Kesedihan Pemain Biola
أحزان عازف الكمان
Genre-genre
ونصرخ معا بصوت واحد يخرج من حنجرة البشرية: الجميع ينتظرون وصول الخطيب، لا بد أن يصل فقد قاسينا الأمرين، انتظروا ولا تيئسوا، حان وقت وصوله.
توقف عاصم النجار في وسط الحجرة وهو يلهث من التعب والصراخ. كان قد مثل الدورين معا، دور الزوج العجوز والزوجة العجوز ولم يكف عن التلويح بيديه وذراعيه في كل الاتجاهات والتعبير بهما عن شتى الانفعالات والإيماءات، واقترب في ثقة من السرير السفري والكتلة المحدقة في الفراغ وهو يقول: كنا جميعا ننتظر وصول الخطيب. أتدري من جاء أيضا ليستمع إليه؟ أنت تعلم بالطبع ؛ فأنت الذي لقنت الجميع أدوارهم ومخارج كلماتهم وضبطت حركاتهم وإشاراتهم. من الذي جاء؟ قل أي اسم! تكلم يا شهاب! إنه الإمبراطور! الإمبراطور بنفسه جاء يزورنا! صاحب الجلالة نفسه في دارنا؛ في دارنا! وتنطلق موسيقى وتنفخ أبواق، ويغمر ضوء وهاج خشبة المسرح والنوافذ والجدران والكراسي والشخصيات المرموقة والشخصيات المغمورة التي تجلس عليها والواقفين في الأركان المظلمة والقابعين كالقطط أو الجراء الصغيرة تحت الكراسي والأرائك والمزهوين بالثياب الفخمة المزركشة وأشباه العراة المستورين بالهلاهيل المرقعة والحفاة، ويدوي صوت زاعق يخرج مني كل ليلة أنا الزوج العجوز المحظوظ: سيداتي سادتي! انهضوا أجمعين! مولانا المحبوب بيننا، مولانا سمع استغاثتنا وجاء لينصت بنفسه إلى رسالتي التي سيبلغها له الخطيب، هل تسمعني يا مولاي؟ هل تراني؟ إنني أرى وجه جلالتكم، جبينكم المعظم، والتاج المتلألئ على جبينكم، والإكليل الذي يحوط وجهكم وجبينكم وتاجكم بهالة العظماء والقديسين، لكنني لا أستطيع أن أصل إليكم أو أسمعكم صوتي، أكثر عبيدكم إخلاصا ووفاء لا يستطيع أن يشق الزحام ويصل إليكم، لكن الخطيب سيأتي حتما، سيلقي أمام وجهك العظيم خطبتي الهامة، بل استغاثتي يا مولاي العظيم واستغاثة هؤلاء المدعوين وكل الذين لم يتمكنوا من الحضور، استمع إلى الخطيب يا مولاي وأنصف عبدك الذليل، رد الحق لكل هؤلاء العبيد، ولمن يذهبون إلا إليك وأنت النصير، لمن يشكون إلا إليك وأنت الملاذ الأخير.
انتهى عاصم من هتافه وصراخه وشعر أنه قذف سيلا من الحمم في أذني شهاب الذي بقي متجمدا كالصخر العنيد، وأحس بشيء من الإرهاق الذي يقارب الإغماء فشد كرسيا وجلس عليه. مال برأسه على المسند الخشن لحظة ثم أفاق على صوت نفذ في أذنه كهبة ريح مفاجئة ممدودة: هوه! هوه! قام من مجلسه كالملسوع ولم تسعه الحجرة الضيقة من الفرح، وازدادت فرحته الطاغية عندما خيل إليه أن العينين المرهقتين تتطلعان إليه في فضول، وعاودت الحمم انطلاقها دون توقف: هيا يا صديقي! هيا فالجميع ينتظرون، والإمبراطور نفسه ينتظرك، مولانا العظيم الذي جاء بنفسه ليسمعك، نعم نعم، الجميع ينتظرون، قم وأد واجبك!
