في إحدى الليالي كان جورجي آجيوس يطوف في جهات الأزبكية، فمال إلى دكان بائع تبغ ليبتاع، فما وقع نظره على البائع حتى صاح: يوسف! ماذا تفعل هنا؟
أما يوسف؛ فاكفهر وجهه قليلا وقال: أبيع سكاير. - هل اشتريت هذا الحانوت؟ - كلا، وإنما أخدم بالأجرة. - يا لله! أمثلك يحترف هذه الحرفة؟ - هل هي حرفة دنيئة؟ - قد لا تكون دنيئة، ولكنها زهيدة الأجر. - العمل بالأجر الزهيد خير من البطالة. - عهدي بك موظفا. - نعم، ولكني عزلت من وظيفتي. - لماذا؟ - عزلت بتهمة الاختلاس. - لا أصدق. - ولا أنا أصدق. - إذن كيف ذلك؟ - كنت موظفا في مصلحة التنظيم، وكنت موكلا بالدفع لبعض العمال وبالقبض منهم، واتفق ذات يوم أن جاءني شخص ودفع 40 غرشا، وعليه أن يدفع خمسين، وطلب إلي أن أقيد الخمسين مدفوعة، وأنه لا يبطئ بدفع العشرة الباقية بعد ساعة، وعلى سلامة نيتي طاوعته، ولكن قبل أن تأتي الساعة جاء المفتش واطلع على الحساب، فوجد الفلوس ناقصة عشرة، طبعا فأخبرته الحقيقة، فقال: في الصندوق عجز ولا بد من عمل محضر، فقلت: ها الغروش العشرة من جيبي وأنا آخذها من العامل، فلم يشأ أن يسمع لقولي، بل كتب المحضر ورام أن يسلمه إلى النيابة، فرأيت أني ذاهب إلى السجن حتما، فرجوت المفتش أن يتمهل حتى يأتي العامل، وبعد الرجاء الطويل رضي، أما العامل فلم يأت إلا بعد ميعاده بساعة، وليس معه نصف ريال فاستحلفته بالله وبرسله فأقر بالحقيقة تماما، فعدت أتوسل إلى المفتش أن يمزق المحضر بدعوى أني سليم النية، ففكر المفتش طويلا وقال: لا أشك بصدق نيتك، ولكن لم يعد في وسعي استبقاؤك في وظيفتك، فأكتفي بعزلك منها.
فأسفت جدا وجئت أبرهن له أني مظلوم، فأقنعني بأن القانون لا يسوغ بقائي في الوظيفة، فرجوت منه أن يعطيني كتاب توصية؛ لكي أطلب وظيفة في دائرة أخرى من دوائر الحكومة فضحك، وقال: «أصبحت محروما من الوظايف في كل دوائر الحكومة؛ لأن القانون ينص على ذلك.» فانظر كيف يخضع الناس للقوانين المدنية الصماء، ويدوسون بكل جسارة القوانين الأدبية. - ذلك لأن القوانين المدنية مكتوبة على الورق، والحكام موقعون عليها ومكلفون بتنفيذها، فهي كسلاح بأيديهم بعضهم ضد بعض، ولولا هذا السلاح ما قامت قائمة لحكومة، وأما القوانين الأدبية فأي صاحب نفوذ أو سلطة سنها، ومن هو مكلف بتنفيذها؟ - كل الهيئة الاجتماعية سنتها. - ماذا تعني بالهيئة الاجتماعية؟ - عامة الشعب. - فالعامة الذين سنوها هم مكلفون بتنفيذها، وهم ينفذونها بالفعل ولكن فيما بينهم فقط، أما الخاصة فهم فوق هذه القوانين؛ ولهذا لا يخضعون لها ولا يخضعون إلا للقوانين المدنية المكتوبة التي وقع عليها الحكام؟ - الحكام الذين من طبقتهم، صدقت صدقت فهم يسنون القوانين حسب رغبتهم، فإذا غلط مستخدم صغير مثلي غلطة زهيدة على سلامة نية عوقب بالطرد، ولكن الموظف الكبير قد يغلط الأغلاط الفظيعة الكبرى، ويبقى راسخا في وظيفته. - نعم؛ لأنه يفعل ما يروم متحايدا مخالفة القانون، فلماذا لا تفعل أنت كذلك؟ - لا أريد أن أفعل أبدا. - إذن لا تسخط إذا عزلت من وظيفتك. - كيف لا أسخط وأنا لم أذنب؟ - أذنبت بأنك قيدت ما لم تقبض، أو لم يخطر لك أن المفتش قد يباغتك؟ - لم أر وجه المفتش إلا في تلك اللحظة.
