وفي أحيان يضيق بالعشاء ويروح يتصور عشاء آخر مع عائلته الحقيقية وإخوته الصغار والكبار، فلا بد أن له إخوة، ولا بد أنهم يتناولون الآن طعاما أحسن، وأبوه يأخذهم تحت ذراعيه ويهدهد عليهم، وأمهم - أمه - تدللهم وتطعمهم ... لا بد هذا رغم كل ما تقوله الجدة وتقسم عليه، رغم تأكيدها بأنه لا إخوة له ولا أم. إنه شيطاني ... مرة انتابه العناد، وظل يبكي ويطالب الجدة أن تدعه يذهب إلى إخوته وأمه، وحين لم يفلح فيه زجر أخذته الجدة في حضنها وقبلته، وقالت له وهو يرى الدموع في عينيها إن أمه سرقها حرامي ذات ليلة من أبيه، وألا فائدة من بكائه أو إصراره؛ إذ لا أحد يعرف مكانها أو أين تقيم، وأنها هي أمه الحقيقية التي سيعيش معها إلى الأبد ... ليذهب كالشطار إلى المدرسة ويتعلم، ويصبح غنيا وأفنديا كالبهوات. وحين حاول المحاولة الأخيرة، وطلب أن يذهب إلى مدرسة من المدارس القريبة من أبيه، ضمته جدته وهي تخبره ألا مكان له عند أبيه؛ إذ هو يعمل هناك بعيدا جدا بينهم وبينه أسفار وأسفار. - عند آخر الدنيا يا جدتي؟ - تماما هناك يا بني ... مكانك معي هنا لتكون قريبا من المدرسة.
ورغم هذا فلم تكن المسافة بين بيت جدته والمدرسة تقل عن الأربعة كيلومترات، يصحو لها من الفجر ... توقظه العمة أو زوجة العم التي يكون عليها الدور في جلب الماء من الترعة، وتصب عليه من إبريق فخار في ماء مرصرص يوقف شعره، ويدمي فروة رأسه، ويظل لا عمل له طوال الطريق إلا النفخ في يده. ويجري حتى لا يتأخر والطريق مضبب نصف مظلم وطويل لا نهاية لطوله، ويقطعه وحيدا؛ فزملاؤه لا يصحون في هذا الوقت المبكر. ومع هذا يسبقونه إلى المدرسة وقد أركبهم آباؤهم ركائب، أو قطعوا لهم تذاكر بتعريفة في أول قطار. ودائما يصل والطابور واقف، ولا بد له كل يوم من خيزرانات أربع أو خمس ... للتأخر أو لقذارة الحذاء، أو لعدم الحلاقة ... وبأيد صغيرة ورمها البرد وخدرها الضرب. وبأذن حمراء بالزمهرير وما تيسر من القرصات، وببدلة جرباء كالحة وركب مسلوخة وشبه حذاء، يدخل الفصل منكس الرأس، وربما لهذا كان يطلع الأول ... دائما الأول، ودائما هو أكثر التلاميذ انتباها ... ربما لكيلا ينتبه إلى نفسه ويخجل. في فسحة الغداء فقط يعود رأسه ينكس، حين يترك غيره يذهب إلى المطعم أو الكانتين ويذهب هو ليبحث هناك عند آخر السور على منديل الغداء الذي طبقوا له فيه الرغيف على قطعة الجبنة، والذي كان يخفيه بجوار السور، ويتكفل لونه الذي لا يختلف عن لون الأرض بحفظه من الضياع. وما أعمق الراحة التي كان يحسها حين يدق آخر جرس؛ إذ معناه أن تبدأ رحلة العودة ... نفس الطريق الذي قطعه لاهثا مذعورا يعود منه الهوينى، وبالهوينى يحلم ما يشاء من الأحلام. وقد لا يحلم أبدا ويظل طول الطريق سعيدا يكاد يطير، فقط لإحساسه أنه هنا يستطيع أن يختار أي حلم ويحلم به ... وأي هدف ويحققه. هنا يستطيع أن يعثر على أمه، ويستحوذ إلى الأبد على أبيه، ويسافر إلى آخر الدنيا، ويجد الكنز وخاتم سليمان ومصباح علاء الدين.
