Adherence to the Holy Quran and Its Impact on the Lives of Muslims
التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلمين
Penerbit
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Genre-genre
التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلمين
أ. د/ عبد الله بن عمر محمد الأمين الشنقيطي
كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - عام ١٤٢١هـ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله رب العالمين وكفى، أنزل كتابه رحمة وفرقانًا للعالمين وهُدى، وكان حبله المتين والعرْوة الوثقى، من تمسك به سعد واهتدى، وفاز واعتز في الآخرة والأولى، ومن أعرض عنه خسر وغوى، ولم يزل مرتدًا عن الحق وسائرًا القهقرى، حتى يُزَجَّ به في النار على القفا، عياذًا بالله تعالى من الشر وإتباع الهوى:
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. صلى اللهم وسلم على رسولك المجتبى ونبيك المرتضى خير من صام وحج وصلى وزكَّى، أحسنُ الهدى ما وفقه الله تعالى له وهدى.
كان خلقه ﷺ القرآن (١)، فإذا أمره امتثل الفعل، وإذا نهاه اجتنب المحظور، فلذلك كان ﷺ أكمل الناس خلقًا، وألينهم عريكةً، وأهداهم سبيلًا وقد سار على نهجه القويم صحابته الكرام ﵃، وأسأل ربي رضاه ومن تبعهم في ذلك وتابعوهم بإحسان، فكانوا هم ومن سلك طريقهم خير أُمَّةٍ أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله تعالى.
_________
(١) كما ورد في الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت في وصف خلق رسول الله ﷺ، كان خلقه القرآن، رواه مسلم، مسافرين ١٣٩.
1 / 1
أدان الله تعالى لهم البلاد، وفتح عليهم - حبًا - قلوب العباد، وقمع بهم الشر والفساد فرفرفت عليهم - بعد الحروب المدمرة رايات السلام وأتم عليهم الله بعد الفاقة غاية الإنعام وأكرمهم بعد الإهانة أيما إكرام.
ولقد جعل الله تعالى تلك سنةً ماضية وسبيلًا جارية، أنه يكرم من اتبع هداه، وابتغى بطاعته رضاه وأن يجعل الذل والهوان على من جانب صراطه المستقيم وأتبع في الغيّ هواه.
قال ربنا تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: ٩٦) .وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ (المائدة:٦٦) (١) .
هذا ولقد بعدت بين العمل بكتاب الله تعالى وبين المسلمين الشُّقة، واتسعت دائرة الهوة إلا من رحمهم الله تعالى. الأمر الذي يندى له جبين كل مسلم، غيور على دين الإسلام، فيحزن لغربته بين الأنام، وإذا كان الله تعالى يقيّض لهذا الدين على رأس كل مائة سنة من أمة محمد ﷺ
_________
(١) ﴿أقاموا التوراة والإنجيل﴾ أي عملوا بما فيهما ومنه الإيمان بمحمد ﷺ وإتباعه ﴿لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ بأن يُفيض عليهم الرزق ويوسع عليهم من كل جانب (انظر تفسير الجلالين بتصرف) .
1 / 2
من يجدده (١) . فإنه مشاهد أنه لا تزال طائفة من أمة محمد ﷺ على الحق ظاهرة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ﷿ (٢) .
ولابد في ظل ذلك من أن يوجد من المسلمين من يرثي لحال أكثر المسلمين، الذي لا يحسدون عليه في بعدهم عن القرآن الكريم، ويأسى لواقعهم المؤلم الذي قد صاروا إليه لتجنبهم صراطه المستقيم، فيُعنى بالقرآن الكريم، وينادي المسلمين للعودة إلى نهجه القويم، وهذا الشعور النبيل، وإن وجد في جميع أنحاء العالم في أفراد وجماعات فإنه يوجد في الدولة السعودية - أفرادًا وجماعات ودولة - بأوضح صورة وأجلى حالةٍ منظورة، لازالت ربوعها بالإسلام، معمورة.
