في غرفتها كانت هي أيضا تركع وتصلي. لم تكن تطلب من الله أن يرسل لها زوجا، أي زوج. فكرة الزواج طردتها من رأسها منذ الطفولة، ماتت أمها تنزف بعد أن ضربها زوجها قبل النوم. الموت مكتوب، لكنها تريد الموت بطريقة أخرى غير الضرب، ليس في حياتها رجل، أي رجل. ولا تعرف شيئا عن ذلك الجنس الآخر. وإذا ما وصلها من عند الجيران صوت موسيقى أو غناء سدت أذنيها بأصابعها، وأحكمت إغلاق النوافذ والأبواب.
ثم جاء ذلك اليوم في أبريل الماضي، كانت جالسة إلى مكتبها كعادتها، انتهت من عد الموميات والتماثيل المخزونة، اكتشفت وجود تمثال لم يكن موجودا بالأمس. راجعت الدفتر والأرقام، ثم أغلقت الدفتر ووضعته في الدرج، فتحت كتاب الله، وبدأت تقرأ بلا صوت ورأسها مطرق. بينما هي تقرأ، تحركت عيناها من خلال الثقبين الصغيرين في القماش الأسود، ودارتا حول الموميات والتماثيل، ثم استقرتا على وجه ذلك التمثال. تقاطيع وجهه منحوتة بشكل عجيب، وأعجب ما فيها عيناه، تنظران نحوها بحركة في «النني» لم ترها من قبل في أي تمثال آخر. استغفرت، واستغاثت بالله من الشيطان، وأطرقت برأسها مرة أخرى لتواصل القراءة. لكن عينيها كانتا تتحركان بغير إرادة لتنظر إلى التمثال، كان صغيرا، أصغر من التماثيل الأخرى، والتراب يغطيه، كأنما أهمل في المخازن سنين. مسحت عنه التراب، ووضعته قرب النافذة، وعادت تقرأ في كتاب الله. لكن عينيها تحركتا من خلال الثقبين الصغيرين مشدودتين نحو وجهه، عيناه فيهما الحركة الغريبة، مسحوبتان إلى أعلى قليلا كعيون قدماء المصريين. أمسكته في يدها داخل القفاز الأسود، وراحت تبحث عن علامة أو حروف تكشف عن اسمه أو العصر الذي عاش فيه. لم يكن هناك شيء. عادت إلى مقعدها وراء الكتب، واستقرت عيناها فوق السطور في كتاب الله. لكن سؤالا بدأ يدور في رأسها:
ألم ير أحد من قبلها هذه الحركة في عينيه؟
لم يكن معها في المتحف إلا موظفة عجوز تقوم بأعمال الإدارة، تهبط إليها من حين إلى حين تفتش وتراجع الدفتر، تمر بعينيها على التماثيل واحدا واحدا، وقد تتوقف عند تمثال يلفت نظرها ... مرت عيناها ذلك اليوم من فوق التمثال الصغير دون أن يلفت نظرها شيء. وتحيرت، ولماذا لم تر المديرة في عينيه الحركة التي هي رأتها؟ وأصبح السؤال يشغلها كل يوم، منذ أن تدخل مكتبها وتجلس ... تتحرك عيناها وحدهما لتستقران على وجه التمثال، الحركة في عينيه ما تزال، وقد أصبحت الآن حركة خاصة بها وحدها، لا ينظر بهاتين العينين إلا لها، وهي منذ رأتها للمرة الأولى لا تكف عن النظر إليها، وإذا حركت رأسها بعيدا أو خرجت من المكتب، ظلت عيناه أمامها تطلان عليها بهذه النظرة، كأنه يعيش هذه اللحظة وليس منذ سبعة آلاف عام. ليس في نظرته غطرسة الفراعنة الآلهة، وليس فيها خضوع العبيد من الشعب. ماذا فيها؟ لم تعرف. وفي كل يوم تستولي عليها رغبة المعرفة، تزيد يوما عن يوم كالرغبة الآثمة، وأصبحت كلما جلست إلى كتبها تتلفت حولها تخشى أن تهبط المديرة فتضبطها وهي تنظر في عينيه. أكثر ما كانت تخشاه أن يصدر أمر ينقله إلى مخزن آخر. وأصبحت حين ترقد في السرير لا تنام. ماذا يحدث لو ذهبت في الصباح إلى مكتبها فلم تجده؟ كانت منذ وجدته تسير إلى مكتبها بخطوة أسرع، وما إن تفتح الباب وتدخل، حتى تتحرك عيناها من خلال الثقبين، تبحثان عن وجهه بين وجوه التماثيل الأخرى ... وما إن ترى الحركة في عينيه، حتى تنفرج شفتاها المطبقتان عن تنهيدة خافتة من تحت القماش الأسود.
