مر أسبوع وحب سلمى يجالسني في المساء منشدا على مسمعي أغاني السعادة، وينبهني عند الفجر ليريني معاني الحياة وأسرار الكيان. حب علوي لا يعرف الحسد لأنه غني، ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح. ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء، عاطفة تولد الشوق ولكنها لا تثيره، فتون جعلني أرى الأرض نعيما والعمر حلما جميلا. فكنت أسير صباحا في الحقول وأرى في يقظة الطبيعة رمز الخلود، وأجلس على شاطئ البحر وأسمع من أمواجه أغاني الأبدية، وأمشي في شوارع المدينة وأجد في طلعات العابرين وحركات المشتغلين محاسن الحياة وبهجة العمران.
تلك الأيام مضت كالأشباح واضمحلت كالضباب، ولم يبق لي منها سوى الذكرى الأليمة؛ فالعين التي كنت أرى بها جمال الربيع ويقظة الحقول لم تعد تحدق إلى غير غضب العواصف ويأس الشتاء. والأذن التي كنت أسمع بها أغنية الأمواج لم تعد تصغي لغير أنة الأعماق وعويل الهاوية. والنفس التي كانت تقف متهيبة أمام نشاط البشر ومجد العمران لم تعد تشعر بغير شقاء الفقراء وتعاسة الساقطين. فما أحلى أيام الحب وما أعذب أحلامها! وما أمر ليالي الحزن وما أكثر مخاوفها!
وفي نهاية الأسبوع، وقد سكرت نفسي بخمرة عواطفي، سرت مساء إلى منزل سلمى كرامة، ذلك الهيكل الذي أقامه الجمال وقدسه الحب لتسجد فيه النفس مصلية ويركع القلب خاشعا. ولما بلغته ودخلت إلى تلك الحديقة الهادئة أحسست بوجود قوة تستهويني وتستميلني وتبعدني عن هذا العالم وتدنيني ببطء إلى عالم سحري خال من العراك والجهاد، ومثل متصوف جذبته السماء إلى مسارح الرؤيا؛ وجدتني سائرا بين تلك الأشجار المحتبكة والزهور المتعانقة، حتى إذا ما اقتربت من باب الدار التفت، وإذا بسلمى جالسة على ذلك المقعد بظلال شجرة الياسمين، حيث جلسنا منذ أسبوع في تلك الليلة التي اختارتها الآلهة من بين الليالي وجعلتها بدء سعادتي وشقائي، فدنوت منها صامتا، فلم تتحرك ولم تتكلم؛ كأنها علمت بقدومي قبل قدومي، ولما جلست بجانبها حدقت إلى عيني دقيقة، وتنهدت تنهدة طويلة عميقة، ثم عادت ونظرت إلى الشفق البعيد حيث تعبث أوائل الليل بأواخر النهار. وبعد هنيهة مملوءة بتلك السكينة السحرية التي تضم نفوسنا إلى مواكب الأرواح غير المنظورة، حولت سلمى وجهها نحوي، وأخذت يدي بيد مرتعشة باردة، وبصوت يشابه تأوه جائع لا يقوى على الكلام قالت: انظر إلى وجهي يا صديقي، انظر إلى وجهي جيدا وتأمله طويلا واقرأ فيه كل ما تريد أن تفهمه مني بالكلام ... انظر إلى وجهي يا حبيبي ... انظر جيدا يا أخي.
فنظرت إلى وجهها، نظرت طويلا، فرأيت تلك الأجفان التي كانت منذ أيام قليلة تبتسم كالشفاه وتتحرك كأجنحة الشحرور قد غارت وجمدت واكتحلت بخيالات التوجع والألم، رأيت تلك البشرة التي كانت بالأمس ثنايا الزنبقة البيضاء الفرحة بقبلات الشمس، قد اصفرت وذبلت وتبرقعت بنقاب القنوط، رأيت الشفتين اللتين كانتا كزهرة أقاح تسيل عليهما الحلاوة قد يبستا وصارتا كوردتين مرتجفتين أبقاهما الخريف على طرف الغصن، رأيت العنق الذي كان مرفوعا كعمود العاج قد انحنى إلى الأمام كأنه لم يعد قادرا على حمل ما يجول في تلافيف الرأس.
رأيت هذه الانقلابات الموجعة في ملامح سلمى، رأيتها جميعها، ولكنها لم تكن في نظري إلا كسحابة رقيقة توشح القمر فتزيد منظره حسنا وهيبة. إن الملامح التي تبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشف بلورها عن لون الخمر. فسلمى كرامة كانت في عشية ذلك النهار كأس طافحة من خمرة علوية تمتزج بدقائقها مرارة العيش بحلاوة النفس. كانت تمثل على غير معرفة منها حياة المرأة الشرقية التي لا تغادر منزل والدها المحبوب إلا لتضع عنقها تحت نير زوجها الخشن ... ولا تترك ذراعي أمها الرؤوف إلا لتعيش في عبودية والدة زوجها القاسية.
