منذ هذه اللحظة يصبح العلم ممكنا. أما قبل ذلك وطوال الوقت الذي كان وجود العالم الخارجي أو سلامة الأدوات التي نعرفه بها معرضا فيه للشك، فكان من المحال تصور أي علم، وهكذا يكون هدف تلك الرحلة الطويلة في ميدان الميتافيزيقا هو أن يمهد «سلبيا» لظهور العلم، بمعنى تبديد الشكوك التي كانت تمنع من قيامه، كأن ديكارت، بعد أن ينتهي من مذهبه الميتافيزيقي، يخاطب رجال العلم قائلا : «الآن يمكنكم أن تبدءوا بحثكم العلمي وأنتم مطمئنون، بعد أن أثبت أن الموضوعات التي تبحثونها غير معرضة للشك، وأن وسائلكم في معرفة هذه الموضوعات موثوق بها». وبعبارة أخرى؛ فالميتافيزيقا تنتهي بذلك الضوء الأخضر الذي يبدأ بعده العلم في الانطلاق وعند هذا الحد ينتهي دورها.
هذا الرأي ينطبق - كما قلنا - على تفسير معين لجذور شجرة المعرفة، يجعل هذه الجذور ممهدة للنبات الكامل فحسب. ويمكن القول: إن وجود الجذور (تحت الأرض) يرمز بوضوح لهذه الطبيعة «السلبية» للميتافيزيقا الديكارتية. وحين تكون الفيزياء والعلوم التطبيقية هي الجذع والثمار - أي هي الجزء الظاهر فوق الأرض - يصبح المعنى الواضح لذلك هو أن هذه هي المعارف «الإيجابية» التي تضيف إلى حصيلتنا من العلم، بينما الميتافيزيقا تكتفي بأن تجعل هذه المعارف ممكنة، وبأن تفسح لها مجال الانطلاق، ثم تتركها وشأنها، أي تظل متوارية «تحت الأرض».
وعلى أساس هذا التفسير تكون الميتافيزيقا عند ديكارت وسيلة لا غاية؛ فهي - برغم كل ما أولاه إياها مؤرخو الفلسفة من اهتمام - أداة يستخدمها ديكارت لكي يصد عن العلم هجمات تجعل قيامه مستحيلا. ولكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود لذاته هو العلم النظري والتطبيقي. (5) فما هي الأسباب التي تجعل هذا التفسير يبدو معقولا؟ (1)
أول هذه الأسباب هو ضعف بناء الميتافيزيقا الديكارتية. والواقع أن الكلام عن جوانب الضعف في هذه الميتافيزيقا يمكن أن يستغرق مجلدات بأكملها، وعلى الرغم من أن ديكارت كان له على الدوام مريدون يدافعون عن كل ما قال، فإن خصومه قد ظهروا منذ اللحظة الأولى، وسرعان ما أدركوا أن بناء الميتافيزيقا الديكارتية غير متماسك، وأن الحجج التي ساقها للدفاع عن آرائه غير مقنعة.
ففكرة الشيطان الخادع (
Malin génie ) إذا أخذت بجدية، وإذا مضينا فيها إلى آخر مداها استخلصنا كل ما تنطوي عليه من مضامين يمكن أن تهدم فلسفته بأكملها، وتجعل «الكوجيتو» ذاته غير مضمون. أما قضيته الأساسية، وهي «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، فقد كانت - وما زالت - موضوعا للنقد الشديد بوصفها قضية مليئة بالمسلمات التي لا يبرهن عليها؛ ومن ثم فهي متناقضة مع نفس المنهج الرياضي الذي دعا إليه ديكارت، والذي يفترض إثباتا حاسما لكل مقدمة يرتكز عليها الاستدلال الفلسفي. ولكن إذا كان ديكارت نفسه قد رد على الاعتراضات التي توجه إليه في هذا الصدد، وإذا كان كثير من شراحه يؤكد أن من الممكن الدفاع عنه ضد كل نقد يوجه إليه في هذا الصدد، فإن براهينه على وجود الله قد أثبتت أنها أضعف من «الكوجيتو» بكثير، ولم تستطع أن تقنع عددا كبيرا من معاصريه، حتى أولئك الذين كانوا حريصين كل الحرص على إيجاد مثل هذه البراهين. بل إن لاهوتيا كبيرا من خصومه - وهو فويتيوس
Voetius
الذي كان مديرا لجامعة «أوترخت» وأستاذا للاهوت بها - قد اتهمه بالإلحاد والدجل والادعاء؛ لأن براهينه على وجود الله ضعيفة ضعفا مقصودا، الهدف منه زعزعة الإيمان. وقد ترتب على هجوم «فويتيوس» هذا اتخاذ إجراءات قضائية ضد ديكارت، كادت أن تؤدي إلى محاكمة لولا تدخل أصدقائه لدى بلاط أمير «أورانج»، وتكررت هذه القصة نفسها في ليدن، حيث هاجمه لاهوتي آخر اسمه «ريفيوس»
Revius
ووصل الأمر إلى القضاء في عام 1647م، فكان لا بد من تدخل السلطات العليا مرة أخرى لإنقاذه من المحاكمة، وإن كانت الأوامر قد صدرت بتحريم نشر تعاليمه في الجامعات،
Halaman tidak diketahui