ثمن الوهم
كان جالسا بجوار المروحة الكهربائية، مسندا رأسه الكبير بلا شعر إلا ذؤابة رمادية فوق كل أذن. أذناه كبيرتان مرهفتان، تهتز شعيراتهما مع هواء المروحة، بخلاف عينيه الصغيرتين بلا رموش وبلا شعرة واحدة تهتز. أصابعه ذات العظام الكبيرة في السن، تزداد ضخامة مع الضوء الخافت المنبعث من لمبة واحدة صغيرة، ترتعش بمس كهربي وسط أربع لمبات محروقات اسود قلبها بفعل الزمن. صوته فيه بحة سبعين عاما، أكلت حبال الصوت منذ تكلم وهو في المهد صبيا، وحين انتصب واقفا فوق منصة خشبية، ولا يزال يتكلم حتى هذه اللحظة الأخيرة متوهما أن العالم يسمعه، وأنها هي ضمن هذا العالم تسمعه، وكلما همت بالرد على سؤال لا يتوقف ليسمعها، يستمر في حديثه رافعا يده اليمنى في الهواء، بحركة اعتراضية كمن يوقف الهواء: أرجوك يا فتحية، لا تقاطعيني حتى أنتهي، وبعد ذلك لك مطلق الحرية في الكلام!
كلمة «مطلق» بحروفها الأربعة، وخاصة حرف الطاء والقاف، تخلق في الجو وراءها صدى فخيما، له فخامة الحرف العربي العتيق كالجواد الأصيل، حنجرة أكثر أصالة، قادرة رغم الزمن على التفخيم والتعظيم.
وهي جالسة أمامه داخل ثوب من ثياب البيت، بلا زينة ولا لون إضافي للخد الشاحب، ولا دهان فوق بشرتها يخفي العروق النافرة تحت الجلد أو التجاعيد أو البقع السوداء الزاحفة مثل النمش.
لم يعد يهمها أن يراها كما هي، ولا شيء يخجلها من سنين عمرها إلا ثلاث أسنان تخلعها في الليل، وفي الصباح تركبها فوق الفجوة الكبيرة تحت الشفة العليا، وإذا ابتسمت أو ضحكت حرصت ألا تفتح فمها كثيرا حتى لا ينكشف الخطاف الأبيض من المعدن.
وهو جالس أمامها، ولا شيء يخجله حين يفتح فكيه عن آخرهما، كاشفا عن فك أعلى لم يبق به إلا ثلاث أسنان ساقطات متهدلات، بلون داكن، فوق فك أسفل خال تماما من الأسنان. صوته لا يزال عاليا، مليئا بالثقة، فهو رجل أكبر منها بعشرة أعوام، ينظر إليهما كأنما هي بلغت نهاية العمر، ولم يعد لها دور في الحياة سوى أن تنصت إليه.
وهو لا يزال رجلا يخفق قلبه لمرأى الفتيات، ومن حقه الاستمتاع بالحياة حتى آخر رمق، وأن يزف نفسه لعروسة شابة تحميه من سوق البغايا أو جرثومة الإيدز، تغسل هدومه، تحمل همومه، وتنصت إليه في الليل الموحش الطويل، وهو يحكي عن ذكريات الشباب.
أرجوك يا فتحية لا تقاطعيني، أنا في حاجة إلى الاستمتاع، فلم يعد أمامي وقت طويل لأضيعه، بعد أن سقط القناع عن وهم حياتي! وماذا كان وهم حياتك يا محمد؟
إنها لا تعرف تماما، فهو لا يعطي الوهم اسما. وما أهمية الاسم يا فتحية بعد أن سقط القناع، وكان يمكن أن أسقط معه، لولا أنني أدركت قبل جورباتشوف بعشر سنوات أن هناك خطأ في التطبيق، وربما أيضا في النظرية. ولم لا يا فتحية، فهي نظرية من أعمال البشر، وأكثر خطئها أنها كانت ضد مسيرة التاريخ، وضد الطبيعة الموروثة منذ آلاف السنين. وهل يمكن أن يتساوى الناس كأسنان المشط، أو تلغى الفروق بين البشر؟ مثلا هذه الفروق الطبيعية التي خلقها الله لكل من المرأة والرجل، هل يمكن أن نلغيها يا فتحية؟
وهنا يلوح له شبح زوجته الميتة، عاش معها أربعين عاما دون أن يرتفع لها صوت، وماتت كما عاشت صامتة. لكن هذه العروس الشابة صوتها عال، وليت الأمر مجرد الصوت العالي يا فتحية! أتعرفين ماذا قالت لي حين عرضت عليها الزواج؟
Halaman tidak diketahui