نهضت من فوري، وأخرجت «منطق الطير» من خزانة الكتب، وحملت معي منظار التكبير، وبحثت في الكتاب عن وادي الاستغناء لعلي أتزود منه بزاد يشد من أزري، وقرأت وأرهفت خيالي ليجسد لي ما أقرؤه، فيجعله وكأنه واقع أعيش فيه؛ فها أنا ذا في الوادي أشعر بالريح عاتية في شدتها وسرعتها حتى تمحو كل شيء! فالبحار السبعة قد تضاءلت حتى صارت بركة صغيرة، والكواكب السبعة قد خفتت حتى لم يعد من نارها إلا ومضة ضوء، وذبل الزرع ومات، وتحولت النيران السبعة إلى أعمدة من ثلج. وها هنا ضعف القوي وقوي الضعيف، حتى أضحت النملة في قوة مائة فيل. وليس لأحد أن يسأل: كيف؟ ولماذا؟ فليس من بأس هنا أن تفنى مائة قافلة ليملأ حوصلته غراب واحد.
ليس في وادي الاستغناء فرق بين قديم وجديد؛ فها هنا تخنق الشهوات، فلا رغبة لراغب. ها هنا أستعيد كل ما رأيته في الدنيا، فإذا هو الحلم. إن ألوف الأنفس أراها تسقط في البحر اللامتناهي، فتبدو - جميعها - وكأنها قطرة واحدة من قطرات الندى. وأرى أفلاك السماء ونجومها تهوي ممزقة إربا إربا، فإذا هي - كلها - وكأنها ورقة واحدة سقطت من شجرة. لقد رأيت الكون كله وقد تحول إلى عدم، فهل رأيت أكثر من نملة عرجت لها ساق في جوف بئر؟ لقد بدا زوال العالم وكأنه حبة رمل واحدة طارت عن أرضها. البشر جميعا يفنون وكأنهم قطرة واحدة من ماء المطر. إنهم يصيرون ترابا وكأنه لم يحدث سوى أن سقطت شعرة واحدة من كائن حي، أو سقطت ورقة واحدة من شجرة تين.
ذلك هو وادي الاستغناء كما تصوره وصوره فريد الدين العطار. فهل يسعك أن تحيا فيه لحظة، دون أن تخرج من قراءتك وقد استصغرت كل شيء؟ لكنني لا أحب لنفسي مثل هذا الشعور إلا كما يجرع المريض دواءه ليشفى. إن الصغار العوابر من حياتنا تهز قلوبنا وتقلب أمعاءنا - كما فعلت معي العبارة الحلوة المرة التي صبها صاحبي في أذني ليؤذيني، فإن حدث ذلك، جاءت قراءة «وادي الاستغناء» أو ما يشبه علاجا شافيا، نعود بعده إلى حياتنا وقد اتخذ كل شيء نسبته الصحيحة؛ فالكبير كبير، والصغير صغير. ولو كان لدينا نقد ونقاد، لأقاموا بيننا الميزان، فعرفنا من منا يرحل وكتابه بيمينه، ومن يذهب عنا بغير كتاب.
ماذا تصنع أقلامنا إذا لم تجاهد حتى يعتدل على سنانها ترتيب القيم؟ ففي حياتنا قيم - هذا صحيح - لكن أسفلها قدرا موضوع بأعلاها، وأعلاها أنزلناه حتى بات أسفلها. ألم نرفع من شأن النفوذ والجاه والسلطان حتى جعلنا لها قمة القمم، ثم ألم نهبط بقيمة العمل حتى جعلناه أرضا تدوس عليها الأقدام؟ فماذا تصنع الأقلام إذا هي لم تغير عقولنا ونفوسنا، فتتغير هذه الأوضاع.
