قال الرجل: مهلا يا سيدي، فليس يغني عنك ما أنت فيه منذ الآن من التجاء إلى الجدال وشغف بالمراء، فقد ألقي إلينا أنك متزوج، ثم ألقي إلينا اسم الأسرة التي أنت مصهر إليها، فلم نأخذ بالظنة ولم نطمئن إلى الريبة، وإنما بحثنا واستقصينا وسألنا حتى تبين لنا الحق وعرفنا أنك قد خدعتنا وضللتنا تضليلا، وما دعوناك اليوم إلا لنقطع ما بينك وبيننا من صلة فنرد إليك ما أخذنا منك، ونسترد ما أخذت منا.
قلت وقد ثاب إلي عقلي كله، وحرصي على البعثة: قد كان ذلك ممكنا منذ أيام، أما الآن فلا. ثم قدمت إليه صك الطلاق، فلم يكد ينظر فيه حتى تغيرت حاله معي تغيرا تاما، وإذا هو يصافحني مكبرا لي معجبا بي، ألم أقدم على عمل خطير! ... ثم تبسط معي في الحديث وقد ضم الصك الذي دفعته إليه إلى ما ينبغي أن يحفظ من أوراقي عنده، وما زلت أتلطف له وأمكر به، حتى أطلعني على ذلك الكتاب الذي ارتفع إليه بالنميمة وأنبأه بزواجي، فقرأت ويا شر ما قرأت! وعلمت ويا شر ما علمت! علمت أن صاحب هذا الكتاب صديق متصل بي، يتكلف المودة ويظهر النصيحة والإخلاص، ولكني علمت أنك لست صاحب هذا الكتاب ولا مقترف هذه الوشاية.
وخرجت من الجامعة راضيا ساخطا ومسرورا محزونا، راضيا لأن البعثة لم تفلت مني، وراضيا لأنك أنت لست الواشي بي، وساخطا لما انطوت عليه جنوب الناس من المكر والخداع، ومن الكذب والنفاق، ومن الحسد الذي يفسد عليهم كل شيء.
فلم يكن لهذا الصديق الذي وشى بي طمع في البعثة ولا طموح إليها، وإنما هو الحسد وحده. رأى أني سأسافر إلى حيث لا يستطيع ولا يأمل أن يسافر، ورأى أن حالي قد تتغير وأن حياتي قد تصلح، وأني قد أرقى إلى منزلة لا يستطيع أن يطمع فيها ولا أن يسمو إليها، فكره ذلك وضاق به، ثم جد في أن يحول بيني وبين ذلك، وأن يمسكني في المنزلة التي أمسكته فيها الظروف، فأبقى مثله خاملا متواضعا محدود الأفق من البيت إلى الديوان، ومن الديوان إلى البيت، والقهوة بين ذلك أحيانا.
نعم أيها الصديق! خرجت راضيا ساخطا، وأنا لا أفكر حين كنت أحس الرضى أو أجد السخط إلا في شيء واحد، وهو أن كيدا كان يكاد لي فخلصت منه، وأن مكرا كان يمكر بي فانتصرت على أصحابه ورددت سهومهم في نحورهم. ثم هبط بي القطار إلى البحر، وأخذت السفينة تمضي بي إلى ما وراء البحر، وأخذت صورة حميدة تلزمني وتلح علي، وأخذ يثير في نفسي من الخواطر ما يثير، وإذا أنا الآن أسأل نفسي عن هذه الوشاية التي أنكرتها: ألم تكن خيرا قد صرف عني وحيل بيني وبين الانتفاع به؟ فلو قد نجحت هذه الوشاية وحيل بيني وبين البعثة لكان هذا الإخفاق أول العقاب على ما جنيت من ذنب، ولكان نذيرا بما كان ينتظرني من الشر إن تممت على ما بدأت من الظلم، ولكان خليقا أن يردني إلى حميدة أو أن يرد حميدة إلي، ولكن الله لم يرد إلا أن يقدم بين يدي هذه الرحلة نذيرا بما ينتظرني فيها من آلام، وطليعة لما ينتظرني وراء البحر من الشر.
وصدقني أيها الأخ العزيز، إني لأدنو الآن من فرنسا خائفا وجلا شديد التشاؤم، لا أنتظر خيرا ولا نجحا، وإنما أنتظر شرا كثيرا وإخفاقا شنيعا. ولو طاوعت نفسي لما استقررت في مرسيليا إلا ريثما آخذ السفينة التي تردني إلى مصر، ولكن ماذا يقول الناس؟ وماذا أقول لنفسي؟ وكيف ألقى غيرك من الأصدقاء المخلصين ومن الأعداء الشامتين؟ وماذا أقول لأهلي وماذا أقول لحميدة؟ أأمضي في فراقها؟ ولماذا أنا لم أفارقها عن قلى ولا عن بغض؟ أم أعود إليها نادما بائسا معتذرا مستغفرا؟ ولكن أتسمع لي؟ أتعطف علي؟ ثم ما نفع هذا الحديث الذي هو بالهذيان أشبه منه بالجد؟ إن السفينة لتمضي أمامها لا تلوي على شيء، ولن تقف حتى تبلغ مرسيليا، ولو أردت أن أقفها لما بلغت من ذلك شيئا مهما يكن إلحاحي وصياحي، ومهما أتخذ من وسيلة عند القبطان، وإنما حياتنا كهذه السفينة تمضي بنا إلى حيث يريد القضاء لا إلى حيث نريد. ومهما نلح، ومهما نصح، ومهما نتخذ من وسيلة، فلن نقف حركتها ولن نردها إلى وراء، ولن نتقي الانتهاء إلى هذه الغاية التي رسمها لنا القضاء.
فلأمض إذا إلى حيث تريد السفينة أن تنتهي بي، ومن يدري! لعلي أعود إليك بعد حين ولم أر باريس، ولم أختلف إلى السربون، ولم أشهد أندية اللهو والمتاع، ومن يدري! لعلي لا أعود إليك حتى آخذ من هذا كله بحظ. وكل ما أستطيع أن أقطع به الآن هو أن هذه السفينة التي تعبر بي بحر الروم، ستوفي بي من بعد بحر إلى بحر، كما يقول مسلم بن الوليد، ولكن البحر الذي ستوفى بي إليه ليس هذا ولا ذاك من أولئك الأجواد الذين كانوا يغنون الشعراء، وإنما هو بحر آخر عريض لا حد لعرضه، عميق لا آخر لعمقه. هو بحر هذه الحياة الأوربية المملوءة باللذة والألم، المفعمة بالخير والشر. فليت شعري أأرسب فيه أم أطفو عليه؟
الآن أحس أني قد أطلت عليك، وإنما يذكرني بك ويثير في نفسي الإشفاق عليك من الإطالة هذه الحركات التي أسمعها تكثر من حولي في الغرف المجاورة وفي الطريق أمام هذه الغرف، فقد فرغ السفر من لهوهم ورقصهم وعادوا إلى غرفهم يقضون فيها ما بقي لهم من الليل.
وداعا يملؤه الحب والود والحزن أيها الصديق! فما أدري! لعلي لا أكتب إليك بعد هذا الكتاب.
13
Halaman tidak diketahui