ودخلت ذات يوم إلى مكتبها فلم تجده، بحثت في كل المخزن، لم يكن هناك، في كل ركن، بين أرجل التماثيل الكبيرة فوق الأرض، حيث ترقد مئات التماثيل الصغيرة، لم يكن هناك .
وعادت إلى مكتبها تجلس. لم تستطع أن تدون شيئا في الدفتر، ولم تستطع أن تقرأ سطرا في كتاب الله، رأسها مطرق وقلبها ثقيل. أين ذهب؟ مكانه بالقرب من النافذة خال، والكون كله أصبح خاليا، ولا شيء في حياتها، لا شيء. يدها من تحت القفاز الأسود باردة، وفي عروقها يكف الدم عن الحركة، ومن حولها لا ترى إلا الموت على شكل تماثيل من الحجر، وهي أيضا تموت هذه اللحظة جالسة إلى مكتبها.
ثم رفعت عينيها بحركة مندفعة كاندفاعة الهواء في الصدر قبل النفس الأخير، ورأته واقفا في مكانه مختفيا وراء ضلفة النافذة. ولم يكن للمديرة لو هبطت في تلك اللحظة أن تعرف ماذا حدث، مظهرها من الخارج كما كان، جالسة في مقعدها خلف المكتب وأمامها الدفتر، راسها مطرق ولا شيء فيها يتحرك إلا «النني» الأسود من خلال الثقبين، واندفاعة الدم الساخن في عروقها تحت الجلد.
قبل أن تنصرف ذلك اليوم، أخفته في حقيبتها معها إلى البيت، وفي الصباح أعادته إلى مكانه. لم تلحظ المديرة غيابه وعودته، وفي البيت لم يلحظ أبوها وجوده داخل الدولاب. وفي الليل بعد أن ينام أبوها تخرجه من الدولاب وتضعه أمامها، لا تكف عن النظر إلى وجهه، تنام عيناها في عينيه، في الحلم تراه واقفا والطوفان يغرق الأرض، واقف أمامها من لحم ودم، وسيدنا نوح يركب السفينة ويمضي بدونه، أيكون ابن سيدنا نوح الذي لم يركب السفينة وغرق؟ أيكون عاصيا من أتباع الشيطان وليس مؤمنا من أتباع الله!
وأهم من هذا كله، هل يمكن أن يعود حيا بعد أن مات منذ سبعة آلاف عام؟
في الصباح تفتح عينيها والسؤال يدور في رأسها، تمشي في الطريق إلى مكتبها مطرقة الرأس، تخشى أن ترفع عينيها فتراه أمامها بلحمه ودمه كما رأته في الحلم، ومن الثقبين الصغيرين في القماش الأسود بدأت عيناها تتحركان، ترتفعان ببطء وحذر، تختلس النظر إلى وجوه الناس. هل يمكن أن يكون بين البشر وجه يشبهه؟ أو عينان فيهما هذه النظرة؟
Halaman tidak diketahui