وإن من مظاهر ذلك، الكثيرة ولا أزكي على الله أحدًا، إنشاءَ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الذي أمر بإنشائه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله تعالى وجعله هديةً للمسلمين في جميع أنحاء الأرض، وما تبع ذلك من خدمة للقرآن الكريم من تفسيره بمختلف اللغات وتوزيعه في العالم في جميع الجهات وإنشاء مركز خدمة السنة التي تُعَدُّ المبين الأول للكتاب العزيز، بعد بيانه ببعضه.
وإن إدارة المجمع بفضل من الله تعالى ثم بتوجيه من قادة هذه البلاد، ماضية.. في سبيلها الطيب لتحقيق هدفها النبيل وهو تزويد المسلمين بالقرآن الكريم بأحسن طباعة وتعليمهم معانيه بأوضح عبارة ودعوتهم إلى الرجوع
_________
(١) ورد بذلك حديث عن رسول الله ﷺ، رواه أبو داود ٤/ الحديث رقم٤٢٩١
(٢) ورد بذلك حديث أخرجه البخاري انظر ٩/٤١٤.
1 / 3
إليه والعمل به بأحسن دعاية وإن من دعايتها الإسلامية التي تدعو بها المسلمين للعودة إلى كتاب الله تعالى المبين، عقدها ندوة عن عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه لإبراز ما قامت به المملكة من دور ريادي في هذا العصر لتشجيع وتوسيع نطاق البحث الجادّ عن القرآن الكريم وعلومه، فإذا فقه المسلمون القرآن الكريم استبان لهم سبيل الحق، وأضاء لهم القرآن الكريم منار الهدى، فرجعوا إليه سراعًا، لما يرون فيه من توجيهات سامية، ودلالة على صنوف الخيرات، وبعد عن المنكرات فيسعدون بما سعد به سلفهم ويقتدي بهم في المعروف خلفهم، ويستعيدون من أمجادهم ما فقدوه بسبب ما حصل بينهم وبين القرآن الكريم من جفاء، وإنهم إذا رجعوا إليه وأنابوا أفلحوا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:١٧-١٨) (١) .
وقد كان لي بحمد الله تعالى شرف المشاركة في هذه الندوة في هذا الجانب الذي يغري المسلمين بالعودة إلى القرآن الكريم وتحكيمه في شؤونهم لما في ذلك من نفع لهم في حاضرهم ومستقبلهم في حالهم ومآلهم. ألا وهو التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلمين.
هذا وقد قسمت البحث في هذا الجانب إلى مقدمة: ومباحث ثلاثة.
المبحث الأول: في تعريف القرآن الكريم وذكر طرفٍ مما يدل على فضله.
_________
(١) أنابوا إليه: اي أقبلوا إليه. أنظر تفسير الجلالين.
1 / 4
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: في تعريف القرآن الكريم.
المطلب الثاني: في ذكر طرف مما يدل على فضله.
المبحث الثاني: في التمسك بالقرآن الكريم ومظاهره.
المبحث الثالث: في أثر التمسك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين وما شوهد منه.
وتحته مطالب ثلاثة.
المطلب الأول: في أثر التمسك بالقرآن الكريم.
المطلب الثاني: فيما شوهد من ذلك في ماضي الأمة الإسلامية.
المطلب الثالث: فيما هو مشاهد من ذلك في واقع الأمة اليوم.
الخاتمة:
أسأل الله تعالى حسن الختام في عافية.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
1 / 5
المبحث الأول: في تعريف القرآن الكريم وذكر طرف مما يدل على فضله:
المطلب الأول: في تعريف القرآن الكريم:
وأما تعريفه: فهو كلام الله تعالى المنزل على عبده ورسوله محمد ﷺ المعجز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته حروفًا ومعاني المبدوء (١) بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة:١) الآية المختوم بـ ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (الناس:٦) فهو كلام الله تعالى، الذي يتلوه عباده بألسنتهم ويحفظونه في صدورهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ (التوبة:٦) (٢) .
