة، ومهانة، إن كان فقيرا، فلا يصح أن يأخذ شيئا من الأطفال. (14)
وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه، ولا يمتخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر سواه، ولا يضع رجلا على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يسند رأسه بساعده ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام. (15)
ويجب أن يمنع القسم، صادقا كان أو كاذبا، لئلا يعتاد ذلك. (16)
وليعود أن لا يتكلم إلا مجيبا، وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع إذا تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا، وأن يقوم لمن فوقه، ويفسح له المكان. (17)
ويجب أن يمنع من لغو الكلام، ومن اللعن، والسب. (18)
وليعود الصبر إذا ضربه المعلم، فلا يكثر الصراخ، ولا يستشفع بأحد، وليذكر له أن الصبر دأب الشجعان والرجال وإن كثرة الصراخ دأب المماليك والنساء. (19)
وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من المكتب باللعب الجميل يستريح به؛ فإن منع الصبي من اللعب يميت قلبه، ويخمد ذكاءه، ويحمله على الاحتيال للخلاص من الكتاب. (20)
وينبغي أن يعلم طاعة والديه، ومعلمه، ومؤدبه، وكل من هو أكبر منه سنا من قريب وأجنبي. (21)
وإذا بلغ سن التمييز فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة، ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان، ويعلم كل ما يحتاج إليه من أمور الشرع. (22)
وليخوف من السرقة، وأكل الحرام، ومن الخيانة، والكذب، والفحش، وكل ما يغلب على الأطفال.
هذه خلاصة ما وضع الغزالي في التربية. وما أنكر أن فيها شيئا من التكرار ويرى أنه في مثل هذه المواطن جميل.
وإنما ألاحظ أنه لا معنى لأن تحبب إلى الطفل الثياب البيض بنوع خاص. ويظهر أن هذه كانت سنة حسنة إذ ذاك.
2
وألاحظ كذلك أنه لا يصح أن يعلم الصبي أن هناك فئة مخنثة تميل إلى الملون من الثياب، فقد يحسن أن لا تطرق آذان الصبي بمثل هذا الهجر، بل يجب أن لا يعرف أن الطفل قد يتخلق بأخلاق النساء. ولا أفهم معنى لا يدعى الطفل إلى عدم إرخاء يديه، بل يضمهما إلى صدره حين يمشي! ويضحكني أن ينصح الطفل بالصبر والاحتمال حين يضربه المعلم، وكان أولى أن ينهى عن هذه العادة الشنعاء، التي لا تجمل بالمعلمين
3 .
ومن أدق ما تنبه له الغزالي تلميحه إلى أن يعلم الطفل أسرار البلوغ حين يصل إليه.
والغزالي يسمي المدرسة بالمكتب والكتاب، وليس له في هذا الباب غير برنامج ضئيل، يمثل ما كان يفهم في عصره من المدارس الأولية والابتدائية. ويتلخص هذا البرنامج (في تعلم القرآن، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار) ولم تخطر له الرياضة ببال. ولم يتعرض للغة الأدب، ولكنه نبه على أن الطفل يجب أن «يحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظروف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في نفوس الصبيان بذور الفساد».
والغزالي يعد الطفل في الواقع لأن يكون جنديا في الحياة إذ يحرم عليه كل مظاهر اللين. وإن كان لم يغفل عن غايته الأخلاقية حين أوصى بأن يعلم أن الموت منتظره في كل ساعة، وأن العاقل من تزود من دنياه لأخراه. وأرى هذه الوصية خطرة، إذ تضعف العزم في نفوس الأحياء، ولا تترك للإسلام نفسه جيشا يحفظ به ثغر، أو يفتح به قطر، وما كان الإسلام إلا دين الغزاة الفاتحين.
تربية البنات
لم يتكلم الغزالي عن تربية البنات، وكان عليه أن يهبهن نصيبا من عنايته. ولكن الرجل تأثر بعصره، وبقومه، فقد كانت تربية البنات مما لا يهتم به الأولون.
وسترى حين نتكلم عن حقوق المرأة أنه يحتم على الرجل أن يعلم زوجه، فإن لم يعرف ناب عنها في سؤال العلماء، ولكنك سترى كذلك أن هذا العلم الواجب على الرجل لامرأته لا يزيد عن معرفة الفرائض من صلاة وصيام. ومعرفة الفرائض هذه لا تفيد المرأة شيئا في الحياة المنزلية، وهي العبء الملقى على عواتق النساء.
الفصل الرابع
آداب المعلمين
قد رأيت المنهج الذي وضعه الغزالي لتربية الطفل، ورأيت ما خطه لبرنامج التدريس في المكاتب الصغيرة، والآن نقفك على رأيه في تربية الطلاب، ونريد بهم من رأوا الاستزادة من العلم بعد انقضاء ذلك الأمد القصير، الذي أعد للأطفال.
والغزالي كان أستاذا في المدرسة النظامية، وكان يختلف إلى درسه ثلاثمائة من التلاميذ، وكان له بالطبع زملاء، وكان لهؤلاء الزملاء تلاميذ، فمن البعيد أن لا تكون هذه الحركة ألهمته البحث في التعليم من حيث إنه مهنة، وهو قد ابتلي بمهنة التعليم!
ولقد تكلم الغزالي عن التعليم، وأطال في كتاب الإحياء، وتكلم عنه في الإملاء على ما أشكل من الأحياء، وذكر أنه (أفضل من سائر الحرف والصناعات) وبين وجه هذه الأفضلية بالتفضيل.
وكل ما تقيد به هذه الحرفة فيما يرى أنه يجب أن يقصد بها وجه الله، ويقول في ذلك: «وإنما المعلم هو المقيد للحياة الأخروية الدائمة، أعني معلم علوم الآخرة، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، لا على قصد الدنيا، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه».
1
وعلوم الدنيا هي في رأيه ما يشمل الطب والحساب والهندسة وتقويم البلدان، وعلى الجملة كل ما عدا العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فالذي يعلم علوم الدنيا هذه هو بلا شك محترف. ويكفي أن يقصد بتعليمه الآخرة، ليكون من الناجين.
أضف إلى هذا أن الغزالي - لورعه- يشبه العلم بالمال، فكما أن لصاحب المال حال استفادة، وحال ادخار، وحال إنفاق على نفسه، وحال بذل لغيره، وهو أشرف أحواله، فكذلك لصاحب العلم حال طلب، وحال تحصيل، وحال استبصار، وحال تبصير، وهو أشرف الأحوال.
والتبصير هو التعليم، والغزالي لا ينكر أن يكون المرء معلما، فقد كان من المعلمين، وإنما يطالب المعلم بتعليم علوم الآخرة. أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، وسترى فيما يذكر من آداب المعلم عدم أخذ الأجر، ولكن هذا لا يقدح في نظره إلى التعليم كمهنة، فإنه يكفينا أن يدرك أن التعليم صناعة، تحتمل الإجادة، كما تحتمل القصور، وإنه يجب على المعلم كيت وكيت، ليحسن أداء مهمته، على وجه نافع مقبول.
وقد وضع للمعلم الآداب الآتية: (1)
أن يشفق على المتعلمين، ويجريهم مجرى بنيه. ويقول الغزالي في توابع هذه البنوة: وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها، فكذلك حق تلامذة الرجل الواحد، التحاب والتواد. (2)
أن يقتدي بصاحب الشرع، صلوات الله عليه وسلامه، فلا يطلب أجرا على إفادة العلم، ولا يقصد به جزاء ولا شكورا. (3)
أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا، وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من العلم الجلي. (4)
أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق، بطريق التلميح والرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار. (5)
أن لا يقبح في نفس المتعلم التلوم التي وراء علمه: فليس لمعلم اللغة أن يقبح في نفس المتعلم على الفقه مثلا، بل ينبغي أن يوسع عليه طريق التعليم في غيره. وإن كان متكفلا بعدة علوم فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة. (6)
أن يقتصر المعلم على قدر فهمه، ولا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله. (7)
أن يلقي للمتعلم القاصر الجلي اللائق به، ولا يذكر له أن وراء هذا الجلي تدقيقا يدخره عنه. (8)
أن يعمل بعلمه؛ فلا يكذب قوله فعله. وهذا الأدب الأخير غير خاص بالمعلمين، ولكنهم أحوج الناس إليه وأولاهم به، إذ كانوا مرشدين، ومن حسن السياسة على الأقل أن يعمل المرشد بما يقول. (9)
أن يجمل نفسه كي يعظم في نفوس طلبته فلا يستصغروه، ولم يذكر الغزالي هذا في آداب المعلم. ولكن ذكره استطرادا في باب النظافة حيث قال: «كان رسول الله مأمورا بالدعوى، وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم. ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره عيونهم. وهذا القصد واجب على كل عالم تصدى لدعوة الخلق إلى الله: وهو أن يرعى من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه». (10)
أن ينظر في نية المتعلم: فإن رآها حسنة علمه، وإن رآها سيئة أعرض عنه. فلا يجوز فيما يرى الغزالي أن نعلم من نرى في أقواله، أو أفعاله، أو مطعمه، أو ملبسه، أو مسكنه، ما يدل على فساد نيته، وسوء قصده. ولا يكفي فيما يرى الغزالي أن يقول المعلم: إنما أريد نشر العلم، وللمتعلم بعد ذلك الخيار، إن شاء أحسن وإن شاء أساء، بل يشبهه بمن يهب سيفا لقاطع الطريق، ثم يقول: إنما أريد السخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة، وأن أعينه على الجهاد، فإن استعمل السيف في الأذى فهو وحده المسؤول.
وربما كان يحسن بالغزالي أن ينصح المعلم ببذل الجهد في غزو الغرائز السيئة التي يراها في تلميذه، فأما الضن عليه بالعلم فهو فيما رأى هروب من الواجب، وعمل سلبي لا يغني ولا يفيد.
الفصل الخامس
آداب المتعلمين
وعلى المتعلم ما يأتي من الواجبات: (1)
أن يقدم طهارة النفس من رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف . (2)
أن يقلل علاقته من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإنه مهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق. (3)
أن يذعن لنصيحة المعلم إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. (4)
أن يحترز في مبدأ أمره عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يحير ذهنه ويفتر رأيه، بل عليه أن يتقن أولا طريقة أستاذه، ثم يصغي بعد ذلك إلى الشبه والمذاهب. (5)
أن لا يدع فنا من الفنون المحمودة إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالأهم واستوفاه، وتطرف من البقية. (6)
أن لا يخوض في فن من الفنون دفعة، بل يراعي الترتيب. (7)
أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق إلى بعض. وهذه الطريقة فيما أرى إنما تصلح في الفنون التي كان يعرفها الغزالي إذ ذاك، فمن الواضح أن الفقه مثلا طريق الأصول، ولكن هل يصح لدينا الآن أن المنطق طريق الحساب، أو أن النحو طريق الجغرافيا، ووصف الشعوب؟ (8)
أن يعرف أن شرف العلم إنما يرجع إلى شرف الثمرة أو قوة الدليل فعلم الدين فيما يرى الغزالي أشرف من علم الطب، لأن ثمرة الأول السعادة الأخروية، وثمرة الثاني السعادة الدنيوية والآخرة خير من الأولى. وعلم الحساب أشرف من علم النجوم لقوة أدلته. وعلم الطب أشرف من علم الحساب لأن الثمرة أولى من قوة الدليل.
وربما كان يحسن أن يتنبه الغزالي إلى أن للحساب ثمرة لا تقل شأنا عن وثاقة دليله، ولكن عذره أنه عاش في عصر قد غاب عن إنسانه أنه خلق لتعمير الوجود.
الباب العاشر
في الحقوق والواجبات
تمهيد
الحق هو ما لك، والواجب هو ما عليك. فتقول: من حقي أن أتعلم، ومن واجبي أن أعمل بما أعلم.
ولكن الغزالي يضع كلمة حق موضع كلمة واجب. وربما استغنى عنهما جميعا بكلمة أدب.
وقد فصل الغزالي حقوق المرء نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو أخيه، ونحو جاره، ونحو والديه، ونحو أبنائه، وبين آداب التاجر، والصانع، والمسافر ، وكاد يستوعب ما للمرء، وما عليه.
ونحن ذاكرون خلاصة تمثل وجهة نظره في الحقوق والواجبات ليعرف القارئ اتجاه الفكر الإسلامي في ذلك الحين.
في الحقوق والواجبات
(1) واجب المرء نحو نفسه
يجب على المرء فيما يرى الغزالي أن يجتهد في أن لا يراه مولاه حيثما نهاه، وأن لا يفقده حيث أمره، ولن يقدر على ذلك إلا بتوزيع أوقاته، وترتيب أوراده، من صباحه إلى مسائه.
ويحسن فيما يرى الغزالي أن يستيقظ المرء قبل طلوع الفجر، وأن يكون أول ما يجري على لسانه ذكر الله، وأن لا يترك السواك فإنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومسخطة للشيطان.
ولا يفوتنا أن نقرر أن عناية الغزالي بالحث على ما تدعو إليه الشريعة الإسلامية من الوضوء والغسل وما إليهما من أنواع الطهارة، إنما هو دعوة صريحة إلى الحياة. فإن الإسلام بفرضه الوضوء عند كل صلاة، والغسل عند الاحتلام والوقاع، إنما يرفع عن الناس آصار البطالة والخمول.
ولا يعلم إلا الله ما كانت تصل إليه حالة الشرق لو لم ينتشر فيه الإسلام، فإنه يعوض على أهله ما فات أكثرهم من سلامة الذوق، إذ لا يعرفون للنظافة قيمة، ولا يقيمون للطهارة وزنا. حتى لنجد من العلماء من ينص على أن نية النظافة تقلل من قيمة الوضوء، لأن الطهارة في نظرهم عبادة آلية، لا تتعلق بها الأغراض، وسبحان من وهب العقول!
غير أننا لا نوافق الغزالي فيما ذكر من آداب النوم، إذ يحض المرء على أن ينام على يمينه كما يضطجع الميت في لحده، وأن يتذكر أن النوم مثل الموت، واليقظة مثل البعث ولعل الله يقبض روحه في ليلته، وأن ينام على طهارة، وأن تكون وصيته مكتوبة تحت رأسه ... إلخ.
وما كنت لأوافق الغزالي على ذلك، لأنه يجب إقصاء فكرة الموت عن الأحياء فإن التفكير في الموت مدعاة إلى الزهادة والجمود وهو كذلك نقص في العزائم، وخمود في القرائح.
وهناك سبل أخرى غير الموت للحض على الطيبات، فلماذا لا نزين الخير للناس، ببيان ما يفعل الخير في رفعة الأقدار، وسمو النفوس؟
وقد فصل الغزالي آداب المرء نحو نفسه في أكثر كتبه في الأخلاق. ولا عيب عليه غير الإفراط في تحقير الدنيا، وهو عيب فظيع، فإن الدنيا أجل وأعظم مما يتصور هو وأمثاله ممن يرون الموت من جملة الأرزاق!
وهل كان الله عابثا يوم خلق هذه الدنيا الجميلة، التي رميتم عشاقها بالإثم والفسوق؟ (2) واجب المرء نحو إخوانه في الدين
وضع الغزالي عدة آداب للرجل مع أخيه في الدين، بعضها خاص بكيفية المعاملة، والآخر خاص بتنقية النفس من الضغائن وجزء منها يتعلق بتربية المرء على كف الأذى وإسداء المعروف.
ويخطر بالبال هذا السؤال: ألا يرى الغزالي وجودا لغير المسلم؟ وإلا فما رأيه في معاملة من ليسوا بمسلمين؟
وفي جواب هذا السؤال نذكر ما جاء في إحدى فتاويه
1
من أن الذمي كالمسلم فيما يرجع إلى الإيذاء. لأن الشرع عصم دمهم وأموالهم. فيفهم من هذا أن الذمي والمسلم يعاملان معاملة تكاد تكون واحدة، وإن لم ينص على ذلك في الإحياء.
وإلى القارئ خلاصة ما على المسلم لأخيه من الواجبات: (1)
أن لا يؤذي أحدا منهم بفعل أو قول. (2)
أن يتواضع لكل منهم، ولا يتكبر عليه. (3)
أن لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام، مهما غضب عليه. (4)
أن يحسن إلى كل من قدر على الإحسان إليه منهم، بلا تمييز. (5)
أن لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه، بل يستأذن ثلاثا فإن لم يؤذن له انصرف. (6)
أن يخالق الجميع بخلق حسن، ويعامل كل امرئ بحسب طريقته، فإنه إن أراد لقاء الجاهل بالعلم، والأمي بالفقه، والعيي بالبيان، آذى وتأذى. (7)
أن يوقر المشايخ، ويرحم الصبيان. (8)
أن يكون مع الكافة مستبشرا طلق الوجه رقيقا. (9)
أن لا يعد مسلما بوعد إلا ويفي به. (10)
أن ينصف الناس من نفسه، فلا يعاملهم إلا كما يحب أن يعاملوه. (11)
أن يزيد في توقير من تدل هيئته وثيابه على علو منزلته. (12)
أن يصلح ذات البين مهما وجد إلى ذلك سبيلا. (13)
أن يستر عورات المسلمين كلهم. وقد استشهد الغزالي بهذا الحديث البديع: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا الناس ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته». (14)
أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة، ويسعى في قضاء حاجته بما يقدر. (15)
أن يصون عرض أخيه المسلم، ونفسه، وماله، عن ظلم غيره، مهما قدر. ويرد عنه، ويناضل دونه، وينصره، قياما بأخوة الإسلام. (16)
أن يتقي مواضع التهم، صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم عن الغيبة. (17)
أن يجامل أخاه ويواسيه إذا بلي بشر. (18)
أن يجتنب مخالطة الأغنياء، ويختلط بالفقراء والمساكين.
ويرى القارئ في هذه الحقوق شيئا من التكرار. وهذا أيضا يمثل وجهة الغزالي في الأخلاق: فهو كثير الحذر، شديد الحيطة، ولا يزال بالمعنى يردده في كتبه، بل في الكتاب الواحد حتى يرسخ في نفس المستفيد. (3) حقوق الجوار
ويرى الغزالي أن الجوار يقتضي حقا وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم، ما يستحقه المسلم وزيادة، ويرى قوله عليه السلام: «الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق؛ فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم: فله حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم. وأما الذي له حقان فالجار المسلم: له حق الجوار، وحق الإسلام. وأما الجار الذي له حق واحد فالجار المشرك».
ويقول تعليقا على هذا الحديث: فانظر كيف أثبت للمشرك حقا بمجرد الجوار!
وقد وضع للجار ما يأتي من الواجبات: (1)
أن يبدأ جاره بالسلام. (2)
وأن لا يطيل معه الكلام. (3)
وأن لا يكثر عنه السؤال. ولا يتبعه النظر فيما يحمل إلى داره. (4)
وأن يعوده في المرض. (5)
وأن يعزيه في المصيبة، ويقيم معه في العزاء. (6)
وأن يهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه. (7)
وأن يصفح عن زلاته، ولا يسمع فيه كلاما. (8)
وأن لا يطلع من السطح على عوراته، بل يستر ما ينكشف له. (9)
وأن لا يضايقه بوضع الجذع على جداره. (10)
وأن لا يصب الماء في ميزابه، ولا يطرح التراب في فنائه. (11)
وأن لا يضيق طريقه إلى الدار. (12)
وأن ينعشه في صرعته إذا نابته نائبة. (13)
وأن لا يغفل عن ملاحظة داره في غيبته. (14)
وأن يغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته. (15)
وأن يتلطف لولده في كلمته. (16)
وأن يرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه.
يقول الغزالي: هذا إلى جملة الحقوق التي ذكرناها للمسلمين، ولم يستثن المشرك في جملة هذه الحقوق، ولكنك رأيت أنه خص الذميين بهذه المساواة، إذ كان إيذاء الحربي عنده غير حرام. (4) حقوق الأقارب
ثبت حق المشرك بالجوار. وكذلك يثبت حقه بالقرابة. ويروي الغزالي في هذا أن أسماء بنت أبي بكر قالت: «قدمت على أمي فقلت يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، أفأصلها؟ قال نعم. وفي رواية: أفأعطيها؟ قال : نعم، صليها».
ومن الواضح أن القريب المسلم أو الجار يثبت له فوق حق القرابة ما يثبت بأخوة الإسلام وبالجوار من الحقوق. (5) حقوق الوالدين
يقول الغزالي: كيفية القيام بحق الوالدين تعرف مما ذكرنا في حق الأخوة، فإن هذه الرابطة آكد من الأخوة، بل أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات، وإن لم تجب في الحرام المحض، لأن ترك الشبهة ورع، ورضاء الوالدين حتم.
ويرى الغزالي أن ليس للإنسان أن يبادر بالحج وهو فرض إلا بإذن والديه، لأن المبادرة نفل. وكذلك ليس له أن يخرج لطلب العلم إلا بإذنهما، ويستثني علم الفرائض من الصلاة والصوم إذا لم يكن في البلد من يعلمه. وليته عمم هذا الحكم في جميع العلوم الضرورية في الحياة.
وينقل الغزالي عن رسول الله أن لزوم الوالدة أفضل من الجهاد وهو يقدم الوالدة في البر على الوالد. (6) حقوق الأبناء
يجب على الوالد: (1)
أن يسمي ابنه اسما حسنا. (2)
و أن يؤدبه إذا بلغ ست سنين، فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضربه على الصلاة، فإذا بلغ ست عشر سنة زوجه. (3)
وأن يعينه على بره، فلا يحمله على العقوق بسوء عمله. (4)
وأن يسوي بين أولاده. (5)
وأن يبدأ بالإناث إذا حمل لأولاده طرفة من السوق. (7) واجب التاجر
وعلى التاجر فيما يرى الغزالي ما يأتي من الواجبات: (1)
أن لا يحتكر، فيدخر الطعام ينتظر به غلاء الأسعار وهذا مطرد في أجناس الأقوات. أما ما ليس بقوت، ولا هو معين على القوت كالأدوية، والعقاقير، والزعفران وأمثاله، فلا يتعدى النهي إليه وإن كان مطعوما. وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسد القوت في بعض الأحيان وإن كان لا يمكن المداومة عليه ففيه نظر. ومن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت وما يجري مجراه، على أن احتكار الأطعمة جائز إذا استغنى الناس عنها ولم يخش من احتكارها قحط. وبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهة والتحريم.
وكان على الغزالي أن يبين حكم احتكار الأدوية إذا وجد وباء، أو انتشر مرض من الأمراض. فقد تصبح الأدوية أهم من الأطعمة، ويمسي احتكارها من عظائم الأمور.
2 (2)
أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها. (3)
أن لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئا. (4)
أن لا يكتم في وزنها ومقدارها شيئا. (5)
أن لا يكتم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه. (6)
أن لا يروج الزيف من الدراهم أثناء النقد، إذ يستضر به المعامل إن لم يعرف، وإن عرف فسيروجه على غيره. وهكذا دواليك، ومن هنا وجب على التاجر تعلم النقد، لا ليستقصي لنفسه فحسب، ولكن لئلا يسلم إلى مسلم زيفا وهو لا يدري فيكون آثما بتقصيره في تعلم ذلك العلم. (7)
أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح، ولا يمكن إلا بغبن ما، ولكن يراعي فيه التقريب. (8)
أن يحسن نيته في ابتداء التجارة، فينوي بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، والقيام بكفاية الأولاد. (9)
أن يقصد القيام في تجارته أو صنعته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعات والتجارات لو تركت لهلك أكثر الناس. (10)
أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، بأن يكون أول داخل في السوق وآخر خارج منه، وبأن يركب البحر في التجارة، ففي الخبر «لا يركب البحر إلا بحج أو عمرة أو غزو».
