وكانت جحيما بالقياس إلى هذا الموله المفتون الذي يرى النعيم من حوله قريبا أشد القرب ولكنه بعيد أشد البعد؛ لأن في قلبه نارا تتأرجح وتتلظى وتمنعه من أن يبسط يده إلى شيء من هذا النعيم القريب. قد فتن بصاحبة الدار فتنة جامحة طغت على كل شيء كأنها السيل العنيف المندفع الذي لا يحفل بما يعترضه في طريقه من المصاعب والعقبات، فهذه الجنة الرائعة الشائقة تغريه بألوان من النعيم وتثير في نفسه ضروبا من الأماني وتخيل إليه أن كل ما يشتهي ميسر له، يكفي أن يريد ليبلغ ما يريد، ولكن هذه النار التي تتلظى في قلبه ترده عن هذا النعيم ردا، وتخيل إليه أنه لن يمس منه شيئا إلا أحرقه وجعله رمادا تذروه الرياح.
وكان يكفي أن يرى هذه الغادة الحسناء في هذه الروضة الفيحاء ليجن جنونه وليبلغ اليأس به أقصاه، فلم يكن يعرف شيئا أجمل ولا أروع ولا أشد ملاءمة لذوقه وطبعه وهواه من هذه الغادة حين تسعى في حديقتها الجميلة، ولم يكن يعرف شيئا أبعد منالا ولا أشد امتناعا من إرضاء ذوقه وطبعه وهواه، فقد كان حبه يائسا أو قل كان حبه هو اليأس نفسه، وكان هذا اليأس ثقيلا بغيضا؛ لأنه لم يستطع من جهة أن يريحه كما تعود اليأس أن يريح اليائسين، ولأنه لم يكن من جهة أخرى يعرف له أصلا ولا يتبين له مصدرا، فلم يكن منفردا بالحب من دون صاحبته، ولعل حظه من الكلف والهيام ألا يكون أقل من حظها منهما.
لم يكن يستطيع عن لقائها صبرا، ولم تكن تستطيع عن لقائه سلوا، وما أكثر ما امتحن هذا الحب فشغل نفسه عن صاحبته يومين أو أياما وأكره نفسه أحيانا على القطيعة، ولكنه كان ينعم دائما حين يستوثق من أنه لم يألم وحده لهذا الهجر، ولم يشق وحده بهذه القطيعة، وكان يسعد حين يتحقق أنه لم يكن وحده يلتمس الوسائل ويعمل الحيلة ويتكلف الممكن وغير الممكن ليصل ما انقطع من الود ويجدد ما رث من صلات الحب ويستأنف ما أهمل من اللقاء في كل يوم.
ولكن هذا اللقاء كان جدبا لا حظ له من خصب، كان أشبه بالصحراء المحرقة التي لا يجد الإنسان فيها روحا ولا أملا في الروح، وإنما هي الشمس المتوهجة والرملة المحترقة والعذاب الذي يأخذ الإنسان من كل مكان. كان هذا اللقاء شكاة متصلة تصدر عنه ورثاء متصلا يصدر عنها، ولكنه لم يكن يتجاوز الشكاة والرثاء، وإنما كان يقف عندهما كأنهما غاية الحب أن يألم العاشق ويرحم المعشوق، وربما كان أشد الأشياء تعذيبا لقلبه ومشقة على نفسه جهله بهذه المصادر الخفية التي تملأ حبه يأسا وقنوطا. كان يحب وكان محبوبا وكان مشوقا وكان مشوقا إليه. لم يكن يسعد وحده باللقاء حين يبتدئ، ولم يكن يشقى وحده باللقاء حين يتصل، ولم يكن يتعذب وحده بالفراق حين يأتي موعده، ولم يكن بينه وبين صاحبته من الفروق في الطبقة والمنزلة ما يحول بين هذا الحب الشقي وبين أن يستحيل إلى زواج سعيد، ولكنه لم يكن يذكر الزواج أو يشير إليه من بعيد حتى تثور الثائرة، وتفور الفائرة، وتعصف العواصف التي تفسد على الحبيبين من أمرهما كل شيء.