وقال ﷿ ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (العنكبوت: ٤٩) . وقد أنزله الله تعالى على عبده ورسوله محمد ﷺ بواسطة جبريل ﵊.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء:١٩٢-١٩٥) .
_________
(١) في المصحف الشريف بدئ القرآن الكريم بـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وفيها خلاف مشهور أهمه: -
(١) أنها آية من كل سورة ماعدا سورة براءة ٢ (أنها آية من الفاتحة ٣) أنها ليست آية إلا من سورة النمل كما هو محل اتفاق. انظر تفسير القرطبي ١/٦٦ فما بعدها.
(٢) انظر مذكرة أصول للشيخ محمد الأمين الشنقيطي /٩٩ فما بعدها.
1 / 6
وقد أعجز الله تعالى الإنس والجن عن أن يأتوا بسورة مثله قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (يونس:٣٨) .
وهو مُتَعبد بتلاوته، مأجور من قرأه ابتغاء وجه الله تعالى الكريم مأجور على حروفه الحرف بعشر حسنات كما قال ﷺ "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" الحديث (١) .
وتدبُّر معانيه والعمل به يؤجر المسلم عليه قال ﷺ:
"من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة" الحديث (٢) .
ومعلوم أن أشرف العلوم وأجلها علم يفهم من كتاب الله تعالى.
وإن بداية القرآن الكريم هي سورة الفاتحة، وأفضل سورة فيه ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ . وخاتمته نهاية سورة الناس، في قوله تعالى: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (الناس: ٦) من سورة الناس التي ما تعوذ متعوذ بأفضل منها مع سورة الفلق (٣) . وقد رقى بهما جبريل ﵊ رسول الله ﷺ، لما سُحر (٤) . أعوذ بالله من كل سوء فهو تعالى حسبنا ونعم الوكيل.
_________
(١) الحديث أخرجه الترمذي وقال عنه صحيح غريب، ٤/ رقم الحديث ٣٠٥٧.
(٢) الحديث رواه مسلم رقم ٨/ رقم الحديث ١٨٨٨.
(٣) الحديث رواه مسلم، بلفظ لم يُرَ مثلهن قط،٢/رقم الحديث٢١٠١
(٤) الحديث أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق أبي جعفر الرازي، وفي الصحيح لفظ، (ومن شر حاسد إذا حسد) فقط أخرجه مسلم رقم الحديث ١٤٤٣.
1 / 7
المطلب الثاني: في ذكر طرف مما يدل على فضل القرآن الكريم:
غني عن البيان أن القرآن يكفي في ذكر ما يدل على فضله أنه كلام الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت:١-٣)
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء: ١٩٢)، ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ (البقرة:١٤٩) .
وقد ورد عن النبي ﷺ أنه ذكر في فضائل القرآن الكريم أحاديث كثيرة منها ما هو فيه بعامة، ومنها ما يخص بعض سوره الكريمة، وكل سوره كريمة ومنها ما يخص بعض آياته وكل آياته كريمة.
فمما يعمه بالفضل قوله ﷺ "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (١) .
ومنها ما رواه الترمذي بسنده إلى علي ﵁ قال: أما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ألا إنها ستكون فتنة، قلت: - ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال:- كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه،
_________
(١) الحديث رواه البخاري رقم الحديث ٥٠٢٧.
1 / 8
هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنّا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدى إلى الرشد فآمنا به.
من قال به صدق ومن عمل به أُجر ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه، هُدى ... إلى صراط مستقيم (١) ".
وقد ورد في فضل بعض سوره أحاديث كفضل الفاتحة وأنها أعظم سورة (٢) وسورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن الكريم (٣) وأن حبها سبب في دخول الجنة (٤) أسأل الله تعالى أن يجعلني ممن كان حبه لها سببًا في دخوله الجنة بفضل الله تعالى فإني أشهد ربي الله تعالى على حب سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، كما وردت أحاديث عن رسول الله ﷺ تدل على فضل بعض الآيات الكريمة كفضل آية الكرسي (٥)، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ (البقرة:٢٥٥)، وفضل خواتيم سورة البقرة (٦)، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ (البقرة:٢٨٥-٢٨٦) وغير ذلك.
