وعندما اختتم المؤتمر أعماله بندوة عن الترجمة شارك فيها د. مجدي وهبة ود. أنجيل بطرس سمعان ود. سمير سرحان وكاتب هذه السطور كان الإحساس يسيطر على الحاضرين بأن صورة جديدة لمصر قد تبلورت في هذا العقد، صورة ساهم في رسمها أدباؤنا ومفكرونا على مدى القرن العشرين - وإن كانت لم تخرج إلى العالم إلا في السنوات الخمس الأخيرة بالتحديد؛ فهي الفترة التي ظهرت فيها معظم الروايات العربية المترجمة إلى الإنجليزية كما ذكرت د. أنجيل في حديثها - والتي أسهمت فيها هيئة الكتاب إسهاما كبيرا وكانت كلمة الختام التي ألقتها د. هدى جندي موجزة مؤثرة؛ لأنها مست في أعماقنا ذلك الوتر الحساس الذي كثيرا ما تحجبه عنا مشاغل العيش، وتر انتمائنا إلى هذا البلد القديم الجديد؛ حيث يجتمع الزمن في لحظة خاطفة وتمتد اللحظة فتصبح الأزل والأبد معا ... ونظرت من حولي إلى الجيل الجديد من الأساتذة الذين كتب عليهم أن يحملوا الشعلة وينيروا الطريق من بعدنا ففاض قلبي بالأمل: إننا نستقبل التسعينيات ببسمة الواثق في هذا الجيل، فهذا الجيل هو مصر التي لم يناقشها أحد في ذلك المؤتمر الفريد.
الوعي المزدوج
في ديسمبر عام 1989م عقد في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة مؤتمر علمي عالمي عنوانه «صورة مصر في أدب القرن العشرين» تحدث فيه أساتذة كبار من شتى بلدان العالم المتقدمة إلى جانب الأساتذة المصريين، وتناول كل منهم جانبا من جوانب هذا الموضوع الهام، وكان عدد الحاضرين أكبر من المتوقع، فامتلأت بهم جنبات القاعات، وانتشرت الأحاديث الجانبية هنا وهناك، وأحيانا ما حمي وطيس النقاش فتعالت الأصوات متنافرة ومتناغمة معا، باللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية! وفي هذا الخضم الزاخر تلاشت الفروق الثقافية واللغوية؛ إذ كان كل من المشتركين يحاول أن يفهم ما يعني صاحبه اقترابا من الصورة التي احتلت مكان القلب وإن بدت صورا عديدة لا صورة واحدة .. مصر!
ركز بعض الباحثين على صور مصر الفرعونية في الرواية الأوروبية والأمريكية الحديثة، وتناولوا أساطيرنا بغير قليل من التفصيل؛ إذ تتبعوا تطور معاني بعضها ومدى تأثيرها على التفكير الغربي الذي كان وما زال يتوسل بالأساطير باعتبارها عناصر استعارية أو رمزية تجسد بعض المعاني الجوهرية لحياة الإنسان التي لا يستطيع العقل «البارد» أن يدرك كنهها أو يسبر أغوارها، وتناول باحثون آخرون صور مصر الحديثة - ابنة القرن العشرين - التي صنعها رواد الفكر الحديث الذين حاولوا أن يربطوا مصر بالعالم اليوم، فتعلقت أبصارهم بأوروبا، وحاولوا جاهدين تخطي حواجز الزمن، والانتقال من مصر القرون الوسطى (القروسطية) إلى مصر الحديثة التي تمثلت في حلم الخديوي إسماعيل «قطعة من أوروبا»، وتمثلت في أذهان الرواد بلدا مستقلا يحكمه أبناؤه حكما ديمقراطيا، يسوده العدل والحرية والإخاء والمساواة (قيم الثورة الفرنسية)، وينعم فيه الناس برخاء وازدهار في شتى علوم العصر وإبداعاته الفنية؛ قياسا على إنجازات أوروبا النهضة وأوروبا العصر الحديث أيضا.
وعندما جاء موعد إلقائي البحث القصير الذي ساهمت به في المؤتمر وهو صورة مصر في الأدب العربي، وجدت أن قول «مالرو» الكاتب الفرنسي الشهير، الذي عمل ذات يوم وزيرا للثقافة، بأن مصر كانت أول بلد في العالم يصل إلى مفهوم الدولة الحديثة يسيطر على تفكيري ويلح على ذهني إلحاحا! لقد درس «مالرو» تاريخ مصر دراسة مستفيضة وانتهى إلى أن هذا الإنجاز المصري هو في حقيقة الأمر فريد متميز، واستند في ذلك إلى قراءاته في تاريخ شتى الدول، وخصوصا دول العالم القديم، فوجد أن لمصر شخصية متميزة فرضت عليها هذا النسق (وهو ما أثبته الدكتور جمال حمدان في كتابه الرائع شخصية مصر) وأن البناء الحضاري الراسخ لهذا البلد اقتضى هذا التميز والتفرد، وأن جميع جهود الغزاة لطمس هذه الشخصية كان لا بد أن تبوء بالفشل؛ لأنها تنبع من عناصر جغرافية وثقافية (بالمعنى العريض لهذا المصطلح) يصعب قهرها.
