فأما قول ابن الرومي مناقضا لهذا الباب، وذاكرا أن التأسي غير مخفف للمصاب:
وما راحة المرزوء في رزء غيره ... أيحمل عنه بعض ما يتحمل
وضرب من الظلم الخفي مكانه ... تعزيك بالمرزوء حين تأمل
لأنك يأسوك الذي هو كلمه ... بلا سبب لو أن رأيك يعدل
وقوله:
ومعز عن الشباب مؤس ... بمشيب اللدات والأصحاب
قلت ... لما انتحى يعد أساه
من مصاب شبابه فمصاب
ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما به ما به، وما بي ما بي
وقول الآخر:
رأيت التأسي مما يهيج ... على المرء ساكن أوصابه
وما نال ذو أسوة سلوة ... ولكن أتى الحزن من بابه
تذكر في مثله أو رآه ... فأذكره ما به ما به
فذاك من تمويه الفصيح وخدعه، وتصرف البليغ وتنوعه، وإلا فالأول هو الصحيح الذي جاء في الكتاب والسنة. قال الله - تعالى -: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) وقال: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة) .
ولولا أن الاجتماع يخفف كل ما ينوء، والاشتراك يهون صعب ما يسوء، لما قال الله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) لأنه نفى عنهم الانتفاع بالاشتراك في العذاب تغليظا عليهم لما قدموه من الظلم.
وقال رسول الله ﷺ: (تأسوا في مصائبكم بي) .
وذلك في كلام البلغاء، ونظم الشعراء أكثر من أن يحاط به.
معلوم أن مالكنا الملك السيّد الأجل الأفضل، ونعوته والدعاء له (...) سيد ملوك الزمن، ومن فاز بجزيل ثواب الله في حالتي المسرة والحزن. أما المسرة؛ فلأنه يشمل بها جميع عبيده ورعيته، ويستخلص دعاء كل منهم بكريم فعله وجميل نيته، وأما في الحزن؛ فإنه يستعمل حسن الصبر في الأمور التي لا حيلة في دفعها، ويدل بذلك على استحقاقه ما خصه الله به من إعلاء المنزلة عنده ورفعها، لا يرى في العظائم إلا صابرا مسترجعا، ولا ينفك وجهه إلا مسفرا وإن كان متوجعا متفجعا، إذا نازله هم لقيه من الرضى والتسليم بالجيش اللجب المجر، وإذا سما إليه خطب عرف شرف ما يناله في الصبر عليه من جزيل الأجر، على أن محله أعلى وأعظم من أن يكون من الأقدار إلا مخدوما، ومكانه من الله - جل وعز - يكاد يجعله من الأمور الحتمية موقى معصوما. ولما طرق - خلد الله ملكه - بالحادث الجلل، ودهم بالرزء الذي لولاه لرمي عرش المملكة بالثلل، من وفاة أخيه من جهة نسبته، وولده لكفالته إياه وتربيته:
ومن كان يستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر في الشكوى وإن عظم الأجر
الأجل المظفر، سيف الإمام، جلال الإسلام، شرف الأنام، ناصر الدين، خليل أمير المؤمنين، الذي حلت وفاته من كل عين عقد وكائها، وأجرى فقده سواد النواظر في نجيع بكائها، وبغت القضاء فيه بأجور حكمه، وأنكر فعله، وشوهد من يومه الأنكد الشنيع ما لم تتمخض المنون بمثله:
ما إن سمعنا بطود قبله طفقت ... أنامل تتهاداه وراحات
تنافست أعين الباكين حين بكوا ... كأنما أعين الباكين ضرات
ولقد عفت منيته سبيل التماسك والجلد، وأتت غبطته بما لم يجر في الخاطر ولا جال في الخلد، لأنه - قدس الله روحه - صار إلى رحمة الله ورضوانه، وانتقل إلى جواره وسكنى جنانه، وهو في ريعان عمره وأوله، وشرخ شبابه ومستقبله، مع حسن تركيبه وبنيته، والحكماء في خدمته وتدبير صحته:
بنفسي مولى أسلمته عبيده ... ومرتحل لم ينتظر أن يودعا
لقد راضه الموت الكريه مذاقه ... ولو لم يرض لم يرض بالأرض مضجعا
ولا اتخذ الغبراء دار إقامة ... وقد كان مثواه من النجم أرفعا
فلست ترى إلا مختنقا بعبرته، متنفسا عن نار حسرته، عادما لسكونه وصبره، باكيا على انقطاع أمله، وانفصام ظهره:
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنة وزفير
فما يغتبط بدنياه من تأمل هذا الحين، ولا يأمن فيظ النفس إلا من طمع بالصبر وأين وأين؟
وكل أسى لا تذهب النفس بعده ... فما هو إلا من قبيل التصنع
ولئن مضى إلى جوار الله الكريم، وانتقل إلى ما أعد له من النعيم المقيم؛ فللكافة ما مالكها - ثبت الله دولته - من دوام ظله مسل عن كل موال، وبقاؤه محسن الخلف عن كل من مضى وسلف:
1 / 54