ليتني أستطيع أن أقول عنك ذلك أيضا يا أمي. •••
ما إن أتممت المرحلة الثانوية، حتى قابلت سرحان الهلالي راجيا أن أحل مكان أبي، وفي الحال عقدت زواجي بتحية. ودعت البيت القديم وأهله بلا احتفال، وكأنما أمضي إلى المدرسة أو دار الكتب. لم يتفوه أبي بتهنئة أو دعاء، ولكنه قال: لماذا كان اجتهادك في المدرسة ما دام المصير هو عمل ملقن في الفرقة؟
أما أمي، فقد عانقتني وهي تنشج بالبكاء، وقالت لي: ربنا يسعدك، ويكفيك شر الناس، اذهب مصحوبا بالسلامة، ولا تنس زيارتنا.
ولكن العودة إلى الجحيم لم تخطر لي ببال، تطلعت إلى حياة جديدة، وإلى هواء نقي، وتمنيت أن أنسى البؤرة التي انصهرت فيها معانيا آلام العذاب والغم. ووجدت تحية في انتظاري، كما وجدت الحب ينتظر أيضا، وعرفت السعادة عندما تترجم إلى امتزاج بين اثنين متوافقين، فتضفي سحرها على الحديث والصمت، الجد واللهو، الطعام والعمل. وكانت تكمل بمدخرها ما يقصر عنه مرتبي، وحظيت باستقرار نفسي عوضني عما بدده القلق والتشتت والحزن والغضب الكظيم. وكنت أرجع إلى البيت حوالي الثانية صباحا، أستيقظ حوالي العاشرة، ويتسع الوقت بعد ذلك للحب والقراءة والكتابة أيضا. وكان كلانا يعقد أمله بالنجاح المأمول في تأليفي المسرحي، وفي سبيل ذلك رضينا بالبساطة في العيش، بل بالتقشف أيضا، وضاعف الاجتهاد والصبر والأمل من سعادتنا المشتركة. وأثبتت تحية بجدارة قوة إرادتها، فلم تذق قطرة من خمر على تعلقها القديم بها، بل امتنعت أيضا عن عادة التدخين توفيرا لثمنه، واعترفت لي بأن قدمها كادت تنزلق إلى إدمان الأفيون، لولا أن تعاطيها له صحب بأعراض صحية سيئة، كالقيء الشديد، فكرهته من أول الأمر. ولاحظت مهارتها كست بيت، حتى قلت لها مرة: بيتك نظيف دائما ومنظم، طعامك ممتاز، معاملتك مهذبة، ما كان يجوز.
وانقطعت عن تكملة الجملة، فقالت: مات أبي فتزوجت أمي من محضر، لقيت منها الإهمال، ومنه سوء المعاملة، حتى اضطررت إلى الهرب.
لم تزد، ولم أسأل عن مزيد، تخيلت على رغمي ما حدث حتى عملت ممثلة ثانوية عند سرحان الهلالي.
على رغمي أيضا، تذكرت أمي وعملها في المسرح نفسه، وتحت رحمة سرحان الهلالي. أضمرت حربا لا هوادة فيها على كافة ألوان العبودية التي يتعرض لها الناس، لكن هل يكفي المسرح ميدانا لهذه الحرب؟ ... وهل تغني فكرة البيت القديم، الذي تدهور فصار ماخورا؟! •••
حافظت تحية على رقتها وعذوبتها بصورة مباركة، لم تعرف علاقة أمي وأبي ذلك حتى في أيام طفولتي السعيدة؛ إنها - تحية - ملاك حقا، وآي ذلك تصميمها الناجح على محق عاداتها السيئة التي شابتها في عهد الأحزان، وهي تحبني بصدق، وقد تجلى ذلك في حرصها على الإنجاب، ولم أكن أرحب به، وكنت أخافه على مواردنا المحدودة، وعلى حياتي الفنية المفضلة عندي على كل شيء في الحياة، حتى الحب نفسه. غير أني كرهت أن أحول بينها وبين أمنيتها الأثيرة، وأبت أخلاقياتي الإذعان للأنانية. وكان الغلاء يتصاعد غير مكترث بتقشفنا وآمالنا، فحملنا على التفكير في وسيلة جديدة لمجابهته. وفي تلك الأثناء تحققت أمنيتها في الحمل، فركبني هم جديد، وكان علي أن أستعد للمستقبل القريب والبعيد معا، ثم أقنعني الحال بأنه لا مفر من الاستعانة بعمل إضافي إن أمكن.
وكنت قد تعلمت الكتابة على الآلة الكاتبة، محاكاة لما سمعته عن استعمال الكتاب الأمريكيين والأوربيين لها بدلا من القلم. وكنت أمر أمام «مكتب فيصل» للآلة الكاتبة في طريقي إلى المسرح، فعرضت نفسي على صاحبه، وسرعان ما قبلني بعد اختبار أجراه بنفسه. قبلت العمل من الثامنة صباحا حتى الثانية بعد الظهر، وقدر أجري بالقطعة، وقد استقبلت تحية الخبر بعواطف متضاربة. قالت: تنام في الثانية صباحا، لتستيقظ في السابعة على الأكثر بدلا من العاشرة، تعمل من الثامنة إلى الثانية، ترجع في الثالثة، ستنام ساعتين على الأكثر ما بين الرابعة والسادسة، لا راحة، ولا وقت للقراءة أو للكتابة ...!
فقلت: ما الحيلة؟ - أبوك غني!
Halaman tidak diketahui