ومن المحكي عنه قوله - وذكر بشارًا وكان يرمى بالزندقة ولهذا قتله المهدي -: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه! فقال: الأعمى، ولم يقل: الضرير، وقال: المكتني بأبي معاذ، ولم يقل: بشارًا ولا ابن برد، وقال: من أخلاق الغالية، ولم يقل: المغيرية ولا المنصورية، وقال: لبعثت إليه، ولم يقل: لأرسلت (إليه)، وقال: على مضجعه، ولم يقل على فراشه! ومما قيل فيه:
ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث إشفاقا من المطر
ومن اللغز الذي تضمن خبيا وسرا، وأحسن قائله إذ عمى فيه وورى، إلا أن إيراده هاهنا يجعل خافيه ظاهرا، ومبرقعه سافرا قول الشاعر:
ولما رأيت الشيب راء بعارضي ... تيقنت أن الوصل لي منك واصل
فخص الراء لحفظه المعنى الذي قصده وإحرازه، وأحسن التوصل بواصل إلى تجنيسه وإلغازه.
وللرستمي في الصاحب:
نعم! تجنب: لا يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لثغة الراء
ولما أكثر الناس من تقريظ هذا الفن ووصفه، وادعى قوم أن المتعرض له إنما يخبر عن عجزه وضعفه؛ اعتمد المملوك تأمله وتدبره، واستنجد، فيما يعرب به، رويته وتفكره، فلم ير أن يكون لهذه السبيل مقتفيا، ولم ترض له الخدمة الشريفة أن يلفى في هذا الباب مصليا، فعمل في مولانا شعرا لم تجتنب فيه الراء، وإذا قرأه الألثغ أفاد معنى يزول في استحسانه المراء، وكان في ذلك من الإعجاز أن الصريح والمستعجم، والفصيح والمتلعثم إذا أخذوا ي ذكر أوصاف مولانا لم يشكل اللفظ الذي يوردونه، ولم يستبهم المعنى الذي يؤدونه، ولم يعتذر بأن اللثغة أفسدت المراد ولا حالت دونه، وتساوت في روايتها الآلة الصحيحة والسقيمة، وتماثلت في تلاوتها الألسنة المعوجة والمستقيمة، وأجرى المملوك ذكر هذه الجملة مع محمود ابن القاضي الموفق، إذ كان الإغراب في الصفات الشريفة من مذهبه، والإبداع فيها من بغيته وأربه، فلما رأى هذه الطريقة من أسلوبه وشرطه؛ بالغ في استحسانها وعمل لوقته:
وذات وجهين أتت بدعة ... غايتها في الحسن لا تبلغ
قافية رائية فيك لا ... يعاب في إنشادها الألثغ
وشفعه بأن قال:
يا ملكا فائض إحسانه ... في كل آفاق الدنى سائر
وصفك عندي ذهب خالص ... نظمي له حيث انتهى صائر
والذي عمله المملوك:
من شاء جمع معال قد خصصت بها ... وجاوزت كل حد لم ينل (...)
وكيف تستطيع أن تحصي فضائلها ... وزندك الغر مهما تقتدحه (وري)
ثم رأى المملوك أن لا يخلي النثر من هذا النوع الذي تتعب الأفكار في طلبه، وأن يورد فصلا يتوخى فيه ذكر الشيء على ما هو به، فعمل في وصف مالكه ثبت الله قدرته، وأدام سلطانه ودولته: ملك أبان الله إعلاء رايته فازدانت بأوصافها المحافل، وتاه الزمن بمحاسنه فهو عن الإساءة لاه رافل، قد سارت بالألسنة والأفواه مدائحه، وصارت حلى المجامع والأندية منائحه، وأصبح الكافة من ظله في رياض أنيقة، ورامت السماء إحياء للأرض فخدمته بذاك على الحقيقة.
ولما انتهى إلى هذا الحد أمل خاطره عليه من غير روية، ونظم - عفوا - ما يشهد بصحة هذه القضية:
لما غدوت مليك الأرض أفضل من ... جلت مفاخره (عن كل إطراء)
تغايرت أدوات النطق فيك على ... ما يصنع الناس من (نظم وإنشاء)
ثم اقتضت فكرته، وأوجبت خدمته أن يجعل هذه القافية على وجوه من الروي، عملا بما رآه منسوبا إلى ابن نباتة والشريف الرضي، لتشترك الحروف في حظ من الشرف واف، وتتبين فضيلة مجيئها متناوبة في قواف. والمنسوب إلى الشريف وابن نباتة:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته ... إلا المقسم بين الخيل والإبل
يطوي حشاه إذا ما الليل عانقه ... على وشيج من الخطي معتدل
والتعبير الأول:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته ... إلا المقسم بين الجرد والكوم
يطوي حشاه إذا ما الليل عانقه ... على وشيج من الخطي محطوم
والثاني:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته ... إلا أخو الحرب والجرد السلاهيب
1 / 36