فالشعب «إنسان» قبل كل شيء، ونفس الإنسان تهتز في كل زمان لأريحية البطولة والغزل، وتجري في ذلك على سنة الحياة التي لا سنة غيرها للأدب والفن، كيفما اختلفت الطبقة الحاكمة، واختلفت أحوال المعيشة، واختلف الناظمون والمستمعون.
لقد كان الشعب يستمع إلى ملاحم أبي زيد وهو موفور الطعام ناعم بالرخاء والسلام، وكان يستمع إليها وهو مهدد بالمجاعة والوباء، ولم يكن من هم الحاكمين أن يعلموا المحكومين البطولة ويعرضوا أمامهم قدوة المجازفة والهجوم على الموت والخطر، ولعلهم قد مضى عليهم زمن وهم لا يعلمون من هو أبو زيد ولا يسمعون باسمه، بل لعلهم منعوا الجلوس على القهوات التي تنشد فيها تلك الملاحم مرات بعد مرات منعا للضوضاء والشجار، وهم لا يدرون من أسبابه الكثير أو القليل.
ثم بطلت ملاحم أبي زيد وخلفتها بطولة رعاة البقر في البراري الأمريكية، أو خلفتها بطولة العصابات في المدن الكبرى، ولم تكن لرعاة البقر ولا للعصابات دولة تروج لها الدعوة في وادي النيل، ولم يكن إقبال الشعب على هذه الملاحم بعد تلك الملاحم لأنه (تأمرك) بعد أن تعرب، وإنما حلت دار الصور المتحركة محل القهوة البلدية وبقي حب البطولة والغزل كما كان، لأنه حياة يفهمها الحي كائنا ما كان القائلون والممثلون.
وإذا انحدرنا من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان والنبات فما هو العنوان الاجتماعي الذي يندرج تحته زهر الفول وتغريد العصفور؟
إننا نتخيل في هذه اللحظة رطانا من أصحاب البرجوازيات والاسترخائيات والانتهازيات قد شال بأنفه وصعر خده وامتلأ عجبا من هؤلاء الناس الذين يسألون أمثال هذه الأسئلة الفضولية، ويخفى عليهم أن الأمر متعلق باللقاح والتناسل ووفرة الغذاء في الربيع!
وأفادهم الله وإن لم يفيدونا شيئا.
ولكنهم مسئولون بعد ذلك: لماذا يغني العصفور يا ترى إذا شبع؟ أليس الشبع هو المقصود وفيه الكفاية؟ ولماذا يغني إذا تغزل؟ أليست الغريزة الجنسية هناك؟ ولماذا تضيع الطبيعة وقتها في تزويق أوراق الفول؟ أليس هذا ترفا برجوازيا استرخائيا مظهريا إلى آخر هذه المنسوبات؟
ما عهدنا في تاريخ الإنسان حطة دون هذه الحطة التي يهبط إليها - منتفخين بكبرياء الجهل - من يسمون أنفسهم بالتقدميين.
وما عهدنا أحدا أشد على الشعب قسوة من هؤلاء الذين يزعمون الغيرة على الشعب ويجمعون عليه بين الحرمان من المال والحرمان من الشعور. فإذا كان المجتمع «الرأسمالي» يقسو على الفقير فيحرمه ضرورات العيش فأفظع من ذلك قسوة من يجرده من الشعور الإنساني ويفرض عليه أن يجهل معاني البطولة والعاطفة لأنه فقير. وإذا كان المجتمع «الرأسمالي» يفرض على الفقير أن يعمل لقوته فأفظع منه قسوة من يفرض عليه أن يقرأ لقوته ويتريض لقوته وينام ويصحو ويحلم ويعلم لقوته، ولا شيء غير قوته في الصناعة ولا في العلم ولا في الفن ولا في الأدب ولا في الواقع ولا في الخيال.
لقد كان أجهل جاهل من المستمعين إلى ملاحم الهلالي والزير سالم إنسانا أكرم من هؤلاء التقدميين الذين يرسمون للأدب طريقه وللحياة طريقها، وهم عالة على الأدب وعلى الحياة.
Halaman tidak diketahui