لماذا تنظر إلي هكذا؟ ألست صديقك عصام النجار؟ ألم تلقني كل الكلام الذي قلته وحفظته عن ظهر قلب؟ أتشك في أن الخطيب قد وصل وأنني هتفت صائحا وهتفت معي زوجتي الحبيبة العجوز ... زوجتي الحبيبة المستحيلة التي خانتني كما خانني الأصدقاء: ها هو الخطيب! إنه هو بلحمه ودمه! وصل فعلا أيها الناس! وصل فعلا وستستمعون إليه في الحال! نعم يا صديقي شهاب! فتحت الباب الكبير على مصراعيه ببطء وتقدمت في صمت. أشبه برسام أو شاعر من القرون الماضية. على رأسك قبعة من الجوخ الأسود واسعة الإطار وتتدلى على صدرك ربطة عنق كأنها عقدة ضخمة مسترسلة، وتغطي كتفيك ونصفك الأعلى سترة خضراء فضفاضة. كانت لك لحية قصيرة وشارب، لكن لا تكترث بما كان في الزمن القديم. فها أنت تخطو وسط الزحام كأنك تنزلق أو تتزحلق، تسير في طريقك لا تبالي بالأيدي التي تلمس ذراعك لتتأكد أنك موجود بلحمك وعظمك، وأنك جئت وسوف تلقي خطبتك وخطبتي وخطبة الجميع ... الخطبة التي ستنقذ العالم وتأخذ بيد البشرية الضائعة، نعم لقد وصلت
شرايينهم وأوردتهم. وصلت يا صديقي ولست حلما ولا وهما.
اقترب منه عصام ومال برأسه الصغير الذي خطه الشيب على رأسه. زعق فيه بصوت دوى في فضاء الحجرة الضيقة كأنه يخرج من مكبر فظيع للصوت: قم يا شهاب! قم من الرماد واحترق! وتلألأ كما كنت تفعل كل ليلة! قم وأبلغ رسالتي ورسالتك ورسالة كل هؤلاء. دار حول نفسه عدة دورات وهو يشير بذراعيه في الهواء ولا يكف عن إصدار الأوامر والنواهي والأصوات، وأخذ يذهب ويجيء فوق مربعات البلاط المتتالية البياض والاخضرار وهو يهتف: قم أيها الخطيب! قم أيها الخطيب!
تردد الصوت وراءه مرة ثانية. كان في هذه المرة متحشرجا وقويا كالصفير في مزمار مثقوب، وخيل لعصام أنه صوت آخر لا عهد له به. التفت وراءه بعد أن أخرج نفسه بمشقة من الدور الذي اندمج فيه إلى حد الغياب. كانت الكتلة الحية قد تحركت ومالت بجسدها الضخم إلى الأمام، والعينان السوداوان الواسعتان تحملان تعبيرا يشبه الحسرة أو الاستغاثة أو التألم من العجز والحرمان.
أسرع عصام يلبي النداء الأخرس. أقبل على المريض مندفعا وهو يفتح صدره ليحتضن رأسه وصدره ويضمهما إليه بشدة، وأخذ يمطره بكلماته التي لم تعد جمرات حارقة بل دعوات مفعمة بالثقة والفوز المحقق: كنت أعرف أن تجربتي ستنجح. كنت أعرف أنه كامن فيك يريد أن يستيقظ ويموج بالحركة والكلام والمعنى. هذا الجنون المسرحي الذي متنا فيه عشقا وغراما وهياما. هذا المعبود الذي رحنا نبحث عنه في غربتنا وغيابنا كما يبحث شبح قيس الهائم في مضارب القبائل عن خيمة ليلى. لم نسقط يا صاحبي ولم يسقط المسرح. رغم كل شيء لم ننطفئ يا شهاب ولم نتحول إلى رماد، وإذا كنا قد سقطنا في الحريق الكبير فبإمكاننا أن ننهض من بقايا الرماد والأنقاض والدخان ... تعال، حاول أن تضع قدميك على الأرض. استند على كتفي ولا تخف. إنهم يتطلعون إليك وينتظرون. سيداتي سادتي! مولاي صاحب الجلالة الإمبراطور! مواطني الأعزاء! يا أبناء الأرض المريضة التي امتلأت بالثقوب وتهددكم كل لحظة بالسقوط منها إلى الظلام؛ إلى المجازر الجماعية والمقابر الجماعية والتلوث الذي يزحف ليغطيكم كالكفن الأسود الكبير وينفذ إلى صدوركم ورءوسكم وأطفالكم وأجنتكم في الأرحام ليفترسها بعد أن افترس الكنوز والتهم الخضرة التي ورثتموها من أسلافكم. زملائي ورفاقي في الكفاح! أتوجه إليكم دون تمييز في السن أو الجنس أو اللون أو الدين أو المكانة الاجتماعية ... أتوجه إليكم لأطلب منكم السكوت والخشوع ... لأقدم إليكم الخطيب.