وقد أفرد للقرآن الكريم كثير من علماء الحديث رحمني الله وإياهم أبوابًا وكتبًا ذكروا فيها بعض ما ورد في فضله من أحاديث وآثار عن الصحابة
_________
(١) الحديث أخرجه الترمذي ٤/٣٠٧٠ ووصفه بحهالة السند، وبأن في راويه عن علي ﵁، مقالًا أقول ولكن معناه صحيح.
(٢) الحديث أخرجه البخاري برقم ٥٠٠٦.
(٣) الحديث أخرجه البخاري ٦/١٠٥ ومسلم انظر الحديث رقم ٢٠٩٩.
(٤) الحديث أخرجه الترمذي، وأخرج مسلم حديثًا يدل على حب الله تعالى لمن أحبها انظر الترمذي حديث رقم/ ٣٠٦٥ ومسلم رقم /٢١٠٠.
(٥) ورد أنه ﷺ قال (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) قال السيوطي، أخرجه ابن حبان. الإتقان ٢/٣٣٦.
(٦) ورد أنه ﷺ قال: (إن من قرأهما في ليلة كفتاه) رواه مسلم ٢/٢٠٩٧ وقيل كفتاه عن قيام الليل وقيل غير ذلك.
1 / 9
رضوان الله عليهم فمن بعدهم ممن تبعهم بإحسان. أسأل الله تعالى أن يرحمني والجميع بواسع رحمته (١) . ويكفى القرآن فضلًا مع ما تقدم من آيات كريمة وأحاديث منيفة، قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. َهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: ١٥-١٦)
والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
_________
(١) أفرد له البرهان فوري ت ٩٧٥ هـ رحمني الله وإياه كتابًا في فضائل القرآن الكريم وآداب حملته وحقوقه من صـ٢٨٤-٣٥٢ – انظر كنز العمال ٢/٢٨٤-٣٥٢.
1 / 10
المبحث الثاني: في التمسك بالقرآن الكريم ومظاهره:
التمسك بالشيء التزامه والعمل بمقتضاه، اقتناعًا به وتصديقًا بمدلوله فالتمسك بالقرآن الكريم، الإيمان به وتصديق وعده ووعيده والقيام على تعلمه وتعليمه والاعتناء برسمه وضبطه، حتى يسهل حفظ نصه الكريم غضًا كما أنزل وكذا العناية بتفسيره لفهم معانيه، ومعرفة مراميه حتى يتسنى للناس تدبره والعمل به، إذ كيف يمكن تدبره إلا بعد معرفة معانيه قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص: ٢٩) .
التمسك بالقرآن الكريم، يكون بالإيمان بكل ما ورد فيه من أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، فلا ينسبون فعله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا هو تعالى، إلى غيره.
ولا يصرفون شيئًا من عبادتهم إلى سواه ﷿، ولا يلحدون في أسمائه فلا يصفونه إلا بما وصف به نفسه تعالى أو وصفه به رسول الله ﷺ ويعتقدون أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ويعتقدون أنه تعالى هو الإله الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ويكون التمسك بالقرآن الكريم بالإيمان بمحمد رسول الله ﷺ، نبيًا لا يعبد ورسولًا لا يكذب بل يطاع ويتبع.
1 / 11
وكذا الإيمان بكل ما أخبر به من أنه رسول رب العالمين، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا، والإيمان بملائكة الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وكتبه ورسله عليهم الصلاة والسلام واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
ويكون التمسك بالقرآن الكريم بالاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص له من الشرك.
فلا يعبد إلا الله تعالى وحده لا شريك له ولا يرجى سواه ولا يخاف إلا منه، فلا نافع إلا هو ﷿، ولا ضار إلا هو وحده، فلا يتعلق بولي كائنًا من كان، ليجلب نفعًا أو يدفع ضرًا فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده.