هكذا يرى الغزالي. وهذه منه نزعة صوفية لا تأتلف مع واجب الرجل الأخلاقي في الحياة الاجتماعية. فللتاجر أن يكون أول داخل في السوق وآخر خارج منه، بل عليه ذلك، وعليه أن يركب البحر في التجارة، وأن يسلك إلى الربح كل سبيل. والحج والعمرة، والغزو، كل أولئك من وسائل الحياة. ولكن أكثر الناس لا يفهمون. (11)
أن لا يقتصر على اجتناب الحرام، بل يتقي مواضع الشبهات، ومظان الريب، ولا ينظر إلى الفتاوى، بل يستفتي قلبه. وإذا حملت إليه سلعة رابه أمرها سأل عنها حتى يعرف وإلا أكل الشبهة. (12)
أن يراقب جميع مجاري معاملته مع كل واحد من معامليه ويعد جوابه ليوم الحساب والعقاب . (13)
أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع، ولا ينبغي أن يكون سبب استضرار أخيه. (14)
أن يخص في معاملته جماعة من الفقراء بالنسيئة، وهو في الحال عازم على ألا يطالبهم إن لم تظهر لهم ميسرة. (15)
أن يحسن في استيفاء الثمن، وسائر الديون، فيتسامح مرة، ويمهل مرة، ويحط البعض مرة.
وبعد سرد هذه الآداب لا يفوتنا أن ننوه بعناية الغزالي بصالح الهيئة الاجتماعية، فإن التاجر الذي تأدب بهذه الآداب تمسي تجارته ولا شك ربحا عاما للناس، ويصبح خادما لأهل بلده من حيث لا يعلمون.
هذا وجه الجمال في هذه الآداب التي خص بها التجار وما أنكر أن فيها جانبا من الضعف بإثقال التاجر بكثير من التكاليف الظاهرة والمستورة، في حين أنه يجب تمرينه على المخاطرة في سبيل الحياة، ولكن الغزالي لا يعدل بالسلامة شيئا والسعيد عنده من نجا بدينه، وإن خسر دنياه. (8) آداب المسافر
وضع الغزالي فصولا مطولة عن السفر، وفوائده، وآفاته، وعده نوعا من الحركة والمحافظة. وبين الباعث عليه من هرب أو طلب، وأطال في ذلك وأجاد.
نحن ذاكرون هنا طائفة مما وضع للمسافر من الآداب: (1)
أن يبدأ برد المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لمن تلزمه نفقته، ويرد ما عنده من الودائع، ولا يأخذ لزاده إلا الحلال الطيب، وليأخذ قدرا يوسع به على رفقائه. (2)
أن يختار رفيقا، فلا يخرج وحده، وليكن رفيقه من أهل الدين، فإن المرء على دين خليله. (3)
أن يودع رفقاء الحضر، والأهل، والأصدقاء. (4)
أن يرحل من المنزل بكرة فإن الخير في البكور. (5)
أن يجعل أكثر سيره بالليل، فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار. (6)
أن يحتاط بالنهار، فلا يمشي منفردا خارج القافلة، فربما ينقطع، أو يغتال، وأن يتحفظ عند النوم بالليل. (7)
أن يرفق بالدابة فلا يحملها ما لا تطيق، ولا يضربها في وجهها، وأن يروحها بالنزول عنها غدوة وعشية. (8)
أن يحمل معه مرآة، ومكحلة ومقراضا، ومسواكا ومشطا، وقارورة، وركوة، وحبلا. (9)
أن ينوي في دخول كل بلدة أن يرى شيوخها، ويجتهد في أن يسع من كل واحد كلمة، أو أدبا ينتفع به. (10)
أن لا يزيد على ثلاثة أيام في زيارة أخ له، وإذا زار أحد أساتذته في سفره، فلا يقم عنده أكثر من يوم وليلة. (11)
أن يرجع من سفره إذا رأى في نفسه نقصانا عما كان عليه في الحضر.
وأحب أن يتنبه القارئ إلى دقة هذا الأدب الأخير. (9) حقوق المرأة
لا يرى الغزالي أن المرأة تساوي الرجل، بل يرى أن الرجل سيد المرأة. ويقول فيمن أطاع زوجه، وملكها نفسه «أنه عكس القضية. وأطاع الشيطان لما قال:
ولآمرنهم فليغيرن خلق الله .
3
إذ حق الرجل أن يكون متبوعا لا تابعا. وقد سمى الله
الرجال قوامون على النساء ،
4
وسمى الزوج سيدا فقال:
وألفيا سيدها لدى الباب .
5
فإذا انقلب السيد مسخرا فقد بدل نعمة الله كفرا.
6
ولم يقتصر الغزالي على ذلك، بل حكم على طبيعة المرأة حكما أقسى من الصخر، فقد قال في معرض الحديث عن أدب النساء «والغالب عليهن سوء الخلق وركاكة العقل» واستدل بحديث لا أعلم مبلغه من الصحة، وهو قوله عليه السلام: «مثل المرأة الصالحة كمثل الغراب الأعصم بين مائة غراب».
وإليك جملة ما وضع الغزالي للمرأة من الحقوق:
أولا:
على الرجل أن يحسن الخلق معها، وأن يتحمل الأذى منها، ترحما عليها لقصور عقلها. ويقول الغزالي: «واعلم أنه ليس حسن الخلق مع المرأة كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها».
ثانيا:
أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة، والمزاح، والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء. ويقول الغزالي: «وقد كان رسول الله يمزح معهن، وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق» وهذا تأكيد لرأيه في طبيعة المرأة.
ثالثا:
الاعتدال في الغيرة، فلا يتغافل الرجل عن مبادئ الأمور التي تخشى غوائلها، ولا يبالغ في إساءة الظن، والتعنت وتجسس البواطن.
رابعا:
الاعتدال في النفقة، فلا ينبغي أن يقتر عليها في الإنفاق، ولا ينبغي أن يسرف، ولا ينبغي ترك الحلوى بالكلية، وينبغي أن يأمر الرجل أهله بالتصدق ببقايا الطعام، وما يفسد لو ترك. وللمرأة أن تفعل ذلك بحكم الحال من غير إذن الزوج. ولا ينبغي أن يستأثر الرجل عن أهله بمأكول طيب، فإن ذلك ينافي المعاشرة بالمعروف.
خامسا:
على الرجل أن يعلم زوجه أحكام الصلاة، فإن لم يعرف ناب عنها في سؤال العلماء، وليس لها أن تخرج لطلب العلم ما دام الزوج لم يقصر في تعليمها الفرائض، فإن قصر فلها الخروج للاستفادة، بل عليها ذلك، ويعصي الرجل بمنعها. ومتى تعلمت الفرائض فليس لها أن تخرج لتعلم فضل إلا برضاه. وللرجل الحق في أن لا يدخل عليها الرجال، وأن يمنعها من الخروج إلى المساجد والأسواق.
وهنا نلفت النظر إلى أن الغزالي يقرر ويلح في تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، ولم يفرق بين العلماء وغير العلماء، والمرأة العجوز فقط هي التي يجوز لها عنده زيارة المساجد وإن خالف ذلك بعض الشيء ما كان على عهد رسول الله. ويكاد يجزم بأن النبي لو شاهد أهل عصره لشدد في التضييق على المرأة.
سادسا:
إذا كان له نسوة فينبغي أن يعدل، فإذا خرج إلى سفر وأراد استصحاب واحدة أقرع بينهن، والعدل واجب في العطاء والمبيت، وأما في الحب والوقاع فهو تكليف بما لا يطاق.
سابعا:
إذا وقع بين الزوجين خصام ولم يلتئم أمرهما ، فإن كان في جانبهما جميعا، أو من الرجل فلا بد من حكمين: أحدهما من أهله والآخر من أهلها، لينظرا بينهما ويصلحا أمرهما، وليس للمرأة أن تتولى تأديب الرجل حين يكون الخصام من جانبه لئلا تسلط فلا يقدر على إصلاحها كما يقول الغزالي.
وأما إذا كان النشوز من المرأة خاصة، فللرجل أن يؤدبها، ويحملها على الطاعة قهرا، ولكن ينبغي أن يتدرج في تأديبها؛ فيقدم أولا الوعظ، والتحذير، والتخويف، فإن لم ينجح أولاها ظهره في المضجع، وانفرد عنها بالفراش، وهجرها وهو في البيت معها من ليلة إلى ثلاث ليال، فإن لم ينجح ذلك ضربها ضربا غير مبرح بحيث يؤلمها ولا يكسر لها عظما، ولا يدمي لها جسما، ولا يضرب وجهها فإن ذلك منهي عنه.
ثامنا:
أن ينظر الرجل في حاجة امرأته إلى التحصين، فإن تحصينها واجب عليه. وللغزالي في هذا الموضوع كلام كله سذاجة: إذ تراه يضع طائفة من الأدعية يقوم بها الرجل عند الوقاع، حتى ليذكر أن بعض أصحاب الحديث كان يكبر حتى يسمع أهل الدار صوته! وما أدري كيف تصلح هذه اللحظة للأدعية والأوراد، وما إلى ذلك مما يضعف الشهوة، ويبعث على الخمود.
تاسعا:
الطلاق مباح، ولكنه إيذاء. ولا يباح للرجل إيذاء المرأة إلا بجناية من جانبها أو ضرورة من جانبه. ومهما آذت زوجها أو بذأت على أهله فهي جانية، وكذلك مهما كانت سيئة الخلق أو فاسدة الدين. ويرى الغزالي أن حق الوالد مقدم على حق الزوجة، فإذا كرهها الوالد لغرض غير فاسد فقد جاز الطلاق. وإن كان الأذى من الزوج فلها أن تفتدي بمال، ويكره للرجل أن يأخذ منها أكثر مما أعطى، فإن ذلك إجحاف بها وتحامل عليها وتجارة على البضع. وعلى الزوج أن يتلطف في التعلل بتطليق زوجته من غير تعنيف واستخفاف. وأن يطيب قلبها بهدية على سبيل الجبر والإمتاع، ولا يفشي سرها لا في الطلاق ولا في النكاح.
ومما سلف بيانه نعرف أن الغزالي لم يفكر في المرأة إلا من حيث هي زوجة، فلم يذكر شيئا عن حقوقها الاجتماعية، ولم يتكلم عن تعليمها قبل الزواج، ولم يسمح للمتزوجة بشيء من العلم أكثر من الفرائض، وهي غاية بسيطة بالطبع، لأن تعلم الفرائض لم يكن موضع خلاف. وكل هذا نتيجة محتومة لرأيه في طبيعة المرأة، إذ كانت عنده في مقام التابع، ومن طاعة الشيطان أن تصبح في مقام المتبوع! (10) الرفق بالمرأة
ولم يكتف الغزالي بهذه الحقوق في صيانة المرأة، بل حض الرجل على الرفق بها في كل حال، فذكر في ص121 من كتابه «التبر المسبوك» أن من أحب أن يكون مشفقا على زوجته رحيما بها، فليذكر أن المرأة لا تقدر أن تطلقه، وهو قادر على طلاقها متى شاء، وأنها لا تقدر أن تأخذ شيئا بغير إذنه، وهو قادر على ذلك، وأنها ما دامت في حباله لا تقدر على زوج سواه، وهو قادر على أن يتزوج عليها، وأنه لا يخافها وهي تخافه، وأنها تقنع منه بطلاقة وجهه، وبالكلام اللين، وهو لا يرضى بجميع أفعالها، وأنها تفارق أمها وأباها وجميع أقاربها لأجله، وهو لا يفارق أحدا، وأنه يقدر أن يتسرى ويختص بالجواري دونها، وأنها تخدمه دائما وهو لا يخدمها، وأنها تتلف نفسها إذا كان مريضا وهو لا يغتم لها ولو ماتت.
وألاحظ أن هذه النصيحة الشعرية تفترض أن يكون الرجل مسيطرا على المرأة، وأنها كالحمل الوديع. ومن الواضح أن الرجل لا يكون دائما على هذه السيطرة، والمرأة لن تكون دائما بهذه الوداعة. ولكن عذر الغزالي في إطلاق هذا النصح، أن الغالب وقوع هذه الحال، فالرجل في الغالب يأمر وينهى، والمرأة تسمع وتطيع، وما عدا ذلك شذوذ، وهم لا يضعون القواعد للشواذ!
والذي لا شك فيه، من بين ما قال الغزالي، أن الرجل يملك رقبة المرأة، ويستطيع أن يتزوج من غيرها إن شاء، ويتصرف في البيت بلا رقيب ولا حسيب، وأن المرأة تركت من أجله أمها وأباها وأقاربها، وهو لم يفارق لأجلها أحدا من العالمين. (11) واجبات المرأة
النكاح نوع رق - كما يقول الغزالي - فالزوجة رقيقة الزوج، وعليها طاعته في كل ما يطلب ، مما لا معصية فيه. وإليك خلاصة ما عليها من الواجبات: (1)
أن تكون قاعدة في قعر بيتها، ملازمة لمغزلها، لا يكثر صعودها واطلاعها على سطح الجيران. (2)
وأن تكون قليلة الكلام لجيرانها، ولا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول. (3)
وأن تحفظ بعلها في غيبته وحضرته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، لا في نفسها ولا في ماله. (4)
وأن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية، دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها أو يعرفها بشخصها. (5)
وأن لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو تعرفه. (6)
وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب، وليس البعل حاضرا، لم تستفهم ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها وأن تقنع من زوجها بما رزقه الله. (7)
وأن تقدم حقه على حقها وحقوق سائر أقاربها. (8)
وأن تكون متنظفة في نفسها مستعدة في جميع الأحوال ليتمتع بها إن شاء. (9)
وأن تشفق على أولادها. (10)
وأن تكون قصيرة اللسان عن مراجعة الزوج وسب الأولاد. (11)
وأن تقوم بكل خدمة في الدار تقدر عليها. (12)
وأن لا تذهب إلى الحمام، إلا إذا لم يكن في البيت مستحم، وكانت نفساء أو مريضة، وإن دخلت فلا تدخل إلا بمئزر سابغ. (12) آداب الكتاب
ومما يوضح بعض الجوانب في تصور الغزالي للحياة، وحرصه على النظام، ما وضعه من آداب الكتاب، فقد نتبين بذلك وجهة نظره فيما ينبغي أن يكون عليه الكاتب من الخبرة والكفاية، ولم تنشأ إلا لمثل ذلك كليات الصحافة في العهد الحديث.
ويرى الغزالي أن الكاتب يجب عليه: (1)
أن يعرف بعد الماء وقربه تحت الأرض. (2)
وأن يعرف زيادة الليل والنهار، ونقصانهما، في الصيف والشتاء، ومسير الشمس، والقمر، والنجوم. (3)
وأن يعرف الحساب، والهندسة، والتقويم. (4)
وأن يعرف اختيارات الأيام، وما يصلح للمزارعين. (5)
وأن يعرف الطب والأدوية. (6)
وأن يعرف ريح الشمال والجنوب. (7)
وأن يعرف الشعر والقوافي. (8)
وأن يكون خفيف الروح، طيب اللقاء. (9)
وأن يحسن بري القلم وقطه، ورفعه وحطه، كما قال ! (10)
وأن يحرس نفسه من طغيان قلمه. (11)
وأن يظهر بشبا قلمه ما يجول في نفسه. (12)
وأن يعرف ما يمد من الحروف. (13)
وأن يبين الخط، ويعطي كل حرف حقه.
وقد وضع الغزالي فوق ما تقدم صورة لما يمد أو يقصر من الحروف، ووضع طريقة لبري الأقلام العربية، والفارسية، والعبرية، وما يجب أن يكون عليه المقط من الصلابة، وما ينبغي أن يمتاز به القرطاس من التساوي والصقالة، وما يحسن من تشابه صورة الأحرف، ليقرب الخط من الجمال. وكل ما تقدم هو بالطبع صورة لرأيهم إذ ذاك فيما ينبغي أن يكون عليه الكتاب. (13) واجبات الملوك
يتكلم الغزالي كثيرا عن «الأمراء والسلاطين» ويذكر ما لهم وما عليهم، وتجد في حقوق المحتسب من هذا الكتاب ما وضعه من الفرق بين إرشاد العامة، وإرشاد الأمراء والسلاطين كما يقول، وقد وضع لهم كتابا خاصا سماه «التبر المسبوك في نصيحة الملوك»، وهو الذي قدمه للسلطان محمد بن ملك شاه، وقد فصلنا رأينا فيه، فلا نعود إليه الآن.
ويستحسن الغزالي أن يقسم الملك نهاره إلى أربعة أقسام: قسم لعبادة الله وطاعته. وقسم للنظر في أمور السلطنة، وإنصاف المظلومين، والجلوس مع العلماء والعقلاء لتدبير الأمور، وسياسة الجمهور وتنفيذ الأوامر، والمراسيم، والكتابة، وإنفاذ الرسل، وقسم للأكل والنوم، والتزود من الدنيا، وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور. وقسم للصيد ولعب الكرة والصولجان وما أشبه ذلك.
وينصح الغزالي للملك بأن لا يشتغل دائما بلعب الشطرنج، والنرد، وشرب الخمر وضرب الكرة والصيد، لأن هذه تمنعه من الأعمال، ولكل عمل وقت، فإذا فات عاد الربح خسرانا.
ويفهم من هذا أن الملك يجوز له شرب الخمر مع الإقلال، ولكن هذا ينافي حرص الغزالي وإصراره على حرب المسكرات، فلا يبعد أن تكون هذه الكلمة دست أو وقعت سهوا في كتاب «التبر المسبوك».
ويجب فيما يرى الغزالي أن يراعي الملك ما يأتي من الأصول: (1)
أن يعرف قدر الولاية وخطرها، وما يكون من سعادته إذا أحسن، ومن شقائه إذا أساء. (2)
أن لا يقنع برفع يده عن الظلم. بل يهذب غلمانه، وأصحابه وعماله، ونوابه، فإنه عن ظلمهم مسؤول. (3)
أن لا يتكبر، فإن التكبر داعية الغضب والانتقام. (4)
أن يفرض نفسه واحدا من الرعية في كل ما يعرض عليه فما لا يرضاه لنفسه لا ينبغي أن يرضاه لأحد من المسلمين. (5)
أن لا يشغل بنوافل العبادة، وببابه أحد أرباب الحوائج. (6)
أن لا يعود نفسه الاشتغال بالشهوات: من لبس الثياب الفاخرة، وأكل الأطعمة الطيبة، بل يتعود القناعة في جميع الأشياء، فلا عدل بلا قناعة. (7)
أن يتجنب الشدة، والعنف كلما أمكنه الرفق. (8)
أن يجتهد في أن ترضى عنه الرعية بموافقة الشرع. (9)
أن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع. (10)
أن يعين رعيته إذا وقعت في ضائقة، وأن ينفق عليها من خزائنه، إذا وقعت في قحط أو غلاء، لأن في ذلك استبقاء لطاعتهم ودرءا لمطامع المحتكرين .
والغزالي لا يستنكر قسوة الملك، إذا لؤمت الرعية، بل يدعو إلى أن تهابه الرعية وهو بعيد، ويقول: «وسلطان هذا الزمان يجب أن تكون له أوفى سياسة، وأتم هيبة، لأن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين، فإن زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسفهاء، وأهل القساوة والشحناء. وإذا كان السلطان والعياذ بالله بينهم ضعيفا أو كان غير ذي سياسة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد، وأن الخلل يعود على الدنيا والدين».
7
والسياسة في كلامه هذا معناها الحزم في شدة وقسوة، لينتهي الفاسدون. (14) حقوق الوزراء
وعلى الملك أن يعامل الوزير بثلاث أشياء:
الأول:
إذا ظهرت منه زلة، أو وجدت منه هفوة فلا يعاجله بالعقوبة.
الثاني:
إذا اتسعت حاله في خدمته واستغنى، فلا يطمع في ماله وثروته.
الثالث:
إذا سأله حاجة فلا يتوقف في قضائها.
وينبغي أن يمنحه ثلاثة أشياء:
الأول:
أن لا يمتنع عن رؤيته متى اختار أن يراه.
الثاني:
أن لا يسمع في حقه كلام مفسد.
الثالث:
أن لا يكتم عنه شيئا من سره، لأنه مدبر الدخل وبه عمارة الخزائن والولايات.
ويجب على الوزير:
أولا:
أن يكون محبا للخير، مبغضا للشر.
ثانيا:
أن يعين الملك على الشفقة بالرعية إذا رأى منه الميل لذلك.
ثالثا:
أن يرشده باللطف إذا رأى منه ميلا للظلم.
ويقول الغزالي في نصح الملك الذي أهداه كتابه: «وينبغي أن تعلم أن دوام الملك بالوزير، وأن دوام الدنيا بالملك، وينبغي أن تعلم أنه لا يجوز له أن يهتم بغير الحياة» 79.
وهذه الواجبات التي وضعها للملوك والوزراء تعتبر في الواقع مجملة بالنسبة لما يحتاجون إليه من شتى الآداب في معاملة الرعية، ومعاملة جيرانهم من الدول، ولكن يلاحظ كذلك أنه حكم الشرع في جملة هذه الآداب، وقد وضع الفقهاء بعض الأحكام التي تخص الخلفاء والولاة، وما أحسبه يخالفهم في هذا الباب. (15) معاملة الملوك الظالمين
ومما يوضح جانبا من جوانب الأخلاق عند الغزالي رأيه في معاملة الظلمة من الأمراء والسلاطين، فقد حتم على من يأخذ مالا منهم أن ينظر كيف وصل إليهم ، وأن يتأمل الصفة التي استحق بها الأخذ، والمقدار الذي يأخذه، وهل يستحقه إذا أضيف إلى حاله وحال شركائه في الاستحقاق، وبين أنه إذا لم يعرف للسلطان دخل إلا من الحرام، فالأخذ منه سحت محض. وأن واجب الورع يقضي بأن لا يأخذ المرء شيئا من مال الظالم على الإطلاق، فإن لم يستطع فيأخذ ما يتأكد أنه حلال.
أما الدخول على الظلمة وغشيان مجالسهم فهو محظور. ولا تجوز زيارة الملك الجائر إلا بعذرين:
الأول:
أن يكون من جهتهم أمر إلزام، لا أمر إكرام، ويعلم الرجل أنه إن امتنع أوذي، او فسدت طاعة الرعية، فتجب عليه الإجابة، لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق، حتى لا تضطرب الولاية.
الثاني:
أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه. أو عن نفسه، بطريق الحسبة، أو بطريق التظلم.
وإذا دخل عليك السلطان الظالم زائرا فجواب السلام لا بد منه، والقيام له غير حرام، والأولى تركه إن لم يكن معه أحد. ثم تأخذ في تعريفه ما يجهله، وتخويفه فيما هو مستجرئ عليه. وإرشاده إلى ما هو غافل عنه.
والأفضل فيما يرى الغزالي أن يعتزلهم المرء فلا يراهم ولا يرونه! والأمر كذلك في معاملة قضاتهم، وعمالهم، وخدمهم.
وللغزالي في هذا الباب تفاصيل عجيبة فيما يتعلق بما يقيمون من القناطر والطرقات والمساجد والسقايات والأسواق. وأخص ما يلاحظ أنه إنما يدعو إلى أن يخلص المرء ذمته، مع البعد كل البعد عما يفضي إلى فتنة أو اضطراب. (16) حقوق الأخوة
المراد بالأخوة الصحبة والصداقة، إلى غير ذلك مما تثمر الألفة، والألفة - كما نص الغزالي - ثمرة حسن الخلق، إذ يوجب التحاب والتآلف والتوافق، كما أن سوء الخلق يثمر التباغض، والتحاسد، والتدابر.
ويجب فيما يرى الغزالي أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله، كما يجب أن يكون له أصدقاء يحبهم في الله.
