وما زلت أهيم وأهيم في غير وجه حتى أحسست يقظة الناس من حولي، وسمعت أصوات المؤذنين تتجاوب بالدعاء إلى الله، فثابت إلي نفسي بعض الشيء مع ضوء النهار، وتكلفت في مشيي ومظهري ما يصرف عني كل ريبة أو شك ومضيت في هيامي، ساعة وبعض ساعة، ثم أنظر فإذا أنا عند قهوتكم هذه التي التقينا فيها مساء أمس، من أين جئتها، وكيف انتهيت إليها، لا أدري، ولكني قد بلغتها وبلغتها متعبا مكدودا، وما كدت أرى هذه الكراسي ينسقها الخادم في شيء من الكسل والفتور حتى أحسست كأن هذه الكراسي تدعوني إلى الراحة، وحتى رأيتني أستجيب لدعائها، وأسرع إلى الجلوس، وأطلب إلى الخادم أن يحمل إلي الشاي، ومن قهوتكم هذه أكتب إليك الآن أيها الصديق، وكنت أريد أن أتحدث إليك عن هذا الفتور الذي أحسسته منك أمس لأمحوه ولأتم معك الحديث الذي كنا فيه والذي قطعته أنا بهذا الضحك المفاجئ السخيف الذي دفعت إليه دفعا والذي أفسد الأمر بينك وبيني، ولكني لم أحدثك إلى الآن إلا عن نفسي وعن ليلتي البيضاء الثانية التي قضيتها في غير راحة ولا أمن ولا هدوء، على حين لهوت أنت مع صاحبيك ثم استمتعت بالراحة والنوم، وها أنت ذا الآن تستقبل النهار نشيطا مستريحا مبتسما للحياة، تريد أن تمضي فيما تعودت أن تمضي فيه من القراءة أو الدرس، أو تريد أن تخرج للقاء صاحبيك أحدهما أو كليهما. أو تريد أن تنتظرهما فلعلهما أن يزوراك ليخرجاك أو ليبقيا معك. ألست ترى أنك أثر مسرف في الأثرة وأنك تترك صديقك يحتمل وحده أثقال الشقاء؟ ألست ترى أن من حق صديقك عليك أن تسرع إليه فتسمع منه، وتقول له، وتسليه وتواسيه، فإنه سيشقى وحده دهرا طويلا حين يعبر البحر إلى تلك البلاد التي ليس له فيها صديق؟
سأرسل إليك هذا الكتاب مع خادم القهوة، وسأنتظر بعد إرساله ساعة فمن يدري لعلي أراك مقبلا مع غلامك الأسود الصغير ...
دخل علي بهذا الكتاب غلامي الأسود الصغير هذا وأنا أتهيأ للخروج، وكنت كما قدر صاحبي على موعد من صديقي لنذهب إلى دار الكتب، ولكن الغلام لم يكد يفرغ من قراءة هذا الكتاب علي في لهجته الأسوانية التي كانت تضحكني عادة لأنها تجعل القاف غينا والغين قافا والتي لم تضحكني اليوم وإنما آذتني وملأت صدري حرجا، لم يكد يفرغ من قراءة الكتاب حتى خرجت معه ولكن لا إلى قهوة دار الكتب حيث كان ينتظرني صديقاي، بل إلى قهوة الزاوية حيث كان ينتظرني صاحبي هذا الشقي.
10
ألم أقل لك أول أمس إني سأصبح بطلا قبل أن ينتصف النهار من غد؟ فإني قد صرت بطلا منذ أمس وما أظنك تماري في ذلك بعد أن قرأت الكتاب الذي أرسلته إليك منذ حين، قال ذلك وضرب المائدة أمامه بعصاه ضربا خفيفا، فلما أقبل الخادم طلب إليه إبريقا من الشاي، ثم استأنف حديثه متعبا مكدودا وفي صوته شيء غير قليل من التكسر والفتور، قال: نعم لقد صرت بطلا منذ أمس، بطلا لقصة قد تكون كلها جدا وقد تكون كلها هزلا وقد تكون مزاجا من هذا وذاك ولكنها قصة لا بد لها من بطل على كل حال، وقد أردت أو أرادت الظروف أو أراد القضاء الخفي أن أكون هذا البطل، فليس من الأشياء الهينة أن يقدم الرجل على طلاق امرأة يحبها ويؤثرها ويعرف لها جميلا لا يستطيع أن يقدره ولا أن يكافئها عليه، ليس هذا من الأشياء الهينة ولا سيما حين تكون هذه المرأة كريمة النفس رضية الخلق طاهرة القلب نقية الضمير لا يأخذها زوجها بخطيئة ولا يتعلق عليها بسيئة ولا يلقى منها إلا ما يسره ويبره ويرضيه، ومع ذلك فقد أقدمت على هذا الشيء الخطير إيثارا للعلم وإن شئت فقل إيثارا للرقي وارتفاع المنزلة، وإن شئت فقل اجتنابا للكذب على الجامعة وفرارا من الخيانة الممكنة، بل الراجحة، بل المحققة. وأنا أعلم أنك قد أنكرت علي هذا وأنك كنت تجادلني فيه، ولكن تلك الضحكة التي لقيتك بها حين انتهيت إلى بعض الحديث قد قطعت علي وعليك هذا الجدال وكادت تفسد ما بينك وبيني من الأمر.
