ولما اتضح الصبح قليلا رأى يوسف إلى جانبه رجلا ملتحيا، وعلى رأسه قبعة من الصوف وقد صحا من نومه، فأنعم النظر فيه فخاطبه الرجل باليونانية.
فقال له يوسف: لا أعرف اليونانية.
فسأله الرجل بالعربية: هل معك سيكارة؟ - من حسن الحظ لا أدخن.
فتأفف الرجل وقال: بل من سوئه؛ لأني لا أطيق الصبر عن التدخين. - أراك تتكلم العربية جيدا، أفما أنت يوناني؟ - بلى، ولكني قضيت عهدا طويلا عشير العرب. - أستغرب أنك سجين هنا وللأجانب امتيازات. - نعم، ولبعض الناس امتيازات أيضا، ومنها أنهم يجدون أنفسهم في مثل هذا المبيت أحيانا.
فاستغرب يوسف هذا الخطاب، وقال: اعذرني يا سيدي، إلى الآن لم أفهم لماذا أنت بائت هنا؟ - لأن القرقول فندق سكارى الطريق. - تقول: إنك أجنبي، فلماذا يجاء بك إلى هنا؟ - لأن السكر لا يفرق بين جنسية وأخرى، ونحن الأجانب أحق من الوطنيين بهذا الفندق الفخيم.
فابتسم يوسف وبقي ساكتا هنيهة، ثم قال: لا تؤاخذني يا سيدي إذا سألتك لماذا لا تذهب إلى منزلك قبل أن يؤتى بك إلى هنا؟ - لأني الآن فقير، وهنا مصير السكير الفقير في الليل. - وإذا كنت تعلم هذا المصير، فلماذا لا تكف عن السكر؟ - وماذا يضرني أن أسكر إذا كان البوليس يعنى بي ويؤاويني في القرقول؟ وإذا كنت بلا دينار، فهل تظنني أجد مبيتا أفضل من هذا الفندق؟ - بالطبع إذا كنت تنفق دينارك على الخمرة تبقى بلا دينار، فلماذا لا تصون الدينار؛ لكي تنفقه على ما يصلح شأنك فتعيش عيشة أفضل؟ - جربت كل نوع من أنواع المعيشة، فلم أجد أفضل من هذا النوع.
فازداد استغراب يوسف لحديث هذا الرجل، ولكنه استلذ حديثه فقال: عجيب أمرك، لم أر أحدا قبلك يستلذ عيشة الفقر.
فضحك الرجل، وقال: لم أعن عيشة الفقر بل عيشة السكر. - الفرق بين العيشتين لفظي فقط؛ لأن السكر يفضي إلى الفقر، وأنت خير مثل على ذلك.
فقهقه الرجل وقال: يلوح لي أنك عديم الاختبار، هل تجهل أن كثيرين من السكيرين عاشوا أغنياء وماتوا أغنياء؟ - أعلم ذلك، وأعلم أيضا أن كثيرين ماتوا فقراء من جراء السكر، فهل تقول لي لماذا أنت الآن بلا دينار؟ - لأني كميزان الحرارة تارة أكون صاعدا وأخرى نازلا، فأمس كنت في درجة الخمسين واليوم في درجة الصفر. - درجة الخمسين؟ - نعم، كان أمس معي خمسون جنيها فخسرتها بالقمار، وخرجت أسكر مع بعض أصحابي، فأصبحت اليوم ولا جنيه معي، فأنا الآن في درجة الصفر. - خمسون جنيه في ليلة واحدة؟ وماذا تفعل اليوم ولا فلس عندك؟ - كما فعلت منذ أسبوع أو منذ شهر أو منذ عام، فلطالما لعبت هذا الدور. - إنك لتدهشني يا سيدي، فهل تستسهل خسارة خمسين جنيها في ليلة واحدة؟ - كما أستسهل ربحها في ساعة واحدة. - أرى حديثنا يسوقني إلى الفضول، فاعذر يا سيدي فضولي. - لا، لا تقل فضولا، إذا لم يكن لحديثنا فائدة إلا قتل هذا الوقت الطويل فكفى به فائدة. - إذن أود أن أتعلم منك كيف تربح الخمسين جنيها في ساعة، فما هو شغلك يا سيدي؟ - أشتغل أي شغل أوفق إليه فتارة أكون سمسارا، وأخرى «جرصونا» في «قهوة»، وطورا صاحب حانة، وتارة صاحب محل قمار أو مقامرا أو مضاربا في البورصة؛ ولهذا قلت لك: إني كميزان الحرارة. - إذا كانت لك هذه المقدرة على كسب المال، فلماذا لا تجعل ميزان حرارتك صاعدا دائما، وتعيش عيشة الكبراء؟ - من قال لك إني لا أعيش عيشتهم؟ فأمس كان بضعة من أبناء الذوات يسكرون معي وهم يقامرون وأنا أقامر، وهم يطوفون ملاهي الأزبكية وأنا أطوفها. - وهل تعد هذا النمط من العيشة عيشة راضية؟ - إذا كان الأغنياء يؤثرون هذا النمط من المعيشة، فما أنا أفضل منهم إلا بأني أبيت في القرقول أحيانا، وهم يبيتون في القصور، بل أنا أسعد حالا منهم؛ لأني أقدر أن أبيت حيث لا يقدرون أن يبيتوا.
فحار يوسف كيف يستطيع أن ينبه هذا الرجل إلى عاقبة سيرته؛ لأنه رآه متشبثا بأسلوب معيشته، وكلما أرشده إلى خطر هذا الأسلوب موه الرجل عليه متهكما. وبعد تفكير هنيهة قال يوسف: كم عمرك يا سيدي؟ - قل خمسين أو ستين سنة. - عجبا، لا يلوح لي أنك تناهز الخمسين. - بل أكثر. - ولم تزل في عافية؟ - وقوة أيضا. - كم سنة تعيش أيضا؟ - هذا ما لا يدريه إلا علام الغيوب. - أجل، لا أحد يعرف أجلا، ولكن القوة والعافية؟ - ماذا؟ - هل تدومان؟ - ففكر الرجل هنيهة وقال: لم يخطر لي هذا قبل الآن. - ليس عجيبا ألا يخطر لك؛ لأن ميزان حرارتك متى صعد أطمعك بحسن المستقبل، ومتى هبط ألهتك الخمرة عن كل مستقبل، على أني أسأل الله أن تعيش حتى التسعين لترى نهاية المستقبل، أفما رأيت أحدا في التسعين أو الثمانين؟ - رأيت. - كيف رأيت الرجل في الثمانين ؟ - تريد أن تقول لي: إنه ضعيف؟ - قد يكون قويا. - لا بد أن تضعف قوته مهما سلم من الأمراض. - إذا ضعفت قوته البدنية، فقد تبقى له قوة مالية.
Halaman tidak diketahui