ولكن الحب في الله، والبغض في الله غامض. ولكشف الغطاء عنه، قسم الصحبة إلى: ما يقع بالاتفاق، كالصحبة بسب الجوار، أو بسبب الاجتماع في المكتب، أو في المدرسة، أو في السوق ، أو على باب السلطان، أو في الأسفار، وإلى ما ينشأ باختيار وبقصد، وهو المراد. إذ لا ثواب ولا عقاب إلا على الأفعال الاختيارية. والصحبة عبارة عن المجالسة، والمخالطة، والمجاورة. وهذه الأمور لا يقصد بها الإنسان غيره إلا إذا أحبه. والذي يحب: إما أن يحب لذاته، وإما أن يحب للتوصل به إلى مقصوده، وذلك المقصود: إما أن يكون مقصورا على الدنيا وحظوظها. وإما أن يكون متعلقا بالآخرة، وإما أن يكون متعلقا بالله تعالى.
حب المرء لذاته وجماله
يرى الغزالي أن الإنسان قد يحب لذاته، لا لفائدة تنال منه في حال أو مآل، بل لمجرد المجانسة، والمناسبة في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية، ويدخل في هذا القسم، فيما يرى، الحب للجمال إذا لم يكن للمحب غرض خبيث، فإن الجمال مستملح لذاته، وإن قدر فقد أصل الشهوة. والغزالي يضرب المثل لهذا بالنظر إلى الفواكه، والأنوار، والأزهار والتفاح المشرب بالحمرة، وإلى الماء الجاري والخضرة من غير غرض مذموم إذ تحب لعينها. وهذا الحب كما يقول الغزالي لا يدخل فيه الحب لله، بل هو حب الطبع، وشهوة النفس، وهو مباح لا يوصف بمدح ولا بذم.
الحب للمنافع الدنيوية
وقد يحب الإنسان لينال من ذاته غير ذاته. كما يحب الرجل سلطانا لانتفاعه بماله، أو جاهه، ويحب خواصه لتحسينهم حاله عنده.
والمتوسل إليه - كما يقول الغزالي - إن كان مقصور الفائدة على الدنيا، لم يكن حبه من جملة الحب في الله، وإن لم يكن مقصور الفائدة على الدنيا، ولكنه لا يقصد به إلا الدنيا كحب التلميذ لأستاذه، فهو أيضا خارج عن الحب لله، فإنه إنما يحبه ليحصل منه العلم لنفسه، فمحبوبه العلم.
وينقسم هذا الحب فيما يرى الغزالي إلى مذموم ومباح، فإن كان يقصد به التوصل لأغراض مذمومة كقهر الأقران، وحيازة أموال اليتامى، وظلم الرعية بولاية القضاء أو غيره، كان الحب مذموما. وإن كان يقصد به التوصل إلى مباح فهو مباح.
الحب للمنافع الأخروية
وقد يحب الإنسان، لا لذاته بل لغيره وذلك الغير ليس راجعا إلى حظوظه في الدنيا ، بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة، كمن يحب أستاذه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة. وهذا من جملة المحبين في الله. ومثله من أحب زوجته لأنها آلة إلى مقاصد دينية، كالتحصن والولد الصالح.
الحب لمنافع الدنيا والآخرة
ويقول الغزالي: ليس من شرط حب الله أن لا يحب في العاجلة حظا ألبتة. ويقول: إذا اجتمع في قلبه محبتان: محبة الله، ومحبة الدنيا. فاجتمع في شخص واحد المعنيان جميعا حتى صلح لأن يتوسل به إلى الله وإلى الدنيا، فإذا أحبه لصلاحه للأمرين جميعا فهو من المحبين في الله، كمن يحب أستاذه الذي يعلمه الدين، وكيفية مهمات الدنيا بالمواساة في المال.
الدنيا خليقة بالحب
ولا يفوتنا أن ننوه بما وفق إليه الغزالي حين قال: «وعلى الجملة، فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضا لحب الله تعالى، فحب السلامة، والصحة والكفاية والكرامة في الدنيا، كيف يكون مناقضا لحب الله؟ والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى. فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غدا ولا يحبها اليوم؟ وإنما يحبها غدا لأن الغد سيصير حالا راهنة. فالحالة الراهنة لا بد أن تكون مطلوبة. إلا أن الحظوظ العاجلة مقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها، وهو الذي احترز عنه الأنبياء، وأمروا بالاحتراز عنه. وإلى ما لا يضاد، وهو الذي لم يمتنعوا عنه كالنكاح الصحيح وأكل الحلال.
وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض لك ترتبط به، ولا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية، فهو داخل في جملة الحب لله».
وإنما نوهنا بهذه الفقرة لأنها في صوابها تناقض ما يردده الغزالي من احتقار الأغراض الدنيوية، والإشادة بالحياة الأخروية مما يخيل إلى القارئ أن الدنيا عنده أحقر من أن تتعلق بها الأغراض.
الحب لله
وقد يحب الإنسان في الله ولله. ودون أن ينال منه شيئا، أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته، وهذا أعلى الدرجات، وهو غاية في الدقة والغموض.
ميزان الحب
بين الغزالي أن المرء قد يحب لذاته، وقد يحب لمقصود دنيوي أو أخروي ينال منه، وقد يحب لله، لا لغرض يقصد في حال أو مآل.
ولكن ما هي دلائل ذلك الحب، حميدا كان أو غير حميد؟ وبأي ميزان يوزن ذلك الميل، حتى تعرف درجات المحبين؟
لقد وضع الغزالي ميزانا هو أدق موازين الحب في هذا الوجود، وهو المال! وانظر قوله: «ومن أحب ملكا أو شخصا جميلا أحب خواصه وخدمه، وأحب من أحبه، إلا أنه يمتحن الحب بالمقابلة بحظوظ النفس، وقد يغلب بحيث لا يبقى للنفس حظا إلا فيما هو حظ المحبوب، وعنه عبر من قال:
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
وقول من قال:
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وقد يكون الحب بحيث يترك به بعض الحظوظ دون بعض، كما تسمح نفسه بأن يشاطر محبوبه في نصف ماله، أو في ثلثه، أو في عشره. فمقادير الأموال موازين المحبة، إذ لا تعرف درجة المحبوب إلا بمحبوب يترك في مقابلته، فمن استغرق الحب جميع قلبه لم يبق له محبوب سواه فلا يملك لنفسه شيئا».
المال هو أدق موازين الحب في هذا الوجود، وقد أفصح عن ذلك الغزالي، وإن سبقه قول جميل:
سليني مالي يا بثين فإنما
يبين عند المال كل ضنين
ما للأخ على أخيه
وبعد الميزان الذي وضعه الغزالي للمحبة لا ترانا في حاجة إلى إجمال ما فصله من حقوق الأخوة، ويكفي أن نذكر أنه يرى للأخ حقا على أخيه: في نفسه، وماله، وقلبه، ولسانه، ولكل حق من هذه الحقوق درجات تتناسب مع ما تنطوي عليه الصدور من حب قوي أو ضعيف.
حقوق الأخ المذنب
على أني أرى من الواجب أن أذكر رأي الغزالي في حقوق الأخ المذنب، فإنه فيما أعتقد رأي كله صواب، وهو في الوقت نفسه كثير على عصر كالعصر الذي عاش فيه الغزالي، فلسنا نجهل أن الناس كانوا إذ ذاك قليلي التسامح، وأنهم كانوا مملوئين بالريب والظنون.
يرى الغزالي أن الصداقة لحمة كلحمة النسب. والقريب لا ينبغي أن يهجر بالمعصية. فقد قال تعالى للنبي في عشيرته:
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
8
ولم يقل إني بريء منكم، مراعاة لحق القرابة، ولحمة النسب. قال الغزالي: «ومن حيث أن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة، فإذا انعقدت تأكد الحق، ووجب الوفاء بموجب العقد. ومن الوفاء به أن لا يهمل أيام حاجته وفقره. وفقر الدين أشد من فقر المال. وقد أصابته جائحة، وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه، فينبغي أن يراقب ويراعى، ولا يهمل، بل ولا يزال يتلطف به ليعان على الخلاص من تلك الواقعة التي ألمت به، فالأخوة عدة للنائبات، وهذا من أشد النوائب».
وقد توقع الغزالي أن يقول قائل: إن مقارف المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداء فتجنب مقاطعته انتهاء، لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها، وعلة عقد الأخوة التعاون في الدين، ولا يستمر ذلك مع مقارفة المعصية. وقد أجاب بأن المعصية إنما منعت في ابتداء المؤاخاة مع الفاسق لأنه لم يتقدم له حق، أما الأخ المذنب فقد ثبتت أخوته، فلا تسقط بالمعصية، كما لا تسقط القرابة، ومتى بقيت فقد بقي ما كان لها من الحقوق.
ويزيد الغزالي: إن مصاحبة الفاسق خير من مجانبته، إذ كانت الصحبة داعية الرجوع إلى الحق، والإقلاع عن الباطل، بخلاف المجافاة، فقد تقوي فيه الإصرار والعناد.
وهذه عظة بالغة، لأولئك الذين كلما رأوا مبطلا فروا منه باسم الدين، وهم يفرون من الواجب لو يعلمون! (17) البغض في الله
يقول الغزالي: «كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله، فإنك إن أحببت إنسانا لأنه مطيع لله، ومحبوب عند الله، فإن عصاه لا بد أن تبغضه، لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب لسبب فبالضرورة يبغض لضده، ولكن البغض كما رأيت لا يوجب المجافاة.
العصيان بالاعتقاد
والمخالف لأمر الله إما يكون مخالفا في عقده أو في عمله، والمخالف في العقد إما مبتدع أو كافر، والمبتدع إما داع إلى بدعته أو ساكت، إما بعجزه أو باختياره: فأقسام الفساد في الاعتقاد ثلاثة :
الأول:
الكفر والكافر إن كان محاربا فهو يستحق القتل والإرقاق، وإن كان ذميا فلا يجوز إيذاؤه إلا بالإعراض عنه والتحقير له.
الثاني:
المبتدع يدعو إلى بدعته، فإن كانت البدعة بحيث يكفر بها فأمره أشد من الذمي، لأنه لا يقر بجزية، ولا يسامح بعقد ذمة. وإن كان مما لا يكفر به فأمره بينه وبين الله أخف من أمر الكافر لا محالة، ولكن الأمر في الإنكار عليه أشد منه على الكافر، لأن شر الكافر غير متعد. أما المبتدع الذي يدعو إلى البدعة ويزعم أن ما يدعو إليه حق فهو سبب لغواية الخلق وشره متعد، فالاستحباب في إظهار بغضه، ومعاداته، والانقطاع عنه، وتحقيره، والتشنيع عليه، وتنفير الناس منه، أشد.
الثالث:
المبتدع العامي، الذي لا يقدر على الدعوة، ولا يخاف الاقتداء به، فأمره أهون. والأولى أن لا يفاتح بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب.
العصيان بالفعل
أما العصيان بالفعل لا بالاعتقاد فأنواعه ثلاثة:
الأول:
وهو أشدها، ما يتضرر به الناس في دنياهم، كالظلم والغضب، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة، وهذه معاص شديدة، لأنها ترجع إلى إيذاء الخلق. وأصحاب هذه المعاصي ينقسمون إلى من يظلم في الدماء، وإلى من يظلم في الأموال، وإلى من يظلم في الأعراض، بعضها أشد من بعض، والاستحباب في إهانتهم، والإعراض عنهم مؤكد جدا.
الثاني:
ما يتضرر به الناس في أخراهم لا في دنياهم، كعمل صاحب الماخور الذي يهيئ أسباب الفساد ويسهل طرقها على الخلق، وهو قريب من الأول، ولكنه أخف منه.
وأنا لا أفهم كيف يرى الغزالي أن هذا لا يضر الناس في دنياهم.
9
الثالث:
عمل الذي يفسق به في نفسه، بشرب خمر. أو ترك واجب، أو مقارفة محظور يخصه. والأمر فيه أخف مما سبقه، ولكنه إن صودف وقت مباشرة العمل يجب منعه بما يمتنع به منه، ولو بالضرب والاستخفاف.
نتيجة
ويحسن بالقارئ أن يضم الحب في الله، والبغض في الله، إلى ما قرره الغزالي من وجوب الاحتساب، فإن ضم هذه الأبواب بعضها إلى بعض يعطينا صورة واضحة لما يجب أن يكون عليه المسلم أو المريد أو ذو الخلق الحسن فيما يرى الغزالي.
والرجل الذي أحاط بالحسبة، والحب في الله، والبغض في الله، هو رجل يعرف ما يجب عليه للهيئة الاجتماعية، التي تصلح بصلاح الأفراد، فيهذب نفسه أولا ليفهم بالضبط ما له وما عليه، ثم يدعو الناس إلى حفظ أموالهم وأنفسهم، وينهاهم عن اقتراف ما يضر بهم وبإخوانهم في الدين، ثم يبغض بقلبه وبجوارحه من يغض من العقيدة، أو يظلم الناس. وقد فصل الغزالي ذلك كله بأسلوب بالغ التأثير، ودعم كلامه بكثير من الآيات والأحاديث والأخبار. (18) آداب الزواج
يسميها الغزالي آداب النكاح، وهو أصح في التعبير، لأن النكاح في كتب التشريع لا يراد به الجماع، وإنما يقصد به العقد. ولكنا قلنا آداب الزواج مجاراة للعرف الحديث.
وقد وضع الغزالي عدة آداب للنكاح، تعد في الواقع ترغيبا فيه، وهي في جملتها من الآداب العادية، ويهمني منها أدب واحد، أصاب الغزالي في الاهتمام به، وهو تربية النفس بالزواج على احتمال أعباء المعاش. فقد ذكر أن الفائدة الخامسة من فوائد النكاح «هي مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية. والقيام بحقوق الأهل والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن ، وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربيته لأولاده؛ فكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم. وإنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها. وإلا فقد قال عليه السلام: «يوم من وال عادل أفضل من عبادة سبعين سنة.» ثم قال: «ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته.» وليس من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط، ولا من صبر على الأذى كمن رفه نفسه وأراحها، فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله. ولذلك قال بشر: فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث: إحداها أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره. وقد قال عليه السلام: «ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة، وأن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته».
ويقرر الغزالي بعد هذا أن في الصبر على الأهل رياضة للنفس، وكسرا للغضب، وتحسينا للخلق. ويذكرني هذا الأدب بما يكرره سيدي الأستاذ الدكتور منصور فهمي في رسائله من كلمة «غرم الحياة وغنمها» ويريد الترحيب بما في الحياة من متاعب، في سبيل ما فيها من الطيبات. والحق أن احتمال الأهل والولد من عزائم الأمور. والشبان الذين ينفرون من الزواج إيثارا للراحة، إنما هم جبناء، ضعفاء، لا يصلحون للجلاد في ميدان الحياة. (19) الخروج من المظالم
ونريد أن نبين رأي الغزالي فيما يجب على التائب الذي ظلم الناس، لأن في ذلك بيانا لرأيه في احترام ما يلزم المرء من مختلف الحقوق. وقد بدأ الكلام في هذا الموضوع بقوله عليه السلام: «من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال، فليتحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم».
مظلمة العرض
فإن كانت المظلمة متعلقة بالعرض، فواجب على المغتاب أن يندم ويتوب، ويتأسف على ما فعله، ليخرج من حق الله. ثم يستحل المغتاب ليحله، فيخرج من مظلمته. وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله، لئلا يقارف بريائه معصية جديدة.
مظلمة المال
وإن كانت المظلمة في المال فعليه أن يميز الحرام، وأن ينظر في مصرفه.
فإن كان الحرام معلوم العين: من غصب، أو وديعة، أو غير ذلك، فأمره سهل. وإن كان متلبسا فلا يخلو أمره من أن يكون في مال هو من ذوات الأمثال، كالحبوب والنقود والأدهان، أو أن يكون في أعيان متمايزة: كالعبيد والدور والثياب.
فإن كان في المتماثلات، أو كان شائعا في المال كله، كمن اكتسب بتجارة يعلم أنه قد كذب في بعضها بالمرابحة، وصدق في بعضها، أو من غصب دهنا وخلطه بدهن نفسه، وفعل ذلك في الحبوب والدراهم والدنانير، فلا يخلو أمره من أن يكون معلوم القدر أو مجهولا. فإن كان معلوم القدر: كأن يعلم أن قدر النصف من جملة ما له حرام، فعليه تمييز النصف. وإن أشكل فله طريقان: أحدهما الأخذ باليقين، والآخر الأخذ بغالب الظن، وكلاهما قال به العلماء.
وفي الأعيان المتمايزة: كالدور والعبيد، يوزع القاضي الثمن بقدر النسبة. وإن كانت متفاوتة أخذ من طالب البيع قيمة أنفس الدور مثلا، وصرف إلى الممتنع منه مقدار قيمة الأقل ويقدر التفاوت بالعرف.
صرف المال الحرام
فإذا أخرج الحرام فلا يخلو أمره: (أ)
إما أن يكون له مالك معين، فيجب الصرف إليه أو إلى وارثه. وإن كان غائبا فينتظر حضوره. وإن كانت له زيادا ومنفعة فلتجمع فوائده إلى وقت حضوره. (ب)
وإما أن يكون لمالك غير معين ميؤوس منه لا يدري أمات عن وارث أم لا. فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك، ويوقف حتى يتضح الأمر فيه. فإن لم يعرف المالك تصدق بالمال، وله أن ينفقه على نفسه وعلى أولاده إن كان فقيرا. ومثل ذلك ما لو تعذر الرد لكثرة الملاك، كفلول الغنيمة، فإنه كيف يقدر على جمع الغزاة بعد تفرقهم؟ وإن قدر فكيف يفرق دينارا واحدا على ألف أو ألفين؟ (ج)
وإما أن يكون من مال الفيء والأموال المرشدة لمصالح المسلمين كافة، فيصرف ذلك إلى القناطر، والمساجد، والطرق، وأمثال هذه الأمور التي يشترك في الانتفاع بها عامة المسلمين.
مظلمة النفس
وإن كانت المظلمة في النفس، كالقتل، فينظر في نوعه، فإن كان خطأ فليسلم الدية، وإن كان عمدا موجبا للقصاص فبالقصاص وله أن يتعرف إلى ولي الدم ويحكمه في روحه، فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله. وقد تنبه الغزالي إلى أن هناك ذنوبا يجب أن تستر، فلا يصح أن يظهر فيها الاستحلال؛ لأن في إظهاره جناية جديدة، والخروج من مثل هذه المظالم يكون بالمجاهدة، ورياضة النفس، والإحسان الموصول إلى من أساء المرء إليه، فإن في الإحسان جبرا للإساءة، وهو كل ما يستطيعه التائب في مثل هذه الحال. (20) واجب الاحتساب
الحسبة والاحتساب في عرف المسلمين عبارة عن الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله. لقوله تعالى:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
10
والاحتساب واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية، إذا قام به واحد من المسلمين سقط عن الجميع، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. وإذا كانت القدرة شرطا للحسبة فقد أصبحت على ذوي السلطان أوجب، لأنهم أقدر من غيرهم. ومتى أقامت الحكومة محتسبا كان عليه أن يبحث عن المنكر الظاهر ليصل إلى إنكاره، والمعروف المتروك ليأمر بإقامته، وكان لكل مسلم الحق في أن يستعديه فيما يجب إنكاره.
ومن الفروق بين الحسبة والقضاء، أن المحتسب يجوز له أن يتعرض لتصفح ما يأمر به من المعروف، وينهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم مستعد، وليس للقاضي أن يتعرض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه. وأنه يجوز للمحتسب أن يستعمل القوة فيما يتعلق بالمنكرات، وليس للقاضي غير فحص القضية بالأناة والوقار.
ويطول بنا القول لو أردنا سرد الفروق بين الحسبة، وأحكام القضاء، وأحكام المظالم في الحكومات الإسلامية، فلنكتف بهذا القدر، تمهيدا لرأي الغزالي في شروط الاحتساب.
شروط المحتسب
ولا يجب على امرئ فيما يرى الغزالي أن يأمر بخير، أو ينهى عن شر، إلا بالشروط الآتية:
أولا:
أن يكون مكلفا، فلا يجب على الصبي أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر بل يجوز له ذلك، وليس لأحد أن يمنعه.
ثانيا:
أن يكون مؤمنا. ومفهوم أن الغزالي لا يعترف للجاحد بشيء حتى يصلح للإرشاد.
ثالثا:
أن يكون عدلا. ويناقش الغزالي هذا الشرط، ويذكر أن الأنبياء قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا، والقرآن العزيز دال على نسبة آدم عليه السلام إلى المعصية، وكذا جماعة من الأنبياء، فلو اشترطنا في الإرشاد أن يكون متعاطيه معصوما عن المعاصي لأغلق هذا الباب.
رابعا:
أن يكون مأذونا من الإمام والوالي. وقد ناقش الغزالي هذا الشرط، ورأى أن تخصيص الاحتساب بإذن الوالي بعد إطلاقه في الأحاديث والآيات تحكم لا أصل له. وقرر أنه يجب على المرء زجر العاصي أينما رآه، وكيفما رآه.
خامسا:
أن يكون قادرا، فليس على العاجز حسبة إلا بقلبه. ولا يقف سقوط الوجوب عند العجز الحسي، بل يلتحق به ما يخاف منه مكروها يناله، فذلك في معنى العجز، وكذلك إذا لم يخف مكرها وعلم أن إنكاره لا ينفع، وقد اختلفت كلمة الغزالي في هذه النقطة ففي ص322 ج3 من الإحياء ينص على سقوط وجوب الحسبة حين يعلم أنها لا تفيد. وفي ص153 ج1 يقول: في النهي عن كشف العورة في الحمام «فأما قوله: اعلم أن ذلك لا يفيد ولا يعمل به فهذا لا يكون عذرا، بل لا بد من الذكر، فلا يخلو قلب امرئ عن التأثر من سماع الإنكار واستشعار الاحتراز عند التلبس بالمعاصي. وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه وتنفير نفسه عنه فلا يجوز تركه».
وقد توقع الغزالي أن يقول قائل: إن المكروه المتوقع ما حده الإنسان. فإن الإنسان قد يكره كلمة، وقد يكره ضربة، وقد يكره طول لسان المحتسب عليه في حقه بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا ويتوقع منه نوع من الأذى. وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان، أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه، فما حد المكروه الذي يسقط الوجوب به؟
وأجاب الغزالي بأن الحسبة لا تسقط إلا بالمكروه الظاهر كمن يعلم أنه يضرب ضربا مؤلما يتأذى به، أو يعلم بأنه تنهب داره، ويخرب بيته، وتسلب ثيابه.
11
المنكر المنهي عنه
ولا ينهى عن شيء فيما يرى الغزالي إلا بالشروط الآتية:
أولا:
أن يكون منكرا، أي محذور الوقوع في الشرع. قال الغزالي: «وإنما عدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا، لأن المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة، فعليه أن يمنعه. ثم قال: ولا تختص الحسبة بالكبائر، بل كشف العورة في الحمام، والخلوة بالأجنبية، واتباع النظر للنسوة الأجنبيات، كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنه».
ثانيا:
أن يكون المنكر موجودا في الحال، فلا حسبة على من فرغ من شرب الخمر، ولا على من يعلم من قرينة حاله أنه عازم على الشرب في ليلته.
ثالثا:
أن يكون المنكر ظاهرا، فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه، وقد أمرنا أن نستر ما ستر الله، وننكر على من أبدى لنا صفحته.
رابعا:
أن يكون المنكر معلوما بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه، وهذا الشرط الأخير يدل على قدر الغزالي لحرية الرأي والتفكير، وما أحوج المصلحين إلى تأمله والعمل بمقتضاه!
صفات المرشد
ويجب أن يتصف المرشد بالعلم، والورع، وحسن الخلق.
