كذلك ينبغي علينا أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، وهي أمور تظهر أوضح ما تكون في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء، وهي الطباعة والبارود والبوصلة؛ ذلك لأن هذه المخترعات الثلاثة قد غيرت وجه العالم بأسره: الأولى في ميدان العلم، والثانية في ميدان الحرب، والثالثة في الملاحة، وهي قد أحدثت تغيرات لا حصر لها؛ بحيث يمكن القول: إن أية مملكة أو مذهب ديني أو نجم فلكي
30
لم يكن له من التأثير في شئون البشر أعظم مما كان لهذه الكشوف الميكانيكية.»
وجدير بنا أن نميز بين ثلاث مراتب من الطموح: الأولى طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوة بلدهم وسيطرته على البشر، وهو طموح أرفع من السابق. ولكنه لا يقل عنه طمعا. أما إذا حاول امرؤ أن يستعد ويوسع قوة الجنس البشري في عمومه، فإن مثل هذا الطموح (إن جازت تسميته بهذا الاسم) إنما هو أشرف وأنبل من النوعين السابقين معا؛ على أن سيطرة الإنسان على الأشياء إنما تقوم على الفنون العلمية والعلوم وحدها؛ إذ إن الطبيعة لا تحكم بإطاعتها.
شجرة الفلسفة عند ديكارت
(1) هدف البحث
في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة» يقدم ديكارت تشبيها مشهورا للفلسفة بشجرة لها جذور وجذوع وفروع تحمل ثمارا، وهدفنا في هذا البحث هو أن نحلل المعاني المختلفة لهذا التشبيه، ونستخلص منها التفسيرات التي يمكن استخلاصها للعلاقة بين مباحث الفلسفة عند هذا الفيلسوف الكبير؛ ذلك لأن من الممكن أن يفسر هذا التشبيه بأكثر من طريقة واحدة، على عكس الاعتقاد الشائع في الكتابات المألوفة عند ديكارت، ولكل من طرق التفسير هذه مبرراتها القوية المستمدة من فلسفة ديكارت ذاتها، ومن وجهة أخرى فإن دلالة هذا التشبيه لم تبحث بحثا كافيا، على الرغم من شيوع استخدامه في الكتب الفلسفية المتخصصة وغير المتخصصة، وإنما كان يقتبس في معظم الأحيان بوصفه نوعا من «تصنيف» العلوم الفلسفية فحسب، وسوف يتبين لنا خلال هذا البحث أن طريقة تفسير هذا التشبيه تثير مشكلات أساسية تتعلق بصميم الفلسفة الديكارتية، بل تتعلق بوضع الفلسفة كلها في مطلع العصر الحديث، وبالصراع العلني أو الخفي بين الفيلسوف وبين القوى التي كانت معادية للأفكار الجديدة في ذلك العصر. (2) نص التشبيه
يتحدث ديكارت، في المقدمة المذكورة، عن الإنسان الذي يريد أن يكون عاقلا وعارفا بحق، فيقول عنه: إنه «ينبغي عليه أن يعكف على الفلسفة الحقة، التي يتألف الجزء الأول منها من الميتافيزيقا، وهي تشمل مبادئ المعرفة، وضمن هذه المبادئ بيان الصفات الأساسية لله، ولا مادية نفوسنا، وكل الأفكار الواضحة والبسيطة التي توجد فينا، أما الجزء الثاني فهو الفيزياء، التي يبدأ المرء فيها بالاهتداء إلى المبادئ الحقيقية للأشياء المادية، ثم يبحث بوجه عام في كيفية تركيب الكون كله، وبعد ذلك يبحث بوجه خاص في طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام التي يشيع وجودها حولها كالهواء والماء والنار والمغناطيس والمعادن الأخرى، وبعد ذلك ينبغي إبداء اهتمام خاص بطبيعة النباتات والحيوانات، واهتمام أخص بطبيعة الإنسان، حتى يتسنى للمرء بعد ذلك الاهتداء إلى العلوم الأخرى المفيدة له. وهكذا فإن الفلسفة كلها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، جذعها الفيزياء، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي ترتد إلى ثلاثة علوم رئيسية: هي الطب والميكانيكا والأخلاق، وأنا أعني بهذه الأخيرة أسمى أخلاق وأكملها، أي تلك التي تفترض معرفة كاملة بالعلوم الأخرى، والتي هي أقصى مراتب الحكمة.
ولما كان المرء لا يجني الثمار من جذور الأشجار ولا من جذعها، بل من أطراف أغصانها فحسب، فإن الفائدة الكبرى التي تجنى من الفلسفة تتوقف على أجزائها التي لا يتسنى للمرء تعلمها إلا في آخر المطاف.»
1 (3) الهيكل البنائي للتشبيه (1)
Halaman tidak diketahui