لكن الندوة لم تكن تبدأ حتى اعترض أحد المشاركين على موضوع الحوار المنتظر من أساسه قائلا ما معناه: إن الشعب في أبسط درجاته هو الذي من حقه أن يعلمنا كل شيء، وليس لنا نحن أن نعلمه؛ فلدى جمهور الناس من الإدراك السليم ما يهديه وليس لدينا نحن ما نضيفه إلى ذلك الإدراك.
فدهشت لأمرين؛ أولهما تلك التفرقة بين جمهور الشعب من ناحية وبيننا نحن الذين دعينا للندوة من ناحية أخرى؛ فكأننا هبطنا على الناس من كوكب مجهول، وكأننا لسنا أفرادا من ذلك الجمهور الذي أشار إليه الزميل في اعتراضه. وأما الأمر الثاني الذي أثار دهشتي فهو أن يقبل صاحب الاعتراض دعوة الإذاعة للمشاركة ثم يجلس ليقول للناس إنه لا يملك ما يقوله لهم ولو كان مؤمنا حقا بما قاله لطلب ممن وجهوا إليه الدعوة أن يعكسوا الأوضاع فيجمعوا جماعة من المارة في الطريق كما اتفق ليدلوا ببعض علمهم وليهتدي زميلنا بما يتلقاه منهم. واضح إذن أن زميلنا لم يكن يعني ما قاله، فلماذا قاله؟ لست أدري إلا أن يكون ذلك نفسه جزءا من الانحراف الذي ذهبنا ليتحدث عن طبيعته وعن أسباب حدوثه وعن طريق معالجته؛ فلعل الخطوة الأولى على طريق الإصلاح المطلوب هي الصدق الذي لا يتملق أبدا؛ فمصر هي المبدأ وهي المنتهى، وليس لأحد منا نصيب أكثر من سواه في شرف الانتماء إليها، فلماذا ينافق من ينافق؟ ومن الذي ينافقه؟ فإذا فرضنا حسن النية كان أقل ما نقوله هو أن هنالك لبسا عجيبا نلحظه حينا بعد حين بين أن يكون جمهور الشعب معلما للقلة المتعلمة من أبنائه وأن يكون ذلك الجمهور في موقف من نريد أن يتعلم على أيدي هؤلاء المتعلمين من أبنائه.
ولست أرى الأمر في هذا الموقف مختلفا عنه في أي موقف اجتماعي آخر يكون فيه أخذ وعطاء؛ فالمزارع يعطي للآخرين محصول أرضه ليأخذ منهم ثيابا وخدمات؛ فلا فضل له على الآخرين أكثر من فضل الآخرين عليه؛ فإذا كان يعطيني ما عنده لأعطيه ما عندي كان في هذا التبادل المتساوي عصب البناء الاجتماعي. ولقد شاءت المصادفة أن يكون من الشعب أفراد تعرف كيف تزرع الأرض وأفراد تعرف كيف تطب المرضى وأفراد تعرف كيف تنشر المعرفة داخل المدارس وخارجها، وهكذا. فما الذي أخجل زميلنا في الندوة أن يعطي مما عنده لقاء ما يأخذه مما عند الآخرين؟ ما حيلتنا إذا كان الحصاد عند أحدنا قطنا وقمحا وعند الثاني حرفة معينة وعند الثالث مجموعة أفكار قد يكون فيها ما يصلح المعوج؟
على أننا نريد في هذا الموضع من الحديث أن نقف قليلا لنتبين في وضوح من أين تبدأ الأفكار وإلى اين تنتهي فلعلنا واجدون في هذا التحليل ما يستريح له ضمير زميلنا الذي رأى إثما في أن يكون مصدر فكر يهتدي به الشعب؛ إذ ربما وضح لنا من التحليل أن العملية الفكرية تبدأ من الشعب لتعود إلى الشعب مرورا برءوس نفر من أبنائه تماما كما يصدر القطن من زراع الأرض ليعود إليه ثوبا يرتديه مرورا بمصنع للغزل والنسيج.
وأبدأ التحليل بحكاية رواها مؤلف لعله أن يكون أعظم فلاسفة العلم في عصرنا، وهو كارل بوبر، الذي كان أستاذا في كلية الاقتصاد بجامعة لندن لسنوات طويلة؛ فهو يروي في إحدى مؤلفاته أنه دخل قاعة المحاضرات ذات يوم وطلب من الحاضرين أن يعدوا أوراقا وأقلاما، فلما كان له ذلك أمرهم بقوله: «هيا فكروا.» فنظر إليه الطلاب نظرات متسائلة، لكنه أعاد عليهم القول مرة أخرى: «هيا فكروا.» فسألوه: فيم نفكر؟ فضحك وقال ما معناه: الآن قد ظفرت منكم بما أبتغيه؛ لأنكم لن تنسوا بعد الآن أن الفكر لن يكون فكرا قط، بل هو لا يخطو خطواته الأولى إلا إذا كان هنالك موضوع يتطلب التفكير. وإذا قلنا ذلك فكأننا قلنا أيضا إنه لا فكر إلا إذا كان هناك مشكلة تتطلب حلا.
