تغدو القماري والبازي يحفظها ... كأنما بينهم في جوها رخم
كأنها جنة فالقاطنون بها ... لا يستطيل على أعمارهم هرم
إن أنبتت أرضها زهرا فلا عجب ... وقد همت فوقها من كفك الديم
وقول الآخر:
عزت على الشعراء مدحة خيمة ... فوق النجوم أساسها أشطان
لما مثلت بها ظننت بأنها ... دار الخلود أباحها رضوان
مما عارض المملوك فيه من سبقه، وبعثه على إيراده رضى من استجاده واستوقفه.
قد بالغ الناس في استحسان قول ابن سورين فيما كتب به عن الإمام الحاكم بأمر الله ﵇ إلى عامل القدس في إخراب قمامة وهو: صر إلى قمامة؛ فاجعل طولها عرضا، وسماءها أرضا. واتفق للملوك لما سمع هذا الفصل أن استحسنه، واستجاده على حسب ما أمكنه، فلم يقنع مورده بما وصفه به وقرظه، فاعتمد في تكثير المدح ما أثقل السمع وبهظه، فقال المملوك: لو قال صر إلى قمامة فأزل باطلها، واجعل عاليها سافلها.
أو قال: فعفها بالمحو والطمس واجعلها حصيدا لم تغن بالأمس، لكان أشرف لترصيعه اللفظ بالقرآن، وترتيبه المعنى في أعلى طبقات البيان.
فقال راوي فصل ابن سورين: فضيلة هذا الفصل قلة حروفه، وفرط إيجازه، وإن من تحدي به على حقيقة تعذره وإعجازه.
فقال المملوك: أنا أذكر هذا المعنى بلفظ أصنع وأقصر، ومعنى أجمع وأحصر، فطولب أن يوفي الضمان، وقيل له: من نقض مان، فقال ما لا موضع فيه لحذف ولا سبيل إلى تحقيقه بحركة ولا حرف، مع استيفاء المعنى، وأن أحدًا لا يجد فيه طعنا. وهو: صر إلى قمامة، فعجل لها القيامة.
ففضل هذا الفصل على الأول أضعافا، وبولغ في وصفه إلى أن تفادى المملوك وتعافى؛ وعلة ذلك أن هذه الأيام الشريفة التي فخرت بمالكها على غيرها من العصور، وخرجت فضائلها عن المحدود والمحصور، قد فاضت أنوارها على كل عالم ومتعلم، وسرى شعاع سعدها إلى كل ناطق ومتكلم، ولما اتفق كون هذا الفصل في التعفية على متعبد أهل الشرك، وتدمير ما يصنعونه فيه من الضلال والإفك؛ اختصره مملوك مولانا كما اختصرت مشرفيه أعمارهم وآجالهم، وضيق فيه على مقتفيه كما ضيقت هيبته منفسحهم ومجالهم، عملا بالهذيبات المالكة (على ما اقتضته الشيمة الفاضلة)، وتأدبا بالتثقيفات الأفضلية بحسب ما وصلت إليه آلته القابلة، والله يمد ظلها فهو أفضل موجبات هذه الدنيا وأسباب وجودها، وموزع الكافة شكر النعمة فيما غمرهم من كرمها الفائض وجودها، بفضله وقدرته وطوله ومشيئته.
فصل من نادر ما جاء في بابه وأقوى دليل على إبداع قائله وإغرابه
قال أبو عبد الله التميمي اللغوي المعروف بالقزاز لبعض تلاميذه:
أحاجيك عياد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلا من صديق وصاحب
فأجابه:
سأكتم حتى ما تحس مدامعي ... بما انهل منها من دموعي السواكب
فكان تصحيف: عياد كزينب، بعد عكسه: سرك ذائع، وقال الآخر: سأكتم، فأجاب على الظاهر إجابة حسنة، وتصحيف: سأكتم، بعد عكسه: منك أتيت، وفيه مقابلة لقوله: ولم تؤت إلا من صديق وصاحب والمملوك يقول: معجز هذه الحكاية أن المجيب ذكر كلمة كل من مستقيمها وتصحيف معكوسها جواب لما حوجي به.
وتسمية هذا النوع المحاجاة لدلالة الحجى عليه.
وعلى ذكر التصحيف فمن بديعه: نصحت فضيعت، وهو تصحيف صعب. وقولهم فيما يصحف بعد عكسه: أذناه جرح يسيل.
وهذا: ليس يحرجه أبدا.
فصول تشتمل على ضروب أبدع البلغاء فيها وأحسنوا، وتنوعوا في أصنافها وتفننوا في خدع البيان وتمويه الفصاحة
حكى حسن بن محمد البسامي قال: رأيت علي بن با منصور الديلمي، وكان من مفاخر الديار، وله شعر يدل على غزارة أدبه، وحسن طريقته في النظم ومذهبه كقوله:
ترى في ابيضاض الكأس حمرة خده ... فتحسبها ملأى ولا شيء في الكأس
قال البسامي: وكانت رؤيتي إياه بحمص جالسا على بعض الدكاكين، وكان أعور، فاستثقلت شخصه، وقيل لي: إنه شاعر فأردت العبث به فقلت: أيها الشاعر، عملت في عورك هذا شيئا؟، وانتظرت أن ينقطع ويخجل، فقال: نعم، وأنشدني:
لست آسى لفقد إنسان عيني ... وجميع الجمال في معتاضه
وحبيبي من مقلتي أخذ الخا ... ل وأعطى سوادها من بياضه
فاقشعر بدني منه، وعلمت أنه من الصيد الذي لا يحل أكله!
1 / 40