وبقيت محدقا إلى وجه سلمى، مصغيا لأنفاسها المتقطعة، صامتا مفكرا، شاعرا متألما معها ولها، حتى أحسست أن الزمن قد وقف عن مسيره، والوجود قد انحجب واضمحل، ولم أعد أرى سوى عينين كبيرتين محدقتين إلى أعماقي، ولا أشعر بغير يد باردة مرتعشة تضم يدي. ولم أفق من هذه الغيبوبة حتى سمعت سلمى تقول بهدوء: تعال نتحدث الآن يا صديقي. تعال نحاول تصوير المستقبل قبل أن يحمل علينا بمخاوفه وأهواله. لقد ذهب والدي إلى منزل الرجل الذي سيكون رفيقا لي حتى القبر. قد ذهب الرجل الذي اختارته السماء سببا لوجودي ليلتقي الرجل الذي انتقته الأرض سيدا على أيامي الآتية. ففي قلب هذه المدينة يجتمع الآن الشيخ الذي رافق شبيبتي بالشاب الذي سيرافق ما بقي لي من السنين، وفي هذه الليلة يتفق الوالد والخطيب على يوم القران الذي سيكون قريبا مهما جعلاه بعيدا، فما أغرب هذه الساعة وما أشد تأثيرها! في مثل هذه الليلة من الأسبوع الغابر. وفي ظلال هذه الياسمينة قد عانق الحب روحي لأول مرة، بينما كان القدر يخط أول كلمة من حكاية مستقبلي في دار المطران بولس غالب. وفي هذه الساعة وقد جلس والدي وخطيبي ليضفرا إكليل زواجي، أراك جالسا بجانبي وأشعر بنفسك متموجة حولي، كطائر ظامئ يحوم مرفرفا فوق ينبوع ماء يخفره ثعبان جائع مخيف، فما أعظم هذه الليلة وما أعمق أسرارها!
فأجبتها وقد تخيلت القنوط شبحا مظلما قابضا على عنق حبنا ليميته في طفوليته: سيظل هذا الطائر حائما مرفرفا فوق الينبوع حتى يضنيه العطش فيرديه، أو يقبض عليه الثعبان المخيف فيمزقه ويلتهمه.
فقالت متأثرة وصوتها يرتجف كالأوتار الفضية: لا، لا يا صديقي، فليبق هذا الطائر حيا، ليبق هذا البلبل مغردا حتى المساء، حتى ينتهي الربيع، حتى ينتهي العالم، حتى تنتهي الدهور. لا تخرسه؛ لأن صوته يحييني، ولا توقف جناحيه؛ لأن حفيفهما يزيل الضباب عن قلبي.
فهمست متنهدا: الظمأ يقتله يا سلمى والخوف يميته.
فأجابت والكلام يتدفق بسرعة من بين شفتيها المرتعشتين: إن ظمأ الروح أعذب من ارتواء المادة، وخوف النفس أحب من طمأنينة الجسد ... ولكن اسمع يا حبيبي، اسمعني جيدا، أنا واقفة الآن في باب حياة جديدة لا أعرف عنها شيئا. أنا مثل عمياء تتلمس بيدها الجدران مخافة السقوط. أنا جارية أنزلني مال والدي إلى ساحة النخاسين فابتاعني رجل من بين الرجال. أنا لا أحب هذا الرجل لأنني أجهله، وأنت تعلم أن المحبة والجهالة لا تلتقيان، ولكنني سوف أتعلم محبته، سوف أطيعه وأخدمه وأجعله سعيدا، سوف أهبه كل ما تقدر المرأة الضعيفة أن تهب الرجل القوي. أما أنت فلم تزل في ربيع العمر، أمامك الحياة طريقا واسعة مفروشة بالأزهار والرياحين، سوف تخرج إلى ساحة العالم حاملا قلبك مشعلا متقدا، سوف تفكر بحرية، وبحرية تتكلم وتفعل، سوف تكتب اسمك على وجه الحياة لأنك رجل، سوف تعيش سيدا لأن فاقة والدك لا تجعلك عبدا، وأمواله لا تنزل بك إلى سوق النخاسين حيث تباع البنات وتشرى، سوف تقترن بالصبية التي تختارها لنفسك من بين الصبايا، فتسكنها صدرك قبل أن تسكنها منزلك، وتشاركها بأفكارك قبل أن تساهمها الأيام والليالي.
Halaman tidak diketahui