كان شهاب قد التصق به كطفل هائل الحجم يفتش عن ثدي الأم الحنون - وحاول عصام أن يحركه قليلا ويساعده على مد ساقيه ليلمسا البساط الصغير المفروش أمام السرير. تأكد له أنه يحرك جبلا راسخا بأمر الطبيعة الأقوى منه ومن كل محاولاته، ومد ذراعه فقرب الكرسي الذي كان يجلس عليه. وندت من المريض آهات متكررة كدفعات زوبعة ساخنة أو دفقات ماء مغلي. صرخ عصام في أذنه: لا بد أن تلقي خطبتك! لا بد أن تبلغ رسالتي ورسالتك! الجميع ينتظرون. الإمبراطور جاء بنفسه ليسمعك، هيا يا شهاب! ليس من الضروري أن تقف فوق المنصة. لا داعي لأن توزع التوقيعات على الحاضرين. المهم أن تقف كأي خطيب فصيح وراء هذا الكرسي وتنطق بالرسالة. تماما كما يفعل أي أستاذ عظيم. إنني أبكي وتبكي معي زوجتي الوفية ويبكي الحاضرون. حتى الإمبراطور يمسح الدموع بمنديله الملكي الشفاف المنسوج من خيوط الذهب والحرير. قم! قم يا شهاب! قف وراء هذا الكرسي وقل كلمتك! قل كلمتنا جميعا ولا تدع المسرح يسقط.
كما تحدث المعجزات فجأة وبغير قانون أو تدبير، أطلق شهاب صرخة أسد غاضب ينتفض ويفجر قيود الشلل القديم، ولف عصام ذراعيه حول كتفيه وصدره ورفع جذعه الضخم إلى أعلى فاستجاب له. قرب منه المسند الخشبي وشدد قبضة يديه عليه، واستطاع المريض أن يشد قامته قليلا ويلف قبضته على حافة المسند الذي ثبته عصام بكل قوته، وتدافعت الآهات المبتورة والحروف المهشمة من فم الخطيب كالغطيط أو الأنين بغير حساب. أخذ صدره يتحشرج بأنفاسه الملتهبة وهو يدمدم بالحروف وأنصاف وأرباع الحروف: هو ... هو ... هو ... هيه ... هيه ... هيه ... مم ... مم ... جو ... جو ... جو ... وعصام يتابعه ويشجعه ويربت على ظهره: قل كلمتك للجميع! قلها على الملأ كله! لم يضع كل شيء! لم يتحطم كل شيء! المسرح فيك ولم يحترق! المسرح حي ولن يسقط أو يموت! قل يا شهاب! بلغ رسالتك ورسالتي ورسالة الملايين المقتولين والمنسيين! قل! قل! قل! انفتحت ضلفة الباب الزجاجي على مهل وأطل منها وجه الأم ومن خلفه وجه هديل. استقبلتهما الآهات والتنهدات وشظايا الحروف والكلمات التي صدمت وجهيهما ونفذت في اللحم والجلد والعيون كالإبر المحمية في النار: هو ... هو ... هو ... جو ... جو ... جو ... ميم ... ميم ... صرخا في نفس واحد: ماذا تفعل يا مجنون! ماذا تفعل يا مجنون!
Halaman tidak diketahui