فالآن وقد قرأت كتابي وعرفت من أمري ما عرفت وزال من نفسك هذا النفور الذي كنت أحسه أمس فقد نستطيع أن نعود إلى هذا الحديث لتعلم أني لم أكن مخطئا فيما كنت أعتزم وأني لست مخطئا فيما تممت عليه من فراق امرأتي قبل أن أرحل إلى أوربا، وأقبل الخادم يحمل الشاي فملأ منه قدحا لي وقدحا له وهو يقول هذا خامس أقداح الشاي التي شربتها منذ بلغت هذا المكان في أول النهار.
ثم عاد إلى حديثه من حيث انقطع حين كنا نتحاور في داره، قال: لقد كنت تلومني على أني أقدر الإثم وأفكر فيه وأعلم منذ الآن أني سأقترفه وأتهيأ لفراق امرأتي لاقترافه، وكنت ترى الإصرار على هذا كله خطيئة بل كفرا وخروجا من الدين، وكان حديث الكفر يدهشني لأني لم أكن أنتظره منك بعد أن عرفتك حر الرأي غاليا في التجديد، فلا تغضب إن أظهرت هذا الدهش، وعد بنا إلى خلاصة الحديث فأيهما خير؟ أن يعرف الإنسان مكانه من القوة والضعف ونصيبه من القدرة والعجز، وأن يحتاط لما يعرف من ذلك فلا يقترف من الآثام ولا يجترح من السيئات إلا ما لا يجد منه بدا ولا عنه منصرفا، أم أن يخدع الإنسان نفسه ويغره بها الغرور فيضيف إليها الخير وليست بخيرة ويثبت لها الفضيلة وليست بفاضلة ويحملها ما تطيق وما لا تطيق، ويقترف من الآثام ما يستطيع أن يجتنبه ويتقي التورط فيه، وما رأيك في أني أعرف من نفسي مواطن الضعف وأقدر أن الحياة الجديدة في ذلك الذي أنا راحل إليه ستمحو منها هذا المقدار اليسير الذي بقي لها من رعاية العادات والاحتفاظ بالتقاليد والحرص على ما تواضع الناس على أنه الخير، وستغمرني أمواجها الزاخرة المصطخبة فلا أقوى على دفعها ولا مقاومتها وإنما أعيش كما يعيش الناس وآتي من الخير القليل والشر الكثير ما يأتون، أفإن صارحت نفسي بالحق وأخذتها بأن تحتمل وحدها أوزار أعمالها كنت خاطئا ممعنا في الخطيئة وكافرا مسرفا في الكفر، فإذا ضللت نفسي تضليلا وغررتها تغريرا وزينت لها وللناس أني سأكون في فرنسا خيرا مما أنا في مصر تقيا نقيا وبرا طاهر القلب، وأنا أعلم أن ذلك لن يكون مهما أحاوله وأعلم قبل ذلك أني لن أحاوله لأني لن أستطيع التفكير في محاولته، أفإن عمدت إلى هذا التضليل والتغرير برئت من الخطيئة ونجوت من إثم الكفر والمروق، ألست ترى في هذا النحو من التفكير والفهم والحكم عوجا والتواء؟ قلت: لا أدري ولكني أوثر الرجل أن يقع في الخطيئة إن لم يكن له بد من الوقوع فيها على غير علم بذلك ولا تهيؤ ولا تفكير فيه، وأرى في هذا الاستعداد للإثم بدءا في اقترافه وفي هذا التهيؤ للإساءة شروعا في الإساة وفي هذا التفكير في الشر قبل أن يقع مع أن من الممكن ألا يقع استعدادا رديئا للشر وإلحاحا آثما في دعائه، وقد كان يحسن ألا تدعوه. والأمر لا يقف في رأيي عند الدين ولا عند الكفر والإيمان ولا عند رعاية العادات والاحتفاظ بالتقاليد والأخلاق، وإنما هو يتجاوز هذا كله إلى شيء لا أدري كيف أصفه، ولكن صورته تقع من نفسي موقعا سيئا، فقد يخيل إلي أن الإنسان المتحضر المثقف خليق ألا يتجرد ولا يعرى حتى أمام نفسه إن وجد إلى ذلك سبيلا، وقد يخيل إلي أن حياء الرجل المثقف من نفسه هو خير أنواع الحياء وأرقى منازله، وقد يخيل إلي أن في مواجهتك لهذا الشر الذي لم تعرفه ولم تدفع إليه بعد وفي تأهبك له، شيئا من الخروج عن هذا الحياء الذي لا ينبغي للرجل المتحضر المثقف أن يبرأ منه.
قال: فأنت تريد أن تقول إني وقح أمام نفسي، فليس غريبا أن أكون وقحا أمام الناس! قلت في شيء من التحفظ: هو ذلك، بل إن في الأمر ما هو أغرب من هذا، فإنك لا تظهر وقحا أمام الناس، وما أعرف أن أحدا أساء الظن بك أو شك في سيرتك أو رماك بالخلاعة أو اتهمك بالمجون، فأنت إذا تظهر للناس غير ما تضمر، وأنت إذا تكاشف الناس بما لا تكاشف به نفسك، وأنت إذا خليع ماجن، ولكنك تظهر للناس أنك صاحب جد واحتشام. قال وقد عاد إليه نشاطه واستأنف ضحكه العريض: فإني يا سيدي خليع ماجن، ما أرى في ذلك عيبا وما أشك في أني عظيم الحظ منه، وإذا أخفيت على الناس فما أخفيه إلا اتقاء لشر الناس وإيثارا لمنفعتي ليس غير، فقل إني وقح في السر، وقل إني رجل لا حظ له من الحياء، فأنت إن قلت ذلك لم تعد الحق ولم تؤذني؛ لأنك لست كغيرك من الناس، ولأنك لا تملك أو لا تستطيع أن تؤذيني وأن تفوت علي حظي من الخلاعة والمجون، وأنا على هذا كله أرى أني أقرب إلى الخير من قوم لا يظهرون خلاعة ولا مجونا، ولا يكشفون للناس ولا لأنفسهم عما يطوون من سرائر بغيضة ونيات آثمة خبيثة، فأنا أريد أن أحتمل وحدي وزر خلاعتي وثقل مجوني، وأنا أعلم أن حساب ذلك بيني وبين ضميري أو بيني وبين الله، ولكني لا أحب أن أمسك امرأتي، فأحملها ثقل ما أقترف من الآثام والسيئات، وأخونها وأنا أزعم لها أني وفي، إني لا أعلم أني ما خنتها منذ اتخذتها زوجا على كثرة ما نازعتني نفسي إلى الخيانة، ومن يدري! لعل حظي من الحياء أمام نفسي أكثر مما تظن، ومن يدري! لعل حظي من هذه الأخلاق الأخرى التي تعصم الرجل من الخلاعة والمجون أكثر مما تظن أيضا، وإني لأقيس نفسي إلى صاحبك هذا الشيخ ما كاد يظفر بالإجازة التي تجعله من علماء الدين وتضمن له أجرا يوسع عليه في الحياة ويمكنه من الترفيه على نفسه، حتى أقدم على ما تعلم وما لا تعلم من الآثام والخطايا والخصال التي لا تلائم علما ولا دينا ولا خلقا. فهو يغرق في المجون والإثم إلى أذنيه حين تمكنه الفرصة، فإن لم تواته دعاها واتخذ إليها الوسائل والأسباب، وهو في الوقت نفسه يخطب فتاة كريمة من أسرة كريمة ويظهر لهذه الفتاة البريئة وأسرتها أنه أطهر الناس سيرة وأعفهم لسانا وقلبا ويدا، وهو في الوقت نفسه يتكلف الوقار والاحتشام ويظهر الإيمان والنسك، ولا يكاد المؤذن يتم أذانه حتى يكون في المسجد قد سبق إلى الصف الأول، ولا تراه في مجلس من مجالس العامة ولا في ناد من الأندية إلا وفي يده سبحة يعبث بها، أو كتاب من كتب العلم أو الدين ينظر فيه أو ينصرف من النظر فيه وكأنه قد أكره على هذا الانصراف إكراها، أنا يا سيدي خير من هذا الشيخ في نفسي، وخير منه في نفسك، وخير منه عند الله.
قلت ضاحكا: أما أنك خير من هذا الشيخ في نفسك وفي نفسي فهذا شيء ليس فيه شك، وأما أنك خير منه عند الله فالله وحده يعلم هذا، وما أرى إلا أن كليكما شر من صاحبه، وما أرى أن الوقاحة في الإثم خير من النفاق، ولا أن النفاق في الإثم خير من الوقاحة، إنما أمركما كحماري العبادي قيل له أيهما شر؟ فقال: هذا ثم هذا.
قال وقد أرسل من فمه ضحكة ملأت القهوة، وما أشك في أنها لفتت إلينا من كان فيها من الناس: ليس هذان الحماران سواء يا سيدي، بل إن بينهما شيئا من الاختلاف، فأما أحدهما فقد ينفق النهار لا يذوق طعاما وقد يأرق الليل لا يذوق نوما، حتى إذا استقبل الصبح وأدركه الضعف وأضناه الأرق والتفكير استعان على الضعف والضنى بأكواب من الشاي يحسوها هادئا رفيقا، ثم يخوض معك في أحاديث العلم والدين، ويجادلك في الأخلاق وفلسفة الأخلاق؛ فهو حمار مثقف متحضر، إن جاز للحمير أن تأخذ بحظ من ثقافة أو حضارة، وأما الآخر فهو الحمار الذي ذكره القرآن، يحمل الأسفار ويشقى بثقلها ولا يعي ولا يفقه مما فيها شيئا، لو قد رأيته منذ حين في هذا المكان الذي لم يبرحه بعد لوليت منه فرارا ولملئت منه رعبا، إذا لرأيت حيوانا قد أقبل على طعامه من الفول والبصل كما يقبل الحمار على طعامه من اليابس والأخضر، وهو يلتهم الفول التهاما، ويقضم البصل قضما، وبين يديه هذا الغلام الذي لا يزال معه إلى الآن يأكل متحفظا مستخذيا من نفسه ومن مكانه بين يدي هذا الشيخ أمام الناس، ثم يفرغان من الالتهام والقضم، ومن الازدراد والخضم، ويحمل إليهما الشاي فإذا الغلام يتناوله في أناة ومهل، وإذا شيخك الحمار أو حمارك الشيخ لا يكاد يملأ القدح حتى يلقيه في جوفه إلقاء كما يصب الماء من النوافذ على الأرض صبا، وأقسم لقد رأيته منذ حين يقبل على هذه القهوة ضعيفا مكدودا ويسعى إلى مجلسه منها بطيئا متهالكا، ثم يلقي نفسه على كرسيه إلقاء، كأنه عجز عن أن يمسك جسمه على ما ينبغي له من اعتدال القامة، فخر على كرسيه كما ينقض البناء، أقسم لقد رأيته يقبل ثم يسعى ثم ينهار على هذه الحال، فما شككت في أنه أنفق ليله أو أكثر ليله في غير النوم وفي غير ما يأرق له النساك والصالحون، وفي غير ما يسهر له العلماء والمفكرون، وفي غير ما أنفقت فيه ليلي من ألم وندم ومن هيام واضطراب في الأرض، ثم لم يكد يستقر ويستقر غلامه هذا بين يديه، حتى أقبل الخادم فسمع منهما كلاما ثم انصرف، وأقبل صاحب الفول يحمل آنيته وطعامه وحزما من البصل، وانكب الشيخ على ما قدم إليه لا يعقل ولا يعي ولا يستأني ولا يكاد يمضغ أو يذوق، إنما هي يد تنقل الطعام من مكانه على المائدة لتلقيه في مكانه الآخر من جوفه، حتى إذا امتلأ واكتظ وحاول أن يطفئ نار الهضم بهذه الأقداح من الشاي التي ألقاها في حلقه إلقاء، تهالك على كرسيه كما أراه الآن لا نائما ولا يقظان، وإنما هو شيء بين ذلك، وغلامه جالس بين يديه يرمقه في خزي وازدراء، ثم ينظر في صحيفته ويشغل نفسه عنه بالقراءة، والله يعلم إلى أين يذهبان إذا قاما، والله يعلم فيم ينفق شيخك الحمار أو حمارك الشيخ نهاره، وأكبر الظن أنه سيكذب ويمكر ويكيد، ويسعى بين الناس بالشر، ويظهر الطاعة والعبادة بين ذلك، فيؤدي الصلوات في أوقاتها، ويضع جبهته حيث يريد الله لها أن توضع في هذا المسجد أو ذاك من المساجد التي تلقاه في بعض الطريق كلا! ليس الحماران سواء يا سيدي، أحدهما حمار متحضر مثقف، والآخر حمار وحشي غليظ.
Halaman tidak diketahui