لقد قالت لي فتاة عربية وهي تحدثني عن أوضاع الحياة في وطنها: إن العربي الأصيل يترفع بحكم ميزانه الثقافي على أي عمل يؤديه بيديه، ويكل إلى غيره أن يؤديه له. قلت لها: هكذا كانت كل شعوب الدنيا في العصور الأولى؛ فهكذا كان اليونان أنفسهم، الذين اشتهروا في التاريخ بالوقفة العقلية التي تكاد تخلو من شوائب الانفعال، لكن تغيرت الشعوب مع تغير الحضارات، إلى الدرجة التي أصبح الحكم في أيدي من يعملون بالأيدي. وأما العربي فقد اختار لنفسه - فيما يبدو - ألا يتغير في قيمه مع تغير الظروف. فمن ذا ينقل العربي من أنفة كاذبة تريد الكلام ولا تريد العمل إلى وقفة أخرى يعكس بها المعايير، إلا الكاتب وقلمه؟
لا، لن أكسر مغزلي، وحتى ولو لم أجد نساجا لغزله. وتحضرني قصيدة للشاعر الإنجليزي وليم بليك، الذي عاش في فترة انتقال الحضارة من حياة الريف والرعي والزراعة، إلى حياة المدن والعلم الصناعة، وكان رومانسي النزعة، يؤثر المروج الخضر على مداخن المصانع، فصمم على أن يقاوم. وبماذا يقاوم؟ إنه لا يملك سوى شعر وقلم. إذن فبالشعر يقاوم وبالقلم. وفي قصيدة له عنوانها «ملتن» يقول ما معناه: لن أكف عن الجهاد بفكري، كلا ولا سيفي سيرقد خاملا في يدي ... حتى أرد بلادي إلى مروجها الخضراء.
وليس المهم هنا هو: من أجل أي شيء يجاهد الشاعر أو الكاتب، وإنما المهم هو أن يجاهد بفكره وقلمه ليحدث التغيير الذي يريد أن يحدثه.
وإني لأحمد الله أن كانت لي رؤية واضحة عشت على ضوئها حتى يومي هذا ما يزيد على أربعين عاما، وكانت هي مدار كتابتي طوال تلك الفترة، عارضا لها من زواياها المختلفة، دافعا عنها أباطيل الذين هاجموها دون أن يقرءوا في روية وفهم صحيح. وأستطيع أن ألخص موقفي في بضعة أسطر، فأقول إن حياة الإنسان الواعية تتبادلها نظرتان، لكل نظرة منهما لحظتها، ولكل لحظة مقوماتها؛ أما إحداهما فهي حين يكون الإنسان على صلة عملية أو علمية مباشرة بشيء من كائنات الواقع. وأما الأخرى فهي حين يخلو الإنسان إلى نفسه وإلى ربه، ليعلو على ذلك الواقع، إذا صح لنا أن نقول ذلك. فإذا ما كان الإنسان في لحظته العملية أو العلمية لم يكن له بد من أن يركن إلى التجربة المؤسسة على إدراك حواسه من بصر وسمع وغيرهما. وأما إذا كان في لحظته الثانية، فها هنا تكون الكلمة الأولى لقلبه ووجدانه.
وإن مثل هذه الرؤية المزدوجة، لتتفق أتم اتفاق مع ثقافة المصري التي تراكمت له عبر القرون؛ وذلك لأن المصري في حياته العملية صانع وزارع، وكان محالا عليه أن يمارس صناعته وزراعته، إلا إذا كان مرهفا حواسه للمادة الخارجية التي يعالجها؛ فهو لم يمارس صناعته في هواء، بل مارسها في حجر وحديد وذهب وبرونز؟ وهو كذلك لم يمارس زراعته في خلاء، بل مارسها على تربة حقيقة لها خصائصها المعينة عند الحرث والري وبذر البذور وجمع الحصاد.
لكن المصري لم يستغرق حياته كلها في صناعته وزراعته، بل هو إلى جانب ذلك - بل فوق ذلك، وقبل ذلك، وأهم من ذلك - يجاوز حدود الواقع المصنوع والمزروع، ليخلص الصلة بقلبه وبربه. ولقد تعددت الديانات خلال تاريخه الطويل، لكنها على تعددها ديانة يعبد بها خالقه، كما تعددت أشكال فنونه مع تعدد عصوره، لكنها كانت كلها فنونا يصب فيها مشاعره كما أحسها في نفسه.
Halaman tidak diketahui