التمسك بالقرآن الكريم، بالإحسان بمراقبة الله تعالى وحده، فمرتبة المراقبة تحدو صاحبها إلى عمل كل خير والابتعاد عن كل شر أملًا في وعد الله تعالى، وخوفًا منه ومن وعيده ﷿ سبحانه وبحمده.
المجتمع المتمسك بالقرآن الكريم مساجدهم عامرة بالمصلين المخبتين إلى الله تعالى رب العالمين وفقراؤهم أغنياء بما أفاء الله تعالى عليهم من فضل أموال المزكين، ورمضانهم نهاره صيام عن كل ما حرم الله تعالى، وكذا ليله مع ما ازدان به من قيام، ومن تيسر حاله منهم حج لله تعالى واعتمر البيت الحرام.
المجتمع المتمسك بالقرآن الكريم يحكم بما أنزل الله تعالى، ويحكمه في عبادته ومعاملاته وأخلاقه وسلوكياته، وقضائه قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: ٥)
1 / 12
وقال تعالى رب العالمين: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: ٤٤)
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة: ٤٥) . ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (المائدة: ٤٧) .
وقال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: ٦٥) (١) .
من التمسك بالقرآن الكريم - التمسكُ بسنة نبيه ﷺ (٢) . والأخذ بكل ما جاءت به من أحكام وأخلاق وآداب، سواء أكانت مبينة للقرآن الكريم، أم مؤسسة لذلك، وذلك هو العلم الحقيقي أن يتعلم المسلمون الكتاب العزيز وسنة رسوله ﷺ.
قال تعالى عن رسوله ﷺ: ﴿وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى﴾ (النجم:٣-٤) .
وقال ﷿: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: ٧) .
وقد قال النبي ﷺ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" (٣) .
_________
(١) معنى (شجر): - اختلط (حرجًا) ضيقًا أو شكا، ويسلموا: ينقادوا تسليمًا من غير معارضة. انظر تفسير الجلالين /١١٤ - دار المعرفة، بيروت وتفسير الطبري بحاشية القرآن الكريم لمحسن المعلم ٩٧.
(٢) السنة لغة الطريقة، وشرعًا اصطلاحًا: ما نقل عن رسول الله ﷺ قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، انظر المختصر في أصول الفقه لابن اللحام /٧٣، ٧٤.
(٣) الحديث أخرجه أحمد ١/٣٥٦ وأبو داود ٢/٥٠٥ وإسناده صحيح.
1 / 13
فلا يتأتى التمسك بالقرآن الكريم إلا بالتمسك بسنة النبي ﷺ، سواء أكانت قولًا، أم فعلًا، أم تقريرًا، أم صفة لها علاقة بالتبليغ عن الله تعالى ربنا.
وهذا التنويه عن التمسك بالسنة وبكونه واجبًا كان يمكن الاستغناء عنه لأنه أمر مركوز في طبيعة المسلم السليمة لولا أنه نبتت في جسم الأمة الإسلامية نابتة سوء يدعون أنفسهم القرآنيين يرون أنهم ليسوا ملزمين إلا بما في القرآن الكريم، أما ما في السنة فليسوا مطالبين به، وقد كذبوا في زعمهم الأول، والثاني.
أما الأول: وهو نسبتهم أنفسهم إلى القرآن الكريم فكيف تصح نسبتهم إليه وهم لا يعملون به في مدلول قوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ (الحشر: ٧) . وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: ٣-٤) .
أما الثاني: فقد كذبوا في زعمهم أنهم ليسوا مطالبين بمدلول السنة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر:٧) .
ثم كيف قد عرف هؤلاء أوقات الصلاة، وعدد ركعات الفرائض وكيفية الحج ومقادير الزكاة إن كانوا يصلون أو يزكون أو يحجون فأين توضيح ذلك وكثير غيره، إلا بسنة رسول الله ﷺ.