أما العلم فليعلم مواقع الحسبة، وحدودها، ومجاريها، وموانعها، ليقتصر على حد الشرع. وأما الورع فليردعه عن مخالفة معلومة، فربما يعلم أنه مسرف في الحسبة، وزائد على الحد المأذون فيه شرعا، ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض، وأما حسن الخلق فليتمكن به من اللطف والرفق، وهو أصل هذا الباب.
قال الغزالي: «فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات، وإن فقدت لم يندفع المنكر، بل ربما كانت الحسبة أيضا منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها».
12
وقد نص على أن اشتراط الورع ليس معناه أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعا بالفسق، وإنما يسقط أثره من القلوب بظهوره للناس.
أنواع المنكرات
قسم الغزالي المنكرات إلى مكروهة ومحظورة، وبين أن منع المكروه مستحب، والسكوت عليه مكروه، وليس بحرام إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه فيجب ذكره له، لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه من لا يعرفه، وأن منع المحظور واجب والسكوت عليه حرام.
ثم ذكر طائفة من المنكرات التي تجري في المساجد، والأسواق، والشوارع، والحمامات، والضيافة، وآراؤه في هذا الباب مسددة، ترجع إلى الحرص على سلامة الناس في دينهم ومعاشهم، وإصلاح ذات بينهم. فمنها دعوته إلى منع ما يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة، ودعوته إلى منع الملاك من تحميل الدواب ما لا تطيقه، وهو رفق بالحيوان. ودعوته إلى منع الإسراف في الطعام والبناء. والذي يتأمل ما سرده الغزالي في المنكرات يدرك مبلغ حرصه على غرس الرجولة والشرف في نفوس الأفراد والجماعات.
درجات الاحتساب
للاحتساب درجات ، وهي: (1)
التعريف. (2)
ثم النهي. (3)
ثم الوعظ. (4)
ثم النصح. (5)
ثم السب والتعنيف. (6)
ثم التغيير باليد. (7)
ثم التهديد بالضرب. (8)
ثم إيقاع الضرب وتحقيقه. (9)
ثم شهر السلاح. (10)
ثم الاستظهار بالأعوان وجمع الجنود.
وفي الدرجة الأخيرة يقول الغزالي: «وربما يستمر الفاسق أيضا بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا، فهذا قد ظهر الاختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام. فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك، لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد. وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن. وهو الأقيس. لأنه جاز للآحاد الأمر بالمعروف، وأوائل درجاته قد تجر إلى ثوان وثوالث، وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون. فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف، ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه.» ص336 ج3.
إرشاد الأمراء
ولا يجوز من درجات الاحتساب مع الأمراء والسلاطين - فيما يرى الغزالي - إلا الرتبتان الأوليان وهما التعريف والوعظ. أما المنع بالقهر فليس لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتن ويهيج الشر، ويكون ما يتولد عنه من المحذور أكثر.
وأما التخشين في القول، كقوله: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه، فهو جائز، بل مندوب إليه، ومن قتل في هذا فهو شهيد.
الباب الحادي عشر
في تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور
تمهيد
أثر الغزالي في عصره أثرا غير قليل: فشطر أهل العلم، والولاة، شطرين: أحدهما ينصره، والآخر يخذله، وما زال الفريقان يختصمان حتى طيرا شهرته في جميع الآفاق.
وقد رأى الغزالي في حياته من يقدسه، ويقدمه على جميع العلماء، ورأى في الوقت نفسه كتبه تحرق في بعض الأقطار الإسلامية، رميا لها بالدعوة الخفية إلى الكفر والإلحاد!
في تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور
(1) تجديده للقرن الخامس
وكان جمهور المسلمين فيما سلف يعتقد أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد أمر الدين، ولهم في هذه العقيدة كلام طويل، وفيها يقول جلال السيوطي في أرجوزته:
والشرط في ذلك أن تمضي المائة
وهو على حياته بين الفئة
يشار بالعلم إلى مقامه
وينصر السنة في كلامه
وأن يكون جامعا لكل فن
وأن يعم علمه أهل الزمن
وأن يكون في حديث قد روي
من أهل بيت المصطفى وقد قوي
وكونه فردا هو المشهور
قد نطق الحديث والجمهور
وهم يعتقدون أن مبعوث المائة الأولى عمر بن عبد العزيز ومبعوث الثانية الشافعي، والثالثة الأشعري أو ابن سريج، والرابعة الإسفراييني أو الصعلوكي أو الباقلاني. ويتفقون على أن مبعوث المائة الخامسة هو الغزالي، ويقول السيوطي في ذلك:
والخامس الحبر هو الغزالي
وعده ما فيه من جدال
1
وأنا لا أريد الآن تحقيق هذه الفكرة، وبيان ما ترتكز عليه من أساس قوي أو ضعيف، فهي في ذاتها فكرة سخيفة، ونظم السيوطي فيها أسخف، ويكفي أن يعلم القارئ أن الغزالي بذ معاصريه، وأخملهم، حتى جاء المتأخرون فعدوه مجدد المائة الخامسة، وقد يكونون مخطئين! (2) المنامات والأحلام
ومما يدل على أن الغزالي شغل الناس، واحتل أفئدتهم، وصار موضع وساوسهم، وهواجسهم، وأحلامهم، ما رأيناه لغير واحد من المنامات المتشابهة في تأييد الغزالي، ونشر فضله .
فهذا السبكي يذكر في طبقاته أنه كان في زمانه شخص يكره الغزالي ويذمه ويعيبه في الديار المصرية، فرأى النبي
صلى الله عليه وسلم
في المنام، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما بجانبه، والغزالي جالس بين يديه وهو يقول: يا رسول الله هذا يتكلم في! وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: هاتوا السياط، وأمر به فضربه لأجل الغزالي، وقام هذا الرجل من النوم وأثر السياط على ظهره، ولم يزل، وكان يبكي ويحكيه للناس (!؟).
ويذكر السبكي أيضا أن أبا الحسن بن حرزهم لما وقف على الإحياء وتأمله، قال: هذا بدعة، مخالف للسنة، وكان شيخا مطاعا في بلاد المغرب، فأمر بإحضار كل ما فيها من نسخ الإحياء، وطلب من السلطان أن يلزم الناس بذلك، فكتب إلى النواحي، وشدد في ذلك، وتوعد من يخفي شيئا منه، فأحضر الناس ما عندهم واجتمع الفقهاء، ونظروا فيه، ثم أجمعوا على إحراقه يوم الجمعة وكان ذلك يوم الخميس، فلما كانت ليلة الجمعة رأى ابن حرزهم في المنام كأنه داخل من باب الجامع الذي تعود الدخول منه، فرأى في ركن المسجد نورا، وإذا بالنبي
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما جلوس، والإمام أبو حامد قائم وبيده الإحياء فقال: يا رسول الله، هذا خصمي! ثم جثا على ركبتيه وزحف عليهما إلى أن وصل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فناوله كتاب الإحياء، وقال: يا رسول الله انظر فيه، فإن كان بدعة مخالفا لسنتك كما زعم تبت إلى الله تعالى، وإن كان شيئا تستحسنه حصل لي من بركتك، فأنصفني من خصمي! فنظر فيه رسول الله ورقة ورقة إلى آخره، ثم قال: إن هذا شيء حسن، ثم ناوله أبا بكر فنظر فيه كذلك، ثم قال: نعم! والذي بعثك بالحق يا رسول الله إنه حسن! ثم ناوله عمر فنظر فيه كذلك، ثم قال كما قال أبو بكر، فأمر رسول الله بتجريد أبي الحسن بن حرزهم من ثيابه، وضربه حد المفتري، فجرد وضرب، ثم شفع فيه أبو بكر بعد خمسة أسواط، وقال: يا رسول الله، إنما حصل ذلك منه اجتهادا في سنتك وتعظيما. فعفا عنه أبو حامد عند ذلك، فلما استيقظ من منامه وأصبح أعلم أصحابه بما جرى، ومكث قريبا من الشهر متألما من الضرب، ثم سكن عنه الألم، ومكث إلى أن مات، وأثر السياط على ظهره (؟!).
وهناك المنام الذي رأى فيه أبو الفتح الساوي أنه تلا بين يدي رسول الله قواعد العقائد الذي صنفه الغزالي، وهو منام طويل نقله السبكي في طبقاته. وقد كنت وضعت قائمة لأمثال هذه المنامات، ثم بدا لي أن أقتصر على ما ذكرت رغبة في الإيجاز.
وأنا لا أتخذ من هذه الأحلام دليلا على أن الغزالي من أصحاب الكرامات، كما نوه بذلك مترجموه، كلا! وإنما أتخذها دليلا على ما وصلت إليه منزلة الرجل في قلوب المسلمين، فإن لما يراه المرء في منامه صلة قوية بما يلهج به في يقظته، وهؤلاء الذين جلدوا في منامهم، لا يبعد أن يكونوا استشعروا خوف الغزالي وهم أيقاظ، وعلى الأخص إذا لاحظنا ما شاع بين المسلمين في تلك العصور الخوالي من سلطة الأولياء، وتصرفهم المطلق في عالم الأحياء، وسبحان من جل عن الشريك! (3) تلامذة الغزالي وأصحابه
ومما يبين عن أثر العالم في عصره تلامذته وأصحابه: فهم في علمهم وأدبهم أثر من آثاره. وقد أثر الغزالي تأثيرا حسنا في جمهور كبير من تلامذته وأصحابه، ذكرهم الزبيدي، منهم القاضي أبو نصر أحمد بن عبد الله الخمقري (نسبة إلى خمس قرى التي تعرف بسيخ رية) ولد سنة 466 وتوفي سنة 544ه. ومنهم الإمام أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن برهان - بفتح الباء - ولد سنة 476 وتوفي سنة 518. ومنهم أبو منصور محمد بن إسماعيل بن القاسم الطوسي توفي سنة 486. ومنهم أبو سعيد محمد بن أسعد بن محمد النوقاني قتل في مشهد علي بن موسى الرضى سنة 554 في واقعة النفر. ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن تومرت المصمودي الملقب بالمهدي صاحب دعوة سلطان المسلمين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب، دخل الشرق وتفقه على الغزالي. ومنهم أبو حامد محمد بن عبد الله بن محمد الجوزقاني الإسفراييني. ومنهم أبو سعيد محمد بن علي الجاواني الكردي حدث بكتاب «إلجام العوام» للغزالي عنه. ومنهم الإمام أبو سعيد محمد بن يحيى بن منصور ولد سنة 476 وهو من أشهر تلامذة الغزالي، تفقه عليه وشرح كتابه «البسيط».
وما أريد أن أطيل في هذا الباب، وإنما أنص هنا على أن تلامذة الغزالي أحدثوا أثرا كبيرا في الحياة الإسلامية، وأكثرهم ماتوا شهداء، وليس اشتراك العلماء في الحركات العامة، إلا أثرا لقوتهم المعنوية، وإيمانهم بما يدعون إليه. وأنص أيضا على أن تلامذة الغزالي لم يعرفوه غالبا إلا بمؤلف الإحياء، فهم لم يصحبوه لمؤلفاته في الفقه أو المنطق أو الأصول، وإنما صحبوه على أنه داع إلى الله، ومرشد لمكارم الأخلاق. (4) مؤلفاته وفتاواه
ومما يدل على مبلغ تأثير الغزالي في الحياة الإسلامية عناية الناس بمؤلفاته وفتاواه، فإنا نجد مثلا كتابه الوجيز في الفقه وضع له نحو سبعين شرحا كما قال الزبيدي، وقد قيل: لو كان الغزالي نبيا لكان معجزته الوجيز! وممن شرح هذا الكتاب الفخر الرازي وأبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي. والعماد أبو حماد بن يونس الأريلي وأبو الفتوح العجلي، وأبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي، وقد اختصر النووي من شرح الرافعي كتابا سماه الروضة، وأخرج أحاديثه ابن الملقن في سبع مجلدات، سماه البدر المنير، ثم اختصره في أربع مجلدات وسماه الخلاصة، ثم لخص جزءا، وسماه المنتقى. ولخصه أيضا الحافظ ابن حجر، وشرح الوجيز أيضا البدر الزركشي، والبدر بن جماعة، والشهاب البوصيري، والجلال السيوطي.
ونجد أيضا كتابه «الوسيط» في الفقه، شرحه تلميذه محمد بن يحيى النيسابوري شرحا سماه «المحيط» في ستة عشر مجلدا، وشرحه نجم الدين أحمد بن علي بن الرفعة في ستين مجلدا وسماه «المطلب» وشرحه النجم القمولي وسماه «البحر المحيط»، وشرحه عدد غير هؤلاء ذكرهم الزبيدي في ص43 ج1 شرح الإحياء.
وقال عمر بن عبد العزيز بن يوسف الطرابلسي يمدح كتبه الأربعة في الفقه:
هذب المذهب حبر
أحسن الله خلاصه
ببسط ووسيط
ووجيز وخلاصه
ونجد كذلك كتابه «المستصفى» في الأصول موضع عناية العلماء، فقد اختصره أبو العباس أحمد بن محمد الأشبيلي المتوفى سنة 651ه. وشرحه أبو علي الحسن بن عبد العزيز الفهري المتوفى سنة 776ه. وعليه تعليقات لسليمان بن داود الغرناطي المتوفى سنة 832ه.
ونجد كتابه «تهافت الفلاسفة» قد أحدث رجة عنيفة بين فلاسفة المسلمين، فقام ابن رشد المتوفى سنة 595ه، وألف كتابا في نقده، ومقام ابن رشد في عالم الفلسفة غير مجهول. ثم جاء خوجه زاده المتوفى سنة 893ه، وألف كتابا في التحكيم بين الغزالي وابن رشد بإشارة السلطان محمد الفاتح العثماني. ووضع علاء الدين بن علي الطوسي كتابا في المحاكمة بين الغزالي وابن رشد سماه «الذخيرة» ومنه نسخة بدار الكتب المصرية نمرة 174.
ونجد كتابه «قواعد العقائد» شرحه ركن الدين الاستراباذي ومحمد أمين بن صدر الدين الشرواني.
ونجد العلماء عنوا بتحقيق نسبة (المضنون به على غير أهله) إلى الغزالي. وممن بحث ذلك السبكي وصاحب «تحفة الإرشاد» وصنف أبو بكر محمد بن عبد الله المالقي المتوفى سنة 750ه، كتابا في رده، وهذا مظهر لعناية العلماء بنفي ما دس عليه.
وليست عناية العلماء بفتاواه بأقل من عنايتهم بكتبه، فقد جمعها غير واحد، بل رأينا من كتبه دروسه التي كان يعظ بها الناس في بغداد، ورأيناهم يحفظون ما نقل عنه من القصائد المتفرقة (انظر نمرة 243، 128، 562، 2762 من فهرست دار الكتب المصرية).
ولو رجعنا إلى ما ألف في الوعظ والفقه في الأعصر الأخيرة لرأينا أكثر المؤلفين يرجعون إلى الغزالي في أكثر الأبواب.
وقد أخبرني صديقي عبد القوي أفندي الحلبي أن من النادر أن تنشأ مكتبة في أي قطر من الأقطار الإسلامية، ولا تشتمل قائمتها على طائفة من كتب الغزالي في الفقه والأخلاق. (5) علاقة الفقه بالأخلاق
وقد يبدو لأول نظرة، أن لا صلة بين اهتمام العلماء بمؤلفاته في الفقه وبين تأثرهم بما كتب في الأخلاق، ولكننا لو عرفنا أن الروح السائد في ذلك العصر كان يجمع بين الفقه والتصوف، لرأينا ان اهتمام المؤلفين بشرح مصنفات الغزالي إنما كان أثرا لإيمانهم بصلاحه وتقواه، وقد كانت الأوساط الفقهية ولا تزال تعتقد أن لصلاح المؤلف تأثيرا في الانتفاع بمؤلفاته، ولو كتب في الحساب والنجوم.
أضف إلى هذا أن الغزالي نفسه كان يعنى بالفقه والتوحيد في مؤلفاته الأخلاقية، فكأنه يرى هذين الفنين جزءا أو مقدمة لعلم الأخلاق.
والذي عنوا بنقد كتبه إنما التفتوا أيضا إلى الوجهة الأخلاقية، فالقضاة منهم كانوا يرونه خطرا على الأخلاق، لأنه بجانب الشريعة، وهي فيما يرون أساس الأخلاق. والفلاسفة منهم كانوا يخافونه على الأخلاق، لأن لها قواعد متينة تلقوها عن معلميهم، وصاحبنا هذا يريد أن يأتي على تلك القواعد بإذاعته وساوس المتصوفة، وقد وقع ما كانوا يحذرون. (6) تأثير الإحياء
ولئن قالوا في «الوجيز» ما قالوا، ووضعوا عليه ما شاءوا من عشرات الشروح، وفعلوا مثل ذلك أو قريبا منه في مؤلفاته في الفقه، والتوحيد، والأصول، فإن أبعد كتبه أثرا، وأسيرها ذكرا، وأبقاها على وجه الدهر، هو كتابه «إحياء علوم الدين» بلا جدال.
كتب الغزالي في الفقه، ولكن لم يجدد مذهبه إلا بمقدار، فلم يثر فتنة. وكتب في المنطق، ولكنه لم يزد عن سواه غير الإبانة والإيضاح. وكتب في الأصول، ولكن بحيث لا يثير الخصومة، ولا يهيج اللدد. وكتب في الفلسفة. ولكنه لم يزد على أن تغنى بليلى معاصريه. وكتب في التوحيد، فلم يخالف الأشاعرة إلا قليلا، فظل مستور الحال.
وما كتب «الإحياء» حتى التفت الناس إليه من كل جانب، وسار اسمه مسير الشمس، وشغلت به جميع القلوب، شوقا إليه أو عتبا عليه، أو بغضا له، أو رفقا به. وقد شهد هذه الضجة، وسمع هذه الصيحة، وهو حي يرزق. وحاول أن يهدي ناقديه بكتاب يوضح فيه ما غمض في الإحياء، وهو «الإملاء على إشكالات الإحياء» ولكنه في الواقع لم يزده إلا إشكالا إلى إشكال. فلج الناس في المراء فوضع كتابه «المنهاج» على أن يكون موضع وفاق، فكان في الواقع أيضا ضغثا على إبالة، ثم مات الغزالي قبل أن يحسم هذا النزاع، فلم تهدأ العاصفة بموته، بل قامت قيامة الجدل بين تلامذته وبين خصومه، ولا يزالون مختلفين!
ويمكن الحكم بأن الخصومة التي كانت بين أنصار الغزالي وبين خصومه كانت خصومة بين الشريعة والتصوف، فإن أنصار الغزالي جميعا صوفية، أو شبه صوفية، وخصومه جميعا من علماء الشريعة، وأبعدهم غورا في النيل منه هم المتصدرون للفتيا والقضاء.
فبينا نجد ابن القيم يرميه (بالتخليط والهذيان) نجد أبا الحسن الشاذلي يذكر أنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
في منامه وقد باهى موسى وعيسى بالغزالي. وقال: أفي أمتيكما حبر كهذا؟ فقالا: لا! ونجد أبا العباس المرسي يشهد له بالصديقية العظمى! وليت شعري ما هيه؟
والفرق كبير بين من يرميه بالتخليط والهذيان وبين من يحلم بأن لا نظير له في أمة موسى وعيسى عليهما السلام.
وقد قدمت لك شيئا من المنامات المتعلقة به، وبينت ما لها من أسباب، وأزيد الآن أن كل هذه المنامات مسببة عن «الإحياء» فهي تارة تقع لناقدي ذاك الكتاب، وتارة تقع للمنتفعين به من علماء الإسلام.
والذين أحرقوا «الإحياء» لم يحرقوه لأنه كتاب هين، والذين ألفوا الكتب في نقده، لم يفعلوا ذلك لأنه كتاب هين، وإنما نقده هؤلاء، وأحرقه أولئك، لأنه فيما يرونه كتاب خطر، وليكن خطرا على الإسلام والمسلمين، وليكن كتاب شر وفتنة، وليكن كتلة زندقة وإلحاد، فهو على كل حال كتاب رهيب خشيه أولئك الناس، وهذا ما يعنينا الآن.
وأشهر من نقد «الإحياء» الإمام أبو عبد الله المأزري المالكي المتوفى سنة 536ه وقد ناقشه السبكي في طبقاته، فليرجع إليه من شاء، ويتلخص نقد المأزري في أن الغزالي غير ثقة فيما تعرض له من الفنون، وأن كتابه «متردد بين مذاهب الموحدين والفلاسفة وأصحاب الإشارات» ويتلخص رد السبكي في رمي المأزري بالحسد والكيد للصوفية في شخص الغزالي، وممن نقده أبو الوليد الطرشوشي وتجد جملة من نقده في الجزء الأول من شرح «الإحياء» للزبيدي. فأما الذين كتبوا في فضل الإحياء فهم كثير: منهم الشيخ عبد القادر العيدروس، وضع كتابا سماه: «تعريف الأحياء، بفضل الإحياء» وفي أيدي الناس كتاب لبعض الفضلاء اسمه: «بغية القاصدين لفضائل إحياء علوم الدين».
وأطال السبكي في مدحه حتى نقل عن بعض المحققين أنه قال: «لو لم يكن للناس في الكتب التي صنفها الفقهاء الجامعون في تصانيفهم بين النقل والنظر والفكر والأثر غيره لكفى.» ثم قال: «وهو من الكتب التي ينبغي للمسلمين الاعتناء بها وإشاعتها ليهتدي بها كثير من الخلق، وقلما ينظر فيه ناظر إلا ويتعظ به في الحال».
ويدل على مبلغ تأثير «الإحياء» عناية العلماء به، فإنا نجد الحافظ العراقي يخرج أحاديثه في كتابين: أحدهما كبير الحجم في مجلدين، وهو الذي صنفه في سنة 751ه ثم اختصره في مجلد وسماه «المغني عن حمل الأسفار». ثم أتى تلميذه شهاب الدين بن حجر العسقلاني فاستدرك عليه ما فاته في مجلد. وصنف الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي كتابا سماه: «تحفة الأحياء فيما فات من تخريج أحاديث الإحياء» وقد سبقت كلمتنا فيما نقل السبكي من الأحاديث الموضوعة.
وممن اختصر «الإحياء» أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي المتوفى بقزوين سنة 520ه وسماه «لباب الإحياء» وأحمد هذا هو أخو الغزالي. ثم اختصره أحمد بن موسى الموصلي المتوفى سنة 622ه. ثم محمد بن سعيد اليمني، ويحيى بن أبي الخير اليمني، ومحمد بن عمر بن عثمان البلخي وسماه «عين العلم وزين الحلم» (انظر نمرة 109 من فهرست دار الكتب المصرية). واختصره عبد الوهاب بن علي الخطيب المراغي وسماه «لباب الإحياء» واختصره الشمس محمد بن علي بن جعفر العجلوني المشهور بالبلالي شيخ خانقاه سعيد السعداء بمصر المتوفى سنة 820ه.
واختصره ابن الجوزي في كتابه سماه: «منهاج القاصدين» ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية نمرة 167.
وللإحياء شرح مطول يقع في عشر مجلدات، وفيما شاء الله من الصفحات، ألفه الزبيدي، وقد اعتمدت على هذا الشرح في تحقيق كثير من مواطن الخلاف.
