ثم آثرنا اللهو والعبث فأخذنا طريقنا عن يمين نحو الخط الحديدي نسعى هادئين. أما الآن فإني أحمد جدك وحزمك وشجاعتك وإصرارك على أن تنصرف حين هممنا بالانصراف، وإباءك على عثمان ومحمود، وإباءك بنوع خاص على عزيزة وأمينة، وقد كانوا جميعا يلحون علينا في أن نبقى ويرغبوننا في البقاء، يعرض عثمان ومحمود علينا أن يظهرانا على ما عندهما من أعاجيب القاهرة، هذه اللعب التي لا تنتشر في الريف، ولا يألفها أهل الأقاليم، وتعرض علينا عزيزة العزف على البيانو. وتعرض علينا أمينة القراءة في بعض القصص، وأنت مصمم على الانصراف برغم نفسك التي كانت تنازعك إلى البقاء نزاعا شديدا.
على أني لا أفهم كلفك بالاستماع لعزيزة وأمينة، وافتتانك بأحاديثهما هذه التي يلتوي فيها لسانهما بلهجة أهل القاهرة في تأنق وتكلف وتعمد للفتنة، كأنما تريد كل واحدة منهما أن تدل على نفسها، وتنبهنا إلى أنها ليست منا، وإلى أننا لسنا منها في شيء، إنما هي من هذا العنصر الممتاز الذي لا ينطق الجيم كما ننطقها، ولا يحول القاف كما نحولها إلى جيم غليظة وإنما يحيلها إلى همزة رقيقة خفيفة حسنة الموقع في الأسماع، ولا يمتلئ فمه بالكلام يهدر به كما تهدر الإبل، وإنما يضيق به ويتلطف في إرساله ويجريه هادئا حلوا رقيقا، فيخرجه أحسن مخرج، ولا يلقيه كما نلقيه نحن إلقاء الجنادل والصخور. لا يعجبني شيء من هذا لأني أراه تكلفا وتصنعا، ومن يدري لعلنا إن رأيناهما في القاهرة، واستمعنا لهما في بيئتهما الطبيعية أن نجدهما أقل تكلفا وأدنى إلى الفطرة، ولعلهما يومئذ أن تجدا إلى نفسي الغليظة سبيلا، أما الآن فإن قلبي مغلق دونهما إغلاقا، وإني لأوثر ألف مرة عليهم فتياتنا الريفيات، وما يمتزن به من حياء حلو وخفر ناعم، وحديث عذب على غلظته، وصوت محبب إلى النفوس على ما يضطرب فيه من بعض الجفاء، ستغضب وستثور وستنكر ذوقي أشد الإنكار، ولكني لا أتردد مع ذلك في أن أعلن إليك أني أوثر كلمة بنت عالية وأخت غريب، على عزيزتك هذه المتكلفة المتصنعة. وأوثر خديجة بنت محبوبة وأخت علي، على أمينتك هذه التي ترى أن ليس على الأرض امرأة تعدلها أو تداني حظها من الرقة والجمال.
إني من أنصار الحسن الطبيعي الذي لا يجتلب، ولا يشترى، وإنما تخلعه الطبيعة وتفيضه على الوجوه والنفوس، هذا الحسن الذي تحدث عنه المتنبي، أتذكر بيته؟ إنه مشهور:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
6
وكأن هذا البيت من شعر المتنبي قد أيقظ صاحبي من نوم عميق، ورده من هيام بعيد، ونبهني أنا إلى مكاني منه، وإلى مكانه مني. فما كان لشابين جاهلين من شباب الريف أن يديرا بينهما مثل هذا الحديث أو يذكرا مثل هذا الشعر، وأين حديث الريف الساذج اليسير الذي لا فلسفة فيه ولا تعمق من هذا الحديث الطويل الذي اندفع فيه صاحبي كأنه السيل لا يرده شيء، والذي أخذ يتكلف فيه ما تكلف، ويصطنع فيه ما اصطنع على غير شعور من الفلسفة والتعمق والدقة في التفكير والتعبير. فلما سمع صوته ينشد هذا البيت ثاب إلى نفسه، وثبت أنا إلى نفسي وإليه، فلبث دقائق صامتا لا يقول شيئا كأنما كان يستجمع قواه المفرقة، ويدعو إليه نفسه الشاردة، وينتظر أن يعود إليه عقله وقلبه من مدينتنا تلك في الريف، فلما استجمع من ذلك كله ما كان يريد قال في صوت هادئ عميق: أين أنا؟ وماذا كنت أقول؟ ثم أرسل ضحكته العريضة المخيفة، ونهض قائما وهو يقول: أما إننا قد طعمنا حتى اكتفينا! هذه الصبية البلهاء قد أقبلت فوضعت طعامنا على المائدة ولم يخطر لها أن تدعونا إليه، كأنما ظنت الحمقاء أني رأيتها أو سمعتها أو أحسست مقدمها، وكأنما لم تشعر أنا كنا غائبين نسعى في مدينة من مدن الريف، وهذا خادمك الأحمق قد جلس على كرسيه عند باب الغرفة وهو يغط معنا في نومه العميق كأن أحاديثنا لم تعجبه ولم ترقه ولم تصل إلى نفسه الغليظة المحجبة بحجب الجهل والجفوة والغفلة، ثم ثاب إلي ووضع يده على كتفي وهو يقول: وأنت ماذا أحسست من هذا الحديث؟ ولم يمهلني، ولم ينتظر مني جوابا، وإنما اندفع يقول: ما أرى إلا أنك ظننت بي الجنون وأخذت تسأل نفسك أين أنت؟ وتمقت الساعة التي لقيتك فيها وتلوم نفسك لأنك طاوعتني واستجبت لدعائي، وتشفق ألا تتاح لك العودة إلى أخيك. ومن يدري! لعل المتنبي قد أنقذك حين جرى هذا البيت من شعره على لساني فردني إلى نفسي وإليك، ولعلك إن بقيت تسمع لي وأنا أمضي في هذا الهذيان كنت مضطرا إلى أن تنتهي آخر الأمر إلى الهلع والجزع ثم إلى الاستغاثة والصياح، ومع ذلك فثب إلى نفسك وامنحني بعض عنايتك وحدثني: أليس هذا فنا من الشعر ونحوا من أنحائه؟ لا تظن أن القدماء من الشعراء كانوا يصنعون شيئا غير هذا حين كانوا يقفون ويستوقفون على الأطلال والديار، وحين كانوا يذكرون ويذكرون بمن كان يقيم فيها ثم ارتحل عنها من الأحبة والأخلاء، وحين كانوا يتبعون الظاعنين ويصفون ما سلكوا من طريق، وما عرض لهم في سفرهم من خطوب، وما أنضوا من إبل وما وردوا من ماء آجن وما انتهوا إليه من مرعى، إنما كانوا يصنعون مثل ما صنعت ويهيمون مثل ما همت، وينسون أنفسهم كما نسيت نفسي، ويرسلون قلوبهم كما أرسلت قلبي على جناحي هذا الطائر الخفيف الرشيق الذي يحسن الإسراع، ويحسن الإبطاء، ويحسن المضي، ويحسن الوقوف، وهو الذكرى.
وحدثني أفهمت شيئا من حنين القدماء على وجهه حين قرأت ما قرأت من شعر امرئ القيس، وغير امرئ القيس من هؤلاء الذين كانوا يحسنون الذكرى ويجيدون تصوير الوفاء؟ إنما هي عندك ألفاظ تقع في أذنيك كما يقع غيرها من ألفاظ، تفهم الظاهر من معانيها، فإن أعجزك الفهم سألت كتابا من كتب اللغة فلا ينبئك إلا بظاهر من معانيها، لا تكاد هذه الألفاظ تتجاوز أذنيك إلى عقلك فضلا عن أن تتجاوزها إلى قلبك وإلى ضميرك فتثير فيهما عاطفة أو هوى أو ميلا، وتدعوك إلى أن تقدر الحياة كما ينبغي أن تقدر الحياة؛ صدقني إنكم لا تدرسون الشعر ولا تدرسون الأدب، وإنما تدرسون ألفاظا ومعاني وصورا ليست من الشعر ولا من الأدب في شيء.
قلت وقد أعجبني حديثه وأرضتني آراؤه، ولكني على ذلك ضقت بهذا السيل الذي لا يقف، وأشفقت من أن يمضي فيه كما مضى في الذكرى آنفا، ومن أن ننفق بقية الليل كما أنفقنا أوله، وأشفقت بنوع خاص من أن يلهينا هذا الحديث المتصل والسيل المتدفق عما نحن في حاجة إليه من التفكير في العودة إلى بيتي، فما أشك في أن غيبتي قد طالت، وفي أنها ستطول، وفي أنها ستلحظ، وفي أني سأسأل عنها إذا كان الغد.
قلت ضاحكا: فما يمنعك أن تعلن آراءك هذه إلى الناس في صحيفة من الصحف، أو في محاضرة من المحاضرات، بل ما يمنعك أن تلقي على الناس دروسا في الأدب، فيسمع لك الشباب، وسينتفعون بما تلقي إليهم من حديث؟ ثم ما يمنعك أن تمضي معي في هذا الحديث أثناء العشاء وبعده وأثناء الطريق ما دمت قد ضمنت لي أن تصاحبني إلى بيتي البعيد! قال وهو يضحك ضحكا غليظا: قل ما يمنعك أن تكف عن هذا اللغو وأن تأخذ في الجد، فقد زعمت لي أننا لم نجتمع هنا لنلغو وإنما اجتمعنا لنجد.
Halaman tidak diketahui