وفي نفس طريق العودة هذا فقد كنزه الحقيقي، القطعة ذات القرشين التي أعطاها له أبوه في زيارته الأخيرة ... وقبل أن يغيب غيبته التي طالت، وأسالت دموع جدته مرارا. ويسمع الهمسات أنه لن يعود إلى البلدة مرة أخرى ... أشياء لم يكن يحفل بها، فالهاتف الذي في نفسه يؤكد له أنهم جميعا يكذبون عليه، فمن المستحيل أن يتركه أبوه هكذا ولا يعود إليه. بل هو لا يعرف تماما لماذا أبطل التفكير في أبيه، ووضع همه في القطعة ذات القرشين ... صحيح كان يدرك أنها نقود ولكنه يدرك بالسمع، فهو لم يشتر شيئا ولم يبع، ولا امتلك قرشا أو مليما في حياته، ووضعه في محفظة أو كيس، بل لم يكن قد امتلك أبدا شيئا لنفسه ... البدلة والكراريس والأقلام كانت أشياء يعطونها له ليذهب إلى المدرسة، والأشياء التي كان يعثر عليها أحيانا ويحفظها، ويصنع لها صندوقا، ويضعها فيه كان يدرك من أعماقه أنها بغير قيمة، ويستغرب حرصه على إبقائها عنده واعتنائه بها؛ فهو لا يتحمس لها إلا حين تضيع أو يكتشف ذات مرة أن جدته تخلصت منها.
القطعة ذات القرشين أو «أم أربعة» كما كانت الجدة تسميها، كانت شيئا آخر. لأول مرة في حياته أحس أنه أصبح مالك شيء ذي قيمة عظمى! إنها ليست نكلة أو ربع قرش أو تعريفة أو غير هذا من القطع التي كانوا يسمحون له بإمساكها في يده، أو التفرج عليها ... إنها قرشان بحالهما، في قطعة من الفضة، الفضة التي يسمع الناس يتكلمون عنها باحترام لا يعادل إلا احترامهم للذهب ... أيام أن أعطاها له أبوه لم يكن قد أحس بأهميتها. كان مشغولا كالعادة بخوفه من أن يسافر، وبالضيق الذي ينتابه حين يسافر، والأقاويل التي أعقبت سفره. حين بدأ يفطن إليها وإلى أنها ملك خالص له لا يشاركه فيه أحد كاد ينسى أباه، والدنيا وكل ما في حياته.
وظلت معه طوال الشتاء ... إذا عاد من المدرسة كان يضعها في كيس صغير خيطه بنفسه لأجلها، ويحكم وضع الكيس في جيبه ... كلما خرج من البيت تحسسها ... كلما جاء عليه الدور في لعبة «ضربونا» اطمأن لوجودها. ولا ينام إلا إذا ملس عليها، ويستعجل اليقظة ويصحو فرحا؛ لأنه من جديد سيضغطها بين أصبعيه، ويقلبها ويستمتع مرة أخرى بلمس خشونتها. إذا ارتدى البدلة نقلها إلى جيب البنطلون، وقبل أن يخلعه يكون أول ما يفعله أن يعيدها إلى الجلباب. وأغرب شيء أنها، وهي معه ويتحسسها طوال الطريق، كان يحس بالدنيا دافئة وبخطواته أسرع، وحتى إذا ناله على التأخير ضربات، وتورمت يداه فقبل أن يدخل الفصل كان يناضل لكي تستطيع أصابعه التي فقدت حركتها وإحساسها أن تطبق عليها. وحين تنقل إليه الأصابع حجمها مبالغا فيه ومضاعفا، وملمسها مخالفا مغايرا، وكأنما تورمت هي الأخرى. وفقدت الإحساس ونالت خيزرانات، حين يحدث هذا في التو كان يذهب الألم عن يديه والمهانة عن نفسه، وفي الفصل إذا استعصت عليه الإجابة استنجد بها، وإذا خانته الذاكرة وأخطأ وأحس بالمذلة، تعزى بأنها على الأقل معه في متناول يده. وتركزت أحلامه في طريق العودة حولها ... أحيانا يتصور أن أناسا يعرضون عليه مائة جنيه ليأخذوها، ورغم إدراكه أن الجنيهات المائة مبلغ لا حد لضخامته؛ فإنه كان إذا وصل في أحلامه إلى مرحلة التنفيذ لا تطاوعه نفسه فيرفض، ويرفض حتى مبلغا أكبر ... ويقول الناس عنه إنه مجنون، ويسألونه كيف لا يقايض عليها بمائة جنيه وأكثر، فيعجز هو عن تقديم السبب، إذ هو نفسه لا يستطيع أن يعرف لماذا يحبها كل هذا الحب، ويفضلها على مال الدنيا كلها، وحتى على مصباح علاء الدين!