ومن أين تأتي المشكلات التي تحتاج إلى حلول إلا من ميادين الحياة العملية نفسها؛ في المزرعة وفي المصنع وفي المكتب وفي الطريق، بل وفي البيت؟ ثم من أين تأتي الحلول إلا من ميادين العلوم على اختلافها؟ فإذا كانت مشكلة الزارع هي أن يحصل على مورد منتظم من ماء الري جاء له حل مشكلته من القائمين على هندسة الرأي بما أقاموه من مشروعات تنظم موارد الماء على امتداد العام؟ وهكذا قل في كل مشكلة تنشأ للعاملين في أي ميدان من ميادين الحياة.
لكن المشكلة قد تكون اجتماعية عامة، كتلك التي اجتمعنا في الندوة الإذاعية من أجلها، وهي الخاصة بما أصاب المصري من تغير طرأ عليه فسلبه شيئا من خصائصه التقليدية التي امتدت معه على فترات طويلة من التاريخ؛ فها هنا قد يسأل سائل: وهل لمثل هذه المشكلة الاجتماعية «علم خاص»؟ وجوابي أنه حتى لو لم يكن لها علوم خاصة بها، كعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما، فهي بحاجة إلى منهج في التفاؤل، أو إلى «طريقة» نظر ومعالجة. وفي العادة لا تتوافر طريقة كهذه إلا لمن شاء لهم الله من أفراد الشعب أن يتمرسوا بطرائق التفكير المنهجي من خلال المواد الدراسية التي عرضت لهم أثناء التحصيل.
ولا يقتصر الأمر في العلاقة الفكرية بين جمهور الشعب والقلة من أفراده التي جعلت الثقافة محور حياتها. أقول إن العلاقة بين هذين الطرفين لا تقتصر على أن تتعرض المجموعة الكبرى لمشكلات، فتلتمس حلولها عند المجموعة الصغرى، على نحو ما يعرض المريض مواضع شكواه على طبيب، أو يطلب رجل الأعمال من المهندس أن يعينه على تشييد المباني وإدارة الآلات، بل هنالك بين الطرفين - إلى جانب ذلك - روابط ثقافية أخرى؛ منها أن تكون في حياة المجموعة الكبرى عدة معان وقيم يتعامل الأفراد على أسسها، دون أن تجد لها عندهم صياغة صريحة واضحة؛ فيصبح من مهام رجال الفكر استخلاصها من ثنايا الحياة العملية وشعابها، ثم صياغتها بحيث تكون موضع رؤية وسمع، فتسهل مناقشتها وتحليلها ونقدها، وربما محاولة تعديلها.
فالمصري من عامة الشعب ينشئ علاقة حميمة بينه وبين ربه، وأخرى بينه وبين أفراد أسرته، وثالثة بينه وبين مواطنيه على صورة فريدة يتميز بها دون سائر الشعوب؛ فليس كل الناس، بل ليس كل المسلمين والمسيحيين يتعبدون بالروح نفسها التي يتعبد بها المصري؛ فالمسلم المصري سني معتدل على الأغلب. والمسيحي المصري كانت له رؤية خاصة كاد أن ينفرد بها منذ القرون الأولى في تاريخ المسيحية، وهي كذلك رؤية تتسم بالاعتدال. أقول إن المصري من عامة الشعب يعيش عقيدته الدينية إيمانا في القلب وسلوكا في دنيا العمل، لكن الذين جعلوا الثقافة محور اهتمامهم - وهم كغيرهم من المواطنين جزء من الشعب - هم وحدهم الذين يستخرجون الجانب النظري المتضمن في المواقف الحياتية العملية. ولماذا يستخرجونه؟ يفعلون ذلك لينتقل الموضوع من أعماق اللاوعي إلى مستوى الوعي، فيمكن عندئذ رؤية حقيقته وحدوده؛ فليس في مقدورنا أن نعرف ما طبيعة المصري من مجرد النظر إلى أفراد الناس سائرين في الطريق أو زارعين حقولهم أو صانعين هذا أو ذاك في مصانعهم، لكننا نرى هذه الطبيعة المصرية بما يشبه طبيعة العين إذا استخرجنا من تفصيلات الحياة العملية مبادئها النظرية المبثوثة في تضاعيفها وحناياها. ومثل هذه الرؤية كما هو واضح يمكن أن يقال عنها إنها من الشعب وإليه.
ويفيدنا في هذا الموضع من الحديث أن نقول إن استخلاص الدعائم النظرية من وجوه الحياة العملية هو من صميم الفكر الفلسفي، أنى كان وأينما كان. فإذا وجدنا معظم الفلاسفة الإنجليز - مثلا - ينحون منحى المذهب التجريبي الذي يرد معرفة الإنسان إلى «حواسه»، عرفنا أنهم إنما غلب عليهم هذا الاتجاه لأنه هو نفسه الاتجاه الأغلب في حياة الشعب البريطاني. وقل ذلك في فلسفة الأمريكيين «البراجماتية» (أي العملية)، وفي فلسفة الفرنسيين حين كانت «عقلية» أو في منحاها الوجودي المعاصر. ثم قل ذلك نفسه أيضا في فلسفة المسلمين حين كانت للمسلمين فلسفة؛ لأنك واجد فيها كل ما كان يشغل العقل الإسلامي من مشكلات، ومنها - مثلا - كيف يفهمون الأفكار الإسلامية ذات الأثر المباشر في حياة المسلم، كالإرادة بين الحرية والجبرية، وكالتوحيد، والعلاقة بين ما نزل به الوحي وما جاء عن طريق العقل، وهكذا ... كل هذه الفلسفات هي بمثابة رؤى فكرية استخلصت من حياة الناس ثم ردت إليهم.
Halaman tidak diketahui