ولا يبعد أن يكون هؤلاء ممن عَنَى رسول الله ﷺ في خوفه من أن يردَ بعض الناس بعض الأحكام الثابتة في الشرع بالسنة المطهرة بتلك الحجة الواهية حيث قال ﷺ "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعان على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن
1 / 14
فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام، فحرموه ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كلُّ ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم، فعليهم أن يُقروهم، فإن لم يقروهم فعليهم أن يُعقبوهم بمثل قراهم" (١) .
المجتمع المتمسك بكتاب الله تعالى، يقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى، ليعبده عباده وحده لا شريك له متبعين في ذلك هدي رسوله ﷺ وحده فذلك معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:٧١) .
وقال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ (٢) الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:١١٢) . وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:١١٠) . هذا والله تعالى المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
_________
(١) الحديث أخرجه أبو داوود في لزوم السنة ٢/٥٠٥ انظر كتاب مسند الشاميين من مسند الإمام أحمد للدكتور على جماز ١/٣٦٢.
(٢) السائحون: أي الصائمون. انظر تفسير الجلالين ١٦١.
1 / 15
المبحث الثالث: في أثر التمسك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين وما شوهد منه
المطلب الأول: في أثر التمسك بالقرآن الكريم
...
المبحث الثالث: في أثر التمسك بالقرآن الكريم في حياة المسلمين وما شوهد منه:
وتحته مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: في أثر التمسك بالقرآن الكريم:
عرفنا مما تقدم، طرفًا من كيفية التمسك بالقرآن الكريم وأنه باختصار هو: - الإيمان به والتصديق بوعده ووعيده، والعمل به والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ذلك ولا شك أن أثر ذلك هو سعادة الدنيا والآخرة، لأن المتمسك بالقرآن الكريم هو من اتقى الله تعالى، ولا يسعد في الدنيا والآخرة إلا من اتقى الله تعالى.
قال الله ﷿: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: ٢-٣) .
وقال رب العالمين: ﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا﴾ (الطلاق: ٤) . وقال إله العالمين: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ (الطلاق: ٥) .
فماذا بقي من خيري الدنيا والآخرة يريده المتقي بعد هذه الوعود من رب العالمين الذي لا يخلف الميعاد.
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
من تمسك بالقرآن الكريم فقد نُفخت فيه روح الهداية والتوفيق لكل خير، وقد استنار بالنور الذي يبدد ظلام الجهل ويهدي صاحبه إلى سواء الصراط.
1 / 16
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا (١) مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (الشورى: ٥٢-٥٣) . اللهم اهدنا به ﷺ.
من تمسك بالقرآن الكريم في جميع شؤونه، فقد اهتدى كل الهدى، ومن اهتدى بهدى الله فقد فاز في دنياه وأخراه.
قال تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (البقرة:١-٥)
وقال تعالى عن المتمسك بهداه، ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: ٣٨) .
وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ (طه: ١٢٣) .
فقد تكفل الله تعالى لمن تمسك بالقرآن الكريم بألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (٢) .
من تمسك بالقرآن الكريم مكن له الله تعالى في الأرض، ويسر له أسباب الاستقرار وعدم الاضطراب. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: ٥٥) .
_________
(١) روحًا: أي القرآن لأن به تحيا القلوب، انظر الجلالين ٦٤٦.
(٢) انظر التفسير الميسر لنخبة من العلماء /٣٢٠.
1 / 17
واعتبر ذلك بحال رعيل هذه الأمة الأول الذين كانوا أكثر الناس تمسكًا بالقرآن الكريم وأعظمهم إتباعًا له، كيف فتح الله تعالى عليهم البلاد وقهر لهم العباد، وأعانهم حتى تهاوت لهم عروش الجبابرة من أهل الكفر والعناد فأصبحوا بالتمسك بالقرآن الكريم سادة بعد أن كانوا مسودين، وأصبحوا قادة بعد أن كانوا مستعبدين.