وحين يستعرض في الطريق مخازي اليوم، ودائما كانت له كل يوم مخاز، ويتذكر نظرة مدرس الجغرافيا «الملظلظ» السمين ذي الحذاء البني الذي لم تر عيناه شيئا في مثل لونه البني الجميل، ولمعته التي تخطف البصر، ونعله الثخين السميك المحلى حين يتصل بالجلد بعدد لا نهاية له من الخطوط الدقيقة القصيرة المتوازية. أعظم ما كان يتمناه في حياته أن يرتدي حذاء بمثل تلك اللمعة والنظافة. حين يتذكر نظرته إليه النظرة التي كلها اشمئزاز، وكأنه ينظر إلى دودة أو بصقة، وكلامه عنه وعن أبيه، وبصيغة الجمع، وعن أبيه بالذات وفقره وفقرهم، وكأنهم مصابون بداء منفر تتقزز له النفس اسمه الفقر، حين يتذكر ضرب التلامذة الكبار له وقذفهم الحبر على بدلته، وجاره ابن عامل تليفون هندسة الري الذي ترك له التختة وحده، وذهب إلى تختة أخرى هامسا في أذن جيرانه بأنه لم يعد يطيق رائحة البصل والمش التي تفوح منه، حين يطارده لقب «أبو ضب» الذي أطلقوه عليه ظلما حتى آمن به وبدأ يفكر في وسيلة لانتزاع أسنانه، حين يستعرض ويضم نفسه على نفسه، وكأنما يريد أن يخفي نفسه عن نفسه، لا يبدأ ينسى ويعود يحلم ويسعد إلا حين يتذكرها ويدس يده كالملهوف ويطمئن عليها.
وفي ذلك اليوم حين خلع البدلة، وعرف أنها ضاعت، وظل ما تبقى من اليوم منحنيا يبحث، أو نائما على بطنه يخترق الظلام بأنظاره ويتأمل، وأوى أخيرا إلى مضجعه بين الأجساد الكثيرة التي تحفل بها وبنفسها وشخيرها الغرفة. كان كل ما يشغل باله قبل أن تغمض جفونه أنه - بعد - لم يجدها. وحين استيقظ ومد يده مرة واحدة إلى الكيس عن بعد وتلمس جميع أطرافه، استعد لصرخة فرحة، وأطبق يده مرة واحدة على الكيس، ولكن يده لم تطبق إلا على الهواء، وكان الكيس كالأمس لا يزال فارغا. تورم قلبه وتمدد يحتل كل صدره، ويكاد يوقف أنفاسه عن التردد. ما فائدة الصباح الباكر أو المدرسة، أو أن يكون الأول ويصبح كالبهوات إذا لم يجدها؟
ومضت أيام كثيرة ... خميس وجمعة وراء خميس وجمعة، وما فعله في اليوم الأول كان يفعل بعضه في الأيام الأخرى، فيعيد تفتيش الدرج أحيانا، أو يتأمل البقعة التي يقف فيها حارسا لمرمى فريق الكرة الزلط، أو يعيد تقسيم الحوش إلى مربعات جديدة يتفحصها إصبعا إصبعا. مضت أيام وعاد يضحك ويحزن ويلعب «ضربونا»، ويعاني من خشونة الجدة وخيزرانات المدرسين، ولكنه كان وكأن شخصا آخر هو الذي عاد يفعل كل هذا، شخصا لا يفرح ولا يحزن، ولا يجد في الألم ألما ولا في أحلام العودة سعادة. أما شخصه هو فقد ظل دائما معها، وكأنها كانت تمتلكه، وحين ذهبت أخذته وأخذت انتباهه وكل إحساسه، كلما فتح فمه ونطق شيئا، كلما كف عن الحديث وسهم، كلما أحس أنه يريد أن يفكر، كلما بدأ يضحك، كلما صادفته سعادة صغيرة ... حبة طماطم أو برتقالة أو أستيكة يكافئه بها مدرس الحساب على معضلة، كلما أحس بالعضة وأدرك مفجوعا أنها ضاعت، وأنه لا يزال لم يعثر لها على أثر، وهنا ومن جماع نفسه، وبكل ما يمتلك من عناد وتصميم، كان يهتف ويكاد يصرخ ويسمع الناس أنها لم تضع، أبدا لم تضع، فلا بد أنها موجودة في مكان ما من الدنيا تنتظر منه أن يعثر على المكان فيعثر عليها.