ففكر جورجي هنيهة، وقال: ألم تغلط هذه الغلطة قبلا؟ - هي الأولى والأخيرة. - عجيبة هذه المصادفة، هل علم أحد بغلطتك هذه قبل أن يعلم بها المفتش؟ - لا أدري ولا أظن أحدا علمها إلا ذلك العامل. - هل كنت وحدك في مكتبك؟ - كلا، بل كان معي سليم هيزلي الذي يشتغل على مكتب آخر في نفس الغرفة. - ألا تظن أنه هو الذي وشى بك سرا؟ - لا أظن؛ لأن سليما رجل طيب القلب جدا، وكلانا صديقان حميمان، وهو يتقرب مني جدا. - أقول لك يا يوسف: إنك مخدوع بهذا الصديق، وغلطك أنك تركن إلى الناس. - يستحيل أن يكون سليم واشيا بي. - لا يستحيل يا يوسف، وهل تقول لي ما هي معارف سليم؟ - معارفه ليست قليلة. - وأنت تضاهيه؟ - لا أكون متبجحا إذا قلت: إني أفوقه، ولكنه يشغل وظيفته جيدا. - أقول لك: إن سليما هذا هو الذي انتهز الفرصة للوشاية بك، ولا يبعد أن يكون قد تواطأ مع العامل نفسه؛ لكي يوقعاك في الشرك؛ ذلك لأن سليما يخاف أن تتفوق عليه فود أن يبعدك، ولم يجد غير هذه الوسيلة لإبعادك. - ولكنه هو الذي توسط لي. - ليس هذا ببرهان فقد يشي بك وإن توسط لك قبلا؛ لأنه حين توسط لك قبلا لم يخطر له أنك تكون خطرا عليه؟
فبهت يوسف لهذا التعليل، وقال: إذن سليم مثل دور المسيو سرار في البنك. - ما هو دور البنك؟
فروى له يوسف ما جرى له في البنك، ولما انتهى من الرواية قال له جورجي: أوما تعلمت من دور البنك درسا نافعا ؟ فلماذا تركن إلى الناس؟ ولماذا لا تحتاط منهم؟ الناس عقارب صغيرة لاسعة؛ فلا تركن إلى أحد حتى ولا لي.
فاشتدت بهتة يوسف، وقال: ما كان يخطر في بالي أن الناس يفعلون الشر العظيم لأجل النفع القليل، هل تطاوع سليما ذمته أنه يقتل مستقبلي لمجرد أنه يخاف أن أتفوق عليه في مكتبه، وأنا لا أنوي شيئا من ذلك.
فضحك جورجي وقال: سامحني إذا قلت لك: إنك ساذج يا أخي ولم تدرس حرفا واحدا في مدرسة العالم فادرس واستفد، أفما وجدت خدمة غير الخدمة في هذا الحانوت الحقير؟ - قلت لك: إني أصبحت محروما من وظائف الحكومة، وأما الدوائر المالية ونحوها فما طرقت بابا منها إلا رأيته مسدودا في وجهي. - لأنك لا تعرف كيف تزاحم، فما الأبواب مقفلة في وجهك، ولكن المزاحمين سدوها، كان يجب أن تستمر في السعي، وتزاحم ولا تحط نفسك إلى حرفة كهذه. - قضيت أسبوعا وأنا أسعى فمللت البطالة، وأخيرا علمت أن صاحب هذا المحل يحتاج إلى مستخدم فخدمت عنده. - حسن أن تشغل بعض وقتك هنا، والوقت الآخر في السعي إلى خدمة أخرى. - الوقت الآخر؟ وهل عندي وقت آخر؟ إني هنا من الصباح حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ فمتى أسعى؟ - يا لله! كيف ترضى بذلك؟ - ماذا أفعل وهي شروط صاحب المحل؟ - كم يدفع لك أجرة؟ - أربعة جنيهات في الشهر. - أربعة جنيهات؟ بالله كيف تطيق ذلك؟ - ماذا أفعل؟ - الأفضل أن تبقى بلا عمل حتى تجد خدمة أفضل. - لا أستطيع البطالة طويلا. - إذا كنت في حاجة إلى بعض الدريهمات فأسلفك ولا تقنط، هذه ورقة بعشرة جنيهات ولا أطالبك بها، فردها متى تيسرت.
فرد له يوسف الورقة باسما وقال: إني ممتن لك يا جورجي عظيم الامتنان فما أنا في حاجة الآن. - إذن يجب أن تترك هذا المحل. - لا أستطيع تركه؛ لأن علي واجبات. - تقول: إنك عازب؛ فأي الواجبات عليك؟ هل عندك خليلة؟
فضحك يوسف مزمهرا، وقال: نعم ولكنها ليست كالخليلات. - كيف ذلك؟ - دعنا من هذا الموضوع.
Halaman tidak diketahui