ذلك لأن مرونة المال النقدي وسهولة تبادله وتشكيله بأشكال مختلفة، أدت إلى تحرر الأفراد الذين يملكونه من الارتباط بالمكان الثابت الذي كان من قبل هو المصدر الوحيد للثروة؛ وأعني به الأرض الزراعية، وزيادة قدرتهم على التنقل من مكان إلى آخر، بل من وطن إلى وطن. وكان هذا من العوامل الأساسية التي أدت إلى أن تصبح المدن مركز الثقل في الحياة الاقتصادية في العصر الرأسمالي، بعد أن كانت هذه الحياة تتركز من قبل في الريف؛ فالحضارة الرأسمالية حضارة مدن قبل كل شيء. بل إن بقايا الطبقة الإقطاعية حين شعرت بالضعف - نظرا إلى ثبات دخلها وافتقارها إلى المرونة - أخذت في بيع أراضيها وتحولت إلى المدينة مستهدفة تحقيق مطالبها فيها؛ وبذلك ازدادت أهمية الريف ضآلة، وساهم الإقطاع في هدم نفسه بنفسه، وكلما توطدت دعائم حياة الحضر؛ ازداد المجتمع تعلقا بها؛ إذ يجد في المدن خير مجال لتبادل السلع وكذلك لتبادل الأفكار؛ ذلك لأن التبادل التجاري كان على الدوام أيسر الطرق لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف الجماعات.
وكما أدى التبادل النقدي إلى زيادة المرونة في التنقل المكاني، فإنه أدى أيضا إلى زيادة المرونة الاجتماعية؛ ذلك لأن مكانة الفرد لم تعد متوقفة على ما يملكه من الأرض الزراعية، أو على لقبه الوراثي، بل أصبحت تتوقف على مقدار ما يستطيع تكديسه من المال، والمال قيمة اقتصادية تجريدية، لا شأن لها بالأشخاص، تعطي من يملكها - أيا كانت صفاته الأخرى - قوة ونفوذا في المجتمع. وحين لا يعود للعوامل الشخصية دور في تحديد طابع الملكية، أي حين تصبح الملكية ذات صبغة لا شخصية محايدة، فإن الفوارق الجامدة بين الطبقات تبدأ في الزوال، ويصبح الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى أمرا ممكنا إذا توافر المال اللازم. وهكذا فبينما كانت الوراثة والأصل العائلي تحول دون انتقال أي شخص من الطبقات الدنيا إلى الطبقة العليا إلا في أحوال نادرة، فإن مثل هذا الانفصال أصبح الآن أمرا ممكنا. بل إن الطبقة العليا القديمة أصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بمكانتها، وأصبحت فرص من لا ينتمون إلى هذه الطبقة في الارتقاء أكبر من فرص كبار الملاك الوراثيين؛ لأن أسلوب التعامل النقدي والتجاري لم يكن غريبا بالنسبة إلى الأولين.
وحتى في الحالات التي لم يكن فيها الارتقاء إلى الطبقة العليا ممكنا، كان العامل الذي يظل في الطبقة الدنيا أكثر تحررا من الفلاح المرتبط بأرض الإقطاعي في نواح متعددة؛ ذلك لأن العامل يتلقى أجره نقدا، على حين أن الثاني يتلقاه - في الأغلب - عينا. وحين يتخذ الأجر صبغة النقد القابل للتداول الحر في أشكال لا حصر لها، يستطيع العامل أن ينفقه كيفما شاء وأينما شاء، ويصبح له بالتالي مزيد من الحريات من الوجهة النظرية على الأقل.
