دعاء من هذا الصدر المشرق، دعاء من هاتين الذراعين الرخصتين الممتلئتين، دعاء من هذا القد الرشيق، دعاء إلى كل شيء، دعاء إلى غير شيء، دعاء إلى هذا الهيام الذي يستبي النفوس، ويصرف عنها ما أبقى الشراب لها من رشد وصواب.
ولم ينته صاحبي من هذا الوصف الجميل المغري حتى كان قد بلغ منه الإعياء، وأخذه الذهول، كأنه تمثلها أمامه منصرفة إلى قدحها تأخذه في رفق وترده في عنف، ماضية في عبثها، مغرقة في دعابتها، مندفعة في مرحها الذي لا حد له.
تراها نفسه فتغريه بالمشاركة في اللهو والاندفاع إلى اللذة، ويفقدها طرفه فيرده إلى الأناة ويضطره إلى الاحتشام.
وظل كذلك مضطربا بين نفسه وطرفه حينا، وأنا أريد أن أسأله عن أمره فلا أجد إلى ذلك سبيلا، فلما طال بي ذهوله وشرود نفسه أقبلت عليه أسأله عن صاحبته هذه ما اسمها ومن عسى أن تكون؟ ولست أخفي أني رددت عليه السؤال مرات، وعرضته عليه في ألوان من الكلام أرفق به مرة وأعنف عليه مرة أخرى، وما أشك في أن إلحاحي عليه هو الذي اضطره إلى أن يجيبني، وأخرجه من ذهوله الذي كان يكلف به ويحرص أشد الحرص على الإمعان فيه.
فلما أطلت عليه في القول وألححت عليه في السؤال قال: ما أنت وذاك؟! وما تعرضك لما لا تحسن؟! وما سؤالك عما ليس بينك وبينه سبب؟! لو أنك شربت بالكأس التي أشرب بها، وأحسست النشوة التي أحسها لاستطعت أن تعرف هذه الصورة الرائعة الخالدة من الجمال، ولكان الحديث بينك وبيني ميسورا. قلت: وما هذه الكأس التي تشرب بها أنت ولا أشرب بها أنا؟ قال: هون عليك فليست كأسا محظورة، وليست كأسا فيها لغو أو تأثيم ، وإنما هي كأس مباحة، ولكنها لا تتاح إلا للمصطفين الأخيار، هي كأس الشعر يا سيدي، ثم انصرف عني حينا وعاد إلى ذهوله وتركني واجما لا أفهم عنه أو لا أكاد أفهم عنه.
ثم عاد إلي بعد صمت طويل كأنه كان قد أنسي مكاني منه ثم ذكره بعد لأي، عاد إلي فقال في صوت كان يأتي من بعيد، كأنما كان يحدث عن نفسه الشاردة النائية: تسألني عن اسمها، فإن أسماءها لا تحصى، وتسألني عن شخصها، فإن شخصها لا يدرك ولا يكاد يبلغه الوصف، هي هيلانة هوميروس، وهي نعم عمر بن أبي ربيعة، وهي بثينة جميل، وهي عزة كثير، وهي ليلى قيس، وهي ألفير لمارتين، وهي شارلوت غوت، وهي رآي موسيه، وهي هذه التي عنت المحبين وأذاقتهم لذع الألم أثناء النهار، ومرارة الألم أثناء الليل، وهي التي أسعدت المحبين فجعلت حياتهم نعيما كلها وجمالا كلها، ثم ردتهم إلى الشقاء فجعلت حياتهم بؤسا وجحيما، وهي التي ألهمت الشعراء فاستوحوا منها شعرهم الذي غنوا فيه اللذة والألم، والنعيم والبؤس، والسعادة والشقاء، وهي التي جعلت الإنسان المترف إنسانا مترفا، وجعلت الشاعر المجيد شاعرا مجيدا، وهي التي جعلت للحياة الإنسانية معنى يدركه الفلاسفة ويتفكرون فيه، فإذا هم بين رجل متفائل يرى الحياة ابتساما فيبتسم، وآخر متشائم يرى الحياة عبوسا فيعبس، وينشر على نفسه وعلى الناس والأشياء من حوله رداء قاتما من اليأس والقنوط.
