الأجيال والشكل الأدبي
تدلنا الدراسة الأدبية الحديثة على أن ثمة صلة وثيقة بين نشوء نوع أدبي محدد وبين المناخ الفكري الذي يسود في مرحلة ما من مراحل تطور أمة من الأمم، أو مجتمع من المجتمعات، (وأنا أستخدم لفظ «مرحلة» هنا بدلا من لفظ جيل نشدانا للدقة؛ فهي مساحة يصعب تحديدها وتختلف اختلافا شاسعا من بلد إلى بلد) بحيث تستطيع رصد نشأة النوع وتطوره في إطار فكري محدد دائب التغير والتحول؛ لأنه لا يقتصر على المعتقدات والأفكار السائدة في فترة ما، بل يتخطاها ليشمل الرموز التي تحتل مكانا بارزا في حياة الجماعة البشرية، والحساسية الفنية التي تتميز بها هذه الجماعة في تلك الفترة؛ ومن ثم فهو إطار يرتبط بنظم مادية ومعنوية وقيمية بعضها موروث وبعضها جديد، ولكنها تشترك جميعا في تشكيل ما أسميته بالمناخ أو الجو الفكري العام.
ولذلك فإن الراصد لنشوء فن القصة القصيرة في الغرب مثلا - مثلما فعل الدكتور شكري عياد في محاولته تأصيل هذا الفن الأدبي - لن يجد مناصا من ربطه بالتغيرات الاجتماعية التي استحدثت أطرا فكرية جديدة في حياة الناس في أوروبا وأمريكا، والراصد لنشأة مسرحية الفصل الواحد لن يلبث أن يجد لها جذورا، لا في الفنون الأدبية وحدها (وأهمها فن القصة القصيرة نفسه)، بل وفي اتجاه المجتمعات الحديثة نحو فلسفة «اللحظة الواحدة» - أي فلسفة تأمل الحياة من خلال ما يسمى في لغة السينما ب «اللقطة المركزة» - وقد كانت هذه اللحظات أو اللقطات تتوالى في الرواية أو المسرحية أو الملحمة، وغيرها من الأشكال الأدبية التي عرفها تراث الإنسانية القديم.
وقد بدأ هذا الاتجاه - لا شك - مع بداية العصر الحديث الذي يميل كثير من الدارسين إلى ربطه بالانقلاب الصناعي في أوروبا وانتشار الصحافة بالمعنى الحديث، وكان من أكبر الداعين له «إدجار ألن بو» الذي كان من أوائل من حاولوا تعريف القصة القصيرة، وكانت نظرته إلى الشعر ذات دلالة كبرى؛ إذ كان يرفض أي قصيدة يزيد طولها على المقطوعة، ويستريب بأي شكل من أشكال الشعر يحاول محاكاة الأشكال الأدبية المطولة؛ فالشعر عنده (مثل اللوحة أو التمثال) فن مكاني لا زمني، أي يعتمد على الحيز والمساحة لا على التعاقب والتوالي.
ولكن هذا الاتجاه أيضا ما لبث أن أحدث رد فعل غير مباشر؛ لأن المناخ الفكري الذي ولده قد تغير في العصر الفكتوري نفسه في إنجلترا وفي عقود التحول الحاسمة، وفي روسيا بحيث عادت للرواية الطويلة مكانتها، واستطاعت الأنواع الأدبية الزمنية «أن تحظى بإقبال الجمهور العريض»، وأصبح من المألوف أن ترى كاتبا روائيا يكتب القصة القصيرة، أو شاعرا من هواة القصائد الطويلة يكتب المقطوعات، بل إن نهاية القرن شهدت تنويعا جديدا في هذا المجال على يد تشيكوف الذي لم يكن يكترث لما ورثه من أشكال، فكتب المسرح الذي يقترب من أنواع الأدب الأخرى، وكتب القصة القصيرة التي طالت بعض الشيء أو الرواية التي قصرت بعض الشيء، فأحيا بذلك تراث القصة القصيرة الطويلة أو «النوفلا
NOVELLA » والتي كانت قد أوت إلى الرقاد طويلا بعد أن قدمها شاعر الألمان الأكبر «جوته».
ونحن عندما استقدمنا كل هذه الأنواع من الأدب العالمي لم نكن نفتقر في الحقيقة إلى القاعدة أو الأرض التي يمكنها أن تستقبل وتحمي نباتات عربية أصلا من كل هذه الفنون اللغوية؛ ولذلك لم تستغرق المحاولات عقودا طويلة (كما بين الدكتور عبد المحسن بدر)، ولم نلبث أن رسخنا فنون الرواية العربية والقصة وما إليها؛ باعتبارها آدابا قومية كثيرا ما تطاول الآداب العالمية فكرا وفنا، ولم يلبث الكتاب الذين خلفوا الرواد أن طوروا شكل «النوفلا» ومزجوا بين المسرح وفنون الرواية (مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن فهمي) ومن ابتدعوا فن «الخاطرة» - وهو صورة مصغرة من المقال الأدبي، يضارع قصيدة النثر، ويختلف اختلافا بينا عن إنشاء المنفلوطي والرافعي، ومن برعوا في كتابة القصة القصيرة جدا - أو الأقصوصة.
ولكن الذي لم ننتبه إليه في خضم هذه الأجيال الشكلية هو التحول الذي طرأ على شكل الرواية نفسها والذي استتبعه تغير المادة التي تتناولها نتيجة لتغير المناخ الذي كتبت فيه؛ فكاتب الرواية اليوم - وأنا أقصد الممتاز والمتميز - لا يحاكي نماذج قريبة بل يحاكي الرواد، حتى ولو كان قد بدأ حياته الأدبية محاكيا، بل هو يستلهم أرض واقعه ونفوس من حوله، وهو كثيرا ما يغوص في تاريخ أمته يستقي منها معاني لحاضره، وكثيرا ما يعتبر اللغة مادة للتجريب لا وسيلة للتوصيل فحسب. ولقد كان من عمق تأثير الجو الفكري والنفسي أن شيخ كتاب الرواية والقصة نجيب محفوظ وجد نفسه يغير من منهجه ومن أطره؛ ليس فقط في البناء والتصوير، بل في اللغة أيضا. إن إنتاج نجيب محفوظ الأخير درس لنا من أستاذ كبير؛ من فنان ذي حساسية لم يطل بها الوقت حتى تغيرت مع تغير العصر؛ فهو يمثل جيلا جديدا في كتاباته الجديدة، وأعماله أجيال، تماما مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب - قمة القمم - الذي يمثل تطوره حساسية أجيال كاملة لا جيلا زمنيا واحدا.
متفرقات
قصة مستوردة
Halaman tidak diketahui