قال: وكان أول اتصاله بالرشيد أنه دخل وهو شاب بعض المساجد عشاء فوجد الإمام في الصلاة فصلى خلفه فقرأ الإمام: «قل يا أيها الكافرون» فقال أبو نواس: لبيك. فتواثب الناس إليه وشهدوا عليه بالكفر ورفع خبره إلى الرشيد فأمر بإحضاره فأحضروه وأحضروا معه حمدويه صاحب الزندقة فأخبره بحاله وسأله عنه فقال والله يا أمير المؤمنين ما أعرفه وهو يشبه أنه رجل ماجن ليس بزنديق، فقال له الرشيد قد وقع في نفسي منه فامتحنه، فوضع له صورة وقال له ابصق عليها فأهوى بفيه ليقيء عليها فلم يطاوعه القيء فامتخض عليها فضحك الرشيد منه وعلم أنه ماجن، واتفق أنه أتى في ذلك الوقت برجل زنديق من الثنوية فأمره أن يبصق على الصورة فقال: ليس البصاق من شأن أهل المروءة فأمر بعض خدمه أن يذهب بهما لابن شاهك ليؤدب أبا نواس ويخلي سبيله ويحبس الزنديق حتى يتوب فلما صاروا في بعض الدار سأل الخادم: أين تذهب بنا؟ فقال: إلى السندي ليحبسك ويؤدب هذا ويطلقه فرفع أبو نواس كفه وصفعه صفعة محكمة وقال يا ابن الفاعلة استثبت ما قاله أمير المؤمنين. فبصر الرشيد بهم وأمر بردهم وسأله عن السبب فقال: يا أمير المؤمنين عكس المعنى، أراد أن يطرحني بحيث أنسى ويطلق هذا الزنديق فضحك منه وأمر بإطلاقه.
وقال أبو نصر: رأيت أبا نواس يوما وهو يكنس مسجدا فقلت له: ما هذا؟ فقال": أردت أن يرفع إلى السماء في هذا اليوم خبر ظريف.
قال رجل سائل لأبي نواس هب لي هذه الجبة. فقال: إني لا أملك غيرها. فقال له السائل: إن الله تعالى يقول «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» فقال له أبو نواس بسرعة: هذه الآية نزلت في شهر تموز في حق أهل الحجاز ولم تكن نزلت في شهر كانون في حق أهل بغداد.
ويحكى من سرعة بديهته أن ندماء الأمين اجتمعوا في مجلس خلاعة وفيهم أبو نواس، فخرج عليهم الأمين في زينته مخمورا والجواري يحملن سريره، فلما رآه أبو نواس قال: «إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة» فانظر إلى حسن انتزاعه ما أبرعه وأبدعه، وبديهته ما أسرعها، لقد جاوز شأو الاختراع في الانتزاع لأن أباه هرون الرشيد وعمه موسى وهو وارثهما.
تكملة
أخبار رواها أبو هفان عن أبي نواس خلت منها النسخة التي أحققها
١- الأغاني
أخبرني محمد بن خلف بن المزربان قال: حدثني إسحق بن محمد: عن أبي هفان عن أصحاب أبي نواس قالوا: كانت جنان جارية أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي الأشعار قال اليويو خاصة: وكانت لبعض الثقفيين بالبصرة، فرآها أبو نواس فاستحلاها وقال فيها أشعارا كثيرة فقلت له يوما إن جنان قد عزمت على الحج، فكان هذا سبب حجه وقال: أما والله لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها، فظننته عابثا ومازحا فسبقها والله إلى الخروج بعد أن علم أنها خارجة وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها. وقال وقد حج وعاد:
ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سببا إليها ... يقربني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير
قال اليويو: فحدثني من شهده لما حج مع عنان وقد أحرم فلما جنه الليل جعل يلبي بشعر ويحدو به ويطرب فغنى به كل من سمعه وهو قوله:
إلهنا ما أعدلك ... مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك ... على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أملك ... أنت له حيث سلك
لولاك يارب هلك ... كل نبي وملك
وكل من أهل لك ... سبح أو لبى فلك
يا مخطئا ما أغفلك ... عجل وبادر أجلك
واختم بخير عملك ... لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك ... والعز لا شريك لك
٢- الأغاني
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثني محمد بن القاسم عن أبي هفان عن الجماز وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني عون بن محمد قال: حدثني الجماز قال:
1 / 24