أخلاق الحيوان
قال لي صديق وهو بمعرض المقارنة بين الكلب والقط، إن في الكلب ودا خالصا وفي القط أنانية، فإذا قفز الكلب إلى حجر سيده كان ذلك حبا في سيده، أما إذا وثب القط إلى حجر سيده كان ذلك التماسا للدفء. ثم تشعب الحديث بيننا في أخلاق الحيوان، وعجبنا أن نجد شتى الخصائص الخلقية - حسنها وقبيحها - متمثلة في صنوف الحيوان، كأنما جاءت هذه الصنوف المتباينة نماذج تعرض أمام الأنظار خصائص الأخلاق في أصفى صورها؛ فالذئب غادر، والحمل وديع، والثعلب مراوغ، والكلب ألوف، والصقر جبان، والغراب مغرور، والقرد خبيث، والليث شجاع، والفيل حقود ... وهكذا.
لكنه هو الإنسان، الذي أراد أن يخلع نفسه على سواه، لكي يرى نفسه متمثلا في كل من عداه وما عداه.
التعاون فطرة
قال حافظ إبراهيم يصف عدم تعاون المصريين: «المصري والمصري كشعبتي المقراض، لا يلتقيان لشيء إلا افترقا.» ومثل هذا القول يردده كثيرون، وحسبنا نظرة يسيرة عابرة إلى أصول مجتمعنا، لنرى بطلان هذه الدعوى ؛ إذ نرى «التعاون» جذرا أصيلا من جذور هذا المجتمع، نؤديه بغير تكلف ولا تصنع؛ لأنه تعبير عن روحنا وفطرتنا.
وإنما جابت برأسي هذه الفكرة عندما ذهبت إلى قرية ريفية منذ قريب لأقوم بواجب العزاء في مصاب ألم بصديق، فما أقبل وقت الغداء ثم ما أقبل وقت العشاء، حتى رأيت «الصواني» خارجة من كل باب، تعاونا من أهل القرية على استضافة الغرباء؛ وعندئذ عادت بي الذاكرة إلى طفولتي وشبابي، عندما كنت أقضي إجازات الصيف مع جدتي في الريف، فتذكرت عشرات الأمثلة الدالة على تأصل روح التعاون في أهل القرية بفطرتهم؛ فإذا خبزت واحدة من سكان الحارة خبزت معها الباقيات، وإذا جلست الواحدة لتفتل «الشعرية» جلس معها الباقيات يفتلن معها حتى تفرغ من هذه المهمة الدقيقة الطويلة؛ هذه تستعير الإبرة من تلك، وتلك تستعير قليلا من سكر أو ملح من هذه. يمرض الولد في بيت فينهض أهل الحارة عن بكرة أبيهم للمعونة؛ فجار يذهب مسرعا إلى «البندر» ليشتري الدواء، وجارة تكرس يومها لأداء واجبات الدار من تنظيف وطهو للطعام كي تخلو أم المريض لرعاية مريضها. وإذا قلنا مع القائل إن الحياة قوامها ثلاثة أحداث هامة، هي: الولادة، والزواج، والموت، فانظر إلى هذه الأحداث الثلاثة بالذات كيف يتعاون لها أهل الريف؛ فهل تلد والدة إلا وساكنات الحارة جميعا خادمات لها معينات؟ وهل يتزوج فتى أو فتاة إلا والفرحة تملأ سكان الحارة جميعا كأنما الفتى أو الفتاة عندئذ فتاهم جميعا أو فتاتهم؟ ثم هل يموت من سكان الحارة عضو إلا والمأتم مأتم الجميع؟ ... انظر إلى فكرة «النقوط» النابعة من فطرتنا الأصيلة، وهل هي إلا نظام للتأمين الجماعي بأدق معناه؟ فدافع «النقوط» إنما يدفع «بوليسة التأمين» أقساطا لهذه الأسرة وتلك، حتى إذا ما جاءته الظروف التي يلقى عليه العبء ثقيلا، تدفق عليه «النقوط» راجعا إليه متجمعا في مبلغ يسد الطارئة.
إلا أن الدعوة اليوم إلى «التعاون» إنما هي دعوة إلى فطرة فينا وليست بغريبة عنا كما يقول المتشائمون. وإني لأعود إلى عبارة حافظ إبراهيم نفسها : «المصري والمصري كشعبتي المقراض لا يلتقيان لشيء إلا افترقا.» فألاحظ أنها ترد على نفسها بنفسها؛ لأن شعبتي المقراض حين يفترقان بعد لقاء ، فهما يفترقان بعد أداء المهمة التي التقيا لأدائها، وهذا هو التعاون في لبه وصميمه.
الأرانب العفاريت
قصة شهدت حوادثها منذ ثلاثين عاما ولا أزال كلما ذكرتها أغرق في الضحك؛ ففي ليلة مقمرة من ليالي الصيف، أخذنا نسمر في الحقل إلى ما بعد منتصف الليل، ابن عمتي - وهو مالك الأرض - وصديق له ريفي وأنا. وفي هداة الليل؛ حيث يجيئك صرير السواقي من بعيد مرة ومن قريب مرة، والضفادع تنق هنا وهناك وفي كل مكان نقيقا موصولا لا مقطوعا ولا ممنوعا، والجنادب تغني لها كأنما هي البطانة الموسيقية، والبعوض يلسعني ولا يلسع زميلي، أو قل إنه كان يلسعني فأفصح عن لسعاته آنا بعد آن، ويلسع الزميلين فلا يفصحان.
ومضينا في السمر، أحدثهما عن القاهرة ويحدثانني عن الريف. وما إن جاء ذكر الأشباح والعفاريت، حتى كنت أنكر أنباءها وأسخر، وينكر معي ابن عمتي ويسخر. وأما صديقه الريفي فقد راح يؤيد قصة بقصة، ويشهد على صدق روايته برواية أخرى. وكان كلما زادنا من أمرها نبأ، زدناه من سخرنا سخرية، وكانت هذه السخرية في رأيه كالكفر سواء بسواء. أننكر ما تراه الأعين وتحسه الأيدي؟ إن العفاريت لتظهر للناس في ألف صورة، وكل أهل القرية يعلمون علم البصر الذي لا يخطئ أنها - مثلا - كثيرا ما تظهر على هيئة الأرانب في الليالي المقمرة بصفة خاصة، وهي أكثر ما تظهر على هذه الصورة في المنطقة المحيطة بالمسجد.
Halaman tidak diketahui