أهلًا بذلكُمِ الخيالِ المقْبلِ ... فَعَلَ الذي نَهْوَاهُ أو لم يفَعلِ
ثم وصف الفرس فقال:
وأغرَّ في الزمنِ البهيمِ محجَّلٍ ... قد رُحتُ منه على أغرَّ مُحجَّلِ
كالهيكلِ المْبنِيِّ إلاَّ أَنَّهُ ... في الحُسْنِ جاءَ كصورةٍ في هيكلِ
يَهْوِي كما تَهْوِي العُقَابُ إذَا رأَتْ ... صَيْدًا وينتصبُ انتصابَ الأجْدَلِ
مُتوجِّسٌ برِقيقَتَينِ كأَنَّما ... يُرَيانِ مِن وَرَقٍ عليهِ مُوَصَّلِ
وكأنَّمَا نَفَضَتْ عَلَيْهِ صِبْغَهَا ... صَهْبَاءُ اللبرَدان أَوْ قُطْرُبُّلِ
مَلكَ العُيُونَ فإن بدَا أعطينَه ... نظرَ المحبِّ إلى الحبيبِ المقبلِ
مَا إن يَعَافُ قَذًى وَلَوْ أَوْرَدْتَهُ ... يومًا خلائقَ حَمْدَوَيْهِ الأحْوَلِ
وكان هذا عدوًا للذي مدحه. فحدثني عبد الله بن الحسين وقد اجتمعنا بقرقيسياء قال، قلت للبحتري: إنك احتذيت في شعرك - يعني الذي ذكرناه - أبا تمام، وعملت كما عمل من المعنى، وقد عاب هذا عليك قوم، فقال لي: أيعاب على أن أتبع أبا تمام، وما عملت بيتًا قط حتى أخطر شعره ببالي؟ ولكنني أسقط بيت الهجاء من شعري. قال: فكان بعد ذلك لا ينشده، وهو ثابت في أكثر النسخ.
حدثني محمد بن سعيد أبو بكر الأصم قال، حدثني أحمد بن أبي فنن قال: حضرت أبا تمام وقد وصل بمائتي دينارٍ، فدفع إلى رجلٍ عنده منها مائةً، وقال: خذها. ثم قيل لي إنه صديق له، واستبنت منه خلةً فعذلته على إعطائه ما أعطى، وقلت: لو كان شقيقك ما عذرتك مع اضطراب حالك، فقال:
ذُو الوُدِّ مِني وذو القُربي بمنزلةٍ ... وإخوتي أُشوةٌ عنديِ وإخواني
عِصَابَةٌ جاوَرَتْ آدابُهم أَدبِي ... فَهُمْ وإنْ فُرِّقُوا في الأرض جيراني
أرواحُنَا في مكانٍ وَاحِدٍ وَغَدَتْ ... أَجْسامُنَا لِشَآمٍ أو خُراسانِ
قال ابن أبي فنن: وكان أبو تمام أحضر الناس خاطرًا. وقد أجاد هذا المعنى إبراهيم بن العباس الصولي فقال:
أَمِيلُ معَ الذِّمامِ على ابنِ عمِّي ... وأقضِي للصَّديقِ على الشَّقِيقِ
افَرِّقُ بين مَعْروفِي ومَنَّي ... وأجمعُ بَيْن مالِي والحقوقِ
وإمَّا تلْقَنِي حُرًّا مُطاعًا ... فإنكَ وَاجِدِي عبدَ الصَّديقِ
حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني ابن الأعرابي المنجم قال: كان أبو تمامٍ إذا كلمه إنسان أجابه قبل انقضاء كلامه، كأنه كان علم ما يقول فأعد جوابه، فقال له رجل: يا أبا تمام. ولم لا تقول من الشعر ما يعرف؟ فقال: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يقال؟ فأفحمه. وحدثني أبو الحسين الجرجاني قال: الذي قال له هذا أبو سعيدٍ الضرير بخراسان، وكان هذا من علماء الناس، وكان متصلًا بالطاهرية. ولا أعرف أحدًا بعد أبي تمام أشعر من البحتري، ولا أغض كلامًا، ولا أحسن ديباجةً، ولا أتم طبعًا وهو مستوى الشعر، حلو الألفاظ، مقبول الكلام، يقع على تقديمه الإجماع، وهو مع ذلك يلوذ بأبي تمامٍ في معانيه. فأي دليلٍ على فضل أبي تمامٍ ورياسته يكون أقوى من هذا؟.
قال أبو تمام:
يَسْتنْزِلُ الأملَ البعيدَ ببِشرِهِ ... بُشْرَى المُخِيلَةِ بالربيِع المغدِقِ
وكذَا السحائبُ قلَّما تدعُو إلى ... مَعْروُفِها الرُّوادَ ما لم تَبْرُقِ
فحسن هذا المعنى وكمله، ثم أوضحه في مكانٍ آخر واختصره فقال:
إنما البِشْرُ رَوْضةٌ فإذَا أَعْقَبَ بَذْلًا فَروْضَةٌ وغَديرُ
فما زال البحتري يردد هذا المعنى في شعره، ويتبع أبا تمام فيه، ويقع في أكثره دونه، قال في قصيدةٍ يمدح بها رافعًا:
كانتْ بشاشتُك الأولَى التي ابتدَأَتْ ... بالبِشْرِ ثم اقتبلْنَا بعدَها النِّعَما
كالمُزنِة استَوْبَقتْ أُولَى مَخيلتِها ... ثم استهلَّتْ بغُزْرٍ تَابَعَ الدِّيَمَا
1 / 3