ولم يقف الأمر عند شرح الإحياء، واختصاره، وتخريج أحاديثه، بل وضعت الأبحاث المفردة، لشرح كلمة وردت في الإحياء، وهي: «ليس في الإمكان أبدع مما كان» وممن شرح هذه الكلمة: عبد الوهاب الشعراني، وعبد الكريم الجبلي، ومحمد المغربي شيخ الجلال السيوطي، وأحمد بن مبارك السجلماسي، وأبو بكر بن عربي. ووضع ناصر الدين بن المنير الإسكندري رسالة في هذه المسألة سماها: «الضياء المتلالي في تعقب الإحياء للغزالي» وفي مناقضة هذه الرسالة ألف السيد السمهودي رسالة تقع في سبعة كراريس كما قال الزبيدي. وألف البرهان البقاعي رسالة في هذه المسماة سماها «تهديم الأركان» وألف الجلال السيوطي رسالة ناقض بها البقاعي سماها «تشييد الأركان». (7) الانتفاع بمؤلفات الغزالي
ولقد تتبعت العصور التي تلت عصر الغزالي فوجدت الانتفاع بمؤلفاته ظاهرا كل الظهور في حياة علماء الدين والتصوف والأخلاق. ولقد رأيت من بينهم من هم يحفظ كتاب الإحياء عن ظهر قلب. ورأيت منهم من كان يتقرب إلى الله بنسخ هذا الكتاب. وتجد في ص69 ج3 من «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» مظهرا لأثر الغزالي في ذلك العصر، إذ تجد من العلماء من يتخذ وردا من الإحياء كما يتخذ وردا من القرآن ولولا خوف الإطالة لضربت للقارئ عشرات الأمثال.
وفي العصر الحاضر يدرس كتاب الإحياء في الأزهر والمعاهد الدينية، وكان الأستاذ الشيخ محمد عبده قرر أن يدرس معه كتاب ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق، ولكن رأى العلماء فيه آراء فلسفية، فقرروا لذلك حذفه، لئلا يفسد الطلاب.
والأستاذ الشيخ يوسف الدجوي ينصح لتلامذته دائما بالانتفاع بكتاب الإحياء. وكنت ممن أوصاهم بذلك، ولكن الله لم يشأ أن أكون كما أراد الأستاذ، فقد رأيت كيف صورت الغزالي بصورة الذي قد يخطئ وقد يصيب، وهذا من مثلي كثير!
وأثر الغزالي ظاهر في مؤلفات الشيخ الدجوي، وهو أيضا سبب ضعف تلك المؤلفات: فإن كتاب «سبيل السعادة» الذي وضعه الأستاذ منذ بضع سنين يشبه أن يكون خلاصة مشوهة للآراء الحديثة في فهم أصول الأخلاق، وفضيلة الشيخ معذور لأنه لا يعرف لغة أجنبية، ولأنه يبغض المدنية الحديثة من أعماق صدره، ويستبعد الاهتداء بآراء الفلاسفة المحدثين!
ويمكن الحكم بأن دراسة كتاب الإحياء في الأزهر مجردا من آراء المفكرين في نقده، وتمييز غثه من سمينه، كانت السبب في إفساد العقلية الأزهرية، وجعلها غير صالحة لأن تسمو بأصحابها إلى الطمع في أن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
والأمل كبير في أن يصل هذا الصوت إلى من بيدهم الأمر في الأزهر والمعاهد الدينية: فيغيروا ذلك المنهج القديم في دراسة الأخلاق، فإن في الأزهر ولواحقه نحو عشرين ألفا من الطلبة تميتهم تلك المذاهب البالية، التي يعولون عليها في فهم نزعات النفوس، وخلجات القلوب. وسبحان من لو شاء لهدانا وإياهم سواء السبيل! (8) عناية الأجانب بالغزالي
ومما يتصل بتأثير الغزالي في الحياة العلمية عناية الأجانب به: فقد كتبت عنه عدة مؤلفات بالفرنسية، والإنكليزية، والألمانية. ومنهم من يتعصب له فوق ما يفعل المسلمون. ويعده الدكتور زويمر واحدا من أربعة ويقول: «كل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظماء. وهم محمد نبي المسلمين نفسه، والبخاري، والأشعري، والغزالي».
والدكتور زويمر من المستشرقين الإنكليز الذين درسوا العقلية الشرقية، وكتابه عن الغزالي من الكتب القيمة، وتجد فيه من مظهر العناية بالغزالي ما كتبه عن قبره، نقلا عن خطاب وصله من القس دونالدسن في 17 يناير سنة 1917، وقد زار قبر الغزالي ووجد في إحدى زوايا الحجر كلمة (غزالي) و(بوحا) وأصلها بالطبع أبو حامد. وهذا هو الرسم الذي أرسله قس دونالدسن إلى الدكتور زويمر عن قبر الغزالي.
ومن أجود ما كتب بالفرنسية عن الغزالي كتاب
Cara de Vaux
والمسيو «كارادي فو» هذا رجل خبير بالحياة الإسلامية، وله كتاب عن ابن سينا أحب أن يطلع عليه من يود أن يعرف شيئا عن المدارس الفلسفية عند المسلمين، وإني لآسف حين أقرر أن المستشرقين يفهمون مذاهب أهل السنة والمعتزلة أكثر من علماء الأزهر الذين إذا عرض لهم ذكر المعتزلة لم يزيدوا على أن يقولوا (قبحهم الله) وقد أخبرني حضرة الأستاذ الدكتور طه حسين أن المسيو كازانوفا وضع كتابا عن الغزالي، وإني لملوم في أن غفلت عن هذا الكتاب، فإن الطريقة التي جرى عليها المسيو كازانوفا في كتابه «محمد ونهاية العالم» طريقة تغري الباحث بتعقب ما يكتب هذا الرجل الدقيق. وآسف أيضا على أن الظروف لا تسمح بأن أترجم شيئا من آراء هذا الرجل، لأن البحث العلمي عنده فوق كل مقام. وإنما أدعو من يحب الاطلاع إلى مراجعة
Mohamed et la fin du monde
فإن فيه من المباحث ما يواتي شهوات العقول، وللعقول شهوات!
وهناك كتاب للمسيو
Moher
موضوعه:
Etudes sur la philosophie d’Averroes concernant son rapport avec celle d’Avicenne et Gazali .
ويحسن الرجوع إلى المقدمة التي وضعها المسيو
Lucien Gautier
حين نقل «الدرة الفاخرة» إلى الفرنسوية
Traite d’eschatologie musulmane
ويحسن الاطلاع على الجزء التاسع من المجموعة السابعة من
Journal asiatique
وفي مقدور القارئ أن يرجع إلى
Encylcopedie de l’Islam 20 Livers
إذا أراد أن يعرف ما كتب عن الغزالي باللغة الفرنسية والإنكليزية والألمانية. وقد أخبرني حضرة الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق أنه علم أن في اللغة التركية عدة مؤلفات عن الغزالي. وأحسب أن السبيل إليها ممهد لمن شاء.
وأحب أن يغنيني القارئ عن تفصيل ما أعرف عن نظر المستشرقين إلى الغزالي ومذاهبه الصوفية، فإني مضطر إلى الاكتفاء بإرشاده إلى طريق الاطلاع.
الفوز للحياة
وبالرغم من تأثير الغزالي في الشرق والغرب، وتغلغله في أعماق الحياة العلمية، فإن الفوز فيما يظهر لن يكون لآرائه في الأخلاق. ولكن سيكون الفوز للحياة.
إلا أن الأخلاق كالشرائع، فكما تنهزم الشريعة أمام الحياة، كما انهزمت المسيحية لخروجها على ما للحياة من قوانين، كذلك تنهزم الأخلاق أمام الحياة، حين تخلو عما في الحياة من عناصر وأصول.
وهكذا انهزم الغزالي حين نازل الحياة!
حرم النقش والتصوير، ولكن النزعات البشرية مشت في طريقها بقوة. ولم تصدف عن النقوش والتصاوير!
وحرم الغناء. ولكن مشت الأذواق في سبيلها بقوة، ولم تزل ظامئة إلى الأنغام والألحان!
وليته حين حرم النقش والتصوير والغناء، وضع لذلك عللا معقولة! ولكنه حرم التصوير لأنه يدعو إلى الوثنية، وهذا كذب على الواقع، فطالما أحببنا تهاويل الصور، ولم نفكر في الوثنية. وحرم الغناء لأنه يدعو إلى شرب الخمر. وهذا ظن مردود، فطالما سمعنا عبد اللطيف أفندي البنا وإبراهيم أفندي القباني والشيخ عبد السميع عيسى، ولم نفكر في الخمر، ولا في مجالس الخمر!
ليست الأخلاق شيئا آخر غير مناهج الحياة. والأخلاق التي تبنى بها الأمم ليست ما يعرفه الغزالي من التواضع، والتوكل، والخمول، وإنما هي فهم قوانين الحياة وأحب أن أكرر كلمة الحياة؛ لأنها عندي غاية الأخلاق.
والفضائل السلبية كالصبر، والزهد، والقناعة، لن تكون فضائل حتى تقضي الظروف باعتبارها أسلحة ماضية في سبيل الحياة. فقد يكون الخمول من أسباب النباهة وذيوع الشهرة، كما يكون الصيت أحيانا من أسباب الخمول.
ولا قيمة للحياة بغير القوة، فيجب أن تكون الأخلاق بابا إلى الحياة القوية. وطالما شككت في قوله عليه السلام: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»!
الباب الثاني عشر
في أنصار الغزالي وخصومه
تمهيد
قدمنا أن الخصومة كان مثارها الفرق بين الفقه والتصوف، وأن أنصار الغزالي كانوا في الأغلب صوفية، وأن خصومه كانوا في الأكثر من الفقهاء. ونريد الآن أن نقفك على ترجمة طائفة من أنصار الغزالي وخصومه، ونبين بجانب ذلك شيئا مما اختص به أولئك العلماء الذين حاربوا الغزالي أو أيدوه، لنمهد لك السبيل إلى فهم الحركة العقلية التي أوجدتها مؤلفات الغزالي، وسبيلنا الإيجاز في هذا الباب، لأن المقام لا يسمح بالتطويل.
في أنصار الغزالي وخصومه
(1) ابن رشد
ولد في قرطبة سنة 520ه 1126م. ودرس في صغره الفقه والتوحيد والأصول. ثم أقبل على دراسة الطب والفلسفة. وكان له بسبب علمه وفضله عدد من الحساد يتقولون عليه الأقاويل. توفي رحمه الله بمراكش في أوائل سنة 595ه بعد أن ذاق الأمرين من نفي واضطهاد، جزاء ما قدمت يداه من شرح فلسفة القدماء!
والذي يقرأ حياة ابن رشد، ويرى ما لقيه في زمانه، يعلم أن العرب كانوا يحتضرون، وأن دولتهم كانت تمشي إلى الفناء، لأن الذين يحاربون الفكر الحر، ويضطهدون المفكرين الأحرار، لا يصلحون مطلقا للحياة. وكذلك دالت دولة العرب بعد ذلك.
وخصومة ابن رشد للغزالي تكاد تكون فلسفية، فقد وضع الغزالي كتابا سماه «تهافت الفلاسفة»، والغرض من الكتاب ظاهر من عنوانه، فعارضه ابن رشد بكتاب سماه «تهافت التهافت»، والذي يهمني من معارضة ابن رشد للغزالي إنما هو دفاعه عن ابن سينا والفارابي، فقد كان الغزالي يراهما من الكفار.
ويتلخص دفاع ابن رشد في أن مسألة قدم العالم وحدوثه التي كانت مثار الخلاف، إنما كان الاختلاف فيما بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية وبخاصة عند بعض القدماء. فإن هناك ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة بين الطرفين. وقد اتفقوا في الطرفين واختلفوا في الواسطة. أما الطرف الأول فهو موجود وجد عن شيء ومن شيء، أي عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم على وجوده، وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس مثل الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات. وهذا الصنف اتفق الجميع على أنه محدث. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان. وهذا الصنف اتفق الجميع على أنه قديم وهو الله. وأما الصنف الثالث فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء أي فاعل، وهذا هو العالم بأسره. والكل متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فإن المتكلمين يسلمون بأن الزمان غير متقدم عليه لأن الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. يقول ابن رشد: «فهذا الموجود الأخير، الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم، فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما. ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا. وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا، فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة كما ظن المتكلمون في هذه المسألة».
ولم يقف ابن رشد عند هذا الحد، بل انتقل إلى كلام هو في الواقع صفع لأدعياء العلم الذين يحسبون قدم العالم وحدوثه من الأمور الهينة التي يصدرون عنها الفتوى كأنها مسألة طلاق!! وإليك ما يقول في ذلك:
مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع، فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر في الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة. وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء .
1
يقتضي بظاهره وجودا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
2
يقتضي بظاهره وجودا ثانيا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان .
3
يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء.
وهناك صفعة ثانية تفضل بها ابن رشد على علماء التوحيد. ذلك بأن هؤلاء القوم يختلقون من الأساليب والاصطلاحات ما لا يعرفه الدين، ثم يقولون: من تعدى هذه الحدود فهو كافر.
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟!
4
وإليك ما يقول ابن رشد في ذلك:
والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضا في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون، فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه أيضا أبدا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه؟ ثم قال: والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء. ويشبه أن يكون المختلفون في هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين، وإما مخطيئن معذورين، فإن التصديق بالشيء من قبل الدليل القائم في النفس هو شيء اضطراري لا اختياري، أعني أنه ليس لنا أن نصدق أو لا نصدق، كما لنا أن نقوم أو لا نقوم، وإذا كان من شرط التكليف الاختيار، فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت له إذا كان من أهل العلم معذور، ولذلك قال عليه السلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر».
وبمناسبة كلام ابن رشد نقرر أن علماء التوحيد أسرفوا في تكفير الفلاسفة بل أسرفوا في تكفير بعضهم البعض، بأسباب ضعيفة لا يعرفها الإسلام، ومازالوا يسرفون حتى حفظ عنهم الرأي العام جملة تعابير هي مناط الكفر والإيمان. وفي كتاب «فيصل التفرقة» للغزالي مظهر لهذه الآراء الفلسفية التي ظنها الأولون حقائق، وهي في الواقع أباطيل.
والذي أراه أن مجازفة علماء التوحيد في الحكم بحدوث العالم، وفي وصف الله بصفات معينة محدودة، وفي تعيين مصير العالم بشكل خاص، كل أولئك يدل على أن هؤلاء الناس كانوا في غاية السذاجة، وأن نظرهم كان غير بعيد. وستسخر المقادير منهم يوم تطوى كتبهم وآراؤهم، ويدخلون فيما يسمى قبل التاريخ، كما دخل من قبلهم ألوف الألوف من أصحاب الشرائع والقوانين. (2) ابن تيمية
ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة 661ه. وقدم به والده إلى دمشق في سنة 667ه حين استولى التتار على حران. وقد تلقى عن والده الفقه والأصول، ثم عني بالنظر في الحساب والجبر والفلسفة، وتقدم للتدريس وسنه دون العشرين. وقد بلغت مصنفاته ثلاثمائة مصنف. منها تعارض العقل والنقل والجواب الصحيح في الرد على النصارى وإثبات المعاد والرد على ابن سينا وإثبات الصفات والرد على الإمامية ... إلخ.
قال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة 704ه راح الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مسجد الفارنج وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت تزار وينذر لها هناك. فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزال عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما. وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة. وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يبال بمن عاداه. ولم يصلوا إليه بمكروه. وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع عن البحث لا بمصر ولا بالشام.
وكان ابن تيمية كثيرا ما ينشد هذه الأبيات:
لو لم تكن في القلوب مهابة
لم يطعن الأعداء في ويقدحوا
كالليث لما هيب خط له الزبى
5
وعوت لهيبته الكلاب النبح
يرمونني شزر العيون لأنني
غلست في طلب العلاء وصبحوا
وقد توفي رحمه الله في صباح يوم الاثنين عاشر ذي القعدة سنة 728ه وهو في السجن. فأخرج إلى الجامع في يوم مشهود لم يعهد في دمشق مثله، وقد تبرك الناس بماء غسله، واشتد الزحام على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارا، وقدر من حضر جنازته من الرجال بمائتي ألف ومن النساء بخمسة عشر ألفا. ورثاه كثير من العلماء منهم ابن الوردي.
والذي يعود إلى ترجمة ابن تيمية في الكتب التي عني مؤلفوها بترجمته يعرف كثيرا عن العقلية الإسلامية في القرن الثامن، ويكفي أن نلفت القارئ إلى قولهم «ودفن بمقابر الصوفية» فإن لذلك معاني لا تغرب عن ذهن اللبيب، وما أريد أن أزيد.
وابن تيمية من كبار المفكرين في الإسلام، ولكنه لا يخلو من سذاجة. فإنك بينما تراه يتوغل في المدركات المعقولة، تراه ينحدر فجأة في هاوية الأوهام. من ذلك قوله «العلماء هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد
صلى الله عليه وسلم
فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم.»
6
وهذا بالطبع حكم لا سند له من معقول، أو منقول.
ويعد ابن تيمية من خصوم الغزالي لأنه كتب فصولا كثيرة في تناقضه، وتسفيه بعض آرائه. ومن أعجب ما رأيت له حكمه بأن الغزالي هجر طريق الصوفية في أخريات أيامه، وفي ذلك يقول: «ولهذا تبين له في آخر عمره أن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية، وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله، وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور مما أنكره الناس عليه».
وأنا لا أستعبد كلام ابن تيمية، فإن الغزالي كان متقلبا في آرائه لا يستقر على حال، فهو تارة فقيه، وتارة صوفي، وتارة فيلسوف.
وسبب هجوم ابن تيمية على الصوفية أنه رأى منهم من يفضل الولي على النبي، كما رأى من الفلاسفة من يفضل الفيلسوف على النبي. فإنا نراه يمدح ابن سينا لأنه يفضل النبي على الفيلسوف، ويسمي طريقه طريق العقلاء، ويذم الفارابي لأنه يفضل الفيلسوف على النبي، ويسمي طريقه طريق الغلاة. ويذم محيي الدين بن عربي لأنه كان يدعي أنه كان يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى النبي، لأن الملك على أصلهم هو الحال الذي في نفس النبي، والنبي في زعمهم يأخذ عن ذلك الحال، والحال يأخذ عن العقل، فهو على ذلك أفضل من النبي لأنه لا يحتاج إلى وسيط.
وأحب أن أنبه القارئ إلى أني إنما أذكر تاريخ فكرة من الأفكار الإسلامية، لا أكثر ولا أقل، والمؤرخ غير مسؤول. (3) ابن القيم
هو من تلامذة ابن تيمية. ولد في سنة 571ه. وتوفي سنة 691ه لقي في حياته ضروبا من الشدة بسبب آرائه الحرة. فقد حبس مدة لإنكاره أن تشد الرحال إلى قبر الخليل. وقد حبس مع ابن تيمية في المدة الأخيرة، ولم يفرج عنه إلا بعد موت أستاذه. وله عدة تصانيف. منها «مدارج السالكين»، و«شرح الكتاب العزيز»، و«نقد المنقول»، و«المحك المميز بين المردود والمقبول»، و«أعلام الموقعين» ... الخ.
وابن القيم هذا من ألد خصوم الغزالي، وقد نقلنا جملة من آرائه حين تكلمنا عن أغلاط الإحياء، فلا نعود إليها أبدا.
وأكرر ما قلته من أنني أوجز كل الإيجاز في هذا الباب، فلهؤلاء الذين أترجمهم آراء هي غاية في الخطورة، من حيث ما فيها من الدقة، ومن الجرأة، مع أنهم فيما أرى كانوا يبالغون في الاحتياط، لأن العالم الإسلامي كان يضطهد الفلاسفة إذ ذاك. ولو سمح لنا الدهر بوضع كتاب في الفلسفة الإسلامية لاستطعنا أن نرفع عن هؤلاء الأفذاذ آصار الخمول. (4) السبكي
هو تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي المتوفى سنة 771ه. والسبكي هذا من كبار المؤلفين. وكتابه «جمع الجوامع» في الأصول يدل على كده وكدحه في سبيل العلم، وإن كان غاية في اللبس والغموض. وكتابه «طبقات الشافعية الكبرى» كتاب جيد، من حيث ما فيه من عيون المسائل الفقهية، ومن حيث الترتيب. وعيب السبكي يرجع إلى ضعفه في النقد والتمييز، ولو خلت كتبه من الآراء التي اعتمد فيها على ذاكرته فقط، لكان لها شأن كبير.
ويعتبر السبكي من أنصار الغزالي، وقد كتب عنه في الطبقات أكثر من ثمانين صفحة، «ودافع عنه دفاع الأبطال» حين عرض لخصومه. وهو يعتقد بكل سذاجة أنه لو لم يكن لدى المسلمين غير كتاب الإحياء لكفى!! وما أريد أن أطيل في الكلام عن السبكي، فقد عرضنا له عدة مرات. (5) الزبيدي
هو محمد بن محمد الحسيني الزبيدي. وهو من علماء القرن الثاني عشر، وقد وضع شرحا مطولا للإحياء في عشر مجلدات، انتهى من تأليف الجزء الأول منه في يوم الجمعة 25 محرم سنة 1193ه. وفي هذا الجزء كتب دفاعه عن الغزالي.
وهو من أشد أنصار الغزالي، ولكن دفاعه عنه دفاع سخيف، لا قيمة له، لا في نظر الشرع ولا في نظر العقل . من ذلك قوله في تأييد ما يراه الغزالي من أن الزواج ميل إلى الدنيا:
وأما كون التزويج من جملة الميل إلى الدنيا فهو ظاهر، لأنه في الغالب يطلب للاستمتاع، وذلك لا يحصل إلا بالوقوع في الآفات التي كان عنها بمعزل أيام عزوبته، لا سيما إن كان متجردا عن القيام بالأسباب التي تجلب له أمر معاشه فإنه يتلف بالكلية، ويلزمه الرياء لكل من أحسن إليه بلقمة أو خرقة أو غيرهما فأبغض الخلق إليه من يذمه عنده خوفا من أن يتغير اعتقاده فيه فيقطع عنه بره فكأن عبادة هذا كلها لأجل الذي أحسن إليه.
وهذا كلام غير مفهوم في الواقع، فضلا عن أن يكون دفاعا عن رأي يرى الناس أنه غير صواب.
الباب الثالث عشر
في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين
تمهيد
هذا باب إذا أطلته طال، لأن لآراء الغزالي أشباها كثيرة في الفلسفة الحديثة، وتحملني الرغبة في الإيجاز على الاكتفاء بأهم وجوه المقابلة بينه وبين الفلاسفة المحدثين. وحسبي أن أدل القارئ على كيفية السير في هذا الطريق.
في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين
(1) الغزالي وديكارت
Descartes
أقرب الفلاسفة شبها بالغزالي هو «ديكارت» لأنه ارتاب كما ارتاب الغزالي، وبقي في شكه وارتيابه زمنا غير قليل.
ولد «ديكارت» في لاهاي سنة 1596م أي بعد الغزالي بنحو 530 سنة. تلقى العلم في مدرسة يسوعية، كأكثر الأطفال لعهده، وحمله جده ونشاطه على دراسة اللغات القديمة، والأساطير والتاريخ، والبلاغة، والشعر، والرياضيات، والأخلاق، واللاهوت. ولم يقنع بذلك، بل قرأ كل ما وقع في يده من نادر المؤلفات، كما حدث عن نفسه. ورحل إلى باريس في السادسة عشرة من عمره، وتطوع في الجندية، وعمل عدة سياحات في ألمانيا، والسويد، والدانمارك، ثم استقر في هولنده، حيث رأى الإقامة فيها أنفع لنشر آرائه بحرية لم تسمح بها فرنسا إذ ذاك.
وبعد أن أقام في هولنده عشرين سنة، مكبا على وضع مذهبه، دعته كريستين ملكة السويد لتتلقى عنه العلم، ولكنه لم يتحمل برد تلك البلاد، فقضى نحبه في سنة 1650 بعد أن أمضى نحو سنة في ستوكهلم ثم حملت جثته إلى فرنسا في سنة 1667 ودفن بكنيسة
Saint-Etienne .
