واستمر النشاط الدائب في العام التالي، وتخرجنا في قسم اللغة الإنجليزية وتفرقنا، وإن مكث بعضنا للعمل في الجامعة، وكان من حسن حظي أن توثقت علاقتي بالدكتور مجدي على مدى سنوات طويلة، فكان لي خير مرشد ومعين؛ إذ لمست فيه قدرا من الصفاء ودماثة الخلق لا يجدها الإنسان إلا في القصص الخيالية، واقتربت منه أشد اقتراب أثناء عملي معه في إخراج كتاب عن النقد المسرحي الكلاسيكي - هو «درايدن والشعر المسرحي، دار المعرفة، 1963م» - وكان لا يبخل على طالب بوقته ولا يضن عليه بعلمه. وفي تلك السنوات البعيدة لمست أول بذور لاتجاهه المعجمي والمجمعي في اهتمامه البالغ باللغة العربية وحدبه الشديد على إخراج القواميس التي تنقل إلى لغة الضاد شتى معاني اللغات الأوروبية الحديثة.
وبعد سنوات طويلة من البذل والعطاء في قسم اللغة الإنجليزية قرر الدكتور مجدي وهبة أن رسالته ليست التدريس للطلبة، بل إعداد القواميس المترجمة
lexicography ؛ ومن ثم ترك التدريس، وإن لم يترك الجامعة ولا طلبة الدراسات العليا، وتفرغ لإخراج معجم بعد معجم، أهلته لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ووضعته في مصاف الندرة التي تعمل في هذا المجال العسير الشاق.
واليوم رحل عن دنيانا هذا الإنسان العظيم الذي أمضى عمره في خدمة اللغة العربية، وكان يمكنه أن ينتج كتبه بالإنجليزية أو الفرنسية، معلنا لجيلنا مدى انتمائه إلى هذا الوطن، ومدى حبه لهذه اللغة، وقائلا لنا في كل ما أخرج من معاجم متخصصة وغير متخصصة إن دراسة الآداب الأجنبية يجب أن تنصب في نهاية المطاف في الثقافة القومية، وفي خدمة لغة الضاد؛ وهذا هو الدرس الذي تعلمه جيلي من هذا الأستاذ الكبير.
لقد انطفأت جذوة علم من أعلام مصر الحديثة، ولكن بصيص النار ما يزال يتقد فيما خلفه من دروس ومن أشخاص كان يعتز بهم اعتزازهم به، رحمه الله رحمة واسعة.
مع لويس عوض
«الفردوس المفقود»: درس في الترجمة بقلم: د. لويس عوض
كنا ونحن شباب نأخذ الترجمة مأخذ الجد. فقد كنا ننظر إليها أولا على أنها نوافذ تفتح على الثقافات والحضارات الأخرى قديمها وحديثها؛ فهي إذن جزء لا يتجزأ من السعي الوطني لبناء عقل الأمة ولترقية مشاعرها وتهذيب ذوقها وتوسيع مداركها ومعارفها، بل ولتصحيح كل هذه الأشياء. وكنا ننظر إليها ثانيا على أنها أداة من أدوات إثراء اللغة العربية ذاتها وتطويرها؛ لتصبح أقدر تعبيرا عن مناخ العصر واحتياجاته في الآداب والفنون والعلوم، وفي شئون الحياة اليومية.
وكان الجاهلون باللغات الأجنبية بيننا لا يقلون امتنانا للمترجمين عن العارفين بهذه اللغات. فلم نكن قد أصبنا بعد بداء الغطرسة القومية التي تجعل بعضنا الآن ينظر إلى كل فكر وارد من الخارج على أنه «غزو ثقافي». حتى ذلك الشاعر الكبير الذي قال عن اللغة العربية: «أنا البحر في أحشائه الدر كامن» لم يجد غضاضة في أن يترجم بعض أجزاء «البؤساء» لفيكتور هوجو، ليس فقط ليثبت أن العربية تصلح وعاء للأدب القصصي العظيم، ولكن ليشرك أبناء أمته في انفعاله بروائع الأدب العالمي.
وكانت هناك مدارس ومدارس في الترجمة.
Halaman tidak diketahui