ينقصنا منهج العلم
ما أسرع أن يخلط الناس بين شيئين، فيحسبوهما شيئا واحدا؛ أولهما: حصيلة الحقائق العلمية التي يحصلها الدارسون من ميادين العلوم المختلفة. وثانيهما: المنهج الذي بواسطته استطاع الإنسان أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق. أقول إنه ما أسرع أن يخلط الناس - حتى المتعلمون منهم - بين هذين الأمرين، فيظنوا أن من ظفر بأحدهما فقد ظفر بالآخر، فإذا امتلأت جعبته بالحقائق العلمية في ميدان معين، فلا بد أن يكون قد اكتسب المنهج العلمي في طريق النظر، وإذا أتيح له أن يدرس مبادئ المنهج العلمي، فلا بد بالضرورة أن يكون قد جمع في خزانته مجموعة من حقائق العلم. لكن حقيقة الأمر هي على خلاف ذلك؛ فقد يحدث أن يخرج الدارس بشيء من الحقائق العلمية، حفظها حفظا، دون أن يصبح المنهج العلمي طريقا ينتهجه في حياته العملية، وذلك هو ما نلحظه في الكثرة الغالبة من دارسي «العلوم» في جامعاتنا العربية. وكذلك قد يحدث أن يدرس الدارس «منهج البحث العلمي» دون أن يكون قد ألم بشيء من نتائج العلم، كما هي الحال في طلاب الفلسفة من جامعاتنا العربية أيضا.
وفي هذا الانفصام العجيب المعيب بين العلم من جهة ومنهجه من جهة أخرى، يكمن الداء الذي تولدت لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية - أو قل حياتنا اللاعقلية - فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع. ولو أخرجنا من جامعاتنا دارسي علوم يأبون النظر بغير منهج العلم، وأخرجنا - من ناحية أخرى - دارسي منهج البحث العلمي مصحوبا بمضمون حي من حقائق العلم، لكان لنا من دمج العلم ومنهجه في حياتنا شأن آخر.
وإنا لنذكر في هذا السياق من الحديث أن «العلم» لم يجاوز مجاله الأكاديمي ليتغلغل في حياة الناس العملية إلا منذ عهد قصير، حتى في أوروبا نفسها. أما قبل ذلك فكان من الجائز أن ترى الرجل الواحد نابغا في علم أو في أدب وفن، ثم تراه في الوقت نفسه - خارج حدود علمه أو فنه وأدبه - مؤمنا بالخرافة كأي إنسان آخر ممن لم يهبهم الله حظا من نبوغ؛ فقد حدث - مثلا - في إنجلترا إبان القرن السابع عشر أن تفشى الطاعون وأكلت النار في «الحريق الكبير» شطرا كبيرا من مدينة لندن، فاجتمع مجلس النواب لينظر في سر هذا الغضب الذي أنزله الله تعالى بهم! ثم لم يطل بهم البحث حتى وقفوا على ما ظنوه علة الغضبة الإلهية، ألا وهي - فيما توهموا - مؤلفات فيلسوفهم آنذاك «تومس هوبز»؛ فقضوا بجرمها علنا. ولما لم يحدث بعد ذلك طاعون ولا شبت حرائق، أيقنوا بأن زوال العلة قد أعقبه زوال المعلول.
فانظر إلى هذا التخريف يصدر من صفوة ممتازة في شعبها. ومتى كان ذلك؟ كان في عصر لم يكن بعيدا عن عصر «نيوتن» العظيم! وهكذا كان «العلم» في ناحية، و«منهج العلم» في ناحية أخرى. لكن هذه الفجوة سدت عندهم في عصرنا هذا؛ بحيث يندر أن نجد مثل هذا الخلط في تعليل الظواهر. بيد أني زعيم لك بأن مثل هذا الخلط في ربط المسببات بأسبابها ، أو بغير أسبابها، يوشك أن يكون هو النبرة السائدة في حياتنا الثقافية بكل أبعادها. ومن هنا تضيع معالم الطريق أمام أبصارنا، حتى لترانا نتجه إلى وراء، ونظن أننا إنما نسير إلى أمام.