مؤلفات ديكارت
يعتبر ديكارت في نظر مؤرخي الآداب الفرنسية أول رجل عبر عن آرائه الفلسفية بلغة واضحة، وجعل لغة الفرنسيين لغة فلسفية، بعد أن كان الفلاسفة من قبله يكتبون فلسفتهم باللغة اللاتينية. وأهم ما يعنينا من مؤلفاته:
أولا:
Règles pour la direction de ľesprit .
ثانيا:
Discours de la méthode .
ثالثا:
Méditations métaphysiques .
رابعا:
Les principes de la philosophie .
خامسا:
Les passions de ľâme .
ففي هذه المؤلفات بسط ديكارت آراءه الفلسفية، فليرجع إليها من شاء، فإنه لا يوجد عنه شيء مقنع بالعربية.
شكوك ديكارت
وكما ارتاب الغزالي حين رأى صبيان النصارى لا نشوء لهم إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، فقد ارتاب ديكارت حين رأى شيوع التقليد، ورأى الناس في الأكثر إما أن يكونوا ضعفاء لا يقدرون على تمييز الحق من الباطل، فيتبعوا آراء غيرهم بلا بصيرة، وإما أن يكونوا أقوياء فيسرعوا إلى الحكم ثقة بقوتهم، فإذا شكوا بعد ذلك فقد لا يهتدون إلى سواء السبيل.
ومما حمل ديكارت على الشك ما رآه في أسفاره من اختلاف العادات والآراء، وتباين العقائد والمدركات، وما تبينه من تأثير التربية في التفرقة بين أخلاق الشعوب.
وأهم ما تنبه له في رحلاته الشك في قيمة الرأي العام، والاستهانة بكثرة الأصوات، لأن إجماع الأمة على رأي لا يدل على أنه رأي الأمة، فقد يكون رأي فرد واحد، حملت عليه الأمة لسبب من الأسباب.
وآراء الفلاسفة كانت مما حمل «ديكارت» على الارتياب، إذ قلما يوجد رأي غريب بعيد التصديق إلا وقد قال به فليسوف.
ولكن ديكارت كان في ارتيابه أصرح من الغزالي، فبينما نجد الغزالي يحدثنا بأنه دام قريبا من شهرين على مذهب الفلسفة «بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال» أي أنه لم يكاشف الناس بشكه إلا حين أجمعوا أو كادوا يجمعون على تقديسه، نجد ديكارت يتطلب الأماكن الصالحة لنشر شكوكه، ونجده يحكم ببطلان الآراء التي بنى عليها آراءه حين ظنها حقه، وبوجوب التخلي مرة واحدة عن جميع آرائه، ليضع بناء جديدا على أساس جديد.
ونرى الغزالي شك في المحسوسات، لأنه ينظر إلى العقل فيراه واقفا لا يتحرك، فيحكم بنفي الحركة، ثم يعرف بالتجربة والمشاهدة أنه يتحرك ولكن بالتدريج. ثم نراه هم بالشك في العقليات، لأنه يعتقد في النوم أمورا، ويتخيل أحوالا لها ثباتا واستقرارا، ثم يستيقظ فيعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاته ومعتقداته أصل، فيسأل: بم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك، وقد يمكن أن تطرأ عليك حالة أخرى تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك؟
كذلك نجد ديكارت يقرر أن الأشياء التي سلم بأنها أثبت من غيرها وأصح، إنما كان اعتمد في صحتها وثباتها على الحواس، وقد تبين غير مرة أن الحواس خداعة، وهو كذلك يرى في نومه تصورات يعلم حين يستيقظ أنها باطلة، فمن أين يعرف فضل اليقظة على المنام، أو فضل المنام على اليقظة، وهو في كليهما مضلل مخدوع؟!
الفرق بين الغزالي وديكارت
الفرق عظيم جدا بين الغزالي وديكارت، فإن الغزالي خرج من شكه بطريقة لا تصل بأحد إلى يقين، خرج من شكه بنور الله، ونور الله هذا لا يعرفه العلم، حتى يضمه إلى ما لديه من أصول. والغزالي نفسه يشعر بذلك، فقد نراه يحكم بأن من ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة، وينقل أن رسول الله لما سئل عن «الشرح» ومعناه في قوله تعالى:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام
1
قال: «نور يقذفه الله في القلب فيشرح به الصدر، فقيل وما علامته؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود.» يقول الغزالي: وهو الذي قال
صلى الله عليه وسلم
فيه: «إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره.» فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف!!
وما دام الغزالي لم يرجع عن شكه «بنظم دليل وترتيب» كما قال، فمن العبث أن نستعين بالعقل والمنطق لنخرج من ظلمات الشكوك. وهذا ما يناقض كل ما فعله ديكارت للخروج من شكوكه، وكذلك كان الغزالي سببا لخمود الفلسفة في الشرق كما كان «ديكارت» سببا لنهوضها في الغرب.
أسلوب ديكارت
لم ير ديكارت من الحكمة أن يخرج على ما في بلاده من عادات وقوانين، بل رأى من الخير أن يحافظ على الدين الذي نشأ عليه، وأن يسير على أكثر الأمور قبولا واعتدالا عند أهل عصره، حتى يتمكن من وضع مذهبه في طمأنينة وسكون.
ويقول بول جانيه
: إن ديكارت حين اقتنع بعدم كفاية العلوم المعروفة لعصره لم يركن إلى الارتياب كما فعل مونتيني
Montaigne
بل رأى من الواجب أن يبني صرح العلم على أساس جديد. وكذلك يمكن أن نقول إن الغزالي انهزم أمام شكوكه، ولكنه لم يركن إلى الارتياب كما فعل مونتيني، ولم يفكر في وضع العلم على أساس جديد كما فعل ديكارت، ولكنه انتظر هداية الله، والله يهدي من يشاء.
وأول ما يبدأ به «ديكارت» هو الدعوة إلى نبذ الكتب وتحكيم العقل، لأنه يرى أن المؤلفات التي تنطوي على مختلف الآراء، ليست أقرب إلى الحقيقة من التعقلات البسيطة التي يقوم بها رجل سليم الذوق، وقد لمس الأشياء بيديه. والمهم عنده أن تحسن التفكير، لا أن تعرف كيف فكر الناس. والبناء الذي قام به مهندس واحد خير عنده من البناء الذي يقوم به عدد من المهندسين، فإن وحدة الذوق من موجبات الجمال.
ويرى «ديكارت» أنه لوضع فلسفة جديدة، يجب أن يوضع أسلوب جديد. والأسلوب المختار لديه هو الأسلوب الرياضي، لأنه يعصم الفكر عن الخطأ والضلال.
وقد وضع لأسلوبه هذه القواعد الأربع:
أولا:
لا يصح قبول شيء على أنه حق، ما لم يعرف (ما هو) بغاية الوضوح.
ثانيا:
تقسيم كل مسألة صعبة إلى ما يمكن أن تشتمل عليه من الأجزاء، ليكون إدراكها سهل المنال.
ثالثا:
ترتيب التفكير، والابتداء بالموضوعات السهلة البسيطة، للوصول إلى الموضوعات المركبة.
رابعا:
فرض نظام في الموضوعات التي لا يسبق بعضها بعضا في الطبع.
يقول «بول جانيه»: «ولهذه القواعد الأربع في ذهن ديكارت معنى جد محدود. والقاعدة الأولى تظهر كأنها عادية، وليس كذلك، فإن إغفال كل سلطة، وإقرار الاستقلال المطلق للعقل، كان في أوائل القرن السابع عشر جرأة وبدعة.
2
ومن جانب آخر ينبغي أن نفهم كلمة (وضوح) فإن كل ما نعتقده بقوة ليس واضحا، ولأجل وضوحه ينبغي أن يخلص العقل من كل تأثير للحواس والخيال، ليدرك الأفكار بوضوح وتمييز، فإن مدركات الحواس مختلطة، والآراء المعقولة هي التي تولد من أعماق العقل واضحة متميزة. وكذلك لا يوجد واضح محسوس، إذ كل واضح معقول».
والجارحة التي تدرك الحقيقة مباشرة هي البصيرة
Intuition
ولا يريد بها ديكارت ما يتغير من أحكام الحواس والخيال، وإنما يريد بها إدراك العقل السليم اليقظ؛ الإدراك السهل الواضح الذي لا يتطرق إليه أي شك، الإدراك الحازم الذي يولد فقط من أضواء العقل.
وبموجب هذه البصيرة يستطيع كل إنسان فيما يرى ديكارت أن يعلم أنه موجود، وأنه يفكر. ويستطيع كذلك أن يعلم أن الواحد نصف الاثنين، وأن 2 + 2 = 4 كما أن 1 + 3 = 4 لأن هذه الأحكام مدركة بغاية الوضوح والجلاء .
وديكارت يبدأ بنفسه فيفرض أن جميع ما يراه باطل، فماذا يمكن أن يعتبر صحيحا حينئذ؟ قد لا يثبت إلا عدم وجود شيء يقيني في العالم، ولكن يبقى بالطبع أن هناك إنسانا شك، وأن هذا الإنسان لا محالة موجود وهنا يقول ديكارت كلمته المأثورة:
Je pense, donc je suis
أنا أفكر، فأنا إذن موجود. ولا بأس فيما يرى ديكارت أن يغش الإنسان ويخدع، فإن هذا يدل فقط على أنه رأى الأشياء على غير ما هي عليه، ولا ينافي أنه كائن موجود. ويرى ديكارت أنه قد يرغب في أشياء لن تكون فالمرغوب فيه موهوم، ولكن الرغبة نفسها حقيقة لا خيال.
وجملة القول في أسلوب ديكارت أنه لا شيء أوضح لديه من فكره، فهو يؤمن أولا بوجوده، ثم ينتقل إلى الأشياء يقيس وجودها بقدر ما فيها من الوضوح؛ لأن القاعدة عنده أنه لا يصح قبول شيء على أنه حق حتى يعرف «ما هو» بغاية الجلاء.
ولفلسفة «ديكارت» كثير من الخصوم والأنصار، ولا يسمح لنا الوقت بتفصيل ما قيل في النيل منه ، والدفاع عنه، وربما عدنا إليه في مؤلف خاص. (2) الغزالي وبسكال
ولد بسكال في كليرمون في 18 يونية سنة 1623 وانتقل به أبوه إلى باريس في سنة 1631 حيث اتصل بكثير من علماء ذلك العصر، وكان أول أستاذ لبسكال هو والده الذي عني بتربيته على قوة الفكر، وحسن الاستنباط. وقد شغف بسكال بالرياضة، وألف فيها وهو يافع. ثم مال إلى الفلسفة، ولكنه لم يعول على عقله، بل أسلم نفسه لهواجس دينية، حمل عليها بضعف صحته، واضطراره إلى حياة العزلة والانفراد.
واشتهر بسكال بكتابه «الأفكار»
وهو مجموعة آراء جمعت وطبعت بعد وفاته، وكتابه
Lettres provincials
يمثل رأيه في حياة القسيسين والرهبان.
ووجه الشبه بين الغزالي وبسكال هو أن كلا منهما ابتدأ حياته بقوة قهارة، ثم انتهت به صحته إلى الرضا بالخمول في ظلال التنسك والزهد، فقد رأيت كيف أقبل الغزالي على كل علم، وكيف درس كل النحل، وعرف بواطن جميع الفرق، ثم رأيت كيف رضي بوساوس الصوفية، وعد كل ما سوى مذهبهم ضلالا في ضلال!!
وكذلك ابتدأ باسكال بتأييد مذهب ديكارت، والتحمس لنصرة العقل، ومحاربة الوساوس القديمة. حتى لنجده يدافع عن الشهوات الكبيرة التي توجد الأعمال العظيمة، كالحب والطمع، وذلك في رسالته
Discours sur les passions de ľamour
ولكن صحة باسكال أخذت تسوء يوما بعد يوم واضطر إلى العزلة في
واختار الفلسفة الصوفية التي لخصها في محادثته مع مسيو دي سامي كما قال بول جانيه، ثم عول أخيرا على الاكتفاء بالإنجيل.
ومما يقرب بسكال من الغزالي شكه في قوة الطبيعة الإنسانية، فهو يرى أن الإنسان مملوء بالخطأ الغريزي الذي لا يزول إلا بعناية الله. وليس هناك شيء يهدي الإنسان إلى الحقيقة، بل كل شيء يخدعه. ومع أن العقل والحواس أصلان للحقائق فإن كلا منهما يخدم صاحبه، والناس يدعو بعضهم بعضا إلى الخداع:
لون المدح لعلمهم فيما بينهم بكراهة الحقيقة التي تنافي المديح، وكذلك لا يتكلم امرؤ في حضرتك كما يتكلم في مغيبك، فالإنسان في نظر بسكال مجموعة من الكذب والزور والنفاق.
وقد بالغ بسكال في احتقار العقل. ثم تمنى لو أنه عرف جميع الأشياء بالوحي والشعور ولم يحتج أبدا إلى العقل!! ويتهم بسكال عقله بإغرائه بالشك. ويعتقد أن الدين لا يأتي مطلقا من ناحية العقل، وإنما يأتي من شعور القلب، ومن هداية الله، ويجوز أن يأتي الدين من طريق العقل، ولكن مثل هذا الدين لا ينفع للنجاة! وهذا بالطبع إسراف. (3) الغزالي وهوبس
Hobbes
ولد هوبس في إنجلترا سنة 1588 ورحل إلى باريس في سن الأربعين حيث درس الرياضيات وعلوم الطبيعة. ثم زار فرنسا مرة ثانية وأقام فيها مدة طويلة، واتصل صلة متينة بالفيلسوف «جسندي» صاحب الفضل على «موليير» و«فولتير». ثم مات في إنجلترا سنة 1679.
وأشهر مؤلفات هوبس هو كتابه
La nature humaine
وكتابه
Leviarhan
أو
La matière, La forme et ľautorité du gouvernement .
وفي هذا الكتاب الأخير دافع عن الأثرة، والاستبداد، فقد كان هوبس من غلاة الماديين، والإحساس عنده ليس إلا حركة من حركات المخ، وهذه الحركة متى وافقت الوظائف الحيوية أنتجت اللذة، واللذة تولد الرغبة، والرغبة تولد الإرادة، فليست الإرادة إلا رغبة مسيطرة. وهوبس لا يعرف باعثا للعمل غير طلب اللذة، أو الهروب من الألم، والعواطف عنده ليست إلا صورا لحب الذات.
وهوبس من أصحاب نظرية العقد الاجتماعي
Contrat Social
التي عني بها جان جاك روسو فيما بعد. ويرى هوبس أن الإنسان مفطور على الأثرة والشره، وأن جميع أعماله إنما هي سلم إلى مطامعه. وهذه الفطرة جعلت الحياة الطبيعية مرة المذاق، لطمع القوي في الضعيف. ويتخيل هوبس أن آباءنا الأولين لم يروا سبيلا إلى السلامة من شر الأقوياء غير الانضمام تحت لواء سلطة بشرية تدفع عنهم عادية المطامع، وهذه السلطة تتمثل في الملك، ولهذا الملك جميع الحقوق التي كانت لجميع الأفراد قبل التعاقد، وليس عليه إلا واجب واحد هو: حفظ الأمن.
ويرى هوبس تأييدا لنظرته أن الدين الحق هو دين الدولة مهما كان جوهره، وعلى كل فرد الخضوع له، والخروج عليه كفر ومروق.
ويظهر مما سلف أن هوبس يريد بنظرية العقد الاجتماعي تأييد الملوكية، وكذلك روسو حين يدافع عن هذه النظرية فإنه يرى أن حياة الطبيعة كانت حياة نعيم، وأن الناس لما أفسدوها بأنفسهم اضطروا إلى أن يتنازل كل فرد منهم عن جزء من حريته ليتكون من مجموع هذه الأجزاء قوة مدنية تدافع عن الجميع، وهذه القوة لا تمثل في الملك كما يرى هوبس، وإنما تمثل في شخص هو مندوب الأمة، ولها عزله حين تريد.
إلى هنا لا يرى القارئ أي تناسب بين هوبس وبين الغزالي والواقع أن الجمع بينهما بعيد لأن الغزالي رجل تضحية وإيثار، والخير عنده يرجع في الأكثر إلى نفع الناس، في حين أن هوبس يرى الخير في أن يعمل المرء لنفسه، قبل أن يحلم بسواه. ولكني رأيت بعد البحث أنهما يتفقان في تكييف وجهة الطبيعة الإنسانية، وإن اختلفا في غاية الأخلاق، فإذا كان هوبس يرى أعمال المرء مظهرا للأثرة، ويرى حب المرء لجاره ليس إلا ضربا من حب النفس، وأن طاعته للقوانين الأخلاقية ليست إلا سعيا في سبيل نفعه، فكذلك الغزالي يتهم أكثر العاملين بالرياء، ويرميهم بحب الذات.
والغزالي يسيء الظن بالطبيعة الإنسانية، ويرى العمل في الأغلب لا يراد به إلا نيل الثواب، أو الفرار من العقاب، ولا يزال بالطبيعة الإنسانية يفحصها ويسبر أغوارها بمسبر الشك والارتياب، حتى يصل بعد الفحص إلى أن هناك رياء «هو أخفى من دبيب النمل» ومن كلامه: «رب عبد يخلص في عمله، ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده، ولكن إذا أطلع عليه الناس سره وذلك وارتاح له، وهذا السرور يدل على رياء خفي، فلولا التفات القلب إلى الناس ما ظهر سروره عند إطلاع الناس».
والفرق بين الغزالي وهوبس، يرجع إلى أن هوبس يريد أن يجعل وجهة الطبيعة الإنسانية أساسا للأخلاق، فيكون الخير ما ينفع المرء، والشر ما يضره. ولكن الغزالي يرى أن الخير لا يكون إلا حيث ينتفع المرء ولا يضر غيره، لأن وجهة الغزالي وجهة إسلامية، لا ضرر فيها ولا ضرار. (4) الغزالي وبوتلير
Butler «بوتلير» هو فيلسوف إنجليزي ولد سنة 1692 وتوفي سنة 1752 وهو يعول أكثر من الغزالي على الفطرة الإنسانية، وعنده أن المرء يستطيع بنفسه أن يدرك ما في عمله من الخطأ والصواب قبل أن يقدم عليه، وإن لم يعلم شيئا من المباحث الأخلاقية. ويرى أنه لا شيء يدعونا إلى طاعة قانون الأخلاق غير اعتماده على السريرة، ولا يرى بوتلير فرقا بين السريرة التي تحتم طاعة الأخلاق وبين حب النفس ما دمنا نفهم سعادتنا الحقيقية، فإن الواجب والمنفعة لا يختلفان عنده، وهنا يتفق مع الغزالي بعض الاتفاق، لأن وجهة نظر الغزالي إسلامية، والإسلام يرى المنفعة في الواجب وإن كان لا يرى الواجب في المنفعة، فإن هذا شيء قد يكون وقد لا يكون. إلا إن أردنا ما هو نافع في الواقع. على أن بوتلير يقيد اتفاق المنفعة مع الواجب بالأمور الأخروية، ويرى اتفاقهما في الأمور الدنيوية كثير الوقوع، لا واجب الوجود.
وأجمل ما في بوتلير حكمه على الفضائل بأنها قانون الطبيعة في حين أن الغزالي يراها ضروبا من التكاليف. (5) الغزالي وكارليل
Karlyle
ولد كارليل سنة 1795 في قرية اكفلكان بجنوب اسكوتلاندة من والد يشتغل بصناعة البناء. تلقى مبادئ العلم في قريته. ثم دخل جامعة ادنبرج في الثالثة عشرة من عمره. وفي التاسعة عشرة من عمره صار مدرسا للرياضة بمدرسة أنان، وبعد ثلاث سنين صار رئيس مدرسة ببلدة كركالدي. وفي سنة 1818 ترك مهنة التعليم. وذهب إلى ادنبرج، وهو لا يدري ماذا يعمل، ولكنه درس علم المعادن، واضطر من أجله إلى تعلم الألمانية التي كانت سببا لذيوع شهرته. وتوفي سنة 1881.
وكارليل هذا من كبار الفلاسفة، ومن أعظم المدافعين عن الديانات. حتى لنجده يدافع عن الوثنية، لأنها في رأيه ليست إلا إفراطا في العجب من الشيء، حتى ينقلب هذا العجب تقديسا وعبادة، ولأنه يرى أن الأقدمين ما قدسوا شيئا إلا لأنه إله، أو رمزا إلى إله. ومن آثار كارليل كتاب الأبطال الذي ترجمه الأستاذ محمد السباعي. وفي هذا الكتاب فصل ممتع عن النبي محمد صلوات الله عليه وسلامه. كان سببا في تغيير وجهة أنظار الأجانب نحو الإسلام. ومن كلامه في ذلك:
لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مهذب من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمدا خداع مزور. وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة. فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا. أفكان يظن أحدكم أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بله ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة، كان الأولى بها أن لا تخلق. فوا أسفاه، ما أسوأ مثل هذا الزعم. وما أضعف أهله، وأحقهم بالرثاء والمرحمة!؟
وقد دافع كارليل عن الإسلام خير دفاع، فناقش من رموه بالقسوة، واستعمال السيف، وبين أن المسيحية نفسها لجأت إلى القوة حين لم ينفع التسامح. ورد على من زعموا أن القرآن مملوء بالتعقيد، وبين أن سبب هذه التهمة هو عجز الترجمة عن نقل بلاغة القرآن وحلاوته. وعارض من نسبوا إلى رسول الله الهفوات، وأكد أن طلب العصمة طلب سخيف، فإن العصمة لله وحده، وأكبر الهفوات عنده أن يحسب المرء أنه بريء من هذه الهفوات.
الكفر والإيمان
يتفق الغزالي وكارليل في أن كلا منهما مؤمن ثابت اليقين، ويختلفان في فهم السريرة الإنسانية، وفي نتيجة التفكير. فالغزالي لا يعترف للضمير بالصلاحية للحكم، وإنما الشرع هو الفيصل في الحسن والقبح، فما حسنه الشرع فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح. ولكن كارليل يرى أن الشعور بالواجب معنى أبدي، وهو جزء من الطبيعة الإنسانية، فهو قوة غريزية لا تحتاج في كسبها إلى شرائع ولا قوانين.
ونتيجة التفكير محترمة عند كارليل، وهو لا يصدق بأن الإلحاد والتفكير يجتمعان في قلب رجل واحد. والإخلاص عنده هو الأساس. ومن كلامه: «يرجى لنا أن نفهم الوثنية متى سلمنا أولا أنها كانت في حين من الأحيان دينا صحيحا في اعتقاد أهلها. فلنوقن كل اليقين أن الناس كانوا يؤمنون بوثنيتهم حق الإيمان ولم يكن بهم من ذهول ولا جنون ولا نوم ولا مرض، بل كانوا مع ذلك أصحاء العقول والحواس، أيقاظا قد صورهم الله على صورنا، وخلقهم كخلقنا، لا فرق بيننا وبينهم في حال من الأحوال. ولنوقن كذلك أنا لو كنا وجدنا معهم لآمنا بما كانوا يؤمنون به، ولكنا وإياهم سواسية في سائر الأشياء».
ويتلخص رأي كارليل في أن كل دين فيه عنصر من الحق، والوثنية عنده ليست إلا رموزا شعرية، وتمثيلا بالمرئيات لما جرى في وجدان الناس وأذهانهم عن الكون ومظاهره، وكل دين فيما يرى إنما هو رمز وتمثيل، ولكن الاختلاف هو في المشاعر والأفكار. والفرق بيننا وبين الوثنيين يرجع إلى الشكل أكثر مما يرجع إلى الجوهر، لأن كلا منا يرى التفكير في ملكوت الله نوعا من العبادة، ونحن لو أغرمنا بالكون كما أغرم الوثنيون به لرأينا الله في كل نجم، بل في كل زهرة.
