وهنا استخرطت المرأة في البكاء، وهي تقول: هل شعرت بمصيبتنا؟ ومع ذلك بقينا نحاسن فهيم بك على أمل أن يفي بوعده، ولكنه ما زال يمني ويماطل إلى أن سمعنا بأنه نوى أن يتزوج تلك الفتاة، وهي تنفر منه كأن الله يوحي إليها بأن هذا الرجل يرتكب خيانتين مع فتاتين الأولى ذات حق بزواجه بحكم الضمير والثانية مغتصبة، ولما علمت أنك مكلف بالبحث عن تلك الفتاة رأيت أن أطلعك على حقيقة الأمر وأستفتيك، فهل يحق لفهيم بك أن يترك هذه الفتاة التي استغواها تسقط في هاوية رذيلته، ويبحث عن الفتاة التي تنفر منه لكي يتزوجها؟ - كلا، كلا. - كذا اعتقدت أنك تقول؛ لأنك كأفاضل الناس ذو ذمة وشرف نفس، فهل تستمر على مساعدته لبلوغ قصده بعد أن عرفت بفعلته هذه؟ - لا يطاوعني ضميري على ذلك، وإني لمستغرب عمل فهيم بك هذا، ولا أكاد أصدق أنه يهمل ابنتك. - لم يزل يا سيدي عندي أمل بأن يرعوي، ويعود إلى رشده ويخلص ابنتي المسكينة من العار الذي ألبسها إياه، وهل يجد فهيم بك عروسا كابنتي دعد تخضع له خضوع النعجة، وتكون في منزله خير زوجة أمينة وبين نساء أصدقائه كالملكة؛ لأنها مستوفية العلم والتهذيب وذكية الفؤاد، فهل تتفضل بأن تتوسط لدى فهيم بك في الأمر فلعلك تقنعه . - إني أبذل جهدي يا سيدتي ولي الأمل أن أنجح، ولكن كيف يمكن إثبات أن فهيم بك كان يحب ابنتك ويعدها بأن يتزوجها؟ - لا أود أن تناقشه في ذلك مناقشة، بل أن تستعطفه استعطافا؛ لأني أخاف أن تنفره المناقشة والمحاجة. - بالطبع أخاطبه بصيغة الاستعطاف، ولكن لا بد من التلميح إلى الواجب عليه بحكم الشريعة حتى يحسب حسابا للتهديد إذا كابر، فما هي بيناتك على أنه كان يعد الفتاة ويمنيها؟ - عندي ألف بينة فهو الذي فتح هذا البيت، واقتنى أثاثه وكان ينفق فيه عن سعة بشهادات الخدم، وكان يتردد إليه كثيرا وأحيانا كان ... كان يبقى هنا طويلا. - كان يبيت هنا؟ - نعم بعض الأحيان.
فضحك جورجي في قلبه، وقال: هل من بينات أخرى؟ - نعم كان إذا سافر يكتب إلى دعد رسائل غرامية، ولم تزل رسائله محفوظة. - هذه أفصح البينات فهل لك أن تطلعيني على بعضها؟
فنهضت المرأة وبحثت في بعض الأوراق، وعادت إليه ببعضها فاطلع عليها جورجي باسما، وقال أخيرا: إن هذه الرسائل كنز ثمين يا سيدتي فلا تفرطي بها، احفظيها عندك فقد تحتاجين إليها. - إني حافظة كل شيء يمكن أن يكون حجة، ولكني لا أريد أن أشاكسه في المسألة مشاكسة؛ لئلا يفلت من اليد فأرجو أن تبذل جهدك في استعطافه. - إني أفعل ما ترومين يا سيدتي، ولكن أسلوبك هذا لا ينفي أن تحتفظي بالأدلة التي عندك. - إني محتفظة بها، ولكن هل تؤمل أن تقنعه؟ - عندي شيء من الأمل، ولكني لا أضمن النجاح كل الضمانة، وسأخبرك ماذا تكون النتيجة. - إني شاكرة لفضلك، ولكن هب أنه أصر على الرفض فما رأيك؟ هل أنجح إذا شكوته؟ - قد تنجحين وقد لا تنجحين. - أخاف الإخفاق فنكون قد فضحنا أنفسنا بلا فائدة. - نعم وجل ما في الأمر أنك تأخذين منه تعويضا كبيرا لابنتك. - لهذا أفضل أن أبالغ في استعطافه، ولكن إذا أبى فلا أدري ماذا نفعل.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: إذا أبى ... إذا أبى فإني أسعى بتدبير عريس لابنتك يليق بها، وأقنع فهيما بأن يعطيها مبلغا كبيرا من المال يكون ذريعة لتزويجها. - فكرة حسنة، ولكن كيف يمكن تزويجها وهي كما لا يخفى عليك ... - لعلنا نستطيع تدبير الأمر.
فحملقت فيه المرأة، وقالت: يا لله كيف يمكن تدبيره؟ - سنبحث في كل شيء في حينه، فدعينا نسعى في المشروع الأول الآن. - إني ممتنة لك عظيم الامتنان، وإذا نجحنا في هذا المشروع فلا تعدم جزاء عظيما في هذه الدنيا وفي الآخرة، لا أظنك تشك بأن دعدا متى صارت زوجة فهيم بك تستطيع أن تبسط كفها، وإذا قدمت لك حلاها الخاصة بها لا تكون موفية بعض فضلك. - إني أنتظر الجزاء من ضميري يا سيدتي لا من دعد. - فليعش هذا الضمير الشريف.
خرج جورجي وهو يقول في نفسه: لقد ساقتني المقادير إلى أولى خليلات فهيم، فهل للثانية والثالثة مشاكل أخرى معه تسوقني المقادير إليها لحلها؟ إن هذا الإنسان أعظم من وحش ضار فبماذا ألقبه؟ اللغات قاصرة عن بيان خلقه؛ لأنه ليس في الطبيعة ما يمثل هذا الخلق، واللغة على قدر الطبيعة، فليكن اسمه عبارة عن معنى خلقه النادر.
الزلزال
وقد اعتاد جورجي أن يجتمع بيوسف في أماكن مختلفة، ففي ذلك النهار لم يصادفه، فقلق عليه وقصد إلى المنزل الذي يقطنه، فوجده مضجعا في سريره فاشتد قلقه، وقال: ظننت أنك مريض يا بني لأني لم أرك قط، فهل استدعيت طبيبا؟ - لا حيلة للطبيب يا أبتاه. - لا تروعني، مم تشكو؟ - أشكو من ألم لا يطاق. - في رأسك أو ... - لا بل في نفسي، ليته ألم في جسدي فلا أعبأ به. - ماذا ساءك؟ - هل قرأت جرائد الأمس؟ - يندر أن أقرأ الجرائد غير اليونانية، فماذا؟ - خذ اقرأ.
فتناول جورجي الصحيفة وقرأ:
عقدت أمس خطبة حضرة النطاسي البارع والشاب الأديب النشيط الدكتور صديق هيزلي، على حضرة الآنسة المهذبة ليلى كريمة حضرة الفاضل الخواجه بطرس المراني، وكانت الحفلة ... إلخ.
Halaman tidak diketahui