وعدت إلى البحث القصير الذي سألقيه فوجدته قد أغفل عناصر يمكن تداركها، وعناصر أخرى دفعتني إلى الخوض من جديد في هذا الموضوع من زاوية أخرى، أما عنوان البحث فكان «الماضي باعتباره طريق المستقبل»، وكنت أعرض فيه الاتجاه الحاضر الذي يتهدد شخصية مصر كما نعرفها، وهو العودة إلى ماض مبهم ليس هو بالفرعوني (قطعا) ولا هو بالعربي الخالص - بسبب استحالة التطابق بين حياة البادية وحياة الحضر - ولا هو بالعثماني أو المملوكي! إنه ماض وحسب، وهو يجمع في طياته عناصر من هذه الحقب جميعا، تصب كلها فيما أسميته بالشخصية المصرية التي يطلق عليها يحيى حقي تعبير «الخلاط»، وربما كان يقصد به البوتقة التي تنصهر فيها العناصر، وتتحد اتحادا كيميائيا بحيث لا يمكن فصل أحدها عن الآخر.
وبعد أن ألقيت البحث ودار حوله النقاش وجدت أنني يمكن أن أضع يدي على عنصر بعينه يمكن في إطاره تصحيح مسار الفكرة؛ إنه الوعي المزدوج بالماضي والحاضر الذي أصبح يمثل السمة الأولى لتفكيرنا عن مصر والمصريين هذه الأيام. ولو كان هذا الوعي منتظما - أي لو كان يفصل في ثناياه بين صورة الماضي، أو صوره الكثيرة المتناقضة، وبين صورة الحاضر المستقاة من أوروبا - لهان الأمر! ولكن هذا الوعي المزدوج هو في الحقيقة مختلط مشوش؛ لأن صور الماضي التي تبرز في وعي المصري الحديث تمتزج امتزاجا متنافرا بصور الحاضر، فتؤدي إلى البلبلة والحيرة أحيانا، وإلى التصلب والعناد والتعصب الأعمى أحيانا أخرى.
فالمصري الحديث، ابن القرن العشرين يقال له إنك عربي لأنك تتكلم العربية، وإن عليك - لهذا السبب - أن تقيم علاقات متينة (تقترب في قوتها من وشائج الانتماء) مع الماضي السحيق في جزيرة العرب وبادية الشام، فتراثك أيها المصري هو تراث أبو دهبل الجمحي، وبيهس الجرمي، وهدبة بن حشرم، وأيمن بن خريم، وشيب بن البرصاء، والعديل بن الفرخ (إذا اقتصرنا على العصر الأموي). ويقال له إن عليك أن تستوعب هذا التراث وأن تهضمه هضما حتى تستوي نفسك العربية ويصح انتماؤك، وفي سبيل ذلك عليك أن تعرف اللغة القديمة وتكابد في ذلك الأمرين، وحبذا لو بدأت من الجاهلية فرضعت لبان آدابها وتشربت طرائق حياتها، وغصت في بحار قيمها وأخلاقها؛ فهي جذور العرب، والأصول التي لا بد من العودة إليها حتى تضع قدميك على الأرض الصلبة حقا.
ويكابد المصري - كما قلت - الأمرين في إقامة تلك العلاقات مع ذلك الماضي السحيق، بينما يقول له كل ما حوله إن العالم قد تغير، بل إن طريق الحاضر الذي يؤدي إلى المستقبل لا مكان فيه لوضاح اليمن ولا للوليد بن يزيد؛ فهو يدرس العلوم الحديثة، وينشأ في جو حضاري أبعد ما يكون عن الفيافي والقفار، فيحس إنه يضم إلى وعيه «العربي» القديم وعيا عربيا من نوع آخر - وأقصد به الوعي بنظام حكم مختلف، ونظام اقتصادي جديد، ووسائل انتقال سريعة، وعلوم تتوسل بأجهزة وآلات تتطلب قدرا كبيرا من التجريد والتركيز الذهني، مثل الرياضيات والفيزياء وشعاب علم الهندسة الحديثة - النظري منها والتطبيقي - مما يستحيل معه تطويع وعيه بالانتماء إلى عالم الماضي السحيق الذي ما زال رغم ذلك يفرض نفسه على وعيه في كل وقت فيصيبه بالتشتت والتمزق.
الوعي المزدوج إذن مرده إلى ازدواج الزمن .. الزمن التراثي الكامن في اللغة القديمة، الزمن المعاصر المتجسد في حياته اليومية. وهو ازدواج له تبعات كبار؛ لأن ازدواجية اللغة (إذا شئنا مثلا قريب المنال) تعني ازدواجية في التفكير وازدواجية في الشعور بالانتماء، مما يصيب صورة الذات بشرخ أو بصدع قد يصعب رأيه، ومن عواقب هذا الشرخ أو الصدع الانفصال عن الواقع وحدوث تهرؤ نفسي قد يصل إلى حد الشيزوفرينيا - بمفهومها الحديث - وقد بدأنا نشهد مظاهرها حولنا في الانفعالات والتشنجات التي تصدر من حولنا إزاء كل من يمس اللغة العربية أو يقر بالواقع الذي لا يمكن إنكاره، وهي أنها تطورت واختلفت! وهي تصدر في صور محمومة إزاء كل من يدعو إلى اللحاق بركب العصر والتطور ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، بل ونلمح مظاهرها أيضا في رنة التواكل (باسم الدين، والدين منها براء) في أقوال الشباب، وفي اتجاه الكثيرين إلى محاكاة بعض الشعوب في أزيائها في محاولة للعودة إلى ملابس الصحراء منذ ألف وخمسمائة عام، والملبس بعد من الظواهر الاجتماعية ولا صلة له بالدين في أصوله أو فروعه!
Halaman tidak diketahui