رأي الغزالي في الاجتهاد
لا يمكن لامرئ أن يكفر، في نظر كارليل، ما دام مخلصا في عقيدته، مهما كانت تلك العقيدة. ولكن الغزالي يرى أن الاجتهاد له حد محدود والمختار عنده أن الإثم والخطأ متلازمان فكل مخطئ آثم وكل آثم مخطئ، ومن انتفى عنه الإثم انتفى عنه الخطأ، وهو يقسم النظريات إلى ظنية وقطعية، ولا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها. والقطعيات عنده ثلاث أقسام: كلامية، وأصولية، وفقهية. ويعني بالكلامية العقليات المحضة، والحق فيها عنده واحد. ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم. ويدخل في هذا القسم حدوث العالم، وإثبات المحدث، وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة، وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وجواز الرؤية، وخلق الأعمال، وإرادة الكائنات، وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة. فهذه المسائل الحق فيها عنده واحد، ومن أخطأه فهو آثم فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر. وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله، كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات، فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل، ومخطئ من حيث أخطأ الحق المتيقن، ومبتدع من حيث قال قولا مخالفا للمشهور بين السلف، ولا يلزمه الكفر. ويعني بالأصولية كون الإجماع حجة، وكون القياس حجة، وكون خبر الواحد حجة ... إلخ. وهذه المسائل أدلتها عنده قطعية، والمخالف فيها مخطئ آثم. والفقهيات بعضها يكفر المرء بإنكاره، وبعضها يأثم بجحوده، فإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم كفر. وإنكار الفقهيات المعلومة بالإجماع خطأ وإثم.
تحرير هذه المسألة
الأصل في الحكم الأخلاقي أن يتبع غرض العامل من عمله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فالعمل الذي أريد به الخير هو خير، وإن كان ضارا في ذاته. والعمل الذي أريد به الشر هو شر، وإن كان نافعا في ذاته. ويطالب الرجل فقط بأن يتروى قبل أن يعمل، ليعرف ما في العمل من ضر ونفع، وخطأ وصواب. ومتى أفرغ الجهد في البحث فقد أمن المسئولية، واستحق حسن الجزاء.
ولقد تتبعت ما كتبه علماء المسلمين في هذه المسألة فرأيتهم لا يكادون يهتدون. وسبب ضلالهم يرجع إلى أنهم خلطوا بين الوجهة الأخلاقية، والوجهة القضائية، وكان يجب عليهم أن يفصلوا بين الوجهتين. فالذي يقتل مسلما خطأ مدين من الوجهة القضائية ولكنه بريء من الوجهة الأخلاقية، لأنه لم يقصد القتل. والشرع محق في اعتماده على الوجهة القضائية، لأن فيها استئصالا للجرائم، ولأن القاضي متى عذر كل من ادعى الخطأ فقد يفلت منه كثير من المجرمين.
والذي يدلك على أن وجهة الشرع وجهة قضائية صرفة، أنه يكتفي بإيمان المقلد. مع أن الإيمان لا ينفع فيه التقليد. ويقول الباجوري في ص32 من حاشيته على الجوهرة ما نصه: «والخلاف في إيمان المقلد إنما هو بالنظر لأحكام الآخرة وفيما عند الله، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا فيكفي فيها الإقرار فقط. فمن أقر جرت عليه الأحكام الإسلامية، ولم يحكم عليه بالكفر، إلا إن اقترن بشيء يقتضي الكفر كالسجود لصنم.» وهذا واضح الدلالة على أن النجاة لا تكون باتباع الشرع. ولكن بالإيمان به. والإيمان شيء آخر غير ظواهر الأعمال.
الخطأ والعناد
كان على الغزالي أن يفرق بين من يخطئ في العقليات بعد اجتهاده، وبين من يعاند. فإن الأقرب إلى الحق أن ينجو من نظر في الشريعة الإسلامية من الفلاسفة بنية حسنة وبقصد الاقتناع، ولكنه بعد البحث لم يقتنع، ولم يقف مع هذا في وجه المسلمين. ولو أن الغزالي نظر هذه النظرة لما كفر ابن سينا والفارابي، إلا إن أمكن أن يثبت عندهما العناد مع أنهما لم ينكرا الرسالة المحمدية، ولكن الناس لعهد الغزالي كانوا فيما يظهر مصابين بداء الشك في عقائد الفلاسفة، ورميهم بالمروق.
وقد جرت بيني وبين فضيلة الأستاذ الشيخ الدجوي مناقشة في هذه المسألة منذ ثلاث سنين، فكان فضيلة الأستاذ يرى أن الكفر يكفي فيه الجهل، وكنت أرى أنه لا يتحقق إلا بالعناد، ثم رأيت فيما بعد أن الجاحظ يرى هذا الرأي. وقد نقل الغزالي في المستصفى «أنه ذهب إلى أن مخالف ملة الإسلام، من اليهود، والنصارى، والدهرية، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور. وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة.» وينسب ابن الحاجب إلى الجاحظ أنه قال: «لا إثم على المجتهد مع أنه مخطئ، وتجري عليه أحكام الكفار، بخلاف المعاند فإنه آثم.» وهذا يدل على أن الجاحظ مع حكمه بنفي الإثم عن المجتهد المخطئ يرى معاملته كما يعامل الكفار، وهذه بعينها الوجهة القضائية التي حدثتك عنها منذ قليل.
ويظهر أنه كان لهذا الرأي أنصار فيما سلف، فقد جاء في فصول البدائع ص424 ج2 ما نصه: «وما نقل عن بعض السلف من تصويب كل مجتهد في المسائل الكلامية كخلق القرآن، ونفي الرؤية، وخلق الأفعال، فمعناه نفي الإثم والمعذورية، لا حقية القول والمأجورية.» وجاء في إرشاد الفحول ص241 ما نصه: «مسألة الرؤية، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك: الحق فيها واحد، فمن أصابه فقد أصاب، ومن أخطأه فقد يكفر. ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره. ومنهم من حمله على كفران النعم».
وحكم ابن الحاجب في المختصر عن العنبري أن كل مجتهد مصيب. قال ابن دقيق العيد: «ما نقل عن العنبري والجاحظ، إن أرادا أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر، فباطل، وإن أرادا أن من بذل الوسع ولم يقصر في الأصوليات يكون معذورا غير معاقب، فهذا أقرب. لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب وكلف بعد استفراغه غاية الجهد لزم تكليفه بما لا يطاق.» انظر الشوكاني ص242.
ترجيح بلا مرجح
يرى الغزالي في كتاب «فيصل التفرقة» أن الرحمة تشمل كثيرا من الأمم السالفة، وإن كان أكثرهم يعرضون على النار، إما عرضة خفيفة، في لحظة أو في ساعة، وإما في مدة، حتى يطلق عليها اسم بعث النار. ويرى أن أكثر نصارى الروم والترك لعهده تشملهم الرحمة ، لأن منهم من لم يبلغه اسم محمد، ومنهم من بلغه اسمه مقرونا بأكاذيب تصرف المرء عن النظر. ويرى في كتاب «الصحبة» أنه لا ثواب ولا عقاب إلا على الأفعال الاختيارية.
ونسأله: لماذا وجوب أن تشمل الرحمة كثيرا من الأمم السالفة؟ أليس ذلك لأنهم معذورون؟ ولماذا حكمت بنجاة الترك ونصارى الروم ممن لم تبلغهم الدعوة، أو بلغتهم محرفة مشوهة؟ أليس ذلك لأنهم معذورون؟ ولماذا قضيت بأنه لا ثواب ولا عقاب إلا على ما يفعل المر باختياره؟ أليس ذلك لأن عقاب المرء على ما اضطر إليه، أو أكره عليه، ظلم وعدوان؟
وإذا كان ذلك كذلك، كما يعبر الكتاب الأقدمون، فلماذا تحكم بكفر من لم يعلم وجوب النظر، أو علم بوجوب النظر، ولكنه بعد البحث لم يقتنع. ولماذا تحكم بنفي الإثم عمن يجتهد ويخطئ في المسائل الفقهية، وتحكم بالإثم والكفر على من يجتهد ويخطئ في المسائل الكلامية؟ ألا يسع العذر جميع المفكرين على السواء؟ فإن لم يسعهم أفلا يكون هذا الفرق ترجيحا بلا مرجح، وهو في رأيكم غير معقول؟
ظلم الأبرياء
وما عجبت لشيء كما عجبت من حكم الجاحظ بمعاملة المعذورين كما يعامل الكفار. فإنه إذا صح لديه أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور، وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، أقول إذا صح عنده ذلك فكيف يحكم بأن يعامل هؤلاء معاملة الكفار، وهم عند الله ناجون؟ أفنكون نحن أغير من الله على دينه الذي لم يكلف فيه نفسا إلا وسعها؟
ولقد أعلم أن الجاحظ لو كان حيا وسمع هذا السؤال، لأجاب بأن في هذا التشديد تقليلا للخوارج على الدين. وهذا جواب معقول، ولكن يلاحظ أنه تأييد لما قلناه آنفا من أن علماء المسلمين نظروا إلى هذه المسائل من وجهة قضائية، لا من وجهة أخلاقية. وكان عليهم أن يتنبهوا إلى الفرق بين القضاء والأخلاق، فمن الواضح أن القتل الخطأ معاقب عليه من الوجهة القضائية، مع أن الذي يقتل خطأ بريء أمام نفسه، وأمام ربه، وأمام الواقع.
وأحب أن أنبه القارئ إلى أني في هذا الحكم لا أتكلم من وجهة شرعية، فقد يدعي المدعون أن الشرع لا يعرف ذلك. وإنما أتكلم من وجهة فلسفية، وأفترض أن الشرع إن لم يتنبه لهذا الحكم فقد كان يجب أن ينتبه له، وأن يضع له الحدود، فإن المعذور بريء، ومن الظلم أن يقتل الأبرياء. (6) الغزالي وسبينوزا
Spinoza
ولد «سبينوزا» في أمستردام سنة 1632 من عائلة يهودية. وقد اضطهده اليهود لشكه في تعاليم اليهودية. وهم أحدهم بقتله. فاضطر لذلك إلى أن يعتزل في لاهاي. وصار يكسب قوته بالعمل في صقل زجاج التلسكوب والميكروسكوب. وقد عرض عليه أصدقاؤه المساعدة عدة مرات، ولكنه رفض قبول المعونة بعزة وإباء. وعرض عليه منصب أستاذ الفلسفة بجامعة هيدلبرج، ولكنه لم يقبل. حبا في الاستقلال. وعاش عيش الناسكين. وقد أصيب بمرض الصدر، فاحتمله بلا شكاية. ثم مات سنة 1677 بعد أن حكم أهل عصره بكفره.
وأهم مؤلفاته
Traité théologico-politique
وقد نشر في حياته، وفيه أخضع الكتاب المقدس للنقد وحرية الفكر. وكتابه
Ethique
ظهر بعد موته، وفيه بسط مذهبه عما وراء الطبيعة، وتكلم عن النفس، والأهواء، والشهوات.
وسبينوزا من أشد أنصار مذهب الحلول: فهو يرى أن الله هو كل شيء. وأن كل شيء هو الله. وهو في ذلك يخالف الغزالي إذ يرى لله وجودا غير وجود العالم. والله في رأيه هو المدبر لهذا الكون، ولكن سبينوزا يرى أن الله والعالم شيء واحد، ويرى الله حالا في كل ذرة، وفي كل حبة، وفي كل نبتة وفي كل ورقة، وفي كل دابة، إلى آخر ما في الوجود. وليس للإنسان حرية، وإن اعتقد أنه حر، وإنما يحلم وأعينه مفتوحة!
ومن أجل هذا ثار رجال الدين على سبينوزا ورموه بالزندقة، قال الدكتور رابوبرت: «وما كان أبعده عن الإحاد، فقد كان مملوءا بحب الله، حبا جاءه عبر الطبيعة، فمن كأس الطبيعة قد شرب الألوهية حتى ثمل، وحتى أصبح لا يرى أمامه إلا الله.»
3
وهذا الاعتذار يشبه ما اعتذر به المسلمون عن البسطامي والحلاج، ومن إليهم من القائلين بوحدة الوجود.
وغاية الأخلاق عند سبينوزا هي كمال الطبيعة الإنسانية، فكل علم لا يفضي إلى ذلك فهو في رأيه غير مفيد، وهو يتفق مع الغزالي في هذا المعنى الأخير؛ أي في احتقار كل علم لا يوصل إلى السعادة، وإن اختلفت غايتهما بعض الاختلاف. فإن غاية الأخلاق عند الغزالي هي السعادة الأخروية.
ومع أن سبينوزا يعمل لكمال الطبيعة الإنسانية، فإنه يرى أن التمييز بين النقص والكمال، والخير والشر، من الأمور الاعتبارية، إذ ليس هذا التمييز إلا صورة ننتزعها من الموازنة بين الأشياء. فإذا كان الغزالي يرى أن الخير هو ما أمر الله به، والشر ما نهى الله عنه فإن سبينوزا يرى أن الخير هو النافع، والشر هو الضار. وبعبارة أخرى: الخير هو ما يزيد قوتنا ويعدها للعمل، والشر هو ما يضعفها أو يضع في سبيلها العوائق. وينتج من ذلك أن الخير يحدث الفرح والشر يحدث الحزن.
ويبقى بعد ما سلف أن السعادة كل السعادة في إكمال العقل لأنه في رأيه هو وجودنا الحق، ثم يقرر أن السعادة في الواقع هي طمأنينة النفس، التي تنشأ من معرفة الله، فليس الجهل شرا إلا لأن صاحبه دائم القلق والاضطراب، وليس للحكمة فضل أكثر مما تورث صاحبها من الأمن والسكينة، وهو يتفق مع الغزالي في هذه النقطة الأخيرة.
ومن أظهر الفروق بين الغزالي وسبينوزا نفي الشخصية الإنسانية، ونفي المسئولية. وهذا واضح، لأنه ما دام العالم هو الله، والله هو العالم، فلن يرى سبينوزا للمرء شخصية، ولن يحكم بأنه مسئول. أما الغزالي فيرى جود الشخصية الإنسانية ويرى أهليتها للجزاء والثواب والعقاب، وإن كانت عنده أضعف من أن تدرك شيئا بغير هداية الله. (7) الغزالي وجسندي
Gassendi
ولد «جسندي» في بروفنس بجنوب فرنسا سنة 1592.
اشتغل حينا بتدريس البلاغة والفلسفة، ثم صار قسيسا وسافر إلى هولنده واشتغل بالطبيعيات ولا سيما الفلك والتشريح، ثم دعي لتدريس الرياضيات بالمدرسة الملكية في باريس سنة 1645 وظل بها إلى أن توفي سنة 1655.
وأهم ما يمتاز به جسندي هو دفاعه عن فلسفة أبيقور المتوفي سنة 270 قبل الميلاد. وأبيقور هذا يرى أن غاية الأخلاق هي السعادة الذاتية؛ فليست الفضيلة فضيلة إلا لأنها تجلب لذة، وليست الرذيلة رذيلة إلا لأنها تحدث ألما، ولا قيمة لأي عمل في نفسه إلا بنسبته إلى اللذائذ والآلام. وقد كان أبيقور يدافع عن مذهبه بطريقة تقربه من رضا العقلاء، فكان يرى أنه لا مانع من احتمال الآلام، لأن ما في الخروج على الفضيلة من اللذة لا يساوي ما يعقبه من الألم، وكذلك ما في الصبر على ترك الرذيلة من فوات اللذة العاجلة، يعوض على صاحبه كثيرا من الآلام التي يتعرض لها باقتراف المنكرات.
ولكن الناس فهموا مذهب أبيقور فهما غير صحيح، فحسبوه فقط داعيا إلى اللذة وأخذوا يصفون الرجل الخليع بأنه (أبيقوري) فجاءه «جسندي» فأحيا تعاليم هذا المذهب ودافع عنه. وقد أثر جسندي في عصره تأثيرا شديدا. وحسبه أن كان من تلامذته «موليير».
والغزالي تكلم عن اللذة، وعني بها كما فعل جسندي، ولكن الفرق بيهما بعيد، فإن جسندي يرى اللذة غرضا من أهم أغراض الإنسان. ولكن الغزالي يراها صفة من صفاته، فللعين لذة، وللأذن لذة، ولعضو التناسل لذة. ولا قيمة للحياة بغير هذه اللذات. ولكن يجب أن تحد بحدود العقل والشرع، ومن السهل أن يعرف المرء ما لهما من الحدود. ولكن جسندي يحد اللذة بما لا يصحبه ألم ولا يعقبه ألم. وهنا موضع الخلاف، فإن الزنا في نظر الغزالي ليست له أضرار دنيوية، ولكنه يذهب بصاحبه إلى النار. (8) الغزالي ومالبرانش
Malebranche
ولد «مالبرانش» في باريس سنة 1638 ومكث قسيسا خمسين سنة. وكان كل همه أن يوحد بين الدين والفلسفة. وقد توفي بعد مرض طويل سنة 1715.
وأهم مؤلفاته
Traité de Morale, Recherche de la Vérité
وهو من أنصار ديكارت والمعجبين به، ومن القائلين بوجوب حرية الفكر إلى أقصى حد. والقاعدة عنده أنه لا يصح أن نسلم تماما إلا بالقضايا التي تظهر لنا واضحة إلى حد أنه لا يمكننا أن نرفض التسليم بها، وإلا تعرضنا لعتب العقل، وتأنيب الضمير.
والقاعدة الأخلاقية عند مالبرانش أنه لا يصح أن نحب خيرا من الخيرات حبا تاما، ما دمنا نستطيع ألا نحبه بلا ندم. وهنا يتفق مع الغزالي، فيقرر أنه لا يجب أن نحب غير الله حبا تاما مطلقا. ونحن نذكر أن الغزالي قرر أن الحب المطلق لا يكون لغير الله، لأنه لا نظير له، لا في الإمكان ولا في الوجود.
ويتفق مالبرانش مع الغزالي في عدم الثقة بأحكام الحس، لأنه رأى البصر يختلف حكمه على الأشياء باختلاف القرب والبعد، ويضيف إلى ذلك شكه في الوحدة الزمنية، لأنه يرى اليوم على طوله قصيرا بالنسبة إلى الفرح المسرور. ويرى الساعة على قصرها طويلة بالنسبة إلى المتألم الحزين.
ويتفق الغزالي ومالبرانش في فهم الرجل الخير، فإذا كان الغزالي يقرر أنه ما هلك امرؤ عرف قدره، فإن مالبرانش يقرر أن الإنسان الخير حقيقة هو من لا يريد أن يكون سعيدا إلا بقدر ما يستحق، وبقدر ما تسمح له العدالة الإلهية.
ويفترق الغزالي ومالبرانش في تقدير اللذة، فهي عند الغزالي خير إلى حد محدود، ثم تنقلب إلى شر. وهي عند مالبرانش خير دائما، وإن كان التمتع بها لا يفيد دائما، لأنها قد تصرفنا عن الله. ويختلفان كذلك في فهم الألم، فهو عند مالبرانش يكاد يكون خيرا، وإن كان شرا بالفعل. والغرض من ذلك تبرير الاحتمال. أما الغزالي فلا يخص الألم باهتمام خاص، وإن كان يرحب بكل ما يناله من الأذى في سبيل الله.
وبعد هذه المقارنات الموجزة. أوصي القارئ بأن يعتبر هذا الباب لمعة يسيرة في جانب ما يجب من درس آراء الفلاسفة المحدثين وأحضه على إتمام ما فاتني إتمامه، والله بالتوفيق كفيل.
الباب الرابع عشر
في آراء علماء العصر في الغزالي
تمهيد
لا يوجد هذا الباب في النسخة التي قدمت للجامعة المصرية، وإنما رأيت أن أكتبه بعد الامتحان، تتميما للسلسلة التاريخية، التي أردت أن أبين بها قيمة الغزالي في مختلف العصور.
ولقد عجبت حين رأيت العلماء يخشون من تدوين رأيهم في الغزالي بجرأة وصراحة. وحجتهم في ذلك أن الرأي العام لا يقبل في الغزالي غير المدح الخالص، وللغزالي كسائر المؤلفين حسنات وسيئات، وهم لا يستطيعون أن يبدوا شيئا من سيئاته في العلانية، كما لا يمكنهم أن يذكروا حسنات مجردة من النقد، وإلا كانوا عرضة للسخرية والاستهزاء!
وإذا كانت الخطة التي جريت عليها في نقد الغزالي تقضي علي بنشر ما له وما عليه، عملا بالنزاهة العلمية، فقد رأيت أن أثبت آراء أنصار الغزالي وخصومه في هذا العصر، وأدونها كما هي بلا زيادة ولا نقص، معتمدا في ذلك على محادثات خاصة دارت بيني وبينهم، وعلى سند كتابي فيما يتعلق برأي حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد بك جاد المولى وحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار. وأنا أشكر هذين الأستاذين بصفة خاصة؛ لأني لم أر من غيرهما جرأة على التقدم بشيء مكتوب، وأعذر من أن أحجم عن الكتابة، لأن الضجة التي قامت بعد الامتحان أفهمت من لم يفهم: أن حرية الفكر في مصر لا ظهير لها ولا نصير.
في آراء علماء العصر في الغزالي
(1) رأي الدكتور منصور فهمي
الدكتور منصور علم من أعلام هذا العصر، وهو أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية، وقد لاقى بسبب آرائه ما يقدر لأمثاله عادة من الظلم والاضهاد. فصلته الجامعة في سنة 1913 مجاراة للجمهور الذي غضب وثار بسبب ما شاع إذ ذاك من أنه رمى النبي عليه الصلاة والسلام بحب الشهوات. وقد رأى حضرة صاحب الدولة سعد باشا زغلول أن حرمان الجامعة من مثل هذا العقل الناضج ظلم مبين، فنصحه يومئذ بأن يصلي الجمعة في الأزهر ليكون في ذلك قطع لألسنة المرجفين، وليستطيع دولته أن يرجعه إلى الجامعة، ويصل من عمله ما انقطع، ولكن الدكتور منصور أبى أن يشهد العلماء له بالإيمان؛ لأن الله على إيمانه شهيد، فشكر لسعد باشا رفقه به، وظل بعيدا عن الجامعة بضع سنين. ثم رجع إليها عالي الرأس في سنة 1921.
وللدكتور منصور رسالة عن الغزالي نال بها الدكتوراه من جامعة باريس، فلرأيه في الغزالي قيمة خاصة. وهو لا يعد خصما للغزالي ولا نصيرا له، وإنما يشكره على ما أداه للعلم من الخدمات. (2) رأي الشيخ علي عبد الرازق
الأستاذ الشيخ علي عبد الرازق رجل ممتاز من بين رجال هذا العصر، وقد تلقينا عنه دروس الأدب والبيان في الأزهر منذ اثني عشر عاما، وأماليه في علم البيان دليل على عقليته النادرة. ولو مضى في التأليف لأصبح قليل الأمثال.
وقد درس الغزالي بعناية، وهو يقف إزاءه موقف الحياد، ويقرر أن الغزالي أوجد حركة فكرية في العالم الإسلامي. أما قيمة هذه الحركة فتختلف باختلاف الأنظار، فمن الناس من يراها ضارة ومنهم من يراها نافعة، ولا يزالون مختلفين. (3) رأي الشيخ يوسف الدجوي
الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي عالم من هيئة كبار العلماء، وهو ذو نفوذ كبير في الأزهر والمعاهد الدينية، وأكثر العلماء الممتازين اليوم من تلامذته. ومن الخطأ أن تعرفه من مؤلفاته، لأنها مع قلتها ضعيفة، ولأن الفرق بعيد بين ما يقوله في دروسه الخاصة وبين ما يدونه في تلك المصنفات، إذ كان يريد أن يصل بكتبه إلى أفهام الجماهير، ومن هنا فقدت هذه الكتب قيمتها العلمية. ورسالته الصغيرة في تفسير قوله تعالى:
لا يسأل عما يفعل
1
تجعلنا نأسف كثيرا على هجره لهذا الأسلوب البديع، وإقباله على خطة الترغيب والترهيب، التي تذكرنا بكتاب الإحياء.
