على أن البنائية قد تجاوزت مدرسة التحليل النفسي في نقطتين:
الأولى:
هي أن مدرسة التحليل النفسي أرجعت الأساطير والهفوات والأحلام إلى مجال اللامعقول والعشوائي، ورأت أنها تعبر عن الذهن الإنساني في عفويته وتلقائيته غير الموجهة. أما البنائية فرأت أن هذه النواتج الذهنية هي نشاط موجه نحو تحقيق أهداف معينة، وأن لها منطقها الخاص الذي يسري على مجال محدد ، ويختلف عن المنطق الشامل الذي تحاول الحضارة الحديثة أن تتوصل إليه. ولكنه يظل مع ذلك منطقا له دقته وانضباطه في مجاله الخاص.
أما النقطة الثانية:
فهي أن البنائية تلغي المركز المميز للحالة الحاضرة أو للباحث نفسه، بالقياس إلى الحالة الماضية التي كان يعيشها البدائيون؛ ففي التحليل النفسي نجد المحلل يحتل مركزا مميزا بالنسبة إلى الشخص الذي يحلله، ويعد نفسه مختلفا عنه، ما دام قادرا على كشف أبعاد أعمق من تلك التي يرويها المريض عن تجاربه العفوية. أما في البنائية وفي اتجاهها التحليلي عند لاكان
Lacan
فإن المحلل نفسه لا يعتبر نفسه سليما وسويا بالقياس إلى من يحلله، ولا يتخذ منه أي موقف متميز.
ولكن إذا استثنينا هذه الفوارق البسيطة، فمن المؤكد أن حركة التحليل النفسي كان لها تأثيرها المباشر في البنائية؛ وذلك لأنها قدمت إليها مبدأ أساسيا في فهم الإنسان، وهو أننا إذا أردنا أن نعرف العقل الإنساني في جذوره وأصوله الأولى - التي لا تزال تمارس تأثيرها فينا حتى اليوم (وإن كنا قد أضفنا إليها تعقيدات لا حصر لها) - فلنحلل ذلك «اللاشعور الجماعي» للإنسانية كما يتمثل في أساطير البدائيين.
هكذا قدم علم النفس الفرويدي لستروس الهدف العام لأبحاثه. ولكن أداة البحث قد أتت إليه من مصدر مختلف، هو علم اللغويات؛ ففي الأربعينيات من هذا القرن حين كان ليفي ستروس في أميركا التقى بباحث مشهور في علم اللغويات هو «جاكوبسون
Jakobson »، وتأثر إلى حد بعيد بطريقته في البحث عن بناءات لغوية تظل ثابتة مهما اختلفت اللغات المنفردة. وكانت اللغة تعبيرا عن النشاط الرمزي للإنسان، فلا بد أن هذه البناءات الثابتة تعبر عن مبادئ أساسية للعقل البشري، تنعكس على مجالات نشاطه الأخرى؛ ومن هنا جاءت فكرة المزج بين البحث في اللغويات والبحث الأنثروبولوجي، وتفسير الظواهر الاجتماعية عند البدائيين على أساس النموذج اللغوي الثابت، وهذا معناه تجاهل العامل التاريخي، وتأكيد فكرة القبلية
Halaman tidak diketahui