إنه إذا كانت مجموعة الحقائق العلمية التي يحفظها أبناؤنا في المدارس والجامعات، بمثابة قطع من نفائس المعادن، فإن «المنهج» الذي أوصلنا إلى تلك النفائس هو بمثابة المنجم الذي نظل نستخرج منه النفائس بعد النفائس، وبغيره نجمد عند ما حصلناه، لا نزيد عليه كبيرة ولا صغيرة. ولكي تدرك طرفا من خطورة «المنهج» بالنسبة إلى ما ينتج عن استخدامه، أذكرك بحقيقة تلفت النظر في تاريخ الفكر عامة، والعلم خاصة؛ ألا وهي أنه كلما آن الأوان للبشرية أن تدخل مرحلة جديدة في تاريخها الفكري والعلمي، قيض الله لها فيلسوفا يبشر بمنهج جديد؛ فما هو إلا أن ترسخ أصول ذلك المنهج الجديد، وإذا بالفكر والعلم يتخذان لونا جديدا. حدث ذلك عندما اصطنع سقراط منهجا ميز ما بعده عما قبله؛ إذ جعل المدار هو استخراج المبادئ العقلية الثابتة، من جوف الآراء الكثيرة التي قد يعارض بعضها بعضا. وحدث مرة أخرى على يد ديكارت، عندما أراد أن ينتقل بالفكر - وبالعلم - من مرحلة الظن إلى مرحلة اليقين. وحدث ذلك مرة ثالثة، ورابعة. ولعل آخر ما بشر به فلاسفة المناهج هو ما أنتج لنا النظرية النسبية، التي تفرع عنها بعد ذلك ما تفرع ...
ولنا في تاريخ الفكر العربي أكثر من عبرة ترشدنا إلى أهمية «المنهج»؛ فأعلام الفقهاء تميزوا عن جمهور القضاة بأن كان لكل منهم منهج رسمه لنفسه ثم ترسمه. وأعلام النحاة كذلك تميزوا عن جمهور علماء النحو، بأن كان لكل منهم منهج في تحديد الصواب والخطأ. وهكذا قل في ميادين علم الكلام، وعلوم الكيمياء والرياضة وغيرها؛ فالفرق الحاسم بين الكبير والصغير في مجال الفكر العلمي هو اصطناع منهج يضعه الكبير ويتبعه فيه الصغير، وحياة الأمة العربية اليوم ينقصها أن تنظر إلى أمورها بمنهج العلم.
إحياء التراث وكيف أفهمه
عندما أخرج أبو حامد الغزالي كتابه «إحياء علوم الدين»، لم يرد لكلمة «الإحياء» أن تجيء على الغلاف زخرفا تبهر العين، أو أن تكون صوتا له في السمع إيقاع ثم يمضي فلا يترك وراءه أصداء تتردد في كل صفحات الكتاب، بل أراد أن يكون لاسم الإحياء معناه، وهو أن ترد إلى شريعة الإسلام «حياة» تتبدى في سلوك المسلمين، بعد أن كان نبضها قد خفق في القلوب، إلى الحد الذي أغرى طائفة من المتصوفة أن يجعلوا الشريعة في ناحية، والحقيقة في ناحية أخرى.
وعلى هذا الغرار نفسه، إذا ما أردنا اليوم «إحياء» للتراث، وجب أن يكون لهذه الكلمة «معنى»، بأن نخرج موروثنا الثقافي من غيبوبة ألمت به، ولا يكون ذلك بإعادة طبع كتاب اصفرت أوراقه، في كتاب ابيضت فيه تلك الأوراق، ثم نكتفي بذلك فنقول: «إحياء»!
Halaman tidak diketahui