وصدق الله العظيم الذي قال وقوله الحق: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:٢٦) .
وصدق رسول الله ﷺ الذي يقول ولا يقول إلا حقًا: "إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين" (١) . أسأل الله تعالى أن يرفعنا به أحياء وأمواتًا ومبعوثين آمنين آمين.
من تمسك بالقرآن الكريم - وأسأل الله تعالى أن نكون منهم - أمنه الله تعالى من الخوف في نفسه وأهله، وفي عاجله وآجله.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:٣٨) . والخوف هنا نكرة في سياق النفي تعمّ. (٢) .
وقال تعالى عن المتمسكين بالقرآن الكريم وهم المؤمنون العاملون الصالحات: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور:٥٥) . وقال عز من قائل عليمًا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:٨٢) .
_________
(١) الحديث، أخرجه مسلم ٢/٥٠٢.
(٢) النكرة في سياق النفي من صيغ العموم، وقد تكون نصًا فيه وقد تكون ظاهرة. انظر مذكرة الأصول للشنقيطي /٣٦٢-٣٦٤.
1 / 18
وقال تعالى عمن استقام على القرآن الكريم متمسكًا به - أسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأحقاف:١٣) .
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ (فصلت:٣٠-٣٢) .
ومن أثر التمسك بالقرآن الكريم القدرة بعون الله تعالى على إقامة صرح الدولة الشامخ المبنى على تقوى من الله تعالى ورضوان فلا يتزعزع بناؤها، ولا يتهلهل أساسها ما دام أهلها متمسكين بالقرآن الكريم وذلك لأن القرآن الكريم وضع للمسلمين أسس إقامة الدولة من حيث المحافظة على دينها الذي هو عصمة أمرها، ودنياها التي فيها معاشها، وآخرتها التي إليها معادها.
وقد تقدم طرف مما تقيم به الدولة دعامة دينها، وبه يستقيم أمرها وتسعد في معادها أما ما يختص بشؤون دنياها فقد رسم القرآن الكريم طرق السياسة الصحيحة التي يُساس بها الناس فيستقيم أمرهم.
كما أوضح أسس المعايير الاجتماعية التي تقيم العلاقات بين الأفراد والجماعات.
كما بين حقائق بناء اقتصاد الدولة على أسس سليمة لا ينهار معها ولا يضطرب.
1 / 19
كما يبين القرآن الكريم أسباب القوة ليؤخذ بها حتى يبقى صرح الدولة فارعًا شامخًا وبين أسباب الضعف لتجتنب، حتى لا يعصف بالدولة عواصف الهدم ولا يعمل فيها معاول التخريب.
وإليك - عفا الله عني وعنك - بعض ما ذكر القرآن الكريم فيما تقدم.
أما السياسة: فهي تدبير الأمور، وإدارة الشؤون (١)، وينتظمها قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (يوسف: ٤٠) وقوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:٦٥) .
فالحاكم الذي يسوس أهل دولته ويدبر شؤونهم بأمر الله تعالى ونهيه، إنما يضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة.
وتنقسم السياسة إلى قسمين داخلية وخارجية والخارجية يدور رحاها على قطبين أساسيين.
الأول: إعداد القوة الكافية لحماية الدولة من عادية المعتدين، وأخذ الحذر من أعداء المسلمين وقد أوضح الله تعالى ذلك بقوله ﷿ ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال:٦٠) . وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ (النساء:٧١) .
الثاني: الاتحاد الشامل حول تلك القوة وعدم التفرق، لأن الاتحاد قوة والتفرق ضعف. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران:١٠٣) . وقال تعالى: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: ٤٦) .
وقد حذرت السنة المطهرة المسلمين من مغبة الفرقة والتشرذم حيث أمر ﷺ الأمة بأنه "إذا أتاهم رجل يريد الأمارة، وكان أمرهم
_________
(١) انظر الإسلام دين كامل - محمد الأمين الشنقيطي رحمني الله تعالى وإياه /٢٦.
1 / 20