وفي يوم وقد مضى الشتاء وبدأت الدنيا تحفل بالشمس الكبيرة والحر ورائحة الامتحان، كان عائدا ما كاد يخلع الجاكتة ويلقيها ويلتقط أنفاسه من رحلة العودة، حتى تذكر - هكذا - وكأن يدا لا يعرفها امتدت ووضعت الفكرة في رأسه ثم تلاشت، تذكر أنه في اليوم الذي فقدها فيه تماما كانت نفسه قد زينت له أن يحصل على بضع كيزان من التين الشوكي المزروع فوق جسر السكة الحديد، وأنه لأول مرة خالف نصيحة أبيه الذي كان يوصيه على الدوام بألا يصعد إلى الجسر أبدا، وأن يمشي على الناحية المحاذية للخليج من السكة الزراعية، بحيث إذا ميلت عليه سيارة قادمة يصبح بإمكانه أن يخوض في الخليج الضحل. يومها خالف النصيحة، وصعد إلى الجسر، وزاغ بصره بين الكيزان الناضجة الصفراء كالكهرمان، وبين جلباب عم علي الأسود الذي يشتري التين من المصلحة ويحرسه ويبيعه. لا بد أنه في خضم خوفه واضطرابه ومحاولته أن يحاذر الشوك، وأن يفك ملابسه بطريقة يدعي بها لعم علي أنه يقضي حاجته فيما لو ظهر له فجأة، لا بد أنها سقطت منه في ذلك المكان، ولا بد أنه لم يع وهو في حالته تلك بسقوطها.
ورغم أن الأمر كان مجرد فكرة بعيدة الاحتمال، أبعد منها أن تكون قد ظلت في مكانها تنتظره طوال تلك الأسابيع هي الجديدة أو تكاد، ذات اللمعة رغم هذا، إلا أن الفرحة التي اجتاحته أغرقت بفيضانها أي تردد أو شك، فرحة حقيقية جعلته يدرك أنه لم يكن يفرح، وحين انطلق يجري بالقميص والبنطلون قافزا فوق جدته التي كانت تجلس على عتبة الغرفة، تلضم عقود «البامية الناشفة»، أحس أيضا أنه لأول مرة يجري أو يمشي أو يتحرك، أو يهمه الجري والتحرك. ودون أن يعي كان قد حدد لنفسه ما يجب عمله؛ فالتين الشوكي مزروع بطول الأربعة كيلومترات التي يستغرقها الجسر، وهو لا يعرف في أي بقعة بالذات قام بمغامرته ... ولهذا فسيمسك الجسر من الأول من محطة البندر إلى أن يجد البقعة. ولم يلتقط وعيه بنفسه، ولم يبدأ ينظر إلى الشيء المحدد؛ إلا حينما أصبح، وكأنما بسرعة البرق عند محطة البندر. ونظر إلى الجسر الطويل واستعذب النظر، ففي مكان منه سيجدها، ولا يهم الطول فكلما طال البحث امتدت النشوة، وأيضا لا يهم أنه للمرة الثانية يخالف نصيحة الأب، وتحذيره بأن القطار لو فعل سيقطعه قطعا قطعا ... أكبر قطعة منها في حجم القرشين ... فهو للمرة الأخيرة يخالفها ولا خطر هناك، فالساعة بالكاد قد بلغت الثالثة، وباقي على القطار القادم، قطار الرابعة، ساعة، والأمر لن يأخذ دقائق. •••
Halaman tidak diketahui