وأعترف أني لم أكد أسمع هذا الكلام من صاحبي حتى أغرقت في الضحك، ومضيت أعبث به وأسخر منه، ورأيت أنه لا يتجاوز أن يكون قد خضع لهذه النوبة التي كانت تعرض له بين حين وحين من الجنون حين كانت تطول قراءته ويتصل عهده بدواوين الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان هائما حقا قد اشتد عليه الهيام حتى أخرجه من طوره، وإذا هو يستأنف حديثه عن صاحبته هذه التي لا تحصى أسماؤها، ولا تحصر أوصافها، ولا يحد لها مكان من الأمكنة، ولا عصر من العصور، وإنما هي فكرة من الجمال المطلق تصور المثل الأعلى لهذه الأنوثة التي تغري بالسعادة وتدعو إليها، وتحبب اللذة إلى النفوس، وتسلط الألم والشوق على القلوب، وتطلق ألسنة الشعراء بالشعر، وتشكل أصوات المغنين بأشكال الغناء، وهو يستأنف الحديث عنها واصفا من شخصها ما لم يصف في حديثه الأول، يحلل من صوتها ومن حركاتها، ومن لحظها ومن خواطرها، ومن نشاطها ومن كسلها ما لم يخطر لي على بال، وأنا أسمع له معجبا بهذه الفصاحة التي لا تنضب، وبهذا البيان الذي لا يدركه عجز ولا قصور، وبهذا الخيال الذي أفلت منه عنانه فاندفع أمامه لا يعرف لنفسه حدا ينتهي إليه.
وقد استيأست من أن أرده إلى بعض الوقار، أو آخذ معه في شيء من حوار، أو أجاذبه أطرافا من حديث، فلم أر بدا من أن أخلي بينه وبين ما هو فيه من هيام، وأنا أستمع لحديثه الغرامي أو لغنائه هذا الذي كانت تملؤه الفتنة، وما لي أخفي الحق، ولا أقول إني كنت أجد في الاستماع له لذة ومتاعا كهذه اللذة التي أجدها حين أقرأ الشعراء، أو أسمع لهم؟! وهل كان صاحبي إلا شاعرا قد أرسل نفسه على سجيتها إرسالا فتغنت بخير ما فيها من حب الجمال والطموح إلى مثله الأعلى؟!
لم يكن صاحبي إلا شاعرا في ذلك الوقت، ولكني كنت أحب أن أعرف مصدر هذا الشعر الذي دفع إليه دفعا وهام به هياما، وقد عرفته آخر الأمر وبعد كثير من الجهد، فهو كان قد قرأ أول النهار مقالا لصديقنا الأستاذ محمد عوض في مجلة الهلال موضوعه مضايق البحار أو عنق الإمبراطورية البريطانية، ولست أشك في أنك ستغرق في الضحك حين تنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل، كما أغرقت أنا في الضحك حين أخذ صاحبي يقص علي قصته بعد أن أفاق من هيامه الغريب، فأين مضايق البحار وعنق الإمبراطورية البريطانية من هذه الغادة الحسناء التي وصفها صاحبي فأبدع في وصفها ما شاء له الشعر، وهام بها صاحبي فأمعن في الهيام بها ما شاء له قلبه الرقيق، وشعوره الدقيق، وخياله الرشيق؟ وأين مضيق جبل طارق وقناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق سنغافورة من هيلانة هوميروس، ونعم ابن أبي ربيعة، وبثينة جميل، وليلى قيس؟!
نعم، أين مضايق البحار وتاريخ الاستعمار من هذه المثل العليا للجمال واستهوائها لأحلام الرجال؟ ولكن اقرأ مقال صديقنا الجغرافي الأديب وانته منه إلى آخره، فسترى أنه اعتدى على الشعر، وبغى على الفن، وأهان الجمال، وأساء إلى الخيال، وبعض هذا يكفي لإثارة شاعر رقيق القلب، دقيق الحس، ملتهب العاطفة كصاحبي هذا، فقد شرب صديقنا الأستاذ محمد عوض بكأس العلماء الجغرافيين قبل أن يكتب فصله هذا، فزعم أن الذي أثار الحرب بين اليونانيين والطرواديين لم يكن جمال هيلانة البارع، ولا لحظها الساحر، ولا طرفها الفاتر، ولا صوتها العذب، ولا حديثها الذي كان يحيي القلوب كما يحيا الزهر لقطرات الندى. لم يكن شيئا من هذا، وإنما كان الاستعمار وحب الاستيلاء على مضايق البحار، وحسد اليونانيين للطرواديين لأنهم كانوا يتسلطون على طريق من طرق التجارة. يا للهول! يا للإثم! يا لعدوان العلم على الفن! يا لطغيان العقل على الخيال! يا لجناية المادة على الروح! ماذا؟ وإذن فقد كان كل ما نظم هوميروس من الشعر، وكل ما نظم الشعراء قبل هوميروس وبعد هوميروس من القصص حول هيلانة وأحاديثها، وقد كان غناء اليونان كله، وقد كان كثير من تمثيل اليونان، وقد كان كثير من فن اليونان، وقد كان إيمان اليونان بهذا الجمال البارع الخالد؛ لغوا من اللغو، وعبثا من العبث، وأسطورة من الأساطير، وكان الأمر ينتهي عند البحث والتحقيق، وعند التمحيص والتدقيق، إلى هذا الشيء التافه الحقير الغليظ الفج الذي يسمونه المال والتجارة والربح، وتريد بعد هذا أن يكون العلم محسنا إلى الناس لا مسيئا، ومسعدا للناس لا مشقيا، ومنعما على الناس لا ممتحنا لهم بألوان البؤس والضراء؟
Halaman tidak diketahui