وهكذا يتضح لنا أن شكل التبادل النقدي لم يقتصر تأثيره على المجال الاقتصادي البحت فحسب، بل لقد امتد هذا التأثير حتى أضفى على الحياة بأسرها طابعا جديدا، وسوف تزداد هذه الحقيقة وضوحا عندما ندرس السمات المميزة للعصر الرأسمالي المبكر. (ب) السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة (1)
بينما كان العصر الإقطاعي عصر ثبات وجمود في الأفكار والعادات والقيم، أصبح التغيير هو شعار العصر الرأسمالي في مراحله الأولى، فلم يكن الإنسان في ذلك العصر يؤمن بوجود أي نظام راسخ لا يتغير، سواء في الطبيعة أو في المجتمع، بل كان يعتقد اعتقادا جازما بأن قدرته على التغيير تسري على كل شيء، وبأنه لا توجد عوائق تمنعه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعليته فيها. (2)
كان ذلك عصرا اكتشف فيه الإنسان نفسه والعالم المحيط به من جديد. فبعد أن كان اللاهوتيون يوهمونه بأن العالم الآخر هو وحده الذي ينبغي أن تتعلق به آمال الإنسان وتتجه نحوه جهوده، أصبح يتجه بكل قواه نحو استطلاع آفاق العالم الطبيعي بكل تفاصيله، وتمثل ذلك في حركة الكشوف الجغرافية التي تضاعفت بسببها أبعاد العالم المعروف للإنسان، وكشفت فيها قارات جديدة مليئة بالثروات وإمكانات الاستغلال، كما تمثل في عكوف العلماء على كشف أسرار الطبيعة بمناهج واقعية وتجريبية دقيقة، وحرصهم على ملاحظة تفاصيلها ملاحظة تشريحية دقيقة وكأنهم يكتشفون العالم المحيط بهم لأول مرة. (3)
ولم يكن من الممكن أن يتم هذا التحول لو لم يكن الإنسان في ذلك العصر قد أصبح متفائلا معتدا بنفسه وبقواه، مؤمنا بأهمية العمل، وبأن كل جهد يبذله لا بد أن يعود عليه بمزيد من النفع والرخاء. ولقد كانت تلك بالفعل سمة بارزة من سمات المرحلة الرأسمالية المبكرة، ميزتها بوضوح عن المرحلة الإقطاعية التي كان يسودها الإحساس بالتشاؤم وبالانصراف عن العالم وبعدم جدوى أي جهد يبذله الإنسان في هذه الحياة. وكان للعقيدة البروتستانتية - التي أخذت عندئذ في الانتشار في أجزاء هامة من أوروبا بعد أن ظلت الكاثوليكية هي المذهب الرسمي للمسيحية طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام - دور هام في وضع أسس هذه النظرة الجديدة إلى العالم. بل إن بعض الكتاب - مثل ماكس فيبر
Max weber
وتاوني
Tawney - يرون أن للبروتستانتية تأثيرا مباشرا في ظهور الرأسمالية؛ ذلك لأن الروح البروتستانتية قد أزالت العوائق التقليدية التي كانت تقف حائلا في وجه الرغبة في التملك، ولم تكتف بتأكيد أن دافع الربح مشروع، بل قد نظرت إلى السعي إلى الربح على أنه أمر تتجه إليه الإرادة الإلهية مباشرة، وكل ما ينهى عنه الله هو الترف المفرط والتبديد. أما الاستخدام الرشيد للثروة من أجل تحقيق مصالح الفرد والمجتمع فأمر تدعو إليه العقيدة الجديدة بحماسة، كذلك كانت هذه العقيدة تعلي من قدر العمل الدائب المستمر الشاق، سواء أكان عملا يدويا أم عقليا. وفي ذلك كانت تختلف اختلافا واضحا عما تدعو إليه الفلسفة اليونانية - ممثلة في قطبيها الكبيرين: أفلاطون وأرسطو - من احتقار للعمل اليدوي، واعتقاد بأنه يحط من قدر من يشتغل به وينزع عنه إنسانيته. وهكذا كانت البروتستانتية تحمل بشدة على حياة التكاسل والاسترخاء، حتى بالنسبة إلى من تسمح لهم ثروتهم بمثل هذه الحياة، وقد بلغ الأمر بالعقيدة الجديدة إلى حد أنها دعت إلى ممارسة العمل لذاته، بوصفه شيئا يأمر به الله، لا من أجل ما يجلبه من جزاء. وكان ذلك في رأي البعض مظهرا من مظاهر حاجة الرأسمالية في بداية نشأتها إلى عمال يمكن استغلالهم اقتصاديا على أساس من العقيدة، وهو نوع من التبرير لم يعد ضروريا بعد أن اكتملت السيطرة للرأسمالية في مرحلة لاحقة من تاريخها. (4)
Halaman tidak diketahui