ويكاد يعد الشيخ الدجوي خليفة للغزالي في هذا العصر، ففيه تقريبا كل خصائصه، من القدرة، والإخلاص، وقوة النفوذ، وبغض الفلسفة، والحذر من أن يتجاوز العقل ما له من الحدود. (4) رأي الشيخ جاد المولى
الأستاذ محمد بك جاد المولى من نوابغ هذا العصر. تخرج من دار العلوم سنة 1906 وكان ترتيبه الثاني، فسافر في أول بعثة أرسلها دولة سعد باشا زغلول حين كان وزيرا للمعارف في سنة 1907 فقضى ثلاث سنين في الكلية الجامعة بمدينة ردنج. ثم عين في سنة 1910 مساعدا لأستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد وقضى بها ثلاث سنين. ثم عاد في سنة 1913 فعين في قلم الترجمة بوزارة الأشغال فقضى بها ثلاث سنين. وفي سنة 1916 نقل إلى الديوان العالي، وظل في خدمة الملك إلى سنة 1922 حيث نقل مفتشا بوزارة المعارف العمومية.
وقد انتدبته الوزارة مع حضرة الأستاذ عبده خير الدين ليشتركا في الامتحان الذي تقدمت له في الجامعة المصرية. ويذكر الجمهور أن الأستاذ جاد المولى بك كان يتأجج غيرة على الغزالي، وقد ناقشني بشدة في كل الموضوعات التي خالفت فيها الغزالي. فبدا لي بعد الامتحان أن أحادثه عن الغزالي من جديد، فتوجهت إلى منزله لهذه الغاية، فتفضل وأطلعني على المحاضرات التي كان ألقاها عن الغزالي في سنة 1918 فرأيته يفضله على كثير من الفلاسفة المحدثين منهم والقدماء.
والأستاذ جاد المولى بك لا يشك في أن المسلمين انتفعوا بالتصوف أيما انتفاع، وبقدر نفع التصوف بقدر جهد الغزالي في نشره وإذاعته. وقد كان الأستاذ جاد المولى بك يستشهد وهو يحدثني عن ذلك بما كتبه الأستاذ الغمراوي بك في كتاب الغرائز ويقول: إن الصوفي هو كالمعلم سواء بسواء، فكما يجب على المعلم أن يعمل لاستئصال الغرائز السيئة، وتوجيه الغرائز الحسنة إلى النواحي النافعة، كذلك يجب على الصوفي أن يراقب حركات المريدين، لأن التصوف ليس إلا رياضة للنفوس .
وبالرغم من عناية الغزالي بالتصوف فإن الأستاذ جاد المولى بك يراه من المجددين، وقد سألته عن معنى هذا التجديد، فقرر أنه يريد به النهوض بالأفكار الإسلامية التي آمن بها الغزالي، والتي كاد يقضي عليها تيار الفلسفة إذ ذاك. (5) رأي الشيخ عبد العزيز جاويش
والأستاذ عبد العزيز جاويش إمام من أئمة المسلمين في هذا العصر. وهو معروف في جميع الأقطار الإسلامية، وله أبحاث في فلسفة التشريع تعز على من رامها وتطول، وقد استفاد من النفي والاضطهاد أيما استفادة، ووقف بذلك على كثير من عقليات الأمم والشعوب، وعده الإنكليز من بين أعدائهم الألداء في الحرب العالمية. ولقبوه بالرجل الخطر المخيف.
ويعد الشيخ جاويش من خصوم الغزالي. فهو أولا يؤمن بقوة الغزالي ومتانته، ولكنه بعد ذلك يعجب من تساميه إلى منزلة المجتهد المطلق، مع أنه كان «جاهلا» بفن الحديث. ويرى الشيخ جاويش أن جهل الغزالي بهذا الفن هو المقتل الوحيد لقيمته العلمية، ولن ينفعه بعد ذلك ذيوع اسمه في العالمين. ويقرر الشيخ جاويش أن الغزالي متناقض، وأنه من الصعب تحديد آرائه لأنها قد تختلف في الكتاب الواحد، ولأنه لم ينكر شيئا إلا وقد قال به في بعض أحواله. (6) رأي الكونت دي جالارزا
ظل الكونت دي جالارزا أستاذا للفلسفة في الجامعة المصرية ست سنين، وهو نادرة النوادر في كرم الأخلاق. وله مؤلفات في الفلسفة لا عيب فيها غير الغموض، وعذره في ذلك أنه أجنبي عن اللغة العربية.
وهو من أشد أنصار الغزالي، ويراه المسلم الحق بين فلاسفة المسلمين ويعجب كثيرا بوجهته الروحية وله على الغزالي مأخذ واحد وهو منعه الناس من ورود مناهل العلم، مع أنه لم يمنع نفسه شيئا من العلوم. ويرى أن الغزالي حرم بذلك من كانوا أهلا للاستفادة، وإن كان عصم من ليسوا أهلا للانتفاع، من سواد الناس. والغزالي في رأيه غاية الغايات في الإخلاص. (7) رأي الدكتور العناني
الدكتور علي العناني من كبار الأساتذة في هذا العصر، وقد مكث في ألمانيا نحو عشر سنين، فتمكن بذلك من أن يدرس الفلسفة دراسة عميقة، وهو من أساتذة الجامعة المصرية.
والدكتور العناني ينظر إلى الغزالي نظرة خاصة، من حيث تطور الفكر الإسلامي فهو يرى أن الفكرة الإسلامية كانت تعتمد أولا على الوحي، ثم دخل العقل على أنه مفسر وموضح، ولكنه ما زال يقوى وينمو حتى كاد يستقل عن الوحي استقلالا تاما، فرأى الغزالي أن يقف في وجه هذا الاستقلال، فأخذ يحارب الفلاسفة ويناضلهم حتى أخمل ذكرهم في الشرق، وبذلك انتقلت الفلسفة إلى الأندلس، ووجدت هناك مرعاها الخصيب.
والدكتور العناني يرى أن الغزالي سلك تلك السبيل خضوعا للرأي العام في البداية، ولكنه تأثر بما دعا إليه في النهاية، وعاد حربا للعقل، وسلاما للمبادئ الروحية. وهو لا يصدق ما ذكره ابن تيمية من رجوعه إلى ظاهر الشريعة، فإن الرجل كان أخذ أخذا بمذاهب الصوفية، وإن كان لا ينكر مع ذلك أن له آراء كان يخفيها ويضن بها على الناس. (8) رأي الشيخ عبد الوهاب النجار
الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار نادرة هذا العصر، فقد يندر أن يفوته شيء من معارف هذا الجيل. وهو أعرف الناس بروح العرب والإسلام. وقد درس الغزالي دراسة جيدة. وله على هذا الكتاب ملاحظات يراها القارئ في الهوامش، وهي ملاحظات سديدة لم نشأ أن نحرم منها القراء. وقد قابلته أخيرا فذكر لي أنه فاته أن يضع ملاحظة عما أخذته على الغزالي من تحريم الغناء في أكثر الأحيان، وهو يرى أن الغزالي محق فيما يقرر من الاكتفاء بإباحة الغناء حين لا يوجد موجب التحريم. لأن مهنة الغناء مجلبة للشقاء، وعلى الأخص حين تضطرب الأحوال.
ورأي الشيخ النجار في الغزالي رأي وسط: فهو يرى أنه في جملته لا نظير له، وأن الحكم بتناقضه فيه شيء من المبالغة، لأن الرجل كان ينظر إلى الأشياء من جهات متعددة، وكان لسنه في ذلك أكبر تأثير. وينكر عليه المبالغة في متابعة الصوفية، ويضرب المثل بما يبيحه للفقير من تمزيق الثوب قطعا مربعة تصلح للترقيع ويقول: هذا الفقير إما أن يكون في حالة صحو أو في حالة ذهول؛ فإن كان ذاهلا فهو معذور، ولا حكم له، وإن كان صاحيا فهو عابث، لأنه ما معنى تمزيق الثوب بطريقة خاصة تجعله صالحا لأن يرقع به سواه؟ إن هذا إلا إتلاف! (9) رأي الشيخ حسين والي
الأستاذ الشيخ حسين والي من كبار العلماء ومؤلفاته تمتاز بالوضوح والبيان، وعلى الأخص (كتاب التوحيد) الذي ظهر منذ سنين، ولولا أنه شغل بالإدارة عن التأليف لكان لمصنفاته تأثير عظيم في بسط آراء المتقدمين في الأصول والتوحيد والأخلاق.
ويعد الشيخ حسين والي من أشد أنصار الغزالي، فهو يدافع عن وجهته في التصوف لأن التصوف في رأيه لا يخرج عن الأصول الإسلامية، والغلو الذي نراه في الإحياء ليس إلا تمكينا للمعاني التي يدعو إليها الغزالي. وهو لا يرى أن الغزالي قصد بمؤلفه فئة من الناس، وإنما يرى أنه كتبها لجميع الطوائف، وكل فريق يأخذ بقدر استعداده، وبقدر ما يصلح له من أنواع الخلال. والغزالي عنده معذور فيما وقع له من ضعيف الحديث . لأنه لم يرد غير تأييد وجهة نظره فيما اتفق له من الأحاديث والأخبار والآثار. ومن البعيد أن يضع حديثا في كتاب من كتبه وهو يعلم أنه موضوع أو ضعيف، مع ما عرف عنه من الأمانة والإخلاص. (10) رأي الشيخ عبد الباقي سرور
الأستاذ الشيخ عبد الباقي سرور من العلماء الأفذاذ الذين جمعوا بين المعقول والمنقول وكتابه عن «ماضي الإسلام وحاضره» الذي نشره في جريدة الأفكار من أدق ما كتب المصلحون في العهد الأخير. ويندر أن يظهر كتاب ولا يطلع عليه، فهو لذلك أعرف العلماء بالحركة الفكرية، وأعلمهم بما يجري في عالم السياسة، والفلسفة والاجتماع، وهو فوق ذلك أغير الناس على وطنه ودينه، وإنه لعلى خلق عظيم.
ويرى الشيخ عبد الباقي أنه ليس للغزالي مذهب خاص، وإنما يتنوع دفاعه بتنوع الرأي الذي يدافع عنه، وهذا منشأ ما في كتبه من تباين الآراء: فقد كان يحتج بأصول المعتزلة والأشعرية والكرامية، وهو يناقش الفلاسفة، ويريد أن يجمع في يده كل الأسلحة الفكرية ليدفع بها طغيان الفلسفة الذي كان يخشى على الدين من تياره. والشيخ عبد الباقي يرى أن التصوف في كتب الغزالي إنما كتب للصوفية، لا لجميع الناس، كما يظن ذلك كثير من الباحثين. ودليل هذا رجوعه في أخريات أيامه إلى دراسة كتب السنة حتى ليذكرون أنه مات والبخاري على صدره. ولعدم اختصاص الغزالي بمذهب خاص وجهة شريفة، هي تحري الحق والبحث عن عناصر القوة فيما كان لعهده من مختلف المذاهب. وهذه الوجهة فيما يرى الشيخ عبد الباقي ضمان للسلامة من التقاليد المذهبية التي تغل حرية الفكر، وتحرم الباحث من الانتفاع بثمرات العقول. (11) رأي الشيخ أحمد أمين
أحسن ما يوصف به الأستاذ الشيخ أحمد أمين أنه رجل نافع، فإن كتبه ورسائله مفعمة بالآراء الجيدة، التي تغرس الحياة في نفس المستفيد. وعمله في لجنة التأليف والترجمة والنشر عمل الرجل الذي يعرف أن لا حياة لأمته بغير العلم، ولهذه اللجنة أثر كبير في الحركة العلمية، ولأعضائها فضل عظيم على شباب هذا الجيل.
ويرى الشيخ أحمد أمين أن الغزالي حول الناس عن الاشتغال بالفلسفة، ورجعهم إلى الكتاب والسنة، وأعلى شأن التصوف والصوفية. وحبب ذلك إلى الناس. وأسلوبه في الترغيب والترهيب أنفع الأساليب في هداية الجماهير. ويرى معنا أن الغزالي لم يضع طريقة نافعة لخلوص المرء من شكوكه. وأن آراءه في الأخلاق لا تنفع في هذه الأيام، لأن المدنية الحديثة تتطلب قوة التنازع، وهو يفضل السلامة على كل شيء!
خاتمة الكتاب
الآن، وقد قدمنا للقارئ ما وفقنا إليه في درس الأخلاق عند الغزالي، نوصيه بأن يرجع إن شاء إلى كتاب الإحياء، وكتاب الميزان، وكتاب المنهاج، وكتاب المستصفى، وإلى المصادر الأجنبية التي ذكرناها في غير هذا المكان، وإلى كل ما يستطيع الوصول إليه مما يتعلق بالغزالي، ليعرف صحة ما في هذا الكتاب من مختلف الأحكام.
ونحن لا ننكر أننا كنا قساة في نقد الغزالي، ولكنا نرجو أن يتنبه القارئ أيضا إلى ما كشفنا الغطاء عنه من حسناته. ونحب أن يذكر الذين أسرفوا في اللوم عندما علموا بعض ما يحتويه هذا الكتاب، أننا لم نكتب لإرضائهم أو إغضابهم ، وإنما وضعنا نصب أعيننا غاية واحدة، هي خدمة العلم والتاريخ، خدمة خالصة لوجه الله، لا للناس.
وأحب أن أسجل هنا كذلك، أني ترددت فيما نصحني به حضرات الأساتذة من رفع بعض المسائل التي ثار من أجلها الخلاف، فلم أرفع منها شيئا، وإنما أضفت إليها بعض البيان، فليس على لجنة الامتحان أية مسئولية، وإنما أنا وحدي المسئول. •••
أما بعد فإني أسأل الله أن يجزيني بفضله على ما قدمت في سبيل العلم والدين من صادق الجهود، وإليه وحده أرفع الرجاء، فقد مني الناس بالجحود، ونكران الجميل.
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .
1
الإسلام والأخلاق
2
يقول المرجفون إني قررت أن الدين الإسلامي دين فتح لا دين أخلاق. ولولا ضعف ملكة النقد في مصر لما شاعت هذه الأكذوبة ، ولما وجدت من يتلقاها بالقبول. فليس من الجائز أن رجلا مثلي قضى في الأزهر خمسة عشر عاما يحكم بين الجماهير في دار الجامعة المصرية بأن الدين الإسلامي ليس دين أخلاق، وهو يعلم على الأقل أنه يجد معارضين أشداء من طلبة الأزهر وعلمائه، وقد حضر منهم يومئذ عدد غير قليل.
وهأنذا أشرح للقراء أصل هذه الأكذوبة التي تناقلها الناس، ليعلموا إلى أي حد يجرؤ المتقولون على تشويه الأحاديث!
قلت في رسالتي: «إن ما كتبه الغزالي عن التوكل صريح في الدعوة إلى الرهبنة، وقطع العلائق مع الناس، والتدرج على احتمال الظمأ والجوع، والاقتناع بأن الموت من جملة الأرزاق» فلما سألني حضرات الأساتذة الممتحنين عما يؤيد هذا الحكم من كلام الغزالي، قدمت لهم قوله: «فإن قلت فما قولك في القعود في البلد بغير كسب: أهو حرام أو مباح أو مندوب؟ فاعلم أن ذلك ليس بحرام، لأن صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكا نفسه، فهذا كيف كان لم يكن مهلكا نفسه، حتى يكون فعله حراما، بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه، والصبر ممكن إلى أن يتفق. ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام، وإن فتح باب البيت وهو غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له. ولكن ليس فعله حراما إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب».
وهنا لا أكتم القارئ أني حملت على الغزالي حملة شديدة ورميته بجهل أسرار الدين، وسخرت من الآداب التي وضعها للمتوكل حين يخرج من بيته: إذ يدعوه إلى أن لا يترك في البيت متاعا يحرص عليه السراق، وإلى أن لا يحزن إذا سرق متاعه بل يفرح إذا أمكنه، وإلى أن لا يدعو على السارق الذي ظلمه بالأخذ، فإن فعل بطل توكله ودل على تأسفه على ما فات، ويدعوه إلى أن يغتم لأجل السارق وعصيانه وتعرضه لعذاب الله، ويشكر الله إذا جعله مظلوما ولم يجعله ظالما!
ثم قلت في التعليق على هذه الآداب الميتة «وما أدري ما الذي أنسى الغزالي أن يحض المتوكل على أن يترك باب البيت مفتوحا وأن يعلق عليه لوحة مكتوبا فيها بخط واضح وجميل: من أراد أن يأخذ شيئا من هذا البيت فهو مغفور الذنب، بل مجزي بما مكن صاحبه من صنع المعروف»!
عند ذلك تذمر الحاضرون من العلماء، وقال فضيلة الشيخ اللبان: لا عيب على الغزالي في ذلك لأن الدين الإسلامي دين أخلاق، فقلت: وهو قبل ذلك دين فتح وامتلاك، وليس من الأخلاق في شيء أن يجرد المرء بيته حتى لا يبقى فيه متاع يحرص عليه السراق، فهل جانبت في ذلك الصواب؟
والظاهر أن حضرات العلماء فهموا من الفتح التخريب، والاعتداء على الشعوب. كلا يا هؤلاء! الدين الإسلامي دين فتح، رضيتم أم كرهتم، وللفتح شروط وآداب سنها الدين الحنيف، وأنتم حين تنفرون من كلمة «الفتح» إنما تجارون الأجانب الذين يتوددون إليكم بوصف الإسلام بالقناعة والرضا بالقليل. وهذا خطأ صراح، فإن الدين الإسلامي أبعد الأديان عن الزهادة، وأبغضها للخمول، ولا حرج على الإسلام في أن يرغب أتباعه في امتلاك ناصية العالم، فإن هذا أمل نبيل، ولم يحدثنا التاريخ عن أمة قوية، أو ملة قوية، وضعت حدا لمطامعها في الحياة، وإنما ترغم الأمم الضعيفة، أو الملل الضعيفة، على أن تحدد آمالها وأطماعها بضيق الحدود!
ستقولون: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لم يأمروا المجاهدين بحرب القسيسين والرهبان، بل أمروهم بالرفق بهم، والإبقاء عليهم، كما أمروهم بعدم التعرض للأطفال والنساء والكهول. وأقول لكم: إن هذه المعاملة لا تدل على أن الإسلام ليس دين فتح، ولكنها تدل على أن الإسلام كان أحكم من أن يبدأ فتوحاته بإرهاق النفوس وتنفير القلوب. وهذه الملاينة، وذلك الرفق، من الأسلحة الماضية في استلال السخائم، والتبشير بالدين الجديد. وكذلك دعا النبي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادل خصومه بالتي هي أحسن، حتى ظفر بالفتح المبين.
هذا ما أريد من أن الإسلام دين فتح وامتلاك. ولو بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اليوم، ورأى ما أنتم عليه من قلة وذلة، لبلل رداءه بدموعه، ولكان له مع حضرات العلماء موقف يرد الولدان شيبا. أفتحسبون أن قوله عليه الصلاة والسلام «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» معناه أنه جاء لينشر علينا، ويذيع فينا، تلك المبادئ السقيمة، التي دافع عنها الغزالي وأمثاله، حين تكلموا عن التوكل والصبر والخمول، وتابعهم في ذلك مع الأسف علماء هذا الجيل، في غير خجل ولا استحياء!
أنا لا أنكر أن التوكل فضيلة، ولكن أنكر أن يكون معناه الاقتناع بأن الموت من جملة الأرزاق، وإنما التوكل أن تقتحم المصاعب معتمدا على الله
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
3
والصبر فضيلة. ولكن على أن يكون صبرا على الجهاد لا صبرا على الضيم. والخمول فضيلة. ولكن على معنى أن تقبل على عملك غير حاسب للشهرة حسابا. فأما ما نقل الغزالي من أن بعض العلماء كان يترك الدرس إذا زاد الطلبة على ثلاثة إيثارا للخمول، فهي خطة سلبية، وهروب من الواجب، تعالت الأخلاق عما يصفون!
ومن العجيب أن نجد العلماء يضربون الأمثال بزهد النبي وخلفائه، وكان عليهم أن يعرفوا أن الزهد من النبي وخلفائه فضيلة قضت بها الضرورة، وها نحن أولا نرى بأعيننا كيف تنظر الجماهير إلى ما يملك رؤساء الحكومات نظر المحقق المغيظ، فلا عجب أن يتنبه رسول الله صاحب الخلق العظيم إلى ما فطرت عليه الجماهير من حسد من يملكون زمام الأمور. ولو قضت الظروف إذ ذاك بأن يكون النبي فردا من جماعة يسوسها غيره، لرأيناه ينمي ثروته، ويسعى جادا في استغلال ما يملك من أرض أو مال ... على أني أعلم من سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يدل على أنه كان ينظر إلى الدنيا بعين ملؤها الحب والإعزاز، وحسبنا أن نتلو قول أصدق القائلين:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
4
فهل ترونه قال: آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنتين أو حسنات؟ أو ليس من جلال الدنيا أن تسوى بالآخرة؟
من أجل هذا ترونني أنكر أن تكون «الأخلاق» في الإسلام معناها الرضا بالموجود وإن قل وهان، ومن أجل هذا عارضت الغزالي بعدما عاشرته في مؤلفاته بضع سنين، فماذا تنقمون مني بعد هذا البيان؟
المراجع
تنقسم مصادر هذا الكتاب إلى عربية وفرنسوية. أما المصادر العربية فأهمها مؤلفات الغزالي، وهي: إحياء علوم الدين، ومنهاج العابدين، والأربعين في أصول الدين، وميزان العمل، وجواهر القرآن، والأدب في الدين، ومشكاة الأنوار، ونصيحة الملوك، والمنقذ من الضلال، وإلجام العوام، وخلاصة التصانيف، ورسالة الطير، وكيمياء السعادة، ومكاشفة القلوب، وقواعد الطريق العشرة، والإملاء على ما أشكل من الإحياء، والكشف والتبيين، والقسطاس المستقيم، ومقاصد الفلاسفة، والتفرقة بين الإسلام والزندقة، والدرة الفاخرة، والمستصفى في الأصول.
ومما يتعلق بالغزالي من المصادر العربية: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، وشرح الإحياء للزبيدي وقوت القلوب لأبي طالب المكي، والرسالة القشيرية، ومجلة الهلال، والسعادة لابن مسكويه، وتهذيب الأخلاق له، وفلسفة ابن رشد لفرح أنطون، والذخيرة في المحاكمة بين تهافت الفلاسفة لعلاء الدين الطوسي، وحياة الغزالي للدكتور زويمر، وفتاوى ابن تيمية، وإعلام الموقعين لابن القيم، وفصل المقام لابن رشد، ومحاضرات الكونت دي جالارزا في الجامعة المصرية سنة 1919 و1920 ومبادئ الفلسفة تعريب أحمد أمين، والملل والنحل للشهرستاني، ومعجم البلدان لياقوت.
أهم المصادر الفرنسية:
Gazali, Par Cara de Vaux .
Etudes sur la philosophie d’Averroës concernant son rapport avec celle d’Avicenne et Gazali, par Moher .
Traité d’eschatologie musulmane, par Lucien Gautier,
Encyclopedie de l’Islam (20ème livre) .
Histoire de la philosophie, par paul Janet,
Cours de philosophie, par E. Boirac.
Averroes, E. Renan .
Halaman tidak diketahui