قالت له ذات يوم وقد شكا إليها حتى أملها وألح عليها حتى أبرمها واتهمها بالبغي عليه والتحكم فيه، وبأنها قد خدعته عن نفسه وأظهرت له من الحب ما أطمعه وأغراه، حتى إذا استوثقت من أنها قد ملكت عقله وسحرت لبه واستأثرت بقلبه واستيقنت أنه لن يجد عن حبها منصرفا ولا عن لقائها عزاء، تناءت عنه وتنكرت له وجعلت تنضجه على هذه النار الهادئة التي هي شر أنواع النار. قالت له ذات يوم وقد شق عليها بهذا كله: إنك لتعلم أني لا أضمر من حبك أقل مما تضمر من حبي، وأني لا أجد إلى السلو عنك سبيلا كما أنك لا تجد إلى السلو عني سبيلا، ولكن بينك وبيني فرقا عظيما وأمدا بعيدا من فهم الحب وتقديره؛ فحبي نقي ممعن في النقاء صاف مغرق في الصفاء يجد غايته في نفسه ولا يريد بعد هذه الغاية شيئا، فأنا أحبك وحسبي أني أحبك، وقد لا يوئسني أن أعرف أن في حبك لي ضعفا وفتورا وأنك تستطيع أن تلهو عني بما شئت من أسباب اللهو، وأما أنت فإن حبك لا يقنع بنفسه، وإنما يتجاوزها إلى أشياء لعل الاتصال بينها وبين الحب النقي البريء ليس من القوة بمقدار ما تظن، وإني لأمنحك خير ما عندي وأصفيك مودتي وأشغل بك عقلي وقلبي وضميري، وأرى أن هذه المنزلة هي أرفع منازل الحب وأرقاها وأدناها إلى الكمال، ولكنك لا تقنع مني بذلك، ولعلك لا تحفل بذلك بمقدار ما تحفل بما هو أقل منه خطرا وأهون منه شأنا وأسرع منه إلى الزوال والانحلال.
أصفيك حبا من شأنه البقاء والاتصال الذي يشبه الخلود، وتسألني حبا هينا رخيصا ينعم الإنسان به ساعة قصيرة ثم يشقى به ساعات طوالا، وإني لأكبر ما بيننا من الحب وأرتفع به عن هذه الصغائر التي تدنسه وتفسده، ولولا أن هذا شيء غير مألوف وأني أرفع نفسي عنه وأبرئها منه، لأبحت لكل واحد منا أن يلتمس متاعه ورضا جسمه حيث شاء، حتى إذا التقينا لم يكن بيننا إلا طهر لا تشوبه شائبة، ونقاء لا يعرض له الكدر بما تثير غرائز الجسم من هذه العواطف الآثمة الهوجاء. ولكنه سمع لها وفهم عنها، وأبى إلا أن يمضي في شكاته المتصلة وإلحاحه العنيف، وإلا أن يكرر ما كان يقوله دائما، وهو أن الحب واحد لا يتعدد، وكل لا يتجزأ، وهو لا يفرق بين رضا النفس والعقل والقلب وإرضاء العواطف الجامحة والأهواء الثائرة.
وكذلك كانت حياتهما ماضية على هذا النحو: إلحاح وامتناع، وشكاة ورثاء، ورضا وغضب، ورجاء وقنوط، حتى إذا كان المساء من ذلك اليوم أقبل على صاحبته فيمن أقبل لحفل دعت إليه فجأة ولغير علة واضحة ولا سبب معروف، وقد رأى نفسه في الحديقة ضيق الصدر مفرق النفس برما بما حوله من الأشياء وبمن حوله من الناس، ولو استطاع لعاد أدراجه ولرجع إلى صاحبته في أول الليل حين ينصرف عنها الزائرون، ولكنه لم يستطع، وقد علل بقاءه بأن الناس قد رأوا وعرفوا مكانه، وبأن انصرافه قد يثير الريبة ويغري به بعض الألسنة الطوال الحداد، وكان هذا التعليل حقا لا شك فيه ولا غبار عليه ولكنه لم يكن وحده هو الذي يفسر بقاءه، وإنما كانت هناك علة أخرى أو علل أخرى، فهو قد رأى صاحبته وكان يكفي أن يراها ليقيده منظرها في مكانه، ورأى الزائرين يقبلون عليها وكان يكفي أن يرى أحدا يدنو منها أو ينظر إليها لتضطرم في قلبه نار تجعل حياته جحيما كلها، ومن أجل ذلك أقام وأقام ساخطا برما عابس الوجه مغرقا في الصمت، حتى نبهته صاحبته إلى ما في هذا الصمت من إغراء للذين يلاحظون ثم لا يكتفون بالملاحظة وإنما يتندرون بما لاحظوا، وهي قد وعدته بأنهما سيستوفيان ما بينهما من حساب حين تخلو لهما الجنة بعد حين كما قالت أو حين يخلو لهما الجحيم بعد حين كما قال، وقد خلت لهما الحديقة آخر الأمر، ونظر صاحبنا، فإذا هو قائم من مصدر شقائه وسعادته غير بعيد كأنه الخادم ينتظر أن يصدر إليه مولاه أمرا.
وقد نظرت إليه فأطالت النظر ثم لم تملك أن تغرق في ضحك متصل طويل ملأه حفيظة وزاده اضطرابا إلى اضطراب، فلما كاد الضحك يسكت عنها، قالت له في صوت متقطع: وما يغيظك من هذا الضحك وإن مقامك هذا لمضحك حقا، ادن مني وخذ مجلسك الذي ألفته حين يخلص كل منا لصاحبه ولنبدأ في تمثيل القصة التي لا نمل تمثيلها، ولكني أريد في هذه الليلة ألا يطول التمثيل، فقد أتعبني هذا الاستقبال وأظنني في حاجة إلى شيء من راحة، وإن شئت فسأمنحك عشر دقائق تشكو فيها بثك وتفجر فيها غضبك ثم تغسل هذا الغضب بما تذرف من دموع، وسأمنح نفسي عشر دقائق أرد فيها على تجنيك وأزجر فيها غضبك الذي سيكون جامحا وقحا، وأمسح فيها دموعك التي ستكون غزارا، ثم أخصص عشر دقائق أخرى للتصافي بعد العتاب والتراضي بعد التغاضب والائتلاف بعد الاختلاف، فإذا بلغنا ذلك انتهى التمثيل وأسدل الستار، وانصرفت أنت إلى ما شئت أن تنفق فيه أول الليل من لقاء الأصدقاء أو الخلوة إلى الكتاب أو الخلوة إلى حبك هذا الذي يعذبك ويضنيك في غير طائل ولا غناء.
ولست أدري أأنفذ العاشقان برنامجهما كما رسمته الغادة الحسناء لم يتجاوز الخطة المرسومة بقصر أو طول، أم لم ينفذاه، وإنما أراهما حين تقدم الليل قد جلسا إلى مائدة الطعام يصيبان في دعة وهدوء مما يقدم إليهما من ألوان، وأراهما بعد ذلك يتصرفان في ألوان من الحديث الهادئ المطمئن كأنهما صديقان لم تكن بينهما ثورة ولا خصام، ثم أراهما وقد نهضا ليفترقا، وهي تبسم له ابتسامة فيها كثير من حزن، وهو يبسم لها ابتسامة فيها كثير من غيظ، حتى إذا بلغا باب الحجرة قالت له في صوت هادئ مكظوم: أما الليلة فإني قد أعددت لك مفاجأة لم تكن تقدر في يوم من الأيام أني سأعدها لك، وهم أن يسألها عن هذه المفاجأة، ولكنها لم تمهله وإنما وضعت يديها على كتفيه وأدنت جبهتها من فمه وهي تقول: سأمنحك الليلة قبلة، فإذا ظفرت بها فانصرف موفورا ولا تسألني غيرها.
ولست أدري أطالت هذه القبلة على الجبهة أم قصرت ولكني أعلم أن الفتى صدع بالأمر وانصرف موفورا سعيدا لم يسأل غيرها ولم يستجب للنوم أو لم يستجب له النوم حتى تجاوز الليل ثلثيه، ثم دخلت عليه خادمه مع الصبح تحمل إليه طعام الإفطار وتحمل إليه الصحف أيضا، ولكنها قدمت إليه غلافا لم يكد يأخذه حتى أحس من ورائه شيئا صلبا، ولم يكد ينظر فيه حتى عرف خط صاحبته، ولم يكد يفضه حتى وقعت في يده صورة، نظر فيها فأخذته رعدة عنيفة وسال على جسمه كله عرق بارد، وقد وقع في يده مع الصورة قرطاس صغير قد خطت عليه هذه الأسطر: لعلك عرفت صاحب هذه الصورة وتبينت ما بينك وبينه من شبه قريب، وفهمت مصدر اليأس الذي كتب على حبنا، وفهمت كذلك أن القبلة التي منحتك إياها كانت قبلة الوداع، فإن الحب والموت صديقان تفرق بينهما الحياة حينا ثم لا يلبثان أن يلتقيا ذات صباح أو ذات مساء، أما حبي وموتي فسيلتقيان قبل أن